إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 3 فبراير 2016

1714 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الرابع عشر بعد المئة الحرف


1714

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
 
الفصل الرابع عشر بعد المئة

الحرف

من الحرف المتداولة بين الجاهليين النجارة والحدادة والحياكة والنساجة والخياطة والصياغة والدباغة والبناء ونحوها من حرف يحترفها الحضر في الغالب. اما الأعراب فقد كانوا يأنفون من الاشتغال بها،وينظرون إلى المشتغلين بها نظرة احتقار وازدراء لأنها في عرفهم حرف وضيعة، خلقت للعبد والرقيق والمولي، ولا تليق بالحرّ، حتى إن الشريف منهم وذا الجاه، كان لا يحضر وليمة يدعوه إليها شخص من أصحاب هذه الحرف، استنكافاً وازدراءً ؛ لأنه ليس في منزلته ومكانته. وقد كان عمل الرسول كبيراً في نظر رؤساء القوم يومئذ، حينما جوّز حضور طعام الخياط والصائغ وامثالهما، وكان يحضر منازلهم، فعدّ القوم ذلك عملاً غير مألوف ومخالفاً للعرف والتقاليد.

وقد كان أكثر أهل القرى ينظرون إلى الحرف والمحترفين بها نظرة ازدراء كذلك، ويأنفون لذلك من التزاوج معهم، ويعيرون من يتزوج من امرأة أبوها قين أو نجار أو دباّغ أو خياط، ويلحق هذا التعبير الأبناء كذلك. وينظرون هذه النظرة إلى المشتغلين بزراعة الخضر مثل البقول في الغالب، ولا تزال هذه النظرة معروفة في جزيرة العرب. وفي أماكن أخرى خارج حدود هذه الجزيرة كالعراق. وهذه هي مشكلة من جملة المشكلات التي أثرت في الاقتصاد العربي وفي الحياة الاجتماعية، وإن كانت قد أخذت تخف في هذه الأيام.

ولم يكن العرب وحدهم ينظرون إلى الحرف والمشتغلين بها نظرة ازدراء، بل كانت شعوب العالم كلها تقريباً تنظر ألى طبقة أصحاب الحرف مثل هذه النظرة؛ لأن الحرف هي من أعمال الطبقات الدنيا من سواد اناس الرقيق والموالي. اما الحُر، فلم يخلق لها ولم تخلق له. كذلك كانت نظرة قدماء اليونان إلى هذه الحرف، لأنها عندهم من الأعمال التي يقّوم بها سواد الناس ورقيقهم.

وهذه الحرف لم يختص بها الجاهليون وحدهم،بل كانت عامة معروفة ومتداولة عند جميع الشعوب لتلك العهود. وهي لبساطتها وبداءتها متشابهة،لا تجد اختلافاً في آلاتها وادواتها المستعملة عند الشعوب. فأدوات النجار تكاد تكون واحدة، سواء أكانت عند النجار العربي الجاهلي، أو النجار العبراني، أو النجار النبطي. وكذلك قل عن أدوات الحداد والصائغ وغيرها من الطبقات العاملة التي ترتزق وتعيش على هذه الحرف التي تعتمد على اليد.

وتجد في كتب اللغة والأدب وأمثالها ألفاظاً عديدة معربة، استعملها أهل الجاهلية وذلك بتعريبها ونقلها من أصول عجمية معروفة ، فيها الفارسي والارامي واليوناني واللاتيني والحبشي والنبطي. وهي مما يدخل في باب الآلات والأدوات والمآكل والملابس والبيت والثقافة والعلم، دخلت العربية، لأنها كانت مصطلحات متداولة عند أهلها معروفة، أخذها العرب منهم باحتكاكهم وبتأثرهم بهم، وقد صقل بعضها وهذب ووسم بسمة عربية، وأدخل على بعض آخر بعض التعديل ليتناسب مع أسلوب النطق العربي، وقيل بعض آخر على نحو ما كان في أصله واستعمل في العربية حتى صار في ظن من لا وقوف له على العربية انه عربي صميم.

والألفاظ المعربة التي نعنيها، قديمة، دخلت قبل الإسلام بمئات السنين. وقد استعملتها الالسن وتداولتها، وصارت بهذا الاستعمال ألفاظا عربية مستساغة. ومنها ما هو مستعمل حتى الآن. وجمع هذه الكلمات وضبط معانيها وتبويبها وتصنيفها، عمل مهم نافع أرجو أن يتهيأ له أصحاب العلم والاختصاص، فبها نتمكن من الوقوف على الاتصال الفكري الذي كان بين العرب وغيرهم، وبها نتمكن ايضاً من الوقوف على مدى الاتصال ومقدار تغلغله في جزيرة العرب. وبامثال هذه الدراسة سنتمكن أيضاً من تكوين صورة علمية صحيحة للتأريخ الجاهلي وهي صورة ستغير، ولا شك، كثيراً من هذه الاراء القديمة عند كثير من الناس عن الجاهليين، تكونت من دراستهم لروايات أهل الأخبار عن العرب قبل الإسلام.

ولم يخفَ أمر هذه المعربات عن قدماء علماء اللغة، فقد أدركوا وجودها ودخولها في العربية قبل الإسلام، واّلفوا فيها، وأشاروا إليها في معجمات اللغة ووضع بعضهم بحوثاً في معربات القران وهي تفدنا فائدة كبيرة بالطبع في الوقوف على الصلات الثقافية التي كانت بين العرب والعالم الخارج قبل الإسلام، وإن كانت تلك البحوث والمؤلفات قد كتبت بطريقة ذلك العهد، استناداً إلى الروايات دون اثبت منها وتوفر أصولها تتبع مواردها بدراسة اللغات الأجنبية ومقارنتها بالأصل. وهي طريقة أوقعتهم في أغلاط، ولكنها، افادتنا مع ذلك فائدة كبيرة في معرفة هذا الغريب الدخيل، وفي تكوين رأي في الدراسات اللغوية عند علماء اللغة القدامى.

وقد عثر الرحالون والمنقبون على أواح من الخشب وعلى شبابيك ومواد خشبية أخرى في اليمن وفي حضرموت منقوشة نقشاً بديعاً ومحفورة حفراً يدل على دقة الصنعة وإتقان في اله هل. وهي شاهد على تمكن النجار من مهنته، وعلى قدرته فيها، وعلى حسن استعماله ليده عليها في استخدامها للأدوات النجارية في صنع النفائس والطرائف من الخشب.

والحرف وراثية في الغالب، يتعلمها الابن عن والده، وتنحصر في العائلة فتنتقل من الآباء الى الأبناء. ولا يسمح لغريب أن يتعلم أسرار الحرفة وأن يقف عليها وخاصة في الحرف المريحة وفي الحرف التي تحتاج إلى مهارة ودقة وذكاء خوفاً من وقوع المنافسة، وانتقال سر العمل والنجاح إلى شخص غريب فينافس أصحاب الحرفة في عملهم وينتزع منهم رزقهم. لذلك حوفظ على أسرار المهنة ، ولم يبح باسارها حتى لاقرب الناس اليهم، وفي حالة اكتشاف رجل طريقة جديدة غير معروفة في حرفته، فإنه يحتفظ بسره حتى لا يتسرب إلى الغرباء ?منهم من لا يعلّم حتى أولاده سر المهنة إلا في حالة شعوره بعجزه عن العمل أو بقرب وفاته ودنوّ أجله، خشية انتقال السر منهم إلى غيرهم، فينافسونهم على رزقهم ومصدر قوتهم من هذا السر.

وينضم أصحاب الحرف بعضهم إلى بعض مكونين "صنفاً"،أي طبقة خاصة، تتعاون فيما بينها تعاون النقابات الحرفية والمهنية في الوقت الحاضر، يتولى رئاستها أبرز رجال "الصنف". وإذا مات أحدهم تعاونوا في تشييعه ودفنه وفي مساعدة أهله ومؤاساتهم. وذلك لحماية رجال الحرفة من كل سوء قد يقع عليها وللمحافظة على حياتهم، ولا يسمح "الصنف" بدخول غريب بينهم، لأنهم جماعة ورثت حرفتها، فلا يجوز لغريب مزاحمتهم فيها.

ويتجمع رجال بعض الحرف في أماكن معينة،كما هو الحال في الوقت الحاضر، كأن يتجمع الحدادون في منطقة معينة، والصاغة في حي، والصفارون في حي والنجارون في حي، وذلك للتعاون فما بينهم، وتنسب تلك المحلات اليهم.

وقد تشتهر مدينة ما بحرفة من الحرف، فيكون لمنتوجها شهرة واسعة وتباع بأسعار عالية. وقد تشتهر منطقهّ بجملة صناعات. فقد اشتهرت اليمن بالبرود كما اشتهرت بسيوفها، التي اكتسبت شهرة بعدة واسعة في كل جزيرة العرب، واشتهرت بعقيقها كذلك وبأنواع أخرى من التجارات. واشتهرت مكهّ ببعض أنواع العطور واشتهرت ثقيف بالدباغة وبالأدم.

وقد كانت أجور العمل معروفة عند الجاهليين. فتدفع للعمال والصناع أجور يومية، كما تدفع لهم أجور مقطوعة عن عمل معين. وليس لهؤلاء العمال من اتعاب عملهم سوى ذلك الأجر المتفق عليه. أما الرقيق، فلا يدفع لهم في العادة أي شيء، سوى ما يقدم لهم من طعام وملبس وحماية. وعليهم في مقابل ذلك الاشتغال بالشغل الذي يوكل اليهم به أسيادهم، ولا حق له بالنسبة لقوانين ذلك الوقت الامتناع عن القيام بالعمل الذي كلفوا به.

والأجور، قد تكون يومية وقد تكون سنوية وقد تكون مقطوعة. ولا يشترط في الأجر أن يكون نقداً، فقد يدفع عينة، أي مالاً مثل طعام، أو كساء، لندرة النقد في ذلك الوقت. ومن أمثلة الحرف التي تدفع عنها الأجور، حرفة البناء، فيُدفع للعامل أجر يومي في الغالب. والنجارة والحصاد، وتدفع عنها أجور مقطوعة على الأكثر والرعي وأمثال ذلك من حرف، يقوم بها سواد الناس لاعاشة أنفسهم منها.

ويمكن تصنيف وجمع الحرف التي عرفت عند الجاهليين في حرف النجارة، وهي تنجير الخشب وتحويله الى متاع وأثاث أو إلى عمل البناء أو إلى تماثيل وزخارف وما أشبه ذلك، ثم حرف البناء، وتتناول كل ما يتعلق بالبناء من أعمال، ثم حرف الإعاشة، تم حرف التعدين والمعادن، ثم حرف الجلود، وحرف الملابس وحرف التجميل وحرف أخرى.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق