إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1765 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الرابعُ والثلاثون بعد المئة التقاويم والتواريخ التقاويم


1765

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
    
الفصل الرابعُ والثلاثون بعد المئة

التقاويم والتواريخ

التقاويم

هناك نوعان من السنين: سنيين بنيت على أساس الشهور القمرية التي تثبت بمراقبة القمر، وسنتها سنة قمريةLunar Year. والتقويم الذي يقوم عليه تقويم قمري. وسنْون بنيت على أساس شمسيSolar Year. والتقويم القائم عليها، تقويم شمسي،، شهوره ثابتة لا تتغير. وعدة الشهور عند العرب اثنا عشر شهراً، سواء كانت السنة شمسية أم قمرية.

ولقد قلت فيما سبق: يظهر من النصرص الجاهلية، أن أهل العربية الجنوبية كانوا يعملون بالتقويم الشمسي، وفقاً للمواسم الزراعية، لأننا نراهم في هذه النصوص يزرعون ويبذرون ويحصدرن في شهور معينة، ويدفعون الضرائب في مواسم ثابتة، كما نرى أن أسماء الشهور، عندهم ذات معان متصلة بالطبيعة، مثل الجفاف، والمطر، والحر، والبرد، والربيع، والخريف، ولو كانت سنتهم سنة قمرية محضة، لما سموّا أشهرهم بأسماء اشتقت من الحر والبرد واعتدال الجو. وحلول الخريف، إذ لا يعقل وقوع المعاني المذكورة مع تغير الشهور وعدم استقرارها على حال من الأحوال. إلا أن تواريخهم بالسنة الشمسية، لم يمنعهم من التوريخ بالتقويم القمري في أمورهم الاعتيادية، كما في وفاء الديون، وأخذ الديات، والبيع والشراء، والأسفار، لوضوح الشهر القمري، وامكان حساب الأهلة وضبط عددها بسهولة ويسر، فيسهل على المتعاقدين التعاقد بموجب عدد الأهلة، أما الزراعة، وتربية الحيوان ودفع الضرائب وما شابه ذلك، فلا صلة لها بالأهلة،وإنما صلتها بالمواسم والفصول، وهي من مكونات السنة الشمسية، إذن كان العرب الجنوبيون يؤرخون ويعملون بتقويمين: تقويم قمري، وآخر شمسي.

استعمل العرب الجنوبيون التقويم الشمسي في الزراعة، واستعملوا التقويم القمري للاغراض التي ذكرتها، والتقويم النجمي، أي التقويم، الذي يقوم على رصد النجوم لأغراض دينية وللوقوف على الأنواء الجوية لما لها من صلة بالزراعة وبالحياة العامة.

ويتبين من النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، ومن النصوص النبطية، ومن نص النمارة، إن اصحابها كانوا يتعاملون وفقاً للتقويم الشمسي في الأمور التي لها اتصال مباشر بالطبيعة، ووفقاً للتقويم القمري في الآمور الأخرى، لسهولة ضبط الأهلة، وتحقيق العقود بموجبها.،واذا كان الحال على هذا المنوال عند هؤلاء وعند العرب الجنوبيين، فبامكاننا القول إن بقية الجاهليين، ممن لم يتركوا لنا نصوصاً، كانوا يتبعون التقويمين كذلك، جرياً على سنهَ الناس في ذلك العهد، ومنهم الأعاجم، من اتباعهم التقويمين المذكورين في تنفيذ العقود والالتزامات وفي ضبط الأزمنة.

ومما يؤيد اتباع العرب الشماليين للتقويم الشمسي، ما ذكره الكتّاب اليونان واللاتين، من أن العرب كانوا يقيمون طقوسهم الدينية ويؤدون شعائرهم المقدسة كالحج إلى المحجات في أوقات ثابتة، فقد ذكر "افيفانيوس"، إن للعرب شهراً يحجون فيه إلى محجاتهم، ويقع ذلك في شهر "تشرين الثاني"، كما ذكر "بروكوبيوس"، إن العرب كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرماً لآلهتهم لا يغزون فيهما ولا يهاجم بعضهم بعضاً، ويقعان في تموز وآب، وذكر "فوثيوس"، أن العرب كانوا يحتفلون مرتين في السنة بالحح إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، و ذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، و ذلك لمدة شهرين. وفي هذه الاشارات إلى الأشهر المقدسة، والى كونها ثابتة لا تتغير بتغير المواسم، دلالة على سير العرب في تقويمهم، وفقاً للتقويم الشمسي.

وقد عرف التاريخ عند الجاهليين، بدليل عثور الباحثن على نصوص كثيرة مؤرخة. وقد زعم علماء اللغة تد أن التأريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض، وأن المسلمين أخذوه من اهل الكتاب"، وفي كلامهم صحة، إذا كان قصدهم التأريخ العام للعالم، الذي يبدأ وفقاً لما جاء عند أهل الكتاب من الخلق وظهور آدم فالأنبياء والرسل والملوك إلى أيامهم، وفيه خطأ، إذا قصدوا به، التأريخ مطلقاً، أي تثبيت الوقت، على نحو ما نفهم من قولنا أرخت الحادث، وأرخت الكتاب، فقد عرف التأريخ عند الجاهلين، بدليل وروده في نصوصهم. واستعمالهم لفظة "بورخ"، للتأريخ. وكلمة "ورخ"، من الكلمات الواردة بكثرة في النصوص، ومنها لفظة "توريخ" و "ورخ" بمعنى أرخ في عربيتنا. ولفظة "أرخ" نفسها هي من هذا الأصل.

وقد عرف "الجاحظ" أن الجاهليين كانوا يؤرخون إذ قال: "وكانوا يجعلون الكتاب حفراً في الصخور، ونقشاً في الحجارة، وخلقة مركبة في البنيان؛ فربما كان الكتاب هو الناتىء، وربما كان الكتاب هو الحفر، إذا كان تأريخاً لأمر جسيم، أو عهداً لأمر عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها، أو احياء شرف يريدون تخليد ذكره، أو تطويل مدته، كما كتبوا على قبة غمدان... وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقر، وعلى الأبلق الفرد... يعمدون إلى الأماكن المشهورة، والمواضع المذكورة، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، أمنعها من الدروس، وأجدر أن يراها من مر بها، ولا تنسى على وجه الدهر.

ثم قال: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها... ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء، وتنفرد بالشعر، فبنوا غمدان، وكعبة نجران وقصر مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب، والأبلق الفرد، وفيه وفي مارد، قالوا: تمرد مارد وعز الأبلق، وغير ذلك من البنيان". ثم تعرض لأهمية الكتب ولشأنها في تخليد الذكرى،فقال: "والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر، لأن من شأن الملوك إن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثرالمدن واكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، و كما هدم الآطام التي كانت بالمدينة، وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عامر،وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان".

وتتناسب أساليب التأريخ مع درجة عقلية المؤرخ ومستواه العقلي، لذلك نجد التواريخ بالأمور العادية البسيطة بين الرعاة والأعراب والسوقة من الناس، بينما نجد غيرهم ممن هم فوقهم درجة في العقل والثقافة يؤرخون بمناسبات لها شأن وأهمية، مثل التقاويم العامة المهمة، المثبتة بمبدأ، حيث يؤرخ بموجبها.

وقد تبين لنا من دراسات نصوص المسند، أن أصحابها استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها، فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، من غير تعيينه بسنين، و ذلك كما في هذا المثل: "بيوم اليفع يشر ملك معنم"، أي "بيوم اليفع يشر ملك معين"، و "بيوم يذمر ملك وترال". ومعناهما في "أيام حكم اليفع يشر ملك معين"، أو" وكان ذلك في حكم اليفع يشر ملك معين" بالنسبة للفقرة الأولى و "في أيام يذمر ملك وترايل"، أو "في حكم يذمر ملك ووتر ايل"، أو "وكان ذلك في ايام حكم يذمر ملك وترايل" بالنسبة للجملة الثانية. فلم يذكر النص السنة التي دون فيها النص، أو أرخ،فبها النص من سني حكم الملك المذكور. وهي سنون قد تكون قصيرة، وقد تكون طويلة. ولفظة "يوم" هي بمعنى: "حكم" و "أيام".

وقد يؤرخ بحكم موظف من كبار موظفي الحكومة من حملة درجة "كبر" "كبير"، مثلاً، أو غيرها من الدرجات العالية في الحكومة أو في المجتمع. كما ارخوا بايام الرؤساء والسادات وأرباب الأسر. وليس العرب الجنوبيون بدعاً في هذا الباب، فقد كان غيرهم يؤرخ بهذه الطرق. و ذلك قبل توصلهم إلى اتخاذ تقويم واحد ثابت له بداية معينة تؤرخ به.

والغالب ذكر اسم الشهر مع حكم الكبير أو الرئيس أو أي انسان أخر، كما في هذا المثال: "بورخ ذ طنفت ذ كبر ايتم ذ عرقن"، ومعناها "بشهر ذو طنفت من كبارة أيتم ذو عرقن"، وبعبارة أوضح "بشهر ذو طنفت من حكم الكبير أيتم ذو عرقن"، و "ذو طنفت"، اسم شهر من الشهور.

والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، على انها احسن حالاً في نظرنا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتأريخ، إلا اننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر. إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئاً عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة، أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم? لقد فات أصحاب هذه الكتابات إن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلاناً، أو رب الأسرة فلاناً، أو الزعيم فلاناً سينسى بعد اجيال، وقد يصبح نسياً منسياً، لذلك لا بجدي التأريخ به شيئاً، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحوادث الجسام. لهذا السبب لم نستفد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، وإن استفدنا منها في آمور أخرى لا صلة لها بتثبيت تواريخها.

وقد تجمعت لدينا أسماء أشخاص أرخ الناس بأيامهم لأنهم كانوا أصحاب جاه ونفوذ، لكننا لا نعرف اليوم من أمرهم شيئاً، لأن النصوص لم تذكر شيئاً عنهم، وعن.أيامهم،منهم: "عم على" من "آل رشم" من عشيرة "قفعن"، و "موهم ذ ذرحن"، أي "موهب ذو ذرحان". و "غوث ايل" من "آل بيحان" "بيحن". و "شهر يجر"، و "ذران، "ذرءان".، و "اب على بن شحز"، أي "أبو على" من قبيلة "شحر". وكل هؤلاء الذين أرخ بهم هم من قتبان.

ومن الاسر التي أرخ بأيامها اسرة "نبط"و "مبحظ" و "حظفرم كبر خلل" "حزفر كبير خليل" و "حذمت" و "فضحم".

كا تجمعت لدينا أسماء عدد من الأشهر في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة، تحتاج إلى دراسة لمعرفة ترتيبها بالنسبة للمواسم والسنة. ويظهر انهم كانوا يستعملون احياناً مع التقويم الذي يؤرخ بحكم الرجال، تقويماً آخر هو التقويم الحكومي، وتختلف اسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال.

وقد تغير الحال في كتابات المسند منذ سنة "115" قبل الميلاد، على رأي غالبية الباحثين، أو السنة "109" على رأي "ريكمنمس"، اذ أرخت بتقويم ثابت أرخت بموجبه إلى قبيل الإسلام. مبدأه سنة سقوط حكومة سبأ وتكوين حكومة "سبأ وذي زيدان"، على رأي بعض علماء العربيات الجنوبية، فأرخ بهذا الحادث، ولا سيما في الكتابات الرسمية المتأخرة. ويرى "بيستين" أن مبدأ هذا التقويم غير مضبوط، وأن مبدأه فيما،بين السنة 118 - 0 1 1 قبل الميلاد. ويرى أيضاً أن العرب الجنوبيين لم يؤرخوا به في هذا العهد، لأن النصوص التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد كانت لا تزال تؤرخ بالتاريخ القديم، أي بالتواريخ الغير الثابتة، مثل التأريخ بأيام الملوك والكبراء والكهنة وأمثالهم، فلو كانوا يؤرخون به لما أهملوه. ويرى انهم انما أرخوا به بعد ذلك، في حوالي القرن الثالث للميلاد.

وقد ساعدنا هذا التقويم على تثبيت تواريخ عدد من النصوص أرخت بموجبه، وعلى معرفة تأريخ هذه الحقبة التي أرخت بها. ولكن النصوص المؤرخة قليلة العدد، ثم إننا لا نملك نصاً واحداً منها من ابتداء العهد بالتأريخ به، كذلك لا نملك نصوصاً مؤرخة يعود عهدها إلى قبل الميلاد، أو إلى القرن الأول أو الثاني منه، وأقدم نص مؤرخ بهذا التقويم، هو النص الموسوم ب CIH 46، وتأريخه سنة "385" من هذا التقويم، وهو يساوي السنة "0 27" أو "276" للميلاد. وهو من ايام الملك "يسرم يهنعم" "ياسر يهنعم" ملك سبأ وذي ريدان وابنه "شمر يهرعش". ويراد بهما "ياسر يهنعم" الثاني و "شمر يهرعش" الثالث على رأي "فون وزمن". ونص آخر للملك "ياسر يهنعم"، تأريخه سنة "274" أو "0 28" للميلاد. والنصى الموسوم ب MM 150=CIH 448 وهو يساوي سنة "1 28" أو "287" بعد الميلاد.

وهناك نصوص مؤرخة أخرى من أيام الملك "شمر يهرعش"، ونصوص من بعد أيامه حتى أيام تملك الحبشة لليمن. أما بعد أيام الحبشة في اليمن، أي أيام استيلاء الفرس عليها ثم أيام دخولها في الإسلام، فلم يصل الينا منها نص، لا مؤرخ ولا غير مؤرخ.

وآخر هذه النصوص المؤرخة، هو النص الموسوم بCIH 525، وتاريخه سنه - "669" من التأريخ الحميري، وهو يقابل سنة "554" للميلاد. ويمكن أن نقول إن هذا النص هو آخر نص مؤرخ عثر عليه لا في المسند وحده، يل في كل اللهجات العربية الأخرى، وهو أقرب تلك الكتابات عهداً بالإسلام. ويلاحظ إن بعض الكتابات المؤرخة تذكر لفظة "بورخ" أو "ورخسن" "ورخ"، ثم تذكر بعدها اسم الشهر الذي أرخ النص به، ثم عدد السنين بالنسبة للتقويم. ويراد بها معنى "شهر"، و ذلك كما في هذه العبارة: "ورخس ذو سحر.."، أي "في شهر ذو سحر.."، و "بورخْ ذو خرف.."، أي "بشهر ذو الخريف 00"، أو "بورخ ذ معن"، أي "بشهر في معان.." "بشهر ذي معين"، "بشهر ذي معون"، وهناك كتابات مؤرخة استعملت لفظة "ورخهو" بمعنى "وتأريخه". كما في هذه الجملة: "ورخهو ذ لثني وسثي وسث ماثم"، أي "وتاريخه لسنة اثنين وستين وست مئة"، وبعبارة أوضح: "وتأريخه لسنة اثنين وستين وست مئة".. فاستعملت لفظة "ورخهو" اذن،، بالمعنى العلمي الذي نستعمله اليوم حين نؤرخ عهودنا ووثائقنا، فتقول: "أرخت ب.." أو "تأريخها.." وترد لفظة "خرفن"، أي سنة قبل عدد السنن في بعض النصوص، مثل: "خرفن ذ لثلئت واربعي وخمس ماتم"، ومعناها: "السنة الثالثة والأربعين بعد الخمس مئة، وقد تلحق لفظة "خرفتمْ"، بعد عدد السنين. كما في هذا المثال: "ورخهو ذ حجتن ذل اربعي وسث ماتم خرفتم". ومعناه: "تأريخه أو شهره ذو الحجة لأربع وستمائة سنة". وتقابل هذه السنة سنه "489" أو "495" للميلاد.

ويلاحظ أن النصوص السبئية المؤرخة قد أرخت بتقويمين: تقويم عرف ب "خريفتم بن خريف نبط"، "خرفتم بن خرف نبط"، أي ب "سنين من سنة نبط"، ومعناه أن هذه السنين المذكورة، هي وفقاً للتقويم الجاري على سني "نبط"، أو تقويم "نبط"، وتقويم آخر قدّرت السنين فيه وفقاً لسني "مبحض بن ابحض"، "ذ بخرفن ذل بن خرف مبحض بن ابحظ"، ويشير ذلك إلى وجود مبدأين للتأريخ عن السبئين: التأريخ بتقويم "نبط"، والتاريخ بتقويم "مبحض بن أبحض". و ذلك في الكتابات التي تعود إلى القرن الثالث ونهايته لما بعد الميلاد. كالكتابات التي تعود إلى أيام "ياسر يهنعم" و "شمر يهرعش"، أما الكتابات المتأخرة، فقد اختفت منها هاتين التسميتين، ويظن انهم اخلوا بالتأريخ بتقويم "مبحض" ولذلك اهملوا الاشارة إلى الآسم. لأنه كان معلوماً عندهم. ويرى "بيستين" إن الفرق بين التقويمين هو قرابة نصف قرن أو ثلألة أرباع قرن.

وأسلوب التوريخ في النصوص السبئية المتأخرة هو أن تذكر لفظة "ورخن" أولاً، ثم اسم الشهر من بعده، ثم السنة، كان تقول: "ورخهن ذ مذرن ذل 316 خرفتم بن خرف نبط"، أي "وبشهر ذ مذران ل 6 31 سنة من سنة نبط"، أو "وبتاريخ ذ مذران من سنة 316 من سني نبط"، أو مثل "ورخهو ذ داون ذ لخرفين ذل اربعت وسبعى وخمس ماتم"، أي "وشهره ذ داوان للسنين التي هي 574"، أو "وتاريخه ذ داوان للسنة 574"، ومثل: "خرفن ذل ثلثت واربعى وخمسمس ماتم"، أي "سنة 543"، ومثل: "وخرفهو ذ حجتن ذل اربعى وسث ماتم خرفتم"، أي "وشهره ذو الحجة لأربعين وستمائة سنة"، أو "وتأريخه ذو الحجة الموافق ل 640 سنة مضت"، ومثل: "وخرفهو ذل ثنى وسثى وسث ماتم"، أي "وتأرنحه لاثنين وستين ومائة".

ومن الغريب إن أهل الأخبار قد أغفلوا الاشارة إلى هذا التقويم فلم يذكروا عنه شيئاً، ولم يشيروا إلى أن العرب الجنوبيين كانوا يؤرخون به، مع أهميته وكونه تقويماً رسمياً.

هذا، وان في استطاعتنا القول بان اليمن لم تسر رجماً على التقويم العبراني أو التقويم النصراني، حتى في أيام احتلال الحبش الأخير لليمن، أو في أيام استيلاء الفرس عليها، و ذلك بدليل توربخ أبرهة عامل الحبشة على اليمن، وهو نصراني، نصوصه بالتقويم اليماني المستعمل في اليمن الذي تحدثت فيما سلف عن مبدئه، مع أنه حاكم اليمن وممثل الحبش فيها وهو نصراني. وبدليل توريخ عدد من كابات المسند المتأخرة من عهد لا يبعد كثيراً عن الإسلام بهذا التقويم. وليس بالتقويمين المذكورين،أو بأيَ تقؤيم آخر من التقاويم المستعملة عند الشرقيين.

ولكن ما أذكره لا يعني بالطبع عدم احتمال توريخ يهود اليمن أو نصاراها او غيرهم بتقويم أخرى، مثل التقويم العبراني او الميلادي، أو غيرهما. وما اقوله هو عن التقويم الرسمي المدون في المسند، وربما سيعثر في المستقبل على نصوص تعود إلى عهد احتلال الحبش، لليمن، يرد فيها التاريخ بأيام الحبش فيها، أو بالتاريخ الرسمي الذى كان يتبعه الأحباش في مملكتهم.

أما العرب الشماليون، عرب العراق وبادية الشام وبلاد الشام، فلم يرد الينا من نصوصهم المؤرخة إلا عدد محدود، منها نص النمارة الذي يعود عهده إلى السنة "328" للميلاد. وهو مؤرخ بتقويم بصرى، وبصرى مركز مهم، كان يقصده عرب الحجاز للاتجار وقد وصل إليه النبي، وكان عرب هذه المنطقة يؤرخون به. ويبدأ هذا التقويم بدخول بصرى في حوزة الروم سنة "105" أو "106" للميلاد، أي السنة التي تم فيها القضاء على حكومة النبط والحاق "بترا" ب "الكورة العربية".

ولهذا فإذا اردنا تحويل سنة من السنين الني أرخ بها وفقاً لتقويم بصرى، قعلينا اضافة الرقم "105" أو "106" على سني تقويم بصرى، فيكون حاصل الجمع السنة وفقاً للتقويم الميلادي تقريباً. فتأريخ نص النمارة هو سنة "223" من تقويم بصرى، وقد أضفنا إليه الفرق وهو "105"، فصار الحاصل "328"، وهو ما يقابلها من سني الميلادّ.

وقد أرخت كتابة "حران" اليونانية بسنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطيًة الأولى، وهي تقابل سنة 568للميلاد، والأندقطية هي دائرة ثماني سنين عند الرومانيين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة. أما النص العربي فقد أرخ بسنة "463"، بعد مفسد خيبر بعام. ويراد بجملة: "بعد مفسد خيبر بعم"، غزوة قام بها أحد أمراء غسان أو غيره لخيبر، و ذلك في رأى الأستاذ "ليتمان". وعندي أن السنة "463"، التي أرخ بها النص العربي، هي من سني تقويم بصرى، بدليل اننا لو أضفنا إليها الرقم "105" المذكور، صار الحاصل "568"، وهو كناية عن سني الميلاد، المقابلة لسني بصرى. وعلى ذلك يكون تدوين هذا النص قد تم بعد غزو خيبر بعام، لكي لن هذا للغزو قد وقع س!نة "567" للميلابر، وقد كان "لطلرث بن جبلة" يحكم "غسان" آنذاك، فتصدق رواية "ابن قتيبة" حينئذ التي تذكر انه غزا خيبر، وسبا أهلها ثم أعتقهم بعدما قدم الشام.

وقد استعمل التقويم الذي يؤرخ بحكم "الاسكندر" تقويماً عند اليونان وفي بلاد الشام، وعند عرب بلاد الشام أيضاً. ومبداه الأول من شهر نيسان لسنة "311" قبل الميلاد، وتجد أثر التاريخ بهذا التقويم في الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن عرب بلاد الشام والعراق. وقد بقي الناس يؤرخون به إلى آن حل التقويم الميلادي محله، فنسي ذلك التقويم. وذكر "المسعودي" أن ما بين الاسكندر إلى المسيح ثلثمائة سنة وتسع وستون.

وقد كان الصفويون مثل غيرهم يؤرخون بالحوادث التي يكون لها شأن عندهم" مثل حروبهم بعضهم مع بعض، أو حروبهم مع غيرهم مثل النبط أو الروم. وقد أرخ بعضها بحوادث ذات صفة خاصة وعائلية، مثل "سنة قتله خاله"، أو "سنة وفاة والده". وهي حوادث لا يمكننا الاستفادة منها في استنباط تأريخ منها، لأننا لا نعرف من امرها شيئاً. غير أن هنالك نصوصاً مؤرخة أفادتنا بعض الإفادة في الوقوف على التوقيت عند الصفويين. ففي نص لرجل اسمه "انعم بن فخش"، ما يفيد أنه استولى على غنائم "سنة الحرب مع النبط". ويقصد بسنة الحرب مع النبط، السنة الي قضى فيها الرومان على مملكة النبط، وهي سنة "105" أو "106" للميلاد. وقد صارت هذه السنة مبدءاً للتأريخ في "بصرى"، وعند العرب الصفويين.

ولدينا نص صفوي آخر، أرخ ب "سنت حرب همدى ال روم"، أي "سنة محاربة الميديين الروم"، أو "سنة حرب الميديين الروم". ويرى "ليتمان" انه قد توصل إلى ضبط تاريخ هذه الحرب. وهناك نص أرخ ب "سنت قتل ال حمد"" ويطن انه يشير إلى معركة دارت على قبيلة تسمى "آل حمد". وصاحب النص رجل من قبيلة تسمى "الرحبة"، ولا زال الأعراب يؤرخون بأيام قتالهم بعضهم مع بعض.

ونحن لا نعلم اليوم كيف كان يؤرخ أهل الحيرة أو الغساسنة، لعدم ورود نصوص مدونة عن ذلك سوى ما ذكرته من نص النمارة المؤرخ بموجب تقويم بصرى. ولا أستبعد احتمال استعمال أهل الحيرة التقاويم العراقية أو الفارسية التي كانت شائعة عندهم في ذلك العهد أساساً للتاريخ. وقد يكون من بينها التقوم النصراني بالنسبة للنصارى، وينطبق ذلك على نصارى الغساسنة ايضاً، كما لا أستبعد استعمال الغساسنة لتقويم الروم. وللتقاويم العربية المألوفة التي تستعمل الأساليب المحلية في تثبيت التواريخ. ويظهر من تاريخ "ابن الكلبي،" لحوادث الحيرة وعرب العراق بتقويم الساسانيين لتواريخ ملوكهم، إن أهل الحيرة كانوا قد دوّنوا تواريخهم بموجبها، ولكن هذا لا يمنع من احتمال اخذ ابن الكلبي أقواله في تواريخهم من تواريخ الفرس ومن رواتهم رأساً، فلا يكون عندئذ ذكره لتواريخهم. دليلاً على تأريخ أهل الحيرة بتقويم الفرس.

ويروي اهل الأخبار أن العرب كانوا يؤرخون بالحوادث العظام التي تحدث لهم، من ذلك عام الخُنان. وهو عام وقع فيه كما يقولون مرض خطير عضال فتك بالناس وبالإبل، فأرخوا به، ورووا في ذلك شعراً للنابغة الجعدي. وقد وقع زمن الخنان في عهد المنذر بن ماء السماء، وماتت الابل منه، فصار ذلك تأريخاً لهم. ويظهر أنه كان وباء فتك بالناس وبالإبل، وانتشر في العراق وفي نجد، فأرخ به لأهميته بالنسبة لهم، والتاريخ بالأوبئة شيء مألوف، وأهل بغداد كانوا يؤرخون بطاعون وقع عندهم في عهد العثمانيين وقبل الحرب العالمية بسنوات ولا زال الشيبة يؤرخون به.

وكان أهل مكة يؤرخون بما يقع عندهم من أحداث جسيمة، فإذا أرخوا بحادث ومضى عهد عليه، ووقع لهم حادث آخر أكثر أهمية وشعبية منه، ارخوا به. فتوالت لهم عدة تواريخ، نسخت بعضها بعضعاً، فأرخوا كما يذكر أهل الأخبار بعام رئاسة عمرو بن ربيعة المعروف بعمرو بن لحي، وهو الذي يقال انه بدل دين إبراهيم، وحمل من مدينة البلقاء صنم هُبَل.، وعمل اسافأَونائلة، و ذلك كما يقال في زمن "سابور ذي الأكتاف". وأرخوا بعام موت كعب بن لؤي إلى عام الغدر، وهو الذي نهب فيه بنو يربوع ما أنفذه بعض ملوك حمير إلى الكعبة من الكسوة، ووثب بعض الناس على بعض في المواسم. ثم ارخوا بعام الغدر إلى عام الفيل الذي أرخوا به. قال "الجاحظ": "ومن الخطباء القدماء كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر، فلما مات اكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل.

وذكر "اليعقوبي". أن قريشاً كانوا يؤرخون بالسنين، يؤرخون بموت "قصي" لجلالة قصي عندهم، فسنة وفاته هي مبدأ تأريخهم إلى أن كان عام الفيل، فأرخوا به لاشتهار ذلك العام.

وذكروا أنهم أرخوا بعام وفاة هشام بن المغيرة المخزومي"وهو والد أبي جهل، وكان من رؤساء بني مخزوم، وله صيت عظيم بمكة، كما كان سيد قريش في زمانه. وقد مات بالرعاف، ذكر أنه كان آخر من مات به من سادة قريش. وزعموا أن الرعاف من منايا "جرهم" أيام جرهم، وأنه أهلكهم، فأرخوا به. قال بشير بن الحجير الإيادي: ونحـن إياد عـبـادُ الإلـه  ورهط مناجيه في سُـلـم

ونحن ولاة حجاب العتـيق  زمانَ الرعاف على جرهم

وورد "زمان النخاع" في موضع "زمان الرعاف"، وهو داء أيضاً، زعم أنه فتك بجرهم، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشبان. فهو وباء أيضاً زعم أن الناس أرخوا به.

وأرخوا بعام الفيل، بقوا يؤرخون به إلى أن أرخ بالهجرةْ. وقد ترك الحادث أثراً مهماً في ذاكرة قريش، ولهذا ذكروا به في القرآن، حتى يتعظوا به. ويجعلون عام الفيل في الثانية والأربعين من ملك كسرى أنو شروان، وقبل ولاية النعمان بن المنذر المعروف ب "أبي قابوس" بنحوٍ من سبع عشرة سنة، وهي احدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الاسكندر على دارا، وهي سنة الف وثلاثمائة وستة عشر لابتداء ملك بخت نصر. وهو العام الذي ولد فيه الرسول على،أغلب الروايات، وأرخت قريش بيوم الفجار وبحلف الفضول.

وكانوا يسمون السنين بالحوادث الخطرة الجليلة الني تقع فيها. وقد فعل ذلك المسلمون أيضاً في صدر الإسلام، فسموا كل سنة مما بين الهجرة والوفاة باسم مخصوص بها مشتق مما اتفق فيها للنبى. فسموا السنة الأولى للهجرة سنة الأذن، والثانية سنْة الأمر بالقتال، والثالثة سنة التمحيص، والرابعة سنة الترفئة، والخامسة سنة الزلزال، والسادسة سنة الاستئناس، والسابعة سنة الاستغلاب، والثامنة سنة الاستواء، والتاسعة سنة البراءة، والعاشرة سنة الوداع،فكانوا يستغنون بذكرها عن عددها من لدن الهجرة.

ُأما الأعراب، فتواريخهم برئاسة ساداتهم، وبالأحداث التي تقع لهم من أفراح وأتراح، ومن غزو أو نكبة، وبالعوارض الطبيعية، مثل سقوط مطر غزير، لو انحباسه مدة طوبلة، او هزة أرضية، أو ظهور جراد، أو وقوع وباء، وما اشبه ذلك من أمور، وهم على هذا النوع من التأريخ حتى اليوم. وليس في الذي رواه أهل الأخبار عن أهل للجاهلية ما يشير إلى وقوف العرب على كتب في التأريخ يونانية أو لاتينية أو سريانية أو عبرانية، أو على معربات لها. وليس في كل الذي ذكروه اسم مؤرخ من المؤرخين الذين نجلتهم الشعوب المذكورة، غير إن هذا لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم وقوفهم على تواريخ تلك الأمم وأخبارهم، ففي القصص المنسوب إلى الجاهليين، قصص يدل على انه مأخوذ عن تلك الأمم مستورد منها ثم إن أهل الأخبار ألعجم أشاروا إلى نفر ذكروا عنهم انهم نظروا في كتاب الأساطير ورووا منها أخبار العجم، والى نفر ذكروا عنهم انهم نظروا في الكتب القديمة وحذقوا لغات أهل الكتاب، ورووا في شعرهم أو في كلامهم شيئاً مقتبساً من قصص أهل الكتاب، يضاف إلى ذلك وجود الكنائس والنصرانية في بلاد العرب. والتاريخ، ولا سيما تأريخ الكنيسة موضوع مهم من الموضوعات التي استعان بها المبشرون ورجال الدين في الوعظ والارشاد. ولا يستبعد أن تكون كتب التأريخ التي كتبها أباء الكنيسة، مثل "أوسييوس القيصري" وأمثاله، في جملة الكتب التي لأتعالت بها الكنيسة لأفهام الناس تأريخها وتطورها وتطور العالم على نص ما دونوه بالاستناد إلى التوراة و الانجيل.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق