1687
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثامن بعد المئة
أصحاب المال
عادات وأعراف
ويظهر من بعض الأخبار إن الوأد لم يكن عن إملاق حسب، بل كان لسبب آخر ، أراه متصلاً بعقيدة ودين. فقد ذكر إن وفد "جعفى"، قال لرسول الله: "يا رسول الله ! إن أمنا مُليكة بنت الحلو، كانت تفك العاني وتطعم البائس وترحم المسكين، وانها ماتت وقد وأدت بنيّة لها صغيرة فما حالها قال: الوائدة والموءودة في النار". فلم يكن الوأد هنا بسبب الفقر والإملاق، بل لسبب آخر، قد تكون له صلة بدين أو بعرف اجتماعاً. ويلاحظ إن "جعفى" كانوا يحرمون القلب في الجاهلية ولا يأكلونه. ولما قدم وفدهم إلى يثرب، قال رسول الله: بلغني انكم لا تأكلون القلب ? قال: نعم. قال: فإنه لا يكمل اسلامكم إلا بأكله. ودعا له بقلب فشوي، ثم ناوله أحد رجال الوفد، فلما أخذه أرعدت يداه، فقال له رسول الله: كله، فأكله وقال:
على أني أكلت القلب كرهاً وترعد حين مسته بنانـي
وقد حمل الأعشى على أولئك الذين ينامون وهم متخمون ملاء البطون،وجيرانهم جياع يتضورون من الجوع، إذ يقول: تبيتون في المشنى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وفي هذا المعنى يقول بشر ين المغيرة: وكلّهم قد نال شبعاً لـبـطـنـه وشبع الفتى لؤم اذا جاع صاحبه
ولعلّ هذا الشعور هو الذي حمل "عروة بن الورد" على أن يكون سيد الصعاليك ومجمعهم ومغيثهم، حتى قيل له: "عروة الصعاليك"، لأنه كان يجمع الصعاليك في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه.
وفي القرآن الكريم أن "ملأ" نوح، وهم الأعزة أصحاب الحول والطول، يقولون لنوح: )ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا( ، وفيه أنهم قالوا له: )أنؤمن لك واتبعك الأرذلون(. وقول ملأ نوح هذا، هو تعبير عن رأي ملأ قريش الذين كانوا يقولون لو كان محمد رسولا"حقاً، لكان رجلاً من رجال قريش أو الطائف الأغنياء أصحاب المال، فالرئاسة ولو كانت نبوة لا تكون إلا في رجل عظيم: )وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم(.وكانوا يسخرون من المسلمين ويستهزئون بهم حينما يرونهم خلف الرسول، يدخلون المسجد الحرام، وهم من الأراذل الضعفاء والفقراء، فيضحكون ويقولون جاءكم ملوك الأرض كسرى وهرقل. فدين يكون اتباعه ومعتنقوه من الرقيق والضعفاء دين ليس له شاًن، ولا يمكن أن يكون مقبولاً حتى يكون أتباعه من الأغنياء ملأ القوم.
وقضى أغنياء مكة وسادتها لياليهم في مجالسهم ونواديهم، وعادتهم أنهم كانوا يتنادمون، يشربون ويسمعون القيان، ويتنادرون ويسمعون القصص والنكات، ثم يعودون إلى بيوتهم، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء ندماء قريش.
وأكثر الأغنياء من التدهن، فالتدهن من النعيم، وهم يتدهنون بالدهون الجيدة المطيبة. ويقال لكثرة التدهن "التورن". و "التودن"، كثرة التدهين والتنعيم.
وفي مقابل هذه الطبقة الغنية، كان السواد فقيراً، ومنهم معدمون تماماً لا يملكون شيئأَ، إذا عجزوا عن الحصول على قوت، عمدوا إلى الشجر فأكلوا ورقه أو ثمره إن كان برياً لا يملكه أحد، أو إلى الأعشاب فأكلوها. ورد في حديث "عتبة بن غزوان": ما لنا طعام إلا ورق البشام. أو إلى "العلهز" فأكلوه. وهو طعام من الدم والوبر كان يتخذ في أيام المجاعة، وذلك أن يخلط الدم بأوبار الإبل ثم يشوى في النار، قيل وكانوا يخلطون فيه القردان، وذكر انه الصوف ينفش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. ورد في حديث "عكرمة": سورة هود، كان طعام أهل الجاهلية العلهز، أو إلى "القرف"، لحاء الشجر، فأكلوة. وأكلوا "الوزين"، وهو الحنظل يؤكل باللبن أيام الحاجة.
وقد كان الناس يصابون بالشدة والعسر، ويعبر عن ذلك ب "الحشر". والحشر إجحاف السنة الشديدة يالمال. واذا أصابت الناس سنة شديدة فأجحفت بالمال وأهلكت ذوات الأربع قيل حشرتهم السنة، بمعنى أصابهم الضرر والجهد. وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن الشدة والضيق والفقر وضنك الحياة، وسوء الحال، من ذلك "القشف" والضعف والشظف، وغير ذلك. وفي كثرة هذه الألفاظ تعبير عن سوء الأحوال وعن تبرم الناس من الحياة ومن شدتها عليهم في ذلك الوقت، حيث كانت حياتهم في عسر وضيق.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق