إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 5 فبراير 2016

1800 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والاربعون بعد المئة الشعر التكسب بالشعر


1800

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
  
الفصل السادس والاربعون بعد المئة

الشعر

التكسب بالشعر

يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، أنفة وتعززاً، وإنما يصنع أحدهم ما يصنع مكافأة عن يد لا تستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظاماً لها. بقوا على ذلك دهراً، حتى نشأ النابغة الذبياني فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وقد كان أشرف بني ذبيان، وكان قادراً على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته، وله مال يكفيه، فسقطت منزلته، مالاً جزيلاً حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأونيهم من عطايا الملوك. وذكر عنه من التكسب باشعر مع النعمان بن المنذر ما فيه قبح من مجاعلة الحاجب ومجاملته والتودد اليه تقرباً وتزلفاً ليوصله إلى النعمان، ومن دس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك. هذا، وانما امتدح ملكاً، فكيف بشاعر يمدح من هم دون الملوك والأشراف من السوقة وسواد الناس، طمعاً في صلة وعطاء !  

وتكسب زهير بن أبي سُلمى يسيراً مع "هرم بن سنان"، ونال "أمية ابن الصلت"عطايا "عبد الله بن جدعان" لمدحه اياه، فلما جاء الاعشى جعل الشعر متجاً يتجر به نحو البلاد، وقصد حتى ملك العجم فأثابه، لعلمه بقدر ما يقول عند العرب، وأقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استخف به و استهجنه لكنه حذا حذو ملوك العرب.

ثم إن الحطيئة أكثر من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيه، حتى مقت وذل أهله، و استصغر شأنه، و عرف بتكسبه بشعره.

وقد عيب "من تكسب بشعره و التمس به صلات الأشراف و القادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين". وانما المقبول ما جاء بما لا يزري بقدر ولا المروءة، مثل الفلتة النادرة، والمهمة العظيمة، وعن باب التودد والتلطف والتذكر، فأما من وجود الكفاف و البغلة فلا وجه لسؤاله بالشعر.

ومن هنا زعم أهل الأخبار ان أشراف أهل الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، وكانوا ينهون أولادهم من قوله، فلما خالف "امرؤ القيس"، وهو شريف وابن ملك، أمر والده من وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه من بيته، وأخرجه من داره، فصار من الضلّيلين، وهو زعم عارضه "ابن رشيق" وردّ عليه بقوله:"وقد غفل أكثر الناس عن اليبب، وذلك انه كان خليعاً، متهتكاً، شبب بنساء ابيه، وبدأ بهذا الشر العظيم، و اشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان اليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، ولكن من جهة الغي والبطالة، فهذه العلة، وقد جازت كثيراً من الناس و مرت عليهم صفحاً". فلم يكن طرد امرئ القيس من بيت أبيه اذن بسبب قوله الشعر، و إصراره عليه تنافي أخلاق الأشراف.

وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل. وإنه أسنى مروءة السري. و قيل ان الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله: "ان الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشراف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم". مدحه و لم يكن في حاجة اليه، وكان أكله و شربه في صحاف الذهب و الفضة و أوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر، ومن غض من قدره، هو من استجدى بشعره، واتخذ شعره سبباً من أسباب التكسب.

وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل و جهة نظرهم حسب، وهو رأي لا أساس له، بسبب ان علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لاكتها الألسن، و تناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الخلف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تمتهن كرامته في سبيل الحصول على المال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مغنم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع وفيهم الشاعر المتبذل ن وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم هذا ن ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. و في حقهم جميعاً جاء القرآن )والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون(، و نحن نظلم "النابغة" ان جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق ان ذهبنا هذا المذهب.

وذكر ان ممن رفعه الشعر من القدماء: "الحارث بن حلزة"اليشكري، وكان أبرص، فلما أنشد الملك "عمرو بن هند"قصيدته: آذنتنا ببينهـا اسـمـاء  رُب ثاوٍ يمل منه الثواء

وبينه وبين سبعة حجب، فما زال يرفعها حجاباً فحاجباً لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبق بينهما حجاب، ثم أدناه وقربه. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير.

ورووا إن الملحق كان ممن الشعر بعد الخمول، وذلك ان الأعشى قدم مكة وتسامع الناس به ن وكانت للملحق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان الملحق فقيراً خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، ان يكون اسبق الناس اليه في دعوته ال الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، و أخذت منه الكأس، عرف منه انه فقير الحال، وانه ذا عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته: أرقت و نما هذا السهاد المؤرق  وما بي من سقم و ما بي معشق

ثم مدح المحلق، فما اتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنؤونه ن والاسراف من كل قبيلة يتسابقون اليه جرياً يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى.

هذا ما يرويه أهل الاخبار عن اثر الشعر في الناس ز وروي ان الاعشى انشد قصيدته المذكورة "كسرى"، فقال: "إن كان سهر من غير سقمٍ و لا عشق فهو لص".

"قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يُقيد عليهم مآثرهم و يفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم و يخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، اتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى اعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر" "ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان".

ويذكر الرواة ان القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، واتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن. بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم واحسابهم و شرفهم بين الناس. وكانوا لا يهنأون إلا بغلام يولد أو فرس تُنتج أو شاعر ينبغ فيهم. فالشاعر هو صحيفة القبيلة و "محطة إذاعتها"، وصوته يحط ويرفع و يخلد لا سيما إذا كان مؤثراً، فيرويه الناس جيلاً بعد جيل.

وكان اثره في الناس أثر السيف في الحروب، بل استخدمه المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز، ثم يعمد إلى السيف أو الرمح أو الآت القتال الاخرى. و لأثره هذا، ورد الحديث عن الرسول قوله: "والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنيل بما تقولون لهم من الشعر" مخاطباً بذلك شعراء المسلمين، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك ن سلاح الشعر. وقد كان الوثنيون قد اشهروه أيضاً وحاربوا به المسلمين.

وطالما قام الشعراء بدور السفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك وبين القبائل، أو بين القبائل والقبائل، فلما أسر "الحارث بن أبي شمر"الغساني" شأس بن عبدة"في تسعين رجلاً من "بني تميم"، وبلغ ذلك اخاه "علقمة بن عبدة"، قصد "الحارث"، فمدحه بقصيدته: طحا بك قلبُ بالحسان طروب  بعيد الشباب عصر حان مشيب

فلما بلغ طلبه بالعفو عن اخيه وعن بقية المأسورين، قال الحرث: نعم واذنبة، واطلق له شأسا اخاه، وجماعة اسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم.

ولم يقل اثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن اثر الفارس، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه، يهاجم خصومهم ويهجو سادتهم، ويحث المحربين على الاستماته في القتال، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للاقدام على الموت حتى النصر، والفارس يدافع عن قومه بسيفه، وكلاهما ذاب عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس، لما يتركه الشعر من اثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظا في الذاكرة وفي اللسان، ويريه الخلف عن السلف، بينما يذهب اثر السيف، بذهاب فعله في المعركة ن فلا يتركه شعر المديح أو الهجاء من اشر في النفوس، يهجيها حين يذكر، وكان من اثره ان القبائل كانت إذا تحاربت جاءت بشعرائها، لتستعين بهم في القتال. فلنا كان يوم "احد" قال "صفوان ابن امية" لأبي عزة عمرو بن عبد الله الجمحي: "يا ابا عزة انك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، فاخرج معنا. فقال: ان محمدا قد من علي فلا اريد ان اظاهر عليه. قال: فاعنا بنفسك فلك الله علي ان رجعت ان اغنيك، وان اصبت ان اجعل بناتك مع بناتي ما اصبهن من عسر ويسر، فخرج ابو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة" شعرا إلى السير مع قريش لمحاربة المسلمين.

وكان للرسول شاعره "حسان بن ثابت" يدافع عن الإسلام والمسلمين، وكان المشركين من أهل مكة شاعرهم "عبد الله بن الزبعري" يرد عليه ويهاجم المسلمين في السلم وفي المعارك، وقد دونت كتب السير والاخبار والتواريخ اشعارهم زما قاله احدهم في الآخر، وقد فات منه شيء كثير، نص رواة الشعر على انهم تركوه لما كان فيه من سوء ادب وخروج على المروءة. وكان إلى جانب الشاعرين شعراء اخرون، منهم من ناصر المسلمين لأنه كان منهم، ومنهم من ناصر المشركين لأنه كان منهم. بل كان المحاربين إذا حاربوا، فلا بد وان يبدأوا حربهم بتنشيطها وبتصعيد نارها برجز أو بقريض.

ومن خوفهم من لسان الشاعر، ما روي من فزع "ابو سفيان"، لما سمع من عزم "الاعشى" على الذهاب إلى يثرب ومن اعداد=ه شهرا في مدح الرسول، ومن رغبته في الدخول في الإسلام. فجمع قومه عندئذ، وتكلم فيما سيتركه شعر هذا الشاعر من اثر في الإسلام وفي قريش خاصة ان هو اسلم، ولهذا نصحهم ان يتعاونوا معه في شراء لسانه وفي منعه من الدخول في الإسلام بإعطائه مائة ناقة فوافقوا على رأيه وجمعوا على رايه وجمعوا له ما طلبه، وتمكن ابو سفيان من التاثير عليه، فعاد إلى بلده "منفوحة" ومات بها دون ان يسلم.

قال "الجاحظ": "ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم ان يبقى ذكر ذلك في الاعقاب، ويسب به الاحياء والاموات، انهم إذا اسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة ، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين اسرته بنو تيم يوم الكلاب. و "عبد يغوث ابن وقاص" شاعر قحطاني، وكان شاعرا من شعراء الجاهلية، فارسا سيد قومه من "بني الحارث بن كعب"، وهو الذي قادهم يوم كلاب الثاني فأسرته بنو تيم وقتلته. وهو من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والاسلام، منهم "اللجلاج" الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه "مسهر" فارس شاعر، ومنهم من أدرك الإسلام، : "جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث ابن عبد يغوث"، وكان شاعراً صعلوكاً.

ولما مدح "الحطيئة" "بغيض بن عامر بن لاي بن شماس بن لاي بن انف الناقة"، واسمه "جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، وهجا "الزبرقان"، واسمه "الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب"، صاروا يفخرون ويتباهون بأن يقال لهم "انف الناقة"، وكانوا يعيرون به ويغضبون منه، ويفرقون من هذا الاسم، حتى ان الرجل منهم كان يسأل ممن هو فيقول من "بني قريع" فيتجاوز جعفراً أنف الناقة، ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى ان قال "الحطيئة" هذا الشعر فصصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به اصواتهم في جهارة، إذ قال: قوم هم الانف والاذناب غيرهم  ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا

وقد تعزز الاعشى على قومه، وبين مكان فضله عليهم، إذ كان لسانهم الذاب عنهم المدافع عن اعراضهم، الهاجي لأعدائهم بشعر هو كالمقرض يقرض أعداء قومه قرضاً.

وادفع عن اعراضكم وأعيركم  لساناً كمقراض الخفاجي ملحبا

وذكر ان بني تغلب كانوا يعظمون معلقة "عمرو بن كلثوم" ويرونها صغاراً وكباراً، حتى هجاهم شاعر من شعراء خصومهم ومنافسيهم:بكر بن وائل، إذا قال: ألهي بني تغلب عن كل مكرمة  قصيدة قالها عمرو بن كلثـوم

يرونها أبداً مذ كـان اولـهـم  يا للرجال لشعر غير مسـئوم

ولسلاطة ألسنة بعض الشعراء، ولعدم تورع بعضهم من شتم الناس ومن هتك الاعراض، ومن التكلم عنهم بالباطل، تجنب الناس قدر امكانهم الاحتكاك بهم، وملاحاتهم والتحرش في أمورهم، خوفاً من كلمة فاحشة قد تصدر منهم، تجرح الشخص الشريف فتدميه، و "جرح اللسان كجرح اليد"، كما عبر عن ذلك "امرؤ القيس" أحسن تعبير. والامر ما قال طرفة: {ايت القوافي تتلجن موالجـاً  تضايق عنها أن تولجها الابر

وفي هذا المعنى دون "الجاحظ" هذه الابيات: وولشعراء ألسـنة حـداد  على العورات موفية دليله

ومن عقل الكريم إذا اتقاهم  وداراهم مدارة جـمـيلة

إذا وضعوا مكاويهم علـيه  وإن كذبوا فليس لهن حيله

و "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عالماً بالشعر، قليل التعرض لأهله:استعداه رهط من تميم بن أبي مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت، فراراً من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه في النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان-على علمه بالشعر- أبصر من عمر رضي الله عنه بوجه الحكم، وان اعتل فيه ما اعتل".

"وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان، ثم قضى على الحطيئة بالسجن"، وقد كان عمر قد كره ان يتعرض للشعراء، فاستشهد حساناً، فلما بيّن حسان رأيه في الشعر، انفذ حكمه، فتخلص "عمر" بعرضه سليماً.

و"تميم بن مقبل بن عوف بن حنيف" العجلاني، من الشعراء الذين أدركوا الإسلام فأسلم، وكان يهاجي "النجاشي"، فهجاه "النجاشي" يوماً، فاستعدى "تميم" "عمر"عليه. فلما قرأ "النجاشي" على "عمر" ما قاله في "تميم" أمر بضربه وحبسه. وكان يبكي أهل الجاهلية.

"وسئل أبو عبيدة: أي الرجلين أشعر: أبو نُواس، أم ابن أبي عيينة ? فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك ! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا ?! "وذلك خوفاً ولاشك من لسان الشاعر الحي. "ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشرافُ ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحاً فتعود جداً " وكانوا يهابون الشاعر الهجّاء البذيء اللسان المتمكن من شعر الهجاء، أكثر من غيره من بقية الشعراء، لما كان يتركه هجاؤه من أثر فيهم، حتى الشعراء البارزون كانوا يتقون شر الشاعر الهجاء ويبتعدون عنهم. فلما هجا "عبد الله بن الزبعري"، بني قصيّ، خاف قومه من هجاء "الزبير بن عبد المطلب"، فرفعوه برمته إلى "عتبة بن ربيعة"، فلما وصل اليهم أطلقه "حمزة بن عبد المطلب" وكساه، وكان "الزبير" غائباً بالطائف، فلما وصل مكة وبلغه الخبر هجا قوم "ابن الزبعري" هجاء مراً، بقوله: فلولا نحن لم يلبس رجـال  ثيابَ أعزة حتى يمـوتـوا

ثيابهم سِمـالُ أو طـمـارُ  بها دسم كما دسم الحَمـيت

ولكنّا خلقنا إذ خـلـقـنـا  لنا الحبرات والمسك الفتيت

وكان عبد الله بن الزبعري قد قال حين أطلقه حمزة: لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي  وإن صالحت إخوانها لا ألومها

فودّ جناة الشرّ أن سـيوفـنـا  بأيماننا مسلولة لا نشـيمـهـا

فإن قصيّاً أهل عـزّ ونـجـدة  وأهل فعالٍ لا يرام قديمـهـا

هُمُ منعوا يومي عُكاظ نساءنـا  كما منع الشول الهجان قرومها

ونظراً لأثر شعر الهجاء في الناس، من أفراد وقبائل، صاروا يصطنعون الشعراء ويحسنون جهدهم اليهم خشية ألسنتهم، يفعلون ذلك بشعرائهم وبشعراء القبائل الأخرى ممن يخشون سلاطة ألسنتهم. يفعلون ذلك حتى إذا كان الشاعر قد أساء اليهم، على أمل التكفير عن ذنبه، بمدحهم بشعر ينفي أثر ما قاله فيهم من هجاء. حتى انهم كانوا يعفون عن شاعر قد يقع أسيراً في أيديهم، إذا أعطاهم العهود والمواثيق ألا يعود إلى هجوهم، وألا يقول شعراً في ذمهم. وقد يغدقون عليه بالهدايا والألطاف تأليفاً للسانه، وأملاً في مدحه لهم، والقاعدة عندهم ان أثر الهجاء يمحوه المدح.

وبين الشعر الجاهلي والشعر الاسلامي فروق واضحة في الأسلوب وفي الاتجاه وفي الجزالة واختيار الكلمات، اقتضتها طبيعة اختلاف الزمان وتغير الحال واتصال العرب بغيرهم، وخلود أكثرهم إلى الحضارة، إلى غير ذلك من أسباب.

ومما امتاز فيه الشعر الجاهلي عن الشعر الاسلامي، هو أن شعراءه كانوا من العرب، إلا بضعة شعراء، كانوا من أصل خليط، مثل الأغربة، الذين كانت أمهاتهم من أصل افريقي. و لا أعلم اسم شاعر جاهلي، يرجع أصله إلى فارس أو الروم، إلا ما ذكره "ابن الكلبي" من أمر "خرخسرة". أما في الإسلام فقد زاحم الفرس بصورة خاصة العرب على تراثهم التليد، وهو الشعر، برزّ منهم فيه فحول، طوروا الشعر ولوّنوه، وأضافوا اليه معاني جديدة، اقتضتها طبيعة الامتزاج بين العقليتين والتطور الجديد الذي ظهر في المجتمع الجديد، مجتمع العرب والموالي.

ولعلماء الشعر آراء في الشعر الجاهلي وفي شعراء الجاهلية، وفي شعرهم وفي الاستشهاد بالشعر الجاهلي. ولهم آراء في ذلك دوّنوها في كتبهم. من ذلك أن العرب كانت لا تروي شعر شاعر، أو لا تعجب به إذا كانت ألفاظه ليست نجدية. ذكروا أن "العرب لا تروي شعر أبي دواد وعدي بن زيد. وذلك لأن ألفاظهما ليست بنجدية". وذكروا عن شعر "عدي بن زيد العبادي"، أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية. وكان نصرانياً من عباد الحيرة قد قرأ الكتب". وقالوا عنه أيضاً "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جداً، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة".

وجزالة الألفاظ وشدة وقعها على الأسماع وغرابتها، هي من أهم المعايير التي اتخذها علماء الشعر في تقدير قيم الشعر الجاهلي، والقصيدة الجيدة الحسنة هي القصيدة الجزلة الفخمة الألفاظ التي لا تتسم بالسهولة والليونة، والتي لا تفهم إلا بالرجوع إلى الشروح والتعليقات والايماءات والإشارات. ومن هنا فوّقوا شعر الأعراب على شعر الحضر، لوجود لين في شعر أهل المدر، ولسهولته، ومن هنا قالوا: إن في شعر قريش ليناً وسهولة، وفي شعر أهل الحيرة وأهل القرى مثل ذلك.

وقد تعرض "ابن رشيق" لموضوع الشعر الجاهلي القديم والشعر الإسلامي المحدث، فقال: "إنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رَجُلين ابتدأا هذا بنا فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزيّنه فالكلفة ظاهرة على هذا وان حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن".

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق