إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 3 فبراير 2016

1745 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والعشرون بعد المئة الكتاب والعلماء


1745

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
       
الفصل الخامس والعشرون بعد المئة

الكتاب والعلماء

والعلم المعرفة. ورجل عالم وعليم، صاحب معرفة، وأصحاب المعرفة والعلم هم العلماء. ويقال قي جمع عالم: علاّم، كجهال في جاهل. قال يزيد بن الحكم: ومسترق القصائد والمضاهي  سواء عند علام الـرجـال

وذكر علماء اللغة إن "النافع" العالم، وقيل هو المبين للامور، وقيل هو الذي قتل الأمر علماً. قال شقران السلاماني: إن الذي ريضتـمـا أمـره  سراً وقد بين لـلـنـاخـع

لكالتي يحسبـهـا أهـلـهـا  عذراء بكراً وهي في التاسع

والعلاّمة، والعلام والتعلمة. والتعلامة: العالم جداً وذلك للمبالغة في سعة علم العالم. وذكر علماء اللغة إن "العلامة والعلام: النسابة، ويظهر انهم انما قالوا ذلك، بسبب إن النسب كان عند الجاهليين من أهم علومهم التي برعوا وتخصصوا بها حتى صار النسب مرادفاً للعلم عندهم. وفي القرآن: )انما يخشى اللهَ من عباده العلماء(، و )علماء بني اسرائيل(، وألفاظ كثيرة لها صلة بالتعلم والعلم، وفي ورودها فيه دلالة على وقوف الجاهليين على العلم والتعلم وعلى وجود العلماء عندهم.

وترد لفظة "الكاتب" بمعنى العالم. قال الله تعالى: )أم عندهم الغيب، فهم يكتبون(،وفي كتابه أهل اليمن: قد بعثت اليكم كاتبا من أصحابي، أراد عالماً،سمي به لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة، والكاتب عندهم العالم. والاكتاب الإملاء. تقول: اكتبني هذه القصيدة، أي املاها عليّ، و الكاتب عند الشعوب الأخرى، بمعنى العالم كذلك، وقد كانت للكتاب منزلة كبيرة في مجتمعهم، إذ كانوا يعدون من الطبقات العالية الممتازة، وذلك لأن الكاتب لا يكون كاتباً إذ ذاك، ولا ينال العلم، إلا إذا كان من الطبقة العالية المتمكنة ومن اسرة عرفت بالعلم. والعلم إذ ذاك محصور في العوائل، وفي رجال الدين وفي الطبقة التي تتولى الكتابة في قصور الملوك. ونجد في القرآن لفظة: "إكتب" و "كتبت" و "كَتبَتَ" و "كتبْنا"، و "كتبناها"، و "فسأكتبها"، و "تكتبوه"، و "نكتب"، و "يكتب"، و "يكتبون" و "أكتب"، و "فأكتبها"، و "فاكتبوه"، و "كُتبَ" و "ستكتب"، و "اكتتبها"، و "فكاتبوهم"، و "كاتب"، و "كاتباً" و "كاتبون"، و "كاتبين"، و "الكتاب"، و "كتاباً"، و "كتابك"، و "بكتابهم"، و "كاتبا"، و "كتابه""، و "كتابها"، و "كتابي"، و "كتابيه"، و "كُتب"، و "كُتبِه"، و "مكتوباً". وفي ورود هذه الألفاظ فيه معبرة عن معان مختلفة لها صلةَ بالكتابة وبالعلم دلالة على أن الجاهليين كانوا على علم، وأنهم كانوا يكتبون في اغراض مختلفة من أغراض الحياة، وأنهم لم يكونوا على نحو ما يقص عنهم أهل الأخبار من الجهل والأمية.

وذكر علماء اللغة إن "الشهر" وجمعها "شهور" بمعنى العالم، واستشهدوا على هذا. المعنى ببيت شعر بنسب الى أبي طالب، هو: فإني والضوابح كـل يوم  وما يتلو السفاسرة الشهود

قال الصاغاني: هكذا انشده الأزهري لأبي طالب، ولم اجده في شعره. ولكن الرواة يروونه على هذا النحو: فإني والسـوابـح كـل يوم  بى ما تتلو السفاسرة الشهود

وللسفاسرة اصحاب الأسفار، وهي الكتب، والشهود أنسب في تفسير الشعر من الشهور، لأننا لا نعلم إن أحداً قال إن الشهر: العالم، وأرى إن تصحيفاً قد وقع في البيت حول حرف "الدال" "راء"، ففسرت لفظة الشهور بالعلماء، لعدم تصادم هذا التفسير مع المعنى، وفي العربية من الأمثلة على مثل هذا التصحيف.

وترد لفظة "الفقه" بمعنى العلم بالشيء والفهم له. ويظهر إن الجاهليين كانوا يستعملون لفظة "فقه" ومشتقاتها في معان لها صلة بالعلم. ودليل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من قوله )فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين(، ومن ورود "تفقهون"، و "تفقه"، و "يفقهوا"، و "يفصحون" و "يفقهوه" في مواضع منه وورد في كتب اللغة والأدب والأخبار: "فقيه العرب: عالم العرب"، و "فقهاء من العرب". وورد في الحديث: "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون"، أي الثرثارون المدعون العلم والفقه.

ويفهم أيضاً من روايات أهل الأخبار، أنه قد كان للجاهليين أئمة وفقهاء يقضون بينهم ويفتون في دينهم، ومحافظون على دينهم. فهم عندهم سدنتهم وأمناؤهم. وقد ذكر "ابن حبيب" أسماء نفر من "تميم" تولوا الموسم والقضاء بعكاظ. فكانوا يجلسون في مكان من السوق، بين المتخاصمين وللافتاء فيما يشكل عليهم من أمر دينهم. وكان، منهم من تخصص بالاجازة بالموسم. ومنهم من تخصص بالفتيا والقضاء. ومنهم من جمع بين الاثنين.

أنا لا أستطيع أن أتحدث عن كتب ومؤلفات نقول إن الجاهليين كتبوها بالعربية على نمط اليونان واللاتين والفرس والسريان في الكتابة والتأليف، ذلك لقصور علمنا في الموضوع، ولعدم وصول أي خبر الينا عنه حتى الآن.

نعم، لقد أشرت إلى وجود ما يسمى "مجلة لقمان" و "حكمة لقمان" والى كتب امتلكها بعض الجاهليين، إلا أن الأخباريين لم يصفوا كيف كانت مجلة لقمان، و لم يتطرقوا إلى ما كان فيها، كما أن الظواهر تشير إلى أن تلك الكتب هي مؤلفات جيء بها من بلاد الشام والعراق واليمن، أغلبها في موضوعات دينية وتأريخية وقصص. وأما لغتها، فيظهر أن بعضها بعربية القرآن الكريم، كمجلة لقمان، وبعضها بلغة بني إرم.

أما ما قيل له "الأساطير" أو "كتب الأساطير"، فهو كتب قصص وسمرٍ وحكايات وتواريخ. وتدل التسمية على أنها من أصل يوناني، هو: Historia و Storia في اليونانية وتعني التأريخ، عر"بت فصارت "أسطورة" وجمعت على أساطير، واستعملها الجاهليون استعمال اليونان واللاتين، أي أرادوا بها تواريخ الماضين وحكاياتهم وقصصهم.

وأما ما قيل له "السفاسرة" فالسفسير الحاذق بالشيء، والسفاسرة أصحاب الأسفار، وهي الكتب. والكلمة من أصل "إرمي" على رأي علماء اللغة. و "سفسير" بمعنى "سمسار" في لغة "بني إرم"، أي المساوم. والظاهر إن "السفاسرة"، من "سفر"، و "سفر" "سيفر" بمعنى كتاب في عدد من اللغات السامية. وتقابل "سفرو" في لغة بني إرم، بمعنى كتاب. وقد كان بمكة وبغيرها رجال يتلون الكتب ويقرئون أسفار أهل الكتاب من دينية وغيرها قبل الإسلام وفي الإسلام وفي الحديث: لا تعلموا أبكار أولادكم كتب النصارى: يعني أحداثكم. وفي هذا الحديث إن صح دلالة على إن قراءة الكتب كانت منتشرة في ذلك العهد، ولا تعني جملة "كتب النصارى" الكتب الدينية بالضرورة، إذ قد تعني كل ما كان يتداوله النصارى من كتب في ذلك العهد. وقد يكون من بينها مؤلفات في الفلسفة وفي الطب وفي فروع المعرفة الأخرى التي كان الناس يتدارسونها إذ ذاك.

وفي الآية: )وقالوا: أساطير الأولين اكتبتها، فهي تملي عليه بكرة وأصيلاٌ. قل: أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض. إنه كان غفوراً رحيماً(، دلالة صريحة على وجود الكتب والأساطير عند الجاهليين. فلما نزل القرآن، قال المشركون: "هذا إلا افك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين، يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم"، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود، فهي تملى عليه، يعنون بقوله: فهي تملى عليه، فهذه الأساطير، تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب، وأمليت بكرة وأصيلا، يقول ويملى عليه غدوة وعشياً. وقوله: قل أنزله الذي يعلم السر. في السموات والأرض. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بآيات الله من مشركي قومك ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأولين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون، بل هو الحق انزله الرب الذي يعلم سر من في السموات ومن في الأرض ولا يخفى عليه شيء". وزعموا إن الرسول اكتتب القرآن من "أساطير الأولين"، وهي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم، "فهي تقرأ عليه أو كتبت له"، وقالوا: "ما هذا الذي جمعتنا به إلا كذب الأولين وأساطيرهم"، وكانوا يروون الأساطير وأحاديث الخلق، وهي الخرافات من الأحاديث المفتعلة، فرمى المشركون الرسول بهذه الفرية.

وقد ذهب "شبرنكر" وهو من الزاعمين أن الرسول كان يكتب ويقرأ إلى أن النبي قرأ كتاباً في العقائد وللأديان وأخبار الماضين، وقد زعم أن اسم هذا الكتاب هو: "أساطير الأولين". وقد أخذ رأيه هذا من الآية: )وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة وأصيلا(. وهذه السورة هي من السور المكية. فهي تشير إلى زعم قريش في أن القرآن، هو شيء اكتتبه الرسول، وقد أملي عليه من الأساطير. وقد سبق أن قالوا إنه يتعلمه من اناس عاونوه وساعدوه عليه. قالوا إن هذا القرآن "افك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين يعني أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود، فهو يملي عليه. يعنون بقوله: فهو يملى عليه، فهذه الأساطير تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب وأمليت، بكرة وأصيلاّ. يقول وتملى عليه غدوة وعشياً".وأعانه عليه قوم آخرون. يقول: وأعان محمداً على هذا الإفك الذي افتراه يهود". وقد رد على هذا الرأي "نولدكه" في كتابه: "تأريخ القرآن"، وعده قولاً لا أهمية له.

وقد ذكر علماء اللغة أن الأساطير هي الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها، وهي جمع "أسطار" و "اسطر" و "أسطور". واللفظة من الألفاظ المعربة. وهي Istoriya "استوريا" في اليونانية، و Historia في اللاتينية، وقد أطلقت عندهم على كتب الأساطير والتأريخ. ويظهر أن الجاهليين قد أخذوها من الروم قبل الإسلام، واستعملوها بالشكل المذكور وبالمعنى نفسه، أي في معنى تأريخ وقصص.

ولا أستبعد وجود الكتب التأريخية باليونانية وباللاتينية في مكة، فقد كان في مكة وفي غير مكة رقيق من الروم، كانوا يتكلمون بلغتهم فيما بينهم وينطقون بها إذا تلاقوا، كما كانوا يحتفظون بكتبهم المقدسة، وبكتب أخرى مدوّنة بلغتهم.

وقد ذكر علماء التفسير اسم رجل زعمت قريش أنه كان هو الذي يعلم الرسول ويلقنه القرآن. وإليه الإشارة في الآية: )لسان الذي يلحدون إليه اعجمي(. وهي في سورة النحل، وسورة النحل من السور المكية. " كانوا يزعمون أن الذي يعلم محمد هذا القرآن عبد رومي "وكان صاحب كتب، عبد لابن الحضرمي". " فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا: انما يعلمه.

وقد ذهب "شبرنكر" إلى وجود "صحف ابراهيم" عند الجاهليين، زعم إن الرسول قرأها وأخذ منها. وقد رد على رأيه هذا "نولدكه"، بقوله: لو فرضنا أن محمداً أخذ من هذه الصحف، ونسبه لنفسه وادعاه، على أنه وحي أوحى الله به إليه، لو فرضنا ذلك، فإن من غير المعقول عندئذ ذكر محمد لتلك الصحف في القرآن. لأن ذكرها فيه معناه إرشاد الناس إلى المورد الذي أخذ منه واتهام نفسه، ولهذا فلا يعقل الأخذ بكلام "شبرنكر".

وورد في كتب أهل الأخبار أن "الأحناف" كانوا يقرئون الكتب، وتبحروا في التوراة والانجيل، ومنهم من وقف على لغة "بني إرم" وعلى العبرانية.

ومن هؤلاء "ورقة بن نوفل بن اسد"، " الشاعر صاحب العلم في الجاهلية. وكان قد قرأ الكتب وتبحر في التوراة والانجيل، وهو الذي لقيته خديجة في أمر النبي.

وورد في بعض الأخبار في تفسير الآية: )ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً(. ان هذه الآية إنما نزلت في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة، ويضاهون بها القرآن، ويقولون إنها أفضل منه. وفي هذا الخبر دلالة على وقوف الجاهليين على الكتب واستعمالهم لها، وخاصة كتب السمر والأحاديث القديمة، إذ لا يعقل أن يكون شراؤهم لها حادثاً طارئاً، ظهر عندهم بنزول القرآن.

وذكر بعض المفسرين أن الآية المذكورة نزلت فى حق النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم: رستم واسفنديار فيحدث بها قريشا. وقيل كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول اطعميه واسقيه وغنيه، ويقول هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه.

وإذا صح ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن هذه الآية قد نزلت بحق "النضر"لأنه كان يعاند الرسول ويعارضه وقت يكون مجتمعاً بنفر من الناس يلقي عليهم مبادئ الإسلام، فيقرأ عليهم من كتب الأعاجم ومن قصص: رستم واسفنديار فإن ذلك يدل على أنه كان يتقن الفارسية، وأنه كان يمتلك كتب الفرس ويقرأ بها وهو بمكة، ويترجم ما جاء فيها لمن يتجمع حوله. وأنه اشترى جملة كتب خلال تجاراته مع العراق.

فنحن اذن أمام أقدم مترجم يصل الينا خبره من مترجمي العرب قبل الإسلام بمكة. يقوم. بترجمهّ كتب من الأعجمية إلى العربية. ويكون بذلك قد سبق المسلمين بزمن طويل في ترجمة كتاب رستم واسفنديار إلى العربية. غير أننا يجب أن نتحفظ ونحترز كثيراً في قولنا هذا. فنحن لا نقصد انه ترجم كتاب رستم واسفنديار ترجمة تدوين وتحبير، وبالتمام والكمال. فقول، مثل هذا يكون قولاّ جزافاً، لا يستند إلى علم أو دليل إن قلته. وإنما أقصد ترجمة شفوية على نحو ما ذكره وأورده المفسرون وأصحاب السيرة. وقد ترجم هذا الكتاب في الإسلام. ترجمه جبلة بن سالم.

ولا اعتقد أن رجلا مثل الحارث بن كَلدة الثقفي، أو ابنه النَضر، وهما من العلماء بالطب، لم يرجعا الى مؤلفات في الطب مدونة بلغة من اللغات الأعجمية، للحصول على علمهما في الطب. وكيف يمكن ذلك، وقد درسا في مدرسة لم تكن مدرسة عربية، هي مدرسة "جنسيسابور"، عرفت واشتهرت في الطب. وقد كان عماد دراستها في الطب ما الفه اليونان، وما نقله منها علماء السريان. ولا أعتقد أنهما كانا في جهل بمؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما ممن بنوا صنعة الطب، ووضعوا فيها المؤلفات، بل لا أعتقد أن رجالاّ في مكة أو في يثرب او الطائف كانوا على جهل باسماء مشاهير حكماء اليونان، وبينهم من كان له اتصال ببلاد الثقافة والعلم وبالأجانب على نحو ما ذكرت، وان اغفل عن ذكرهم أهل الأخبار.

ويظهر من روايات أهل الأخبار مثل رواية ابن الكلبي عن وجود دواوين فيها ما مدح به آل لخم وما قيل فيهم من شعر و مقدار ما حكم كل واحد منهم، وروايات غيره عن تدوين الشعر قبل الإسلام - أن الجاهلين كانوا قد شرعوا في تدوين الأخبار والشعر وما لفت انتباههم قبل الإسلام، وقد يكون ذلك قبيل الإسلام بعهد غير بعيد، وأن التدوين كان بهذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أو بلهجات قّريبة منها. ومعنى هذا أن هذه اللهجة كانت قد اكتسبت قوة في هذا العهد، حملت الناس على التدوين وعلى نظم الشعر بها. ولكن الذي رفعها وجلها لغة العرب أجمعين، هو القرآن الكريم من غير شك، فبفضله صارت هذه اللغة لغة للعرب كلهم ولغة المسلمين الدينية.

ويظهر من القرآن الكريم أن هذه اللغة كأنما قد عرفت ألفاظ الحضارة والفكر في يوم نزوله، لورودها فيه. و لورودها فيه أهمية كبيرة في إعطاء فكرة عن مستوى أهل الحجاز العقلي في ذلك اليوم، ففيه ألفاظ "مثل العلم والعلماء والحكمة والأساطير والأمثال الخ ... وألفاظ ذات صلة بالكتابة والتدوين تحدثت عنها ومصطلحات أخرى، ولا يمكن ورود مثل هذه الكلمات في لغة قوم ما، ما لم يكن لهم أو لجماعة منهم على الأقل، حظ من ثقافة وتفكير وعلم.

ولا أقصد ان الجاهليين استعملوا تلك الألفاظ بمدلولها المفهوم في الزمن الحاضر، أو بالمعاني المفهومة منها عند اليونان. فلفظة "علم" مثلاً لا تعني علماّ بالمصطلح الحديث أي في مقابل Science في الانكليزية، وإنما تعني المعرفة عامة. ولفظة "علماء"، لا تعني المشتغلين بالعلوم خاصة أي ما يقال لهم ٍScientist في الانكليزية، وإنما يراد بهم العارفون اصحاب المعرفة والفهم. وقد صار للفظتين مدلولان خاصان في العصر العباسي، ولكن هذا لا يعني أن لفظة "علم" لو "علماء"، لم تكن تعني معنى خاصاَ عند الجاهليين، والا ما استعملت للتعبير عن معان معينة في القرآن الكريم، وما ميز القرآن الكريم والحديث النبوي العارفين بلفظة علماء، لتمييزهم عن السواد. وبهذا المعنى وردت لفظة "عالم" وعلم عند العبرايين.

ولا أستبعد تأثر المثقفين الجاهليين ومن كان على اتصال بالعجم وباليهود والنصارى بالآراء الفلسفية والدينية وبالجدل الذي وقع بين المذاهب النصرانية في أمور عديدة. فقد خالط الجاهليون، ولا سيما في بلاد العراق وبلاد الشام، أقواما عديدة ذات ثقافات متباينة واحتكوا بها، وأخذوا منها، فلا يعقل الا يتأثروا ببعض آرائهم في الكون وفي الحياة وفي سائر نواحي التفكير. وقد وردت في شعر للاعشى وفي شعر لبيد، فكرتان متناقضتان عن الجبر والاختيار، فذهب الأعشى في هذا البيت: استأثر الله بالوفاء وبالعد  ل وولى الملامة الرجلا

مذهب القائلين بالاختيار، أي أن الإنسان مختار قادر على أفعاله. أما الأعشى فذهب مذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبر، مسير، وذلك في قوله: إن تقوى ربنا خبر نـقـل  وبإذن الله ريثي وعـجَـل

من هداه سبل الخير اهتدى  ناعم البال، ومن شاء اضل

وقد سبق أن ذكرت في مواضع متعددة من هذا الكتاب أن اكثر من نسُب إلى التوحيد، أي من ينعتهم أهل الأخبار بالحنفاء، كانوا يقرأون ويكتبون، وكانت عندهم كتب أهل الكتاب، وان أكثرهم كانوا أصحاب رأي وفكر فبالخلق وفي هذا العالم. ولكنهم لم يدخلوا في يهودية ولا في نصرانية،لأنهم لم يجدوا في الديانتين شيئاً يفرج ويرفه عما كان يجول في رؤوسهم من آراء ومقالات عن الخالق والكون. وقد جالس هؤلاء رجال اليهود والنصارى، وتكلموا معهم في أمور عديدة من أمور الفكر والدين في جزيرة العرب وفي بلاد العراق وبلاد الشام. وينسب لجندب بن عمرو بن حممة، وهو من دوس أنه كان يقول في الجاهلية: إن للخلق خالقاً لا أعلم ما هو. ثم جاء الي الرسول، فأسلم وقد ذكر أن ورقة بن نوفل، وهو واحد من المذكورين، كان قد قرأ الكتب وكتب بالعبراني أو السرياني، وإنه كتب بالسريانية "العبرانية" من الإنجيل ما شاء أن يكتب. وكان قد امتنع عن أكل ذبائح الأوثان. وذكر أيضاً: إن زيد بن عمر بن نفيل، وهو ممن كان على الحنيفية، كان ينتقد قريشا، ولا يأكل ذبائحها، لأنها ذبحت للأصنام والأوثان؛ وأن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله بن غفار المعروف بأبي اللحم الغفاري كان يأبى أن يأكل اللحم، ولهذا سمي: "آبي اللحم". وكان شريفاً شاعراً. وقد أسلم: وشهد حنين. وكان لكل هؤلاء وقوف على كتب أهل الكتاب، ولهم علم بأقلامهم.

وقد ذكر أهل الأخبار أن وهب بن منبه وأخاه كانا يستوردان الكتب القديمة من بلاد الشام. ويرد مصطلح "الكتب القديمة" في كتب السير والأخبار. ووهب بن منبه وأخوه من الاسلاميين، ولكن استيرادهما للكتب، لم يكن بدعاً واكتشافاً لهما، بل لا بد أنه كان قديماً معروفاً عند الجاهليين.

وقد ذكر أهل الاخبار عبد عمرو بن صيفي النعمان المعروف بأبي عامر الراهب في جملة من كان يناظر أهل الكتاب، ويتتبع الرهبان، ويألفهم، ويكثر الشخوص إلى الشام. ومن هنا قيل له: الراهب. وقد علم بذلك علم أهل الكتاب. وورد أن أهل الكتاب، وهم اليهود، "كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"، وورد جواز تفسير التوراة والإنجيل باللغة العربية. وكان اليهود يجادلون رسول الله في أمور الدين، وقد أشير إلى جدالهم له في القرآن الكريم: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. وقولوا: آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون(، وكانوا يستعينون في جدلهم بالتوراة، يفسرونها بالعربية للمسلمين.

وقد فسر بعضهم الآية: )ليقولوا دارست(، "بقوله: قرأت على اليهود وقرأوا عليك"، وفسرها بعضهم بذاكرتهم" أو قرأت كتب أهل الكتاب، فنحن إذن أمام أقدم أخبار تشير إلى ترجمة العهد القديم الى العربية، ليفهمها العرب المشركون. وقد كان جدال اليهود مع النبي على أمور واردة في التوراة، فلا بد وأنهم كانوا يستعينون بالترجمة في هذا الجدال.

وفي أخبار أهل الأخبار هذه مواضع تثير التساؤل وتوجه الانتباه إلى قضية وقوف أهل الجاهلية وصدر الإسلام على كتب أهل الكتاب، ونقلهم عنها وشرحهم لبعض ما نقلوه باللغة العربية. فقد وقفنا تواً على ما ورد عن بعض الأحناف من وقوفهم على كتب أهل الكتاب ومن معرفتهم بالعبرانية والسريانية، وقد وقفنا من أخبارهم على أن "عبد الله بن عمرو بن العاص" كان قد قرأ "الكتاب الأول". وأنه كان يقرأ بالسريانية، وأنه استأذن رسول الله في أن يكتب ما سمعه منه، فاذن له، فدوّنه في صحيفة سماها: "الصادقة"، وروي أنه كان يقرأ الكتابين: التوراة والإنجيل. وأنه "كان فاضلاً عالماً قرأ الكتاب واستأذن النبي إن يكتب حديثه، فاذن له، فكتب عنه حديثه وحفظ عنه ألف مثل. وروي انه كان على علم بالمثناة، و "المثناة" "المشنا" في تفسير التوراة، وأنه جمع كتباً حصل عليها يوم "اليرموك"، وكان له علم بها".

وروي أن "عمر" انتسخ كتاباً من كتب أهل الكتاب ووضعه في أديم، وجلي به إلى رسول الله، فقال له: "ما هذا في يدك يا عمر ? قال: يا رسول الله كتاب استنسخته لنزداد به علماً إلى علمنا. فغضب رسول الله حتى احمرت وجنتاه". وورد أيضاً أن رجلاً من "بني عبد القيس" سكنه بالسوس، كان قد نسخ "كتاب دانيال"، وكان يقرأه ويفسره للناس، وذلك في أيام عمر، فنهاه عن ذلك، وشدد عليه في وجوب محو ما كتبه. وورد إن "عمر" كتب إلى عامله "أبي موسى الأشعري" كتاباً نسخته: "إغسلوا دانيال بسدر وماء الريحان".

وورد أن "عمر بن الخطاب"، قال للنبي: انا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها ? فنهى الرسول عن ذلك.

ولم يرد اسم "كتاب دانيال" في خبر آخر، فقد ورد عن "عمرو بن ميمون الأودي"، أنه كان جالساً مع قوم، فجاء رجل ومعه كتاب، فقالوا له: ما هذا الكتاب: قال كتاب دانيال.

ولم يرد اسم "دانيال" في القرآن ولا في الحديث، ولكنه معروف جداً عند المسلمين، بأنه نبي، وله قصص في أخبار الرسل والأنبياء. وقد وصلتهم قصصه ممن أسلم من يهود ومن اليهود الذين عاشوا بين الجاهليين وبين المسلمين. حيث اكتسبت رؤيا "دانيال" وتنبؤاته وتفسيره لحلم "نبوخذ نصر" شهرة خاصة عند يهود، وانتقلت منهم إلى المسلمين. ويعد "دانيال" أحد الأنبياء الأربعة الكبار، وتولى مناصب عالية عند البابليين والميديين "الماديين"، وقد اشتهر بتعبير الرؤيا وبالتنبؤ عن المستقبل، والظاهر أن شهرته هذه عند اهل الكتاب، أكسبته منزلة خاصة عند المسلمين.

وورد أن "ابن قرة" جاء بكتاب من بلاد الشام إلى "عبد الله بن مسعود"، وكان قد أعجب به، فأمر "عبد الله بن مسعود" بطست فيه ماء، محا به أثر الكتابة.

وذكر إن "عمر بن الخطاب" قال: "أيها الناس، إنه قد بلغني انه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبهّا إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحداً عنده كتاب إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي. فظنوا انه يريد أن ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛ فأتوه بكتبهم. فأحرقها بالنار". ويظهر أن هذه الكتب هي من كتب أهل الكتاب، فعندنا أخبار عديدة تذكر حصول الصحابة على كتب كثرة وقعت اليهم في الغزوات والحروب التي جرت في بلاد الشام.

وقد ورد في شعر بعض الشعراء الجاهليين ما يفيد وقوف أصحاب ذلك الشعر على كتب أهل الكتاب. كالزبور و "خط زبور" و "مصاحف الرهبان" و "التوراة" و "المجلة" أي الانجيل وامثال ذلك، مما يدل على أنهم كانوا قد وقفوا على خبرها وشأنها، وأن اليهود والنصارى وهم عرب على اليهودية والنصرانية كانوا يتداولونها فيما بينهم، باعتبار أنها كتبهم المقدسة.

وقد وجد المسلمون مصاحف لليهود في مستوطناتهم فيها التوراة وفيها كتبهم الأخرى. فذكر إن المسلمين لما فتحوا "خيبر" "وجمعت مصاحف فيها التوراة، ثم ردت على اليهود".

وأنا لا أستبعد احتمال ترجمه الكتاب المقدس بقسميه، كلاً أو جزءاً منه إلى العربية، فقد كان اليهود - كما سبق أن قلت - يفسرون ليهود يثرب ولعربها التوراة وكتبهم الدينية بالعربية، كما كان المبشرون يفسرونه بالعربية، وقد رأيت إن قريشاً اتهموا الرسول بأنه كان يستمع إلى رجل نصراني، ويأخذ منه. وانهم ذكروا إن الأحناف كانوا يقرأون التوراة والانجيل، وان عرب العراق كانوا يدرسون في الكنائس والأديرة بالعربية، فلا أستبعد احتمال وجود ترجمات عربية للكتب الدينية قبل الإسلام، تلفت لأسباب عديدة، منها انها لم تكن اسلامية، ولأسباب أخرى، فلم تصل الينا لذلك.

وقد ورد في بيت شعر ينسب إلى "بشر بن أبي خازم"، ذكر كتاب كان عند بني تميم، إذ جاء فيه: وجدنا في كتاب بني تـمـيم  أحق الخليل بالركض المعار

ولو اخذنا بظاهر العبارة، دل البيت على وجود كتاب عند بني تميم، قد يكون صحيفة وقد يكون كتاباً مؤلفاً من صفحات. ولو اخذنا بالتأويل وقلنا معناه: وجدنا هذه اللفظة مكتوباً، إن أحق الخيل بالركض المعار، انتفى وجود كتاب لديهم. وقد نسب هذا البيت إلى "الطرماح بن حكيم"، وهو شاعر اسلامي. واذا صح إن هذا البيت هو من شعر الطرماح، جاز أخذ لفظة "كتاب" بالمعنى الحقيقي، إذ كانت الكتب معروفة في هذا الوقت.

وجاء في كتاب "إمتاع الأسماع"، أن الرسول "كتب هذه السنة المعاقل والديات، وكانت معلقة بسيفه"، وأشار الطبري إلى هذه الصحيفة بقوله: "وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المعاقل فكان معلقاً بسيفه"، والسنة المشار إليها هي السنة الثانية من الهجرة. والخبر أشبه ما يرن بخبر "الصحيفة" المنسوبة إلى "علي بن أبي طالب، فقد ورد في "صحيح البخاري": "عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلى: هل عندكم كتاب ? قال: لا، إلاّ كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر". وورد أنها "كانت معلمة بقبضة سيفه. إما احتياطاً أو استحضاراً"، وورد "فأخرج كتاباً من قراب سيفه". ويكاد يكون الخبر واحداً، فالصحيفة صحيفة المعاقل والديات، وموضعها في الخبرين السيف، معلقة به، أو في قرابه. ويظهر من روايات أخرى أن فيها أحاديث عن الرسول: مثل: المدينة حرام ما بين عاثر إلى كذا، فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل". وورد انه كان فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل.

ولم نجد في الأخبار ما يفيد أن الصحابة كانوا على علم بصحيفة النبي، ولو كانت للرسول صحيفة فيها أحكام المعاقل والديات، اكان الرسول قد علقها على سيفه، دلالة على اهتمامه بها، لما سكت عنها الصحابة، مع ما لها من الأهمية بالنسبة لاصدار الأحكام، ولأنها يجب أن تكون المرجع المطاع الثاني بعد القرآن. ولذلك فأنا اشك في أمر هذه الصحيفة، وفي صحيفة الإمام كذلك المأخوذة من كلام الرسول، ولو كانت صحيفة الإمام، هي صحيفة الرسول نفسها، صارت إليه بعد وفاته، لما سكتت الأخبار من الإشارة إليها وعن انتقالها إلى "عليّ" لما لها من أهمية، ولا سيما بالنسبة إلى الشيعة الذين يفتشون عن هذه الأمور باعتبارها منقبة تضاف إلى مناقب الامام، وحجة في اثبات إمامته واعتماد الرسول عليه وحده. ولو كانت الصحيفة صحيفة الامام، دوّنها بنفسه، معتمداً على حديث الرسول، وكانت عنده معلقة بسيفه، حرصاً عليها، لتكون معه وتحت متناول يده، يراجعها متى شاء، فلا يعقل أن تكون مقتصرة على المعاقل والديات وأسنان الابل، وهي أمور يعرفها الامام، وهو فقيه، ومرجع من مراجع الافتاء، دون حاجة إلى إن يكتبها في صحيفة يحرص على حملها معه معلقة بسيفه. ثم إنها إذا كانت على هذه الأهمية بالنسبة للامام، لما تركها اصحابه، فلم ينقلوها بالنص والحرف، وهي أخطر وثيقة، مع أنهم رووا عنه أحاديث كثيرة، حتى نسب الناس له خطباً وأشياء لا يصح صدورها منه. ومنها صحيفة تسمى: "الصحيفة الكاملة، أو زبور آل محمد وإنجيل أهل البيت".

ورأيي إن ما ورد من إن الخليفة "ابو بكر" كان يمتلك صحيفة فيها حديث الرسول، هو خبر غير صحيح كذلك، ولو كانت لديه صحيفة، لما خفي أمرها عن الصحابة، فلم يحفظوها ولم ينقلوا عنها. وأما ما ورد من أمر صحيفة "عبد الله بن عمرو بن العاص"، المسماة بالصحيفة الصادقة، وما كتب فيها من حديث الرسول، ومن انه قد جمع ألف مثل من أمثال الرسول، وما ورد من صحيفة "همام بن منبه"، المسماة بالصحيفة الصحيحة، فقد بحث في أمر هذه الصحف العلماء.

وقد عدّ "الأفرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان" التميمي المجاشعي، في جملة علماء العرب وحكامهم. قال عنه بعض العلماء: "وكان عالم العرب في زمانه". كان عالماً بالنسب وبأخبار الناس، ولهذا كانوا يسافرون إليه. وكان شريفاً في الجاهلية والاسلام. وقد حكم في المنافرة التي وقعت بين "جرير بن عبد الله" البجلى، وبين "خالد بن أرطاة" الكلبي. وكان "خالد" زعيم "قضاعة يومئذ، فنفر "الأقرع" جريراً على خالد، بمضر وربيعة. وكان من المؤلفة قلوبهم.

والنسب هو من أهم المعارف التي عرف بها أهل الجاهلية. وهو علم يرتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام من دون شك، لما له من تماس مباشر بحياتهم الاجتماعية وبنظمهم السياسية، ولأنه الحماية بالنسبة إلى الجاهليين في تلك الأيام. وأستطيع أن أدخل في علم النسب، العلم بأنساب الخيل، فقد عنوا بالخيل عناية كبيرة، وحفظوا أنسابها، ووضعوا شجرات أنساب لها. كما عنوا بأنساب الإبل، لما لهذا النسب من صلة بالاصالة وبسعر بيعها وشرائها. ونجد في الأخبار ما يشير إلى وجود أناس تخصصوا بحفظ نسبها.

والنسّاب: العالم بالنسب، وهو النساّبة. أدخلوا الهاء للمبالغة والمدح. "وفي حديث أبي بكر، رضي الله عنه: وكان رجلا نسابة، النسابة: البليغ العالم بالأنساب".

والنسب: نسب القرابات. يكون بالاباء، ويكون بالقبائل، ويكون إلى البلاد، ويكون في الحرف والصناعة.

وقد نبغ بين القبائل والقرى أناس تخصصوا بحفظ النسب، منهم من يرع في حفظ نسب قبيلته، ومنهم من يرع في حفظ أنساب جملة قبائل، وممن اشتهر وعرف من قريش بحفظ النسب وبالعلم به، "أبو بكر". وكان علمه بعلم الأنساب، ثم بأمور الناس، ثم الشعر، قيل انه "كان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر"، وقيل إنه كان أنسب العرب، وأعلم قريش بأنسابها، وأنسب هذه الأمة. و "كانت قريش تألف منزل أبي بكر، رضي الله عنه، لخصلتين: العلم والطعام". ولما أمر الرسول حسان بن ثابت بالردّ على شعراء قريش قال له: "إئت أبا بكر، فإنه اعلم بانساب القوم منك. فكان يمضي إلى أبي يكر ليقفه على أنسابهم". فلما سمعت قريش شعر "حسان"، قالت: "إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة". ولما مرّ بالناس في معسكرهم بالجرف، جعل ينسب القبائل.

وكان "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف"، وهو أحد أشراف قريش وحلمائها من علماء النسب في قريش، وكان ممن أخذ النسب من أبي بكر. وكان ممن يؤخذ عنه النسب لقريش وللعرب عامة.

وعرف "ابو جهم بن حذيفة" القرشي العدوي بعلمه بالنسب، وكان من المعمرين في قريش. عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام. وكان من مشيخة قريش وصحب النبي. وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب.

ومنهم: "مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف". وقد أخذ عنه النسب. وكان عالماً بانصاب الحرم. قال عنه "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله الزبيري" "وكان له سر وعلم، وكان يؤخذ عنه النسب"، وقد أرسله "عمر" مع "سعيد بن يربوع"، و "أزهر بن عبد عوف"، و "حويطب بن عبد العزى" لتجديد أنصاب الحرم، فجددوها، ويقال إن "عثمان" بعثهم كذلك. وهو راوي خبر قصة استسقاء "عبد المطلب"، وما ورد فيه من الشعر.

قال "الجاحظ": "أربعة من قريش كانوا رواة الناس، للأشعار، وعلماؤهم بالأنساب والأخبار: مخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة، وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل بن أبي طالب. وكان عقيل أكثرهم ذكراً لمثالب الناس، فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمقوه"، و "حويطب" من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم. ومات زمان معاوية وهو ابن عشرين ومائة سنة. وباع من معاوية داراً بالمدينة بأربعين ألف دينار، وتوفي سنة "45ه".

وروي إن غنائم الحيرة لما وصلت الحيرة وفيها سيف النعمان بن المنذر، استدعى، "عمر" "جبيراً"، فسأله عن نسب "النعمان" فقال له: انه أشلاء قنص بن معد. فاعطاه سيفه، وذكر انه كان انسب العرب، وعنه أخذ "سعيد بن المسيب" النسب.

ومن نسابي قريش "عقيل بن أبي طالب". ولما وضع "عمر" الديوان، استعان بعقيل ومخرمة، وجبير في ترتيب عطاء الناس على منازلهم، فبدأوا ببني هاشم. وعقيل هو أخ "علي بن أبي طالب"، ذكر انه "كان عالما ًبأنساب قريش ومآثرها ومثالبها، وكان الناس يأخذون ذلك عنه بمسجد المدينة"، فهو من شيوخ العلم الذين نصبوا أنفسهم لتعليم الأنساب والمآثر والمثالب. قيل "كان في قريش اربعة يتحاكم الناس إليهم في المنافرات: عقيل، ومخرمة، وحويطب، وأبو جهم. وكان عقيل يعد المساوي، فمن كانت مساويه أكثر يقر صاحبه عليه، ومن كانت محاسنه أكثر يقره على صاحبه"، ونظراً لتكلمه مع الناس وتحدثه عن مساويهم فقد عودي وحمق.

وقد صار مسجد الرسول في المدينة موضع دراسة للمسلمين، فقد رأينا "حسان ابن ثابت"، وهو ينشد الشعر فيه، وهذا "عقيل" يعلم الناس الأنساب فيه، وهناك غيرهما من كان يعلم الناس في هذا المسجد.

وممن عرف واشتهر بعلم النسب، وأخذ النسب عن الجاهليين، دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم، وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان، وعبيد بن شريه وغيرهم.

وذكر عن "دغفل بن حنظلة" النسابة السدوسي الشيباني، انه كان عالماً بالعربية والأنساب والنجوم، وقد اغتلبه النسب. وقد أعجب به "معاوية" لما سأله أموراً كثيرة في هذه العلوم. ولا بد وأن يكون قد أخذ علمه ممن أدرك الجاهلية من رجال، وممن عاصر الرسول. وذكر انه و "زيد بن الكيس" النمري، كانا ممن اثارا آحاديث عاد وجرهم، ولذلك قال فيهما الشاعر: أحاديث عن أبناء عادٍ وجرهم يثورها العضان زيد ودغفل وروي إن معاوية لما قال لدغفل بن حنظلة للنسابة. بمَ ضبطت ما أرى ? قال: بمفاوضة العلماء. قال: وما مفاوضة العلماء قال: كنت اذا لقيت عالماً أخذت ما عنده، وأعطيته ما عندي"، وذكر ان "أبا بكر"، سأل قوماً من "ربيعة" عن نسبهم، وفيهم "دغفل"، وكان غلاماً إذ ذاك، فلما انتهى أبو بكر من استجوابهم، سأله "دغفل" عن نسبه، فافحمه.

وقد اشتهر "دغفل" في النسب، حتى ضرب به المثل في النثر وفي الشعر بسعة علمه به، وقد ذكره "الفرزدق" بقوله: أوصى عشية حين فارق رهطه  عند الشهادة في الصحيفة دغفل

ان ابن ضّبة كان خـير والـداً  وأتم في حسب الكرام وَأفضل

ونجد اسمه في شعر شعراء آخرين.

وكان ممن أدرك النبي، ولم يسمع منه. واسمه "الحجر بن الحارث" الكناني؛ ودغفل لقب له.

وكان "صحار" العبدي من النسابين البلغاء، وله مع "دغفل" محاورات. وكان من المقربين إلى معاوية ومن المطالبين بدم "عثمان".

و "صعصعة" بن صوحان" العبدي، وكان مسلماً في عهد رسول الله ولم يره. وشهد صفين مع "علي"، وكان خطيباً فصيحاً، له مع معاوية مواقف. "قال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب". وله اخوة، منهم "سيحان بن صوحان" العبدي، كان أحد الأمراء في قتال في اهل الردة ومنهم "زيد بن صوحان" وكان سيداً على قومه، وقد شهد الجمل مع "علي".

ومن نسابي "كلب": "محمد بن السائب" الكلبي، وابنه "هشام بن محمد بن السائب"، و "شرقي بن القطامي"، و "الشرقي بن القطامي"، اسمه "الوليد بن الحصين"، وقد اتهم بالكذب. وقد ذكر "الجاحظ" و "ابن النديم" أسماء عدد ممن عرفوا باشتغالهم بالأنساب.

وقد برز بعض النسابين في ذكر مثالب الناس، وقد كان "عقيل بن أبي طالب" منهم، كما ذكرت. ويذكر إن "زياد بن أبيه" كان أولى من ألّف كتاباً في المثالب، ودفعه إلى ولده، قائلاً لهم: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم. ومن طلاب المثالب وناشرها بين الناس "أبو عبيدة معمر بن المثنى" التيمي، من تيم قريش. وكان مكروهاً فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره.

وعدّ الشعر عند أهل الجاهلية علماً من علومهم، يقوم عندهم "مقام الحكمة وكثير العلم"، "ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر. فيه كانوا يختصمون وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون ويتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون". وقد أوردوا أسماء أشخاص عرفوا بسعة علمهم وبتبحرهم بالشعر.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق