إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1752 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثلاثون بعد المئة ألهندسة والنوء


1752

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
         
الفصل الثلاثون بعد المئة

ألهندسة والنوء


ولا بد أن يكون للجاهليين علم بطرق السيطرة على المياه، ويطرق استنباطها والاستفادة منها. ففي مواضع من اليمن والحجاز والعربية الجنوبية آثار سدود مثل سد مأرب، لا يمكن أن تكون قد انشئت بغير علم ودراية وخبرة. ففيها فن في كيفية جمع المياه في خزاناتها، وفن في كيفية تصريفها وتوزيعها وقت الحاجة بقدر، وفيها أبواب تتحكم في سير الماء، كذلك كان لهم علم في حفر الآبار وإنشاء الصهاريج لجر المياه الى الأماكن التي تحتاج إليها. وقد أشتهرت ثقَيف بعلمها بطرق استنباط المياه. وأشتهرت قبائل أخرى بهذا العلم أيضاً، وذكر أن بعضها كانت تتفرس وتحدس بوجود الماء من نظرها إلى لون التربة ومن شمها ومن علامات أخرى عرفوها وأدركوها بالتجربة.

ونجد اليوم بقايا سدود استخدمت لحبس "السيول" للاستفادة منها في الشرب وفي الزراعة. وتقع أكثر هذه السدود في الأودية التي تكون مسايل تسيل منها الأمطار المتساقطة في موسمي المطر في العربية الجنوبية. فتعمل الأحباس بين طرفي الوادي لتحبس الماء، فلا يندفع إلى المواضع المنخفضة فيذهب عبثاً، وبذلك يرتفع مستواه، فيسقي الزرع على جانبيه، وتعمل سواقي لتسيل منها المياه إلى الأماكن المنخفضة التي تقع تحت هذه الأحباس وهكذا تسقى بقية المزارع. وتختلف هذه الأحباس من حيث جودة العمل والاتقان، فبعضها أحباس بدائية بسيطة، عملت من الأتربة، أو من الأحجار والصخور، على شكل "سكر"، يمنع الماء من المرور، وبعضها عملت بصورة فنية متقنة من الحجر الموضوع بعضه فوق بعض، مع استخدام مواد ماسكة لشد الحجر بعضه إلى بعض، وقد يطلى السد بمادة تمنع الماء من اللعب به. وتعمل به منافذ ذات أبواب، تسد وتفتح حسب الحاجة للتحكم بالماء. وتلاحظ بقايا هذه السدود اليوم في وادي مبلقه، وفي وادي بيحان، وفي وادي حريب، وفي أودية أخرى عديدة.

أما اهل المواضع المرتفعة مثل الهضاب والجبال، فقد عمدوا إلى كل حواجز وحوائط منخفضة، لمنع المطر من الانحدار، إذ تحصره هذه الحواجز، فيسيل إلى المزارع ليسقيها، وقد تعمل له مجار ليسيل الزائد منه والذي لا محتاج إليه إلى أسفل، فلا يغرق الزرع. وقد يوجه إلى كهوف وآبار محفورة وكهاريس، لتمتلىء بالماء، للاستفادة منه في مواسم انحباس الأمطار.

وتوجد في المعابد فوهات تدفع مياه الأمطار حين سقوطها الى مجاري بنيت تحت الأرض تؤدي إلى صهاريج تخزن فيها مياه الأمطار. وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" الأمريكية على مواضع خزن الماء في معبد مأرب المعروف في الكتابات بمعبد "اوم"، "اوام" المخصص لعبادة "المقه" إله سبأ الرئيس. ونجد مثل هذه المخازن في المعابد الأخرى أيضاً. وخزن الماء على هذه الطريقة،اسلوب متبع في فلسطين وفي المواضع الأخرى ذات الأرض الصلدة الحجرية، حيث تنقر الأرض وتعمل بها كهوف كبيرة تخزن فيها المياه.

وقد تخصص قوم وتفرسوا بمعرفة مواطن المياه واستنباطها وساعدوا في حفر الابار وفي حفر القنِى وإنشاءها. وفي كتب اللغة ألفاظ أطلقت على الأدلاء الخبراء أصحاب العلم بمواضع وجود الماء في باطن الأرض، مثل جوّاب الفلاة، وذلك لأنه كان لا يحفر صخرة إلا أماهها، القناقن، وهو الدليل الهادي البصير بالماء تحت الأرض في حفر القنى، والعياف، وقد تحدثت عنها وتطلق أيضاً على الدليل الذي يعرف موضع الماء من الأرض.

والماء في الأرضين الجافة القاحلة، نعمة كبرى وحياة لأهلها، فكانوا يفرحون ويشكرون آلهتهم ويتقربون إليها بالذبائح والنذور عند عثورهم على الماء في الأرضين التي يبخرون فيها الآبار. ولهذا قدسوا الابار وأسبغوا عليها القدسية، وتقربوا لها بالنذور والهدايا،وعدوا مياهها شافية نافعة مقدسة. والبئر ثروة تدر على أصحابها المال. وقد يبارك الكهان والرؤساء تلك الآبار، لتنعم على أصحابها بالماء الغزير. وقد كان "المحققون" "محققيم"، وهم الرؤساء عند العبرانين، يحضرون الاحتفالات، ويشكرون إلهَ اسرائيل عند ظهور الماء في الابار،على نحو ما يفعله العرب في مثل هذه الأحوال.

وقد لجأ الجاهليون إلى التحايل في استصلاح الماء الأجاج أو الكدر، للاستفادة منه في الشرب، فذكر إذا كانت بهم حاجة ماسة الى الماء، ولم يجدوا إلا ماء البحر أو الماء الأجاج الملح، وضعوه في قدر، ووضعوا فوق آلقدر قصبات وعليها صوف منفوش، ثم يوقد تحت القدر، حتى يرتفع البخار، فيدخل مسامات الصوف، ويمتلىء به. فإذا كثر، عصر في إناء، ولا يزال على هذا الفعل حتى تتجمع كمية من الماء العذب، وتترسب الأملاح في القدر. وذكر أيضاً أنهم كانوا يحفرون في الشاطىء حفرة واسعة، ليترشح إليها ماء البحر، ثم إلى جانبها وقريب منها حفرة أخرى يترشح إليها الماء من الثانية َثم تحفر حفرة ثالثة، وهكذا حتى يعذب الماء.

أما الماء الكدر، فقد كانوا يتخلصون من كدرته بإلقاء مواد فيها لتعلق الكدرة بها، فإذا رسبت، رسبت الكدرة معها، وبذلك يتنقى الماء. وفي جملة المواد التىِ استعملوها الجمر الملتهب، يلقى به في الماء، فإذا انطفأ وتحول إلى فحم، اخذ معه ما يجده من الكدرة، فيصفو بذلك الماء، واستعملوا نوعاً من الطين وسويق الحنطة.

وقد عرفت هذه الفراسة، فراسة استنباط الماء من الأرض، بالأمارات الدالة على وجوده، على نحو ما ذكرت من شم التربة، أو برائحة بعض النباتات فيه أو بمراقبة حركات الحيوان، ويقال لها: الريافة.

وتوجد اليوم آبار قديمة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب عميقة جداً، ولا زال الناس يستقون منها الماء. وهي عادية، اى قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام. وكانت عليها مستوطنات تعيش على ماء هذه الابار. ولهذا فلا غرابة إذا ما وجدنا القدماء يقدسون الآبار ويعتبرونها من مصادر الحياة بالنسبة لهم، لأنها تمدهم وتمد إبلهم وماشيتهم بعرق الحياة وروحها، ويدل عمقها على مقدار ما بذله الحفارُ من جهد حتى توصلوا إلى تلك الأعماق بوسائلهما البدائية التي كانت متوفرة عندهم في ذلك العهد.

والآبار هي من مصادر الحضارة والتحضر في جزيرة العرب، فلولاها ولولا موارد الماء الأخرى، لما ظهرت المستوطنات، ولما ظهر زرع، ولما عاش ضرع. ولهذا صارت البوادي أرضن قفراً لا يسكنها ساكن إلا إذا استنبط ماء فيها، أو سقط غيث عليها. ولقيمة الماء في حياة جزيرة العرب، تجد نصوص المسند تذكرها وتشير إلى الأرضين التي تسمّى منها، وتعتبرها من مصادر النعمة والثراء.

ولأهمية الماء، كانوا يتقربون إلى آلهتهم بالقرابين وبالأدعية والتوسلات، لأن تمنحهم المطر، وتسقي أرضهم على أحسن وجه، وقد كان من واجب رجال الدين الإستسقاء، وذلك بان يتوسلوا إلى آلهتهم بان تمن على عبيدها بالمطر، يقومون به بإجراء طقوس دينية خاصة، وربما استعانوا بالسحر في هذا الاستسقاء وقّد كانت الشعوب الأخرى تّستسقي كذلك وتستعين بالسحر في إرضاء الآلهة لكي تنزل الغيث على المحتاجن إليه. وقد عرف الاستسقاء بمكة وعند سائر العرب، كما تحدثت عن ذلك مواضع من هذا الكتاب، والأغلب أن الكهنة كانوا هم الذين يقومون بالاستسقاء، لأنه من صميم اعمالهم وواجباتهم.

وقَد سبق أن تحدثت عن شق الطرق في الهضاب وفي جبال اليمن، لايصال القرى والمدن بعضها ببعض. وقد أبدع المهندسون في ذلك الوقت في شق الطرق في المناطق الجبلية، ءويسمونها "مسبإ"، ولا تزال آثار بعض منها موجودة حتى اليوم. ووردت لفظة "مذهب" في نصوص المسند، بمعنى الممر والطريق والمعبر.

وقد قام المهندسون بإصلاح الطرق.، ونجد لفظة "درك"Derek في العبرانية بمعنى "الطريق"، والدرك في العريية أسفل كل شيء، ومراتب الهبوط، ولعلها في الأصل الطريق المنحدر إلى اسفل، وأما السبيل، فالطريق، وتقابل هذه اللفظة لفظة "شببل" في العبرانية. و، السراط" "الصراط" الطريق الممهد المعبد، واللفظة من الألفاظ المعربة من اللاتينية، من أصل Strata بمعنى طريق مبلط، وطريق كبير واضح.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق