إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1795 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والاربعون بعد المئة الشعر طباع الشعراء


1795

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
  
الفصل السادس والاربعون بعد المئة

الشعر

طباع الشعراء

والشعراء في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من تتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل، ومنهم من يحسن الوصف، فإذا صار إلى المديح والهجاء، أو إلى الحكم والموعظة، خانه الطبع، وتأخر عن غيره من الفحول. ومن هنا لم يبرز فحول الجاهلية، ومن عدّ في الطبقة العليا من طبقات الشعراء في كل درب من دروب الشعر وطرقه وفنونه. بل ظهروا وبرزوا في أمور، وتأخروا أو لم يبرزوا في أمور أخرى، فذكروا مثلاً ان "النابغة" الجعدي، كان أوصف الناس لفرس. وورد عن "ابن الأعرابي" قوله: "لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دواد، و لا وصف الحُمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، و لا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة، و لا أعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني.

وقد قال من قدّم "امرئ القيس" على غيره من الشعراء، انه "سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منه استيقاف صحبه والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيض والخيل والعقبان والعصي، وقيّد الأوابد ؛ وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيهاً". فهذه هي المزايا التي ميزت شعره عن غيره من الجاهليين.

وقال علماء الشعر الذين قدّموا النابغة على غيره، انه كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف. وأما الذين قدّموا "زهيراً"على غيره، فقالوا: "كان زهير أحكمهم شعراً وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح".

وقلما نجد الشاعر الجاهلي يعنى بوصف الطبيعة أو مظاهرها بشعر خاص، كأن يصف المطر وحده، أو الشمس والكواكب والأجرام السماوية، أو الجبال أو السهول أو الحيوانات أو النبات، وصفاً خاصاً لا يهرب منه إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا الوصف، ثم إنه قلما يتعمق في الوصف، فيصف الأجزاء والفروع وكل ما في الموصوف من مميزات، وهو إذا وصف الطبيعة، أو تعرض لوصف مشهد بارز منها أثر عليه، فإنه لا يفرد ذلك الوصف في كلمة خاصة به لا يشاركه فيها مشارك بحيث يكون شعره وصفياً خاصاً بالطبيعة، وإنما يقحم الوصف في القصيدة جرياً على العرف الشعري الذي سار عليه الشعراء، وليس عن عمد وتقصد لوصف ما يراد وصفه بالذات. ثم هو لا يصف من الشيء الموصوف ككل، وإنما يصف منه ما يلفت نظره، وما يؤثر على حسه وبصره. فهو إذا وقف أمام شجرة لا ينظر اليها ككب، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها ؛ وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة يطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كل رشفة.

هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما ترى في أدب العرب-حتى في العصور الإسلامية -من نقص، وما ترى فيه من جمال.

فأما النقص فما تشعر تقرأ قطعة أدبية -نظماً أو نثراً-من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلاً دقيقاً، وقلة ارتباطها بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، حتى لو عمدت إلى القصيدة -وخاصة في الشعر الجاهلي -فحذفت منها جملة أبيات أو قدّمتَ متأخراً أو أخرت متقدماً، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك-وإن كان أديباً - ما لم يكن قد قرأها من قبل.

"وهذا النوع من النظر هو الذي قصَّر نَفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، و لا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.

أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالاً خاصاً، فذلك ان هذا النظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة و لا شمول، فامتلأ أدبهم بالحِكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة. وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلتق به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معانٍ كثيرة تركزت في حبّة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة. ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيراً من حكم الفرس والهند والروم".

وأكثر الوصف الوارد في الشعر الجاهلي، وصف لم يرد لأن الشاعر قصده وأراده، وإنما هو وصف ورد عرضاً في القصيدة على النسق الذي زعموا أن "امرأ القيس" وضعه وحاكاه فيه غيره ممن عاصره أو جاء بعده من الشعراء. فالشاعر يبدأ بتذكر الديار وبالبكاء على الأحبة وعلى من فارقهم، فيدفعه ذلك إلى الوصف، بأبيات يجعلها مقدمة لغرض آخر، فهي إذن مقدمة، وليست غاية، ثم هو إذا افتخر وأراد الاشادة بنفسه وبما قام به من عمل بطولي، لم يصف نفسه وصفاً شاملاً عاماً، وإنما يصف من نفسه بعض ما يعجبه وما يريد التبجح به، من مغامرات عجيبة قام بها، ومن صبر وتحمل للجوع وللمشقات وللأهوال ومن عدم تهيب من اقتحام الصحاري الموحشة المخوفة، وحده، لأنه لا يرهب أحداً، و لا يخشى وحشاً، فإذا جابهه وحش، وصفه وصفاً، لا يتعدى النواحي الخاصة التي يراها تظهر شخصيته وتبرز شجاعته ثم يبالغ ويبالغ في وصف المخاطر والمهالك التي لم يبال بها، للوصول إلى هدفه. وهو إذا اصطاد صيداً، بالغ في الجهد الذي صرفه في صيده، ونوه بجودة حصانه، وبالطريقة التي صاد بها فريسته.

وهو إذا ما أراد مدح انسان، قدم لمدحه مقدمة تزيد على شعر المدح في الغالب، يذكر فيها الأهوال والمخاطر وحرّ الشوق، والتلهف الشديد وما شاكل ذلك من أمور، لتكون شرح حال له يبين مبلغ حبه له واخلاصه لمن سيمدحه، ذي الجود والكرم والسخاء، الذي يجود بماله عنده، و لا يحسب لنفسه ولأهله حساباً، يجود خاصة في السنة الجماد، وفي مواسم القحط والبرد الشديد حيث تموت الماشية والأنعام، ومع ذلك فإن الممدوح، لا يعبأ بكل ذلك، ويسخر من الخوف من العواقب السيئة التي ستحيق به إن بذر ماله. وقد يبالغ الشاعر نفسه في مدح نفسه، ويشيد بسخائه وجوده، ويتخذ من ذلك قصص شجار يقع بينه وبين زوجه في الغالب، يشاركها ولدها فيه، بسبب تبذير الرجل لما عنده من مال، وعدم اهتمامه بما سيحيق بأهله من جوع وفقر.

وهو إذا تغزل، فوصف محبوبته، فإنما يصف منها ما يلفت نظره، من أجزاء في الجسد، أو لون أو ما شاكل ذلك مما يلفت نظره، وقد يقارن بينها وبين بعض الحيوانات التي تعجبه مثل المها والظباء، والخيل والعقبان وقد زعم أهل الأخبار ان "امرأ القيس" كان قد سبق العرب إلى أشياء لبتدعها استحسنتها العرب واتبعه فيها الشعراء، منها انه شبّه النساء بالأمور المذكورة، فصار تشبيه هذا لهن سنّة لمن جاء بعده من قالة الشعر. وقد يصف الليل وشدة طوله وسهره فيه ومبلغ ما ألمّ به من أرق لفراق محبوبته، أو من شدة تذكره لها، وقد يذكر حزنه على فراقها وكيف انه كان يقضي لياليه ساهراً يناجي نجوم السماء، ويعدها، ينتظر ذهاب كابوس ليله عنه حتى يتراءى له نور الصباح، وفيه الأمل والرجاء. ووصفه كله، ليس وصفاً كلياً عاماً محيطاً، وانما وصف جزئي، جاء تعبيراً عن خاطر الشاعر ومحاكاة للطريقة التقليدية التي توارثها الشعراء بعضهم عن بعض.

وقد برز بعض الشعراء في وصف بعض الحيوانات، كما أشرت إلى ذلك في مواضع سابقة، فقد اشتهر "أبو دؤاد" بوصف الخيل، حتى صُيّر بطل الشعراء في هذا الميدان، واشتهر النابغة الجعدي بوصف الفرس، واشتهر أوس ابن حجر بوصف الحمر، وعرف علقمة بن عبدة بوصف النعامة. وقد وصف غيرهم من الشعراء هذه الحيوانات وغيرها، كما نجد ذلك في الأشعار المنسوبة اليهم.

ومن أبرز المواضيع التي تطرق اليها الشعراء في وصفهم لمظاهر الطبيعى: المطر، والنخيل، والسحب، ومشاهد من فصول الشتاء، والغدران ومواضع المياه والسيول والنحل والعسل البري، وبعض الصخور الغريبة، والطيور، أما البحر والسفن، فيردان على لسان الشعراء الساكنين على السواحل، حيث يرون البحر وسفنه. ولكننا لا نجد وصفاً خاصاً بهما، يظهر فيه تأثر الشاعر وإحساسه بالبحر، أو بالسفن، من حيث هي سفينة، وإنما ذكر وهماً عرضاً على سبيل الفخر، ولأمور عرضية أخرى. فالوصف الجاهلي لعناصر الطبيعة خالياً من المشاعر الخاصة، ومن التصورات المعبرة عن إلهام الشاعر الذاتي.

وذكر أن من الشعراء من كان يتأله فيؤ جاهليته ويتعفف في شعره، ولا يستبهر بالفواحش ولا يهتم في الهجاء، ومنهم من كان ينعي على نفسه ويتعهر، ومنهم امرؤ القيس والأعشى، وأن منهم من كان يأتي بالحكم في شعره، مثل:زهير والأفوه الأودي، وعلقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن رعلاء الغساني وغيرهم. والحكمة عندهم، هي خلاصة تجارب الشاعر في هذه الحياة، وما حصل عليه من رأي استوحاه من الواقع أو من أفواه الناس وتجاربهم. وهي بديهة من البديهات صيغت شعراً. قد يبدع في صياغتها الشاعر فتسير بين الناس مثلاً، كقول "عدي بن رعلاء" الغساني: 3ليس من مات فاستراح بمَيْتٍ=إنما الميّتُ ميّت الأحياء ويظهر من بيت ينسب إلى "زهير"، هو: ما أرانا نقول إلا مُـعـاراً  أومعاداً من لفظنا مكرورا

إن شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من انها كانت تسير على هدى الشعراء السابقين في نظمها من بدءٍ بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثّر على البراعة والابتكار وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالباً منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظماً. ومن هنا ثار "أبو نواس"وأضرابه من الشعراء الإسلاميين على "التقليد" في النظم، لتبدل العقلية وتغبير الزمن، وإن كنت أجد فيؤ هذه الثورة مبالغة وإفراطاً في الاتهام. فالقصيدة الجاهلية وإن غلب عليها التقليد والمحاكاة، مما ضيق عليها المعاني، إلا انها لم تكن كلها على نمط واحد على نحو ما يقوله علماء الشعر والأ>ب، كان الشعراء يراعون الوزن والقافية والرويّ، وهي أمور ميزت الشعر العربي عن غيره، ولكنهم كانوا يتحللون فيما عدا ذلك، فيأتون بالمعاني التي تدركها عقولهم، وهي معان استمدت من المحيط، وهو محيط واحد، ألهم الشعراء شعرهم، فمن ثم تقارب الإلهام وقربت المعاني، ولو تعددت طبيعته، لما غلب على شعر أولئك الشعراء ما نأخذه عليهم وقد كان تغير وتنوع معاني الشعر في الإسلام، نتيجة حتمية لتغير المحيط.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق