إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 31 يناير 2016

1651 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثامن والتسعون الحياة الاقتصادية قوافل سبأ


1651

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
         
الفصل الثامن والتسعون

الحياة الاقتصادية

قوافل سبأ

وقد أشير في التوراة الى قوافل سبأ، وهي قوافل كانت تسير من العربية الجنوبية مخترقة العربية الغربية إلى فلسطين، فتبيع ما تحمله من سلع هناك. وقد كان السبئيون يسيطرون على العربية الغربية، حتى بلغت حدود مملكتهم أرض فلسطين. ولم تشر التوراة إلى وجود قوافل بحرية وسفن للسبئيين في البحر الأحمر، تتاجر مع فلسطين ومصر، ولم نعثر على كتابات باًلمسند تشير إليها، لذلك، فليس في استطاعتنا التحدث عن التجارة البحرية للسبئيين مع بلاد الشام.

سارت حكومة سبأ على سياسة التوسع التجاري، وهذا التوسع يقتضي السيطره على الطرق، فبذلت جهدها لبسط سلطانها على الطرق والمسالك وجعلها تحت نفوذها وحكمها. وبعد استيلائها على بقية الحكومات العربية الجنوبية الأخرى وضعت الطرق الجنوبية المؤدية إلى أرض اللبان والمواد الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، والى الموانىء والمرافىء التي تتاجر مع إفريقية والهند وتستورد منها السلع النفيسة الثمينة تحت نفوذها وحكمها، وحسنتها وشقت طرقاً جديدة لأغراض حربية واقتصادية، وبلطت بعض مواضع منها لتقاوم السيول والأمطار، وأحكمت جوانبها وحصنتها بالحجارة الصلدة حتى تقاوم السيول التي تنحدر من المرتفعات على هذه الطرق فلا تلحق الأذى بها. ولا تزال آثار تلك الطرق باقية، وقد كتب عنها السياح.

واتجهت نحو السيطرة على الطرق البرية المؤدية إلى بلاد الشام. ولهذه الطرق أهمية كبيرة بالنسبة إلى اليمن والعربية الجنوبية. وهى طرق موازية للطريق البحرية الممتدة في البحر الأحمر، ولها شأن خطير في التجارة العالمية. وقد أسست مواضع حراسة، لحراسة القوافل من قطاع الطرق ومن تحرش القبائل بها، ولعل أهل يثرب الذين يرجعون نسبهم إلى اليمن، هم من الرجال الذبن غرسهم السبئيون في هذا المكان لحماية قوافلهم التي تذهب الى بلاد الشام.

ووجه السبئيون أنظارهم نحو العراق وموانىء الخليج العربي كذلك،فاستخدموا الطربق الممتدة من نجران إلى "السليل" ومن هناك الى الخليج والعراق.

وتوجد آثار طرق جاهلية مبلطة تبليطاً حسناً وأخرى ممهدة تمهيداً فنياً. وقد أنشىء بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال الآلا ت بمهَارة فائقة فيَ قطع الصخور لانشاء هذه الممرآت. وقد زفّت بعض هذه الطرق وغطي بطبقة من الاسفلت، ووضعت عليهاُ صوى وترشد المارة، ولما كانت الطرق الطويلة المبلطة تبليطا" فنياً تحتاج إلى نفقات طائلة إلى أيدٍ عاملة كثيرة وإلى حكومة كبيرة غنية، لم يكن من الممكن يومئذ فتح طرق طويلة ممهدة تخترق جزبرة العرب، على شكل الطرق التي أنشأها الرومان في انبراطوريتهم، لسير القوات العسكرية عليها والتجارات فاقتصر على إقامة الطرق الضرورية القصيرة التي توصل المدن والقرى بالمواضع المهمة.

وقد كان اعتماد التجار على الحيوانات ولا سيما الجهل في نقل تجارتهم. أما العربات فلم تكن مستخدمة في أغراض تجارية في جزيرة العرب. ولم ترد إشارات إليها في نصوص المسند، ولا في النصوص الجاهلية الأخرى، ولا في أخبار أهل الأخبار. وقد ظل اعتماد التجار وأصحاب القوافل على الحيوانات طوال العهود الإسلامية إلى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، ففيه أخذ في تمهيد الطرق لسير وسائل النقل الحديثة عليها، فأخذت تنافس تلك الوسائل القديمة، وستقضي عليها في المستقبل بالبداهة.

والتجارة هي التي نقلت بعض الكتابات الشمالية إلى العربية الجنوبية، وأدخلت الكتابة الثمودية والكتابة النبطية إلى اليمن. وأصحاب الكتابتين من الشعوب المقيمة في العربية الشمالية كما هو معروف. فكتاباتهم لم تأت إلى هنا قافزة متخطية المسافة، بل جاءت مع أصحابها التجار الذين قصدوا هذه الأماكن للاتجار، ومن بينهم من سكن فيها واختلط بأهلها ومات فيها. وقد كتبوا فيها الكتابات التي عثر عليها بعض العلماء في أماكن متعددة من خرائب اليمن، وقد يعثر على عدد منها وعلى كتابات أخرى، قد يكون من بينها كتابات بلغات أعجمية في المستقبل بعد قيام بعثات الحفر بالتنقيب هناك.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1650 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثامن والتسعون الحياة الاقتصادية التجارة البرية


1650

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
         
الفصل الثامن والتسعون

الحياة الاقتصادية

التجارة البرية

والتجارة البرية، هي عماد تجارة الجاهليين، ولا سيما الجاهليين القريبين من الإسلام وسندهم الأول فيَ رخائهم وفي كسب ثرواتهم. وعماد هذه التجارة وسندها القوافل. فقد كان الملوك وسادات القبائل والأشراف يرسلون تجارتهم بقوافل إلى مواضع اتجارهم، فتبيع ما تحمل وتشتري ما تحتاح اليه من تجارة، لتبيعها في مكان آخر بثمن غال، ويكسب أصحاب هذه القوافل كسباً حسناً من هذا الاتجار.

والتجارة البرية: إما تجارة داخلية، أي داخل قطر من أقطار جزيرة العرب وبين أقطارها، وإما تجارة خارجية، كانت تتم مع بلاد الشام والعراق، أي خارج حدود جزيرة العرب في اصطلاح الجغرافيين المسلمين.

وقد أشير في التوراة وفي الكتابات الاشورية والمؤلفات اليونانية واللاتينية إلى اتجار العرب مع الخارج، كما أشير إلى اتجار الآشوريين والفرس والرومان والروم مع العرب، وإلى طمع الدول الكبرى لعالم ذلك الوقت في جزيرة العرب، نظراً لما كانوا يسمعونه عن ثرائها وغناها، ولموقعها الجغرافي المهم الذي يقع بين افريقية وآسية، ويهيمن على المياه الدافئة ذات المنافع الكبيرة بالنسبة للتجارة العالمية في كل وقت وزمان.

والعربية الجنوبية في كتب اليونان والرومان وفي التوراة،بلاد غنية ذات خيرات وثروات وتجارات وأموال، قوافلها تخترق جزيرة العرب إلى بلاد الشام والعراق، وفي بلادها الذهب والفضة والحجارة الكريمة، تتاجر مع الخارج فتربح بتجارتها هذه كثيراً، وبذلك اكتنزت المعادن الثمينة المذكورة والأموال النفيسة حتى صارت من أغنى شعوب جزيرة العرب.

وفي "المزامير" أن "شبا" ستعطي "الذهب" لملك العبرانيين في جملة الشعوب التي ستخضع له، تقدم له الجزية. وورد في "أرميا" أن "شبا" كانت ترسل "اللبان" إلى اسرائيل. وقد ذكروا في سفر "حزقيال" في جملة كبار التجار. كانوا يتاجرون بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب. وأشير في "أيوب" إلى قوافل "شبا" التي كانت تسير نحو الشمال حتى تبلغ اسرائيل.

وفي هذه الاشارات دلالة على الصلات المستمرة التي كانت بين العبرانيين والسبئيين، وعلى أن السبئيين كانوا هم الذين يذهبون إلى العبرانيين، يحملون اليهم الذهب وآلأحجار الكريمة والطيب واللبان. فتبيع قوافلهم ما عندها في أسواق فلسطين، ثم تعود حاملة ما تحتاج اليه من حاصلات بلاد الشام ومصر وفلسطين.

ويظهر من سفر "يوئيل" إن السبئيين كانوا يشترون السبي من فلسطين، من "بني يهوذا"، حيث جاء فيه تهديد لأهل صور وصيدا بأن رب اسرائيل سينتقم منهم جزاء اعتدائهم على الاسرائيليين ونهبهم ذهبهم وفضتهم. وسيجعلهم عبيداً يباعون في الأسواق إلى السبئيين: "وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا تبيعونهم للسبئيين، لأمة بعيدة، لأن الرب قد تكلم". مما يدل على انهم كانوا من المشترين للرقيق، ينقلونه الى بلادهم للاستفادة منهم في مختلف نواحي الحياة، يتخذون النساء الجميلات زوجات لهم، ويتخذون البشعات والقويات للخدمة، ويعهدون للرجال بالأعمال المختلفة التي تحتاج إلى ذكاء ومهارة وفن واتقان،وبأعمال أخرى صناعية وزراعية، وأمثال ذلك.

وقد أشير إلى ثراء السبئيين وامتلاكهم للذهب والفضة في بعض الكتابات الاشورية، فذكر "تغلاتبليزر" الثالث مثلا" أنه أخذ الجزبة من السبئيين،أخذها ذهباً وفضة وإبلاً: جمالاً ونوقاً ولباناً وبخوراً من جميع الأنواع، كما ذكر "سرجون" أنه أخذ الجزية من "يثع أمر" ملك سبأ، أخذها ذهباً وخيلا وجمالاً ومن مصنوعات الجبال.

وقد سبق لي أن تحدثت عن هذا الموضوع في أثناء حديثي عن صلات الآشوريين مع العرب، وعندي أن هذه الجزية التي دفعت إلى الآشورين، قد تكون جزية بالمعنى المفهوم من اللفظة، أي نتيجة قهر وإكراه وخضوع لحكم الآشورين وهزيمة لحقت باًلسبئيين في حرب أو حروب وقعت مع الآشوربين، وقد تكون بمعنى ضريبة دفعها السبئيون إلى الآشوريين في مقابل السماح لهم بالاتجار في أسواق الحكومة الآشورية،فهي ضرائب يدفعها التجار أو تدفعها الحكومات إلى الحكومات الأخرى في مقابل السماح لها بالاتجار معها، وفتح أبواب أسواقها لرعاياها، للبيع والشراء.

وفي كتب اليونان واللاتين تاًييد واتفاق تام مع ما جاء في التوراة عن ثراء السبئيين، وعن امتلاكهم الذهب والفضة والأحجار الكريمة. وقد بالغت في ذلك مبالغة أخرجتها من حدود الواقع إلى الخيال. فنسبوا لهم استعمال الأثاث المصنوع من الذهب والأواني المستعملة من الذهب والفضة، وغير ذلك مما أخرج وصفهم من حدود المعقول وأدخله في عالم القصص والأساطير.

وقد بالغ "سترابو" في وصف ثراء السبئيين بسبب اتجارهم بنوع من العطور الزكية، دعاها باسم "اللاريم" Larimum وبالمواد الأخرى النفيسة، وذكر انه كانت " لديهم كميات كبيرة من مصوغات الذهب والفضة، كالأسرّة والموائد الصغيرة، والآنية والكؤوس، أضف إليها فخامة منازلهم الرائعة، فإن الأبواب والجدران والسقوف مختلفة الألوان بما يرصع فيها من العاج والذهب والفضة والحجارة الكريمة".

وقد كانت هذه الشهرة من أهم العوامل التي دفعت بالقيصر "أغسطس" إلى ارسال حملته المشهورة المخفقة على اليمن. وهاك ما كَتبه المؤرخ "بلينبوس" Pliny عن ثروة العرب وعن تجارتهم، لترى ما كان ماثلاً في مخيلة الرومان واليونان عن العرب. قال: "ومن الغرابة إن نقول: إن نصف هذه القبائل التي تفوق الحصر، يشتغل بالتجارة، أو يعيش على النهب وقطع الطرق. والعرب أغنى أمم العالم طراً، لتدفق الثروة من روما وبارثيا اليهم، وتكدسها بين أيديهم.

فهم يبيعون ما يحصلون عليه من البحر ومن غاباتهم. ولا يشترون في شيئاٌ مقابل ذلك".

وقد أشار "بلينيوس" إلى إن المعينيين كانوا يملكون اًرضاً غنية خصبة، يكثر فيها النخيل والأشجار، وكان لهم قطعان كثيرة من الماشية، وان السبئيين كانوا أعظم القبائل ثروة بما تنتجه غاباتهم الغنية بالأشجار من عطور وبما يبتاعونه من مناجم الذهب والأرضين المزروعة المرواة، وما ينتجونه من العسل وشمع العسل. كما كانوا ينتجون العطور.

وقد عدّ "سترابو" العسل في جملة المحصولات التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وذكر انه كثير جداٌ فيها.

وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع بلاد الشام، فيرسلون إليها قوافلهم مارة بالحجاز إلى أسواق بلاد الشام باًلطرق البرية التي لا يزال الناس يسلكونها حتى اليوم مع شيء من التحوير والتغيير. وقد عثر على كتابة دوّنها كبيران شكرا فيها الإله "عثتر"، لأنه نجاهما مع قافلتهما من الحرب التي كانت قد وقعت بين "مصر" وبين "مذي"، فوصلا معهما سالمين إلى مدينة "قرنو"، أي عاصمة "معين". وقد ورد أنهما كانا يتاجران مع "مصر" و "ا اشر"، أي "آشور"، و "عبر نهرن" "عبر نهران". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الكتابة تشير الى حرب وقعت فيما بين السنة "220" والسنة "205" قبل الميلاد. أي في عهد "البطالمة"، وأن تلك الحرب كانت بين "الميديين" الذين أشير اليهم ب "مذى" وبين "البطالمة" الذين أشير اليهم ب "مصر"، لأنهم حكام مصر، أو الحرب التي وقعت فيما بين "السلوقين" وبين "البطالمة"، والتى أدت الى الاستيلاء على "غزة" سنه "217" قبل الميلاد. وقد كان العرب الجنوّبيون يتاجرون مع هذه المدينة التي تعتبر الميناء الذي يؤدي بالتجار إلى موانىء مصر.

وقد كانت "البتراء" أي "سلع" Sela أهم عقدة طرق يمر بها المعينيون والسبئيون. ومنها يتجه طربق نحو البحر الميت، لمن يريد ألاتجار مع بلاد الشام وطربق آخر ينتهي بغزة، لمن يريد الاتجار مع هذا الميناء المهم، الذي بقي العرب يتاجرون معه إلى أيام الرسول. وقد كَان "هاشم بن عبد مناف" ممن يتاجر معه، وبه توفي كما تذكر الأخبار.

وقد كان الذهب في رأس السلع التي حملها تجار العرب إلى الآشوربين وحكومات العراق وبلاد الشام،وفي التوراة ذكر للذهب الذي كان يجلبه العرب إلى العبرانبين، وقد أشرت إلى ما ذكره الكتبة اليونان عن الذهب عند العرب، ولعلهم كانوا يحملون الفضة اليهم كذلك. فقد كانت للفضة مناجم في جزيرة العرب. وقد ورد في أخبار أهل الأخبار إن "أبا سفيان" كان قد حمل فضة كثيرة معه لبيعها في أسواق بلاد الشام، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، فلا يستبعد تصدير العرب للفضة لبيعها في تلك الأسواق في ذلك العهد.

أما منتوجات الحديد أو مصنوعات معادن أخرى، فلا نجد لها ذكراً في قائمة السلع التى كان يحملها التجار العرب إلى الخارج، بل يظهر إن أهل جزيرة العرب، كانوا هم الذين يستوردون مصنوعات المعادن من الخارج إلى جزيرتهم، فنجد في الأخبار انهم كانوا يفتخرون بالسيوف الهندوانية، أي المصنوعه بالهند، أو المعمولة من حديد هندي، أو المعولة على طراز سيوف الهند. وقد عثر المنقبون على مصنوعات معدنية، تببن لديهم انها من مصنوعات الرومان والروم، مما يدل على انها قد استوردت من الخارج، أو ان العمال والمشتغلين في الصناعات المعدنية، كانوا قد رأوا تلك النماذج فعملوا على محاكاتها وصنع أمثالها. ونظراً لتأخر الصناعة عند الجاهليين، وإلى نظرتهم الازدائية إليها وإحتقارهم لمن كان يشتغل بها، فلا يعقل ان تجد مصنوعاتهم المعدنية مكانة لها بين المنتوجات المماثلة لها في الأسواق ألخا رجية. لهذا اقتصرت صادرات جزيرة العرب إلى ألخارج على المواد الخام، المتيسرة في بلاد العرب، أو المستوردة من افريقية أو من الهند ومن وراء بلاد الهند، وأهمها العطور والطيب والجلود.

وكان "الطيب"، من أهم المواد التي تاجر بها العرب الجنوبيون. تاجروا بتصديره الى خارج العربية الجنوبية الى بلاد الشام ومصر والعراق وتاجروا به في الداخل أي في ألعربية ألجنوبية، وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد عرف "الطيب" ب "طب" "طيب" في لغة المسند. ويستخرج الطيب من أنواع متعددة من الأشجار، ويجلب بعضه من الخارج من الهند.وافريقية، ويصدر الى مصر وأسواق بلاد الشام والعراق.

والبخور من المواد الثُمينة ذات السعر العالي بالنسبة لتجارة ذلك الوقت. والبخور ما يتبخر به، وثياب مبخرة مطيبة. وقد كانوا يحرقون البخور في المباخر، ويبخرون به المعابد والأصنام، كما كانوا يبخرون الضيوف، ويطيبون ثيابهم به. ومنه "القسط"، وهو عود هندي يتبخر به، يجاء به من الهند، يجعل في البخور والدواء، ويوجد قسط عربي. وورد "قسط اظفار"، قيل هو ضرب من الطيب وقيل من العود. وعندي أنه "قسط ظفار"، نسبة إلى "ظفار" قرب مرباط بالعربية الجنوبية، وتعرف ب "ظفار الساحل"، نسب إليها العود الذيَ يتبخر به لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسبة الرماح الى "الخط"، فإنه لا ينبت به، وإنما تجلب من الهند. وقد أشيرالى "العود" في الحديث. ورد: عليكم بالعود الهندي. وقيل هو القسط البحري.

و "المسك" من أنواع الطيب التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ويحفظ عادة في قوارير، وهو من الطيب الثمين التي يباع بأثمان غالية. وكانت العرب تسميه "المشموم". ويذكر علماء اللغة أن اللفظة معربة،عربت من أصل فارسي هو "مشك". ورد في الحديث أطيب الطيب المسك، واستعملوه في الطب، عالجوا به جملة أمراض.

والعنبر من المواد التي تذكر بعد المسك في العربية، وللأخباريين آراء في أصل العنبر، وأجوده ما يجلب من شحر عمان.

و "المرّ"، وهو "امرر" في المسند، من المواد الثمينة الغالية في قائمة المنتجات العربية التي تباع داخل البلاد العربية وخارجها، وقد أقبل العبرانيون والمصريون على استيراده وشرائه لاستعماله في الأغراض الدينية، فاستعمل في المعابد وفي التحنيط، واستعمل في جملة الأجزاء التي تدخل في الدهن المقدس. وذكر علماء اللغة ان "المر" كالصبر، دواء سمي به لمرارته. وقد عالجوا به جملة أمراض.

و "الصبر" عصارة شجر مرّ، وأجوده "السقطرى"، ويعرف أيضاً بالصبارة.

وأما "القرفة"، فإنها من المواد الثمينة كذلك، وتنبت في جزيرة "سيلان" بصورة خاصة. وتقشر ويستعمل قشرها، أو يستعمل دهنها الحاصل من ثمرها في بعض الأحيان. ويرى علماء اللغة ان "القرفة" ضرب من "الدار الصيني"، وهو أنواع، منه "الدار صيني" الحقيقي، ومنه المعروف ب "قرفة القرنفل".

و "القرنفل" من المواد المستوردة من الهند وما وراءها. وقد استعملوه طيباً، كما عالجوا به، وطيبوا به الأكل. وقد أشير اليه في شعر لأمرئ القيس،حيث أشار إلى رائحته الطيبة: وأشير اليه في شعر لعمرو بن كلثوم.

وقد ذكر "الكافور" في القرآن الكريم: )إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً(. وفي ذلك دلالة على معرفة العرب به ووقوف قريش عليه واستعمالها له. وذكر أن الكأفور، طيب، أو أخلاط من الطيب تركب من كافور الطلع، وقيل يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين.

وأما قصب "الذر يرة"، فهو "قليمتن"، أي "القليمة" في المسند، وهو "قصب الطيب". و "الذرور" عطر يجاء به من الهند، كالذريرة، وهو ما انتحت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لاحرامه بذريرة.

و "السليخة" نوع من ال Cassia، أي قشرة تؤخذ من شجرة القرفة، أو من أشجارها. وذكر علماء اللغة أن السليخة عطر، وكأنه قشر منسلخ، ودهن ثمر البان قبل أن يربب بأفاويه الطيب، فإذا ربب بالمسك والطيب ثم اعتصر، فهو منشوش. أي اختلط الدهن بروائح الطيب.

و "الكندر" ضرب من العلك، وقيل هواللبان، وقد عولج به. و "اللبان"، مشهور في العربية الجنوبية، وهو من حاصل الهند والعربية الجنوبية وافريقية، وهو ضرب من الصمغ، وذكر انه الكندر. وانه يصنع من عصير جملة أنواع من الشجيرات، ويستخرج من عصير يستنبط بشق قشر الشجيرة، وتجفيف العصير. وقد استخدم في المعابد. وأشير في سفري "أشعياء"، و "أرمياء"، إلى إن العبرانيين كانوا يستوردونه من "شبا"، أي من أرض "سبأ"، وأشهره من شجر عمان. وأحسنه ما في يجمع من موضع تجمعه قبل سقوطه على الأرض، أو تلوثه بمادة غريبة قد تتساقط عليه.

ولفظة "الكندر" من أصل أعجمي هو Cunduru، وهو من الألفاظ "السنسكريتية". فيظهر أن الكَلمة دخلت العربية من الهند.

وقد كانت في المعابد مخازن تجمع فيها أصناف الطيب والمر والبخور، وذلك للتصدير والبيع. وقد كانت تقوم بمهمة وسيط في البيع والشراء، تبيع ما تخزنه وتحصل بذلك على عمولة تستفيد منها وتدر عليها أرباحاً طائلة جداً، تثري منها. وهكذا نجد المعابد وهي تكاد تحتكر تلك المواد وتنفرد ببيعها إلى التجار.

ويقسم الطيب إلى ذكور الطيب وإلى إناثه. وذكور الطيب ما يصلح للرجال دون النساء نحو المسك والعنبر والعود والكافور والغالية والذريرة. وعرف هذا النوع ب " ذكارة الطيب". والمؤنث طيب النساء، كالخلوق والزعفران.

وورد إن "الغالية"، طيب عرف في زمن "معاوية"، وِذلك إن "عبد الله ابن جعفر" دخل عليه ورائحة الطيب تفوح منه، فقال له ما طيبك يا عبد الله ? فقال: مسك وعنبر جمع بينهما دهن بان. فقال معاوية: غالية أي ذات ثمن غال. وقيل أول من سماها بذلك "سلمان بن عبد الملك"، وانما سميت لأنها أخلاط تغلي على النار مع بعضها. والخلوق من طيب النساء،يتخذ من الزعفران وغيره، وتغلب عليه الحمرة والصفرة. وقد نهي عنه، لأنه من طيب النساء.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1649 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثامن والتسعون الحياة الاقتصادية


1649

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
         
الفصل الثامن والتسعون

الحياة الاقتصادية

وأقصد بالحياة الاقتصادية كل ما يتعلق بمفهوم الاقتصاد من معنى، ما يتعلق منه بالحكومة أو ما يتعلق منه بالشعب. وما يتعلق منه بالتجارة والمال، أو ما يتعلق منه بالزراعة أو باًلصناعة والحرف.

واقتصاد أية أمة، حاصل أمور عديدة: الجو، من حر وبرد، ومن مطر وجفاف، ومن ثروات طبيعية، تستنبط من الماء أو التربة، ومن نشاط وجهد وظروف اجتماعية، هي من حاصل تأثير المحيط في أهله.

وأدخل هنا في الحياة الاقتصادية ما يشمل التجارة بنوعيها تجارة البر وتجارة البحر، وما يشمل الزراعة، ثم ما يشمل الحرف والصناعات.

وتشمل التجارة: الاتجار داخل جزيرة العرب، أي تعامل أبناء بلاد العرب بعضهم مع بعض، والاتجار مع الخارج، أي مع الحكومات الغريبة مثل الهند وحكومات افريقيا والفرس والروم.

لقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب السامية نشطون في عالم التجارة. والتجارة تكاد تكون الحرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي إليها والى المشتغل بها نظرة استهجان وازدراء وانتقاص. بل اعتبرت عندهم من أشرف الحرف قدراً ومنزلة. ونظر إلى التاجر نظرة تقدير وتجلة، مع أنها حرفة مثل سائر الحرف، فيها من الحيل والخداع واللعب على الناس ما في أية حرفة أخرى وفيها عمل وجهد على نحو ما نجد في الزراعهّ أو في ا لصناعة. ولكنها نظرة واجتهاد الى الحياة، وظروف طبيعية، جعلت العرب تجاراً في الغالب، فشرفوا التجارة على غيرها من الحرف، وقدموها عليها في المنازل والدرجات. وقد بقيت على هذه المنزلةِ والدرجة في الإسلام كذلك. وأشير الى شرفها وسمو منزلتها في كتب الحديث، مما يدل على ماكان للتجارة من منزلة في نفوس الناس.

والتاجر الذي يبيع ويشتري. ومن المجاز التاجر الحاذق بالأمر ، لما تحتاجه التجارة من ذكاء وحذق في مساومات البيع والشراء. وذكرعلماء اللغة إن العرب تسمي بائع الخمر تاجراً، وان أصل التاجر عندهم الخمّار. يخصونه من بين التجار. والتجارة صناعة التاجر. وهو الذي يبيع ويشتري للربح. و "التاجر" هو "مكر" في لغة المسند، و "تمكرو" في الآشورية.

كان الملوك تجاراً يبيعون ويشترون، وكان رؤساء المعبد تجاراً يتاجرون باسم معابدهم، ويكسبون من الضرائب التي تقدم للمعابد كسباً فاحشاً، وكان أصحاب الأملاك ورؤساء العشائر تجاراً كذلك، يتاجرون بما يقدمه اليهم من هو دونهم في المنزلة من حاصل وغلة، ويتاجرون مما يستوردونه من الخارج، من افريقية أو من الهند، من حاصلات ثمينة غالية في نظر تجار ذلك اليوم، لبيعه في الداخل أو نقله إلى بلاد الشام أو العراق لتصريفه في أسواق تلك الجهات.

وفي اللهجات العربية ألفاظ ومصطلحات كثيرة لها صلة بالتجارة وبالتعامل، وهي من اللغات العالمية الغنية في هذه المادة. ويلاحظ بصورة عامة إن اللهجات السامية غنية كلها تقريباً بالألفاظ المستعملة في البيع والشراء والتعامل والتجارة، وفيها مرادفات كثيرة في هذا الباب. وكثرة هذه االألفاظ دليل على حذق الساميين عموماً بالتجارة وافتتانهم بها، وعلى وجود عقلية تجارية لديهم. والتأريخ يؤيد ذلك، فترى الساميين عموماً، وهم أنشط من غيرهم، يتنقلون من مكان الى مكان طمعاً في ربح، وركضاً وراء تجارة، وهم من أحذق الناس يومئذ في التحكم في الأسعار وفي التعامل وفي البيع والشراء.

وفي القرآن الكريم لفظة "تجارة" و "تجارتهم" ومصطلحات أخرىَ عديدة ذات صلة بالاتجار والتجارة والمعيشة والكسب. كما أن فيه اشارات كثيرة إلى تجارة قريش وألى أثر التجارة في حياة الناس في ذلك الوقت. وفيه تحريم للريا وتوبيخ وتقريع و )ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون(. وفيه أمور أخرى توحي الينا بما كان للتجارة من أثر كبير في حياة أولئك الجاهليين. بل نجد القرآن الكريم يحاججهم ويناقشهم ويخاطبهم بلغتهم لتي يفهمونها لغة الربح والخسارة والكسب والثواب والعقاب، والتأجيل والتعجيل، وما أشبه ذلك من كلام له أبلغ ألوقع والادراك في نفس التاجر: الذي يعي الناحية المادية من ربح وخسارة وكسب وتوفير، أكثر من وعيه وادراكه للامورالروحية التي لا يفهمها كثيراً، لأنها ليست من صميم حياته ومحيطه العملي.

والتجارة أنواع كثيرة، تشمل كل أنواع البيع والشراء. والتاجر، هو الذي يتاجر في الأسواق، غير أن منهم من تخصص في نوع خاص من أنواع التجارة مثل بيع الحبوب، وقد يتخصص ببيع نوع خاص من الحبوب، مثل الحنطة، فيقال له: "حنّاط" وحرفته "الحنا طة". وقد يتخصص ببيع وشراء "البز"، فيقال له "البزاز" وحرفته "البزازة". وقد يتخصص ببيع "الزيت"، فيقال لبائعه "الزيات" وللذي يعتصره "الزيات" كذلك.

وتكون التجارة بالمقايضة، وهي المعاوضة، إذا عارض التاجر اًو أي شخص متاعاً بمتاع آخر، وبادل سلعة بسلعة أخرى. وهي الطريقة القديمة في الاتجار، قبل ان يتعامل بالذهب والفضة وزناً، في تقييم قيم الأشياء، وقبل ان تعرف النقود، التي ولدت من التعامل بالذهب والفضة. وطريقة المقايضة أو المبادلة أو المعاوضة، لا تزأل طريقة قائمة معروفة، تتبعها الدول، في تصريف منتجاتها بمنتوجات أخرى عوضاً عن النقد، لحاجتها إلى النقد والى تصريف حاصلاتها الفائضة عليها. وقد اتبع الجاهليون هذه الطريقة، فكانوا يبادلون الجلود بسلع أخرى، ويبادلون التمر بالحنطة. وقد اتبع الجاهليون طريقة التعامل باًلذهب والفضة وزناً كذلك، كما تعاملوا بالنقود.

ويتبين لنا من دراسة كتب التفسير والحديث وكتب الأدب والأخبار والسير انه كان لأهل مكة عرف وضعوه في أصول التجارة يمكن إن نسميه "قانون التجارة" بالنسبة لأهل تلك المدينة، تكوّن من تجاربهم في الاتجار ومن تعاملهم بعضهم مع بعض، ومن تجاربهم وتعاملهم مع الخارج، مثل تعاملهم مع الفرس والروم والحبش، حيث أخذوا من هؤلاء الأعاجم النظم والقواعد التجاربة التي كانوا يسرون عليها والتي لم تكن معروفة عند أهل مكة، بسبب اختلاف المحيط وطريقة التعامل التجاري بين الدول. فتجار مكة وأصحاب المال، هم الذين وضعوا أصول التعامل في التجارة فيما بينهم، وهم الذين كوّ نوا بأنفسهم قوانينهم، إذ لا حكومة منظمة لهم تضع التشربع وتقوم بالتنفيذ على نحو ما كان في العربية الجنوبية أو عند الفرس أو الروم.

ويتبين لنا من دراسة الموارد المذكورة كذلك، أن أهل مكة كانوا خبراء في أصول تنمية الأموال وفي كيفية استثمارها واستغلالها، فكانت لهم مرابحات وكانت لهم شراكات وتعامل ومراسلات مع غيرهم من أصحاب المال في مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان لهم ربا، للحاجة، أي للشدة والعسر والضيق. أو للتعامل بالمال المقترض بالربا لانمائه في مشاريع اقتصادية تعود بالفائدة على المقترض أكثر من فاثدة الرباً التي يدفعها للمرابي،حتى ظهر في مكة أناس كانوا يعدّون من كبار الأغنياء بالنسبة لأهل تلك المدينة وبالنسبة لجزيرة العرب في ذلك الوقت.

وفي المسند ألفاظ كثيرة ذات معاني تجارية تتعلق بالبيع والشراء والامتلاك والعقود وهي دليل على أن العرب الجنوبيين كانوا قوماً تجاراً يجنون من التجارة أرباحاً طائلة، ويعيش الكثير منهم عليها. فكانوا يبيعون ويشترون ويصدرون ويستوردون في الداخل والخارج،يقصدون الأسواق الشهيرة القريبة منهم، كما يقيمون الأسواق في بلادهم في المواسم أو في أيام معينة من الاسبوع للبيع والشراء، ولسد حاجاتهم بما يفيض عليهم من حاصل زراعة أو منتوج حيوان يبدلونه مقايضة بما يعوزهم من ضرورات وحاجات.

والتجارة هي "ش ت ي ط" "شتيط" في لغة قتبان. وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص القتبانية، في أوامر أصدرها ملوك قتبان لتنظيم التجارة وتنظيم الجباية، وفي كيفية جباية "المكس" عن البضائع التي تباع في الأسواق، وفي العقوبات التي تفرض على المخالفين وعلى المتهربين من دفع جباية السوق. وقد حددت القواعد التي يسمح بموجبها للغرباء في الاتجار بأسواق مملكة قتبان، وفي كيفية اتجار القتبانيين في الأسواق الخارجية.

وفي جملة هذه النصوص نص أصدره الملك "شهر هلال بن يدع اب" "شهر هلل بن يدع اب" في تنظيم التجارة وفي كيفية الاتجار. وقد نشر على شكل اعلان أو مرسوم ملكي موجه من الملك إلى التجار من أهل قتبان، والى الغرباًء الوافدين عليها للاتجار، وقد كتب ونشر ليطلع عليه الناس كما تفعل الدول في الوقت الحاضر.

وقد وردت في النص جملة مصطلحات والفاظ، لها معان تجارية، مثل "يشط" أي يتاجر، و "يعرب" من "عرب" بمعنى يقدم عربونأَ ويضع عربوناً . ومن أصل "عرب" العرابة والعربون في العربية الشمالية. و "خدر" بمعنى أقام ومقيم ومقيمين ونازلين. وقد ورد في المعجمات اللغوية إن من معاني هذه اللفظة الاقامة بالمكان. ويُقصد بذلك النازلون في مكان ما. ولما كان هذا النص أمراً وقانوناً فيَ تنظيم التجارة، فقد حدد ما جاء فيه من أوامر، بالنسبة إلى سكان المدينة "تمنع" وخارجها، وكذلك مملكة قتبان، والمقيمين بها، والوافدين من خارج قتبان للعمل بالأسواق والاتجار. ولذلك وردت هذه الجملة: "ومن يتجر تجارة بتمنع وبخارج تمنع، فعليه ان يقدم عربوناً إلى تمنع، وان يكون مقيماً بشمر، وإن آثر قتبان محلاً لاتجاره، وأراد إن يتجول ليشتري، فعليه أن يشتري من شمر...". فحدد بذلك كيفية الاتجار وحق الاتجار والموضع الذي يجب أن يشترى منه بالنسبة الى تجار قتبان والى التجار الغرباء عن تمنع.

وقد حدد هذا القانون حقوق ال "خدر"، أي التاجر النازل والمقيم في إمارة "شمر"، والذي يتجول فيذهب إلى قتبان للاتجار فيها والتسوق من أسواقها، ويذهب إلى قبائلها لبيع ما عنده إليها أو لشراء ما يحتاح اليه من تجارة منها، وعليه أن يفعل ذلك، ولكنه ملزم بأخبار "عهر شمر": بذلك، وذلك لتسوية المشكلات والحسابات التي تتولد من المعاملات التجارية. وقد تطرق النص إلى الأضرار التي قد تصيب الأجانب أو القتبانيين، والى احقاق الحقوق، ولهذا وضع الملك هذا الأمر. وجاءت في آخر النص هذة الجملة: "وخمسي ورقم " أيَ "خمسين ورق". وقد سقطت كلمات قبلها، فلم يعرف المراد من ذكر هذا الرقم، أقصد وضع تأمينات بهذا القدر المذكور، أم قصد جزاءً يفرض على المخالفين، أو غير ذلك.

وهذه القوانين القتبانية،هي من أقدم وأشهر القوانين التي وصلت الينا باللهجات العربية القديمة في كيفية تنظيم الاتجار والتعامل في السوق وفي تعيين حقوق الحكومة ونصيبها من الأرباح المتأتية من التجارة.وهي دليل ناطق على مقدار عناية القّتبانيين بأمور التجارة بالنسبة لذلك الوقت.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1648 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية العرية


1648

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

العرية

العرية النخلة المعراة. وأعراه النخلة وهب له ثمر عامها. والعرية أيضاً التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل، والتي يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً، وأن يشتري الرجل النخل ثم يستثني نخلة أو نخلتين، يقال أعرى فلان فلاناً ثمر نخلة، إذا أعطاه إياها يأكل رطبها، وليس في هذا بيع، وإنما هو فضل ومعروف. فالعرية اذن النخلة عزلتها من المساومة، والإعراء أن تجعل ثمرتها لمحتاج أو لغير محتاج عامها ذلك، وقد رخص الرسول في العرايا، وللفقهاء كلام في ذلك.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1647 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية العمري والرقبى


1647

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

العمري والرقبى

ومن عقود أهل الجاهلية: "العمري" و "الرقبي". والعمري ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، أو هو أن يدفع الرجل إلى أخيه داراً، فيقول له: هذه لك عمرك أو عمري أينا مات دفعت الدار إلى أهله. وقد عمرته اياه وأعمرته جعلته له عمرة أو عمري، أي يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت الي. و"الرُّقبى" أن يعطي الإنسان انساناً ملكاً كالدار والأرض ونحوهما، فأيهما مات رجع الملك لورثته. أو إن يجعله لفلان يسكنه، فإن مات ففلان يسكنه، فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه. وقد أرقبه الرقبى، وأرقبه الدار جعلها له رقبى. وللفقهاء كلام في الاثنين.

ويكون "العمري" و "الرقبى" في الأرض كذلك، كأن يعطي الرجل رجلاً أرضاً يستغلها طول حياة أحدهما، فأيهما مات طبقت بحق الأرض ما اتفق عليها من شروط. وقد كانوا يفعلون ذلك باًلنسبة للاقرباء والأصدقاء والمقربين لمساعدتهم.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1646 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية الهروب من الأرض


1646

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

الهروب من الأرض

وقد جابهت حكومات العربية الجنوبية المشكلة التي تجابه كل حكومة. مشكلة هرب المزارعين من الأرض والالتجاء إلى المدن. ففي بعض نصوص المسند الخاصة باًلزراعة نجد تهديداً للمزارعين الذين يفرون من المزارع ويجلون عنها، فيلحقون بذلك الأذى بالزراعة وبالحاصل. والواقع أن حياة الفلاح في المزرعة كانت صعبة قاسية ؛ فلا يكاد دخل الفلاح يكفيه مؤونتهه ومؤونة عياله، ولا سيما أيام الشدة حين يقل الزرع أو يتعرض للتلف لعوامل عديدة ليس في طاقة الفلاح مكافحتها، فضلاً عن الضرائب الباهظة التي عليه أن يدفعها إلى صاحب الأرض والحكومة والمعبد. فلاذ بأذيال الهرب من الأرض إلى المدن للاشتغال فيها، بالرغم من تشديد الحكومة في منع الهجرة وترك المزارع من غير موافقة أصحاب الأرض. وقد عرف الهارب من الأرض والمجلي عنها ب "مهسجلت" في نصوص المسند. ويقال للارض التي يهاجر المهاجر إليها، وللمكان الذي يفر اليه المزارع من الحضر ليجد فيه رزقاً يبحث عنه "مهجرت" في لغة المسند. أي "المهجرة"، بمعنى: "المهجر".

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1645 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية جمعيات زراعية


1645

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

جمعيات زراعية

ويظهر من بعض الكتابات إن بعض المقاطعات الزراعية كانت في ادارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا ب"ثمنيتن"، أي "الثمانية"، أداروا شؤون المقاطعة من إشراف على العمل، ومن ادارة لأمور الزروع، ومن تهيئة للبذور وما يحتاج اليه الزرع، ومن دفع حصص الحكومة والمعبد، ومن خزن وبيع وتصريف. فهم هيأة زراعي لمشروع تعاوني يضم أهل تلك المقاطعة، واجبهم تمشية أمور هذه المؤسسة الزراعية والاشراف عليها، واعطاء كل ذي حق حقه ونصيبه في هذه الجمعية الزراعية التعاونية.

ويظهر إن شيئاً من التخصص، كان قد وجد في هذه الجمعيات، فعهدت أمر الادارة إلى رجل عرف ب "سمخض"، كان بمثابة مدير للجمعية، واجبه الاشراف على الأرض التي أوكل أمر ادارتها اليه. أما وظيفته،فعرفت ب "سمخضت" أي ادارة أرض أو ادارة مقاطعة، أو "ادارة" بتعبير أصح.

وعرف من تولى أمر جباية الضرائب والاشراف على الموظفين الذين يوكل أعمال الجباية اليهم، ب "نحل"، ويقال لوظيفته "نحلت". ولا استبعد أن تكون "نحلت"، جماعة جمعت بين أعضائها روابط فكرية واقتصادية. فتعاونت فيما بينها على العمل معاً والاشتراك في استغلال حاصل هذا العمل. ودليل ذلك أننا في معاجم اللغة تفسر "النحلة" بالديانة، ولهذا التفسير صلة بما ذهبت اليه من معنى للفظة "نحلت"، وعلى ذلك يكون ال "نحل" رئيساً للنحلة، يشرف عليها ويدفع بالنيابة عنها حق الحكومة والمعبد.

وقد ورد في أحد النصوص أن جمعية من هذه الجمعيات الثماني، كانت تدير أرضين في ضواحي مدينة "هرم". وقد نعت أعضاؤها ب "ابعل"، أي سادة ورؤساء. فهم سادة هذه الجمعية وأصحاب الارادة فيها.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1644 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية بيوع زراعية


1644

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

بيوع زراعية

وتضطر الظروف الاقتصادية المزارعين إلى بيع الثمار وخضر البقول قبل بدو صلاحها،وقد يفعلون ذلك تخلصاً من معاملات جني الثمر وحراسته من اللصوص، وحمله إلى الأسواق، وأمثال ذلك من معاملات تحتاح إلى مال وجهد. ويقال لذلك "المخاضرة". وقد عرفت بأنها بيع الثمار قبل بدو صلاحها، سميت بذلك لأن المتبايعين تبايعا شيئاً أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة، ويدخل في ذلك بيع الرطاب والبقول وأشباهها. فكان صاحب الأشجار والمزرعة يبيع ثمار زرعه لغيره، فيبع الثمار قبل أن تطعم، ويبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه. وقد نشأت عن هذا البيع خصومات ومنازعات بسبب وقوع عاهات في الحاصل، تفسد على المبتاع ربحه، فيطلب عندئذ من البائع استرجاع ما دفعه له كله أو بعضه، وتقع عندئذ الخصومات. وقد بقيت سنتهم على ذلك حتى مجيء الرسول إلى المدينة، فكانوا يأتونه للمقاضاة، فوقع النهي منه على هذا النوع من البيوع ولم يسمح به إلا أن يبدو صلاح الثمر، فيتبين صلاحه ونوعه. وعندئذ لا يحق لمبتاع التذمر من شرائه، لأنه شاهد ما ينوي شراءه ورآه، فلا غبن فيه.

ومن بيع المخاضرة شراؤها مغيبة في الأرض، كالفجل، والبصل،واللفت، والثوم وشبهه، وللفقهاء في ذلك جملة آراء.

وورد إن "المحاقلة" نوع من البيوع. وهي بيع الطعام في سنبله بالبر، وقيل اشتراء الزرع بالحنطة. وقد نهي عنها في الإسلام.

ومن أنواع البيوع التي تعرض لها الفقهاء "المزابنة". وهي بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر كيلاً، وبيع الزبيب بالكرم كيلاّ. وذكر بعض العلماء إن المراد بذلك بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع التمر في رؤوس النخل بالتمر. وذكر أيضاً إن من المزابنة ييع التمر بكيل ُجزاف، وكل تمر بيع على شجره بتمر كيلاَ، وقد نهي عنه في الحديث لأنه بيع مجازفة من غير كيل ولا وزن. وقد نهي عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة. وذكر إن المزابنة كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه بيع بمسمى من مكيل وموزون ومعدود. أو هو بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو هو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هو بيع المغابنة في الجنس الذي لايجوز فيه الغبن، لأن الَبيِّعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون أن يفسخ البيع وأراد الغابن أن يمضيه فتزابنا فتدافعا فاختصما.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1643 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية اكراء الأرض


1643

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

اكراء الأرض

واكراء الأرض، بمعنى إيجار أرض ما لمدة معينة محدودة، أو بدون حد بشروط وفي مقابل بدل. ويقال لهذا البدل الذي يدفع عن ثمرة استغلال الأرض أو أي كراء "اثوبت"، أي "الثواب" "ثواب". ثواب أجر الانتقاع من الشىء الذي اًجر. وقد يكون هذا الشيء أرضاً وقد يكون داراً وقد يكون حيواناً. فورد في بعض النصوص العربية الجنوبية إن اختين استأجرتا أرضاً على ساحل نهر "عبرت"، وبقراً لتقوما بإيجارها إلى الفلاحين لاستغلالها بزرعها، وبتنمية البقر بشروط معينة، تنتهي بأجل نص عليه، في مقابل بدل ايجار "اثوبت" يدفع إلى أصحاب المال. وقد أشير في الكتابة الى أن الإله "المقه"، قد وافق على العقد وباركه. ومعنى ذلك أن العقد عقد شرعي وقد سجل رسمياً وصار عقداً معترفأَ به قانوناً من الحكومة ومن المعبد.

ويراد بلفظة "عبرت"، لفظة "عبرة" و "العبرة" في لغتنا، والعبرة شاطىء النهر وناحيته، قال النابغة الذبياني يمدح النعمان بن المنذر: وما الفرات إذا جاشت غواربه  ترمى أواذيه العبرين بالزبـد

يوماً بأطيب منه سيب نافـلة  ولايحول عطاء اليوم دون غد

وورد في أحد النصوص، إن ناساً "ادم"، استأجروا أرضاً من الالهة، على أن يدفعوا أجرها سنة بعد سنة، وحسبما اتفقوا عليه مع الآلهة، مما يدل على إن هذه الأرض المؤجرة هي من أوقاف المعبد. وقّد أجرها أولئك الناس، من رجال الدبن الذين بيدهم أمر حبوس الآلهة.

ومن حق المؤجر، أي المالك إبطال العقد، إذا أخل المستأجر بشرط العقد أو أظهر كسلا" وتباطؤاً أو عدم مبالاة في استغلال الشيء المؤجر. ويعني هذا إن الاتفاق كان على دفع نصيب معين من الغلة أو من ثمرة العمل. وبما إن هذا النصيب متوقف على مقدار الجهد الذي يبذل في استغلال الملك المؤجر، بحيث إذا زاد، زاد نصيب المؤجر عن ايجار ملكه، وإذا قلّ، قلّ نصيبه أيضاً، ومن حيث إن من مصلحة المؤجر إن يزداد وارد "اثوبت" ملكه، لذلك صار من حقه إبطال العقد، إذا رأى تهاوناً في تطبيق ما جاء فيه.

وقد كان أهل الحجاز، يكرون أرضهم، يكرونها بالثلث والربع والطعام المسمى وباًلذهب وبالورق. وكانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأَرض ما ينبت على مسايل الماء ورؤوس الجداول أو هذه القطعة والباقي للعامل. وقد نهى رسول الله عن أكثر أنواع هذه الكراء، ذكر انه قال: "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها".

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1642 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية المساقاة


1642

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

المساقاة

وكما مارس أصحاب الأملاك والمزارعون الجاهليون طريقة المحاقلة والمزارعة، مارسوا "المساقاة" كذلك. وتكون باًلاتفاق بين طرفين على قيام أحدهم بتوجيه الماء إلى صاحب أرض أو ملتزم لها أو غير ذلك، وهو محتاج إلى ماء مقابل تعهد يقدمه الطرف الثاني الى صاحب الماء بعوض، مثل جزء من حاصل أو عين وما شابه ذلك، مقابل ذلك الماء. وذكر إن المساقاة، أن يستعمل رجلاً في نخيل أو كرم ليقوم باصلاحها مقابل أن يكون له سهم معلوم مما تغله.وأهل العراق يسمونها معاملة. وذكر العلماء إن أهل المدينة كانوا يقولون للمساقاة المعاملة، وللمزارعة المخابرة، وللإجارة بيع، وللمضاربة مقارضة، وان لهم لغات اختصوا بها.

وقد يخصص الماء كله بالزرع، أي يكرى كله لمؤجره، وقد يكرى لمايسد حاجة الزرع، أي لإرواء الزرع الذي اتفق على إسقائه باًلماء، في كل وقت، في النهار أو في الليل، وفي أي لحظة يشاء المستأجر لذلك الماء. وقد يكون على حظ من الماء، مثل ربع يوم أو ليلة، أو يوم معين، أو وقت يثبت. ويقالَ لهذا الماء "ربيع"، أي حظ.

وطالما وقعت الخصومات بين المزارعين بسبب اختلافهم على الماء. فالماء هو رأس مال المزارع، فإذا انقطع عن زرعه، تأثر زرعه، وتعرض للهلاك، وزرعه هو رأس ماله وحياته. ومن هذا القبيل الخصومات التي تقع بسبب اشتراك جملة مزارعين في مورد ماء واحد، ومحاولة كل واحد منهم الحصول على أكبر مقدار من الماء، أو أخذه قبل غيره. والخصومات التي تقع من سبل الماء في الشرائج. والجداول التي تمر في عدة مزارع والينابيع والعيون التي تروي جملة أحواط ومحاقل. وقد أشير إلى جملة أنواع من هذه الخصومات في كتب الحديث.

ومن عادة أهل "يثرب" أنهم كانوا يكرون الأرض، لأجل قصير أو لأجل طويل. فإذا كان الأجل طويلاً فربما غرسوا شجراً، على نصيب معلوم من الثمر، وذلك لأن أكثرهم لم يكونوا يملكون كثيراً من الذهب والفضة، فكانوا يتعاملون على الشطر مما تغله الأرض. ولما جاء المهاجرون زارعوا الأنصار بالشكر على الثلث والربع، حتى ما كان بالمدينة بيت هجرة، إلا وزرع على الشطر، أو على التبن أو على أوسق من تمر أو برّ أو غير ذلك.وكرى بعضهم أرضه بالدراهم والدنانير وبالفضة وبالذهب. وقد أشير إلى ذلك في كتب الحديث.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1641 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية المحاقلة


1641

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

المحاقلة

ولم ترد في نصوص المسند معلومات مسهبة عن المحاقلة عند العرب الجنوبين. ولكن في استطاعتنا أن نقول انها لم تكن تختلف في أسلوبها عن المحاقلة عند أهل الحجاز قبيل الإسلام. والمحاقلة عندهم اكتراء الأرض بالحنطة أو الذهب أوشيء آخر، والمزارعة على نصيب معلوم يتفق عليه بالثلث أو الريع أو أقل من ذلك أو أكثر، أو على الأوسق من التمر والشعير، أو على الدينار والدرهم. ويقال للمحاقلة "نحقل" في المسند.

والمخابرة هي المؤاكرة،وهي المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. وقيل: المخابرة المزارعة على النصف ونحوه، أي الثلث، والمزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما وقيل المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع. وهي المخابرة. وفي الحديث كنا نخابر ولا نرى بذلك بأساً حتى أخبر رافع إن رسول الله نهى عنها. وقد اختلف علماء اللغة في أصل اللفظة، فقال بعضهم: هي من خبرت الأرض خبراً كثر خبارها، وقال بعض آخرمن خيبر، لأن النبي أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل خابرهم، أي عاملهم في خيبر. و "الخبر" في قول علماء اللغة الزرع، ومن هذه اللفظة يجب أن يكون أصل المخابرة. ويظهر من اختلاف العلماء في تعريف المراد من لفظة المخابرة، التي تعني المزارعة أنهم لما أرادوا وضع حد لمعناها، وجدوا المخابرين أي المزارعين أنماطاً وأشتاتأَ في تثبيت حصص المخابرة ونصيبها، فحفظ كل ما سمعه، وظن أن ما وعاه وسمعه هو المخابرة، فجاءت تعاريفهم من ثمَّ على هذا النحو. ولو أخذناها ودققناها، وجدنا أنها كلها شيء واحد، هو: المخابرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض،. أما تثبيت الأنصبة، فلا دخل له بالتعريف، لأنه مجرد تعامل أشخاص واتفاق اًفراد، منهم من كان بزيد في النصيب ومنهم من كان ينقص منه: حسب الحاجة، على نحو ما يقع في كل تعامل مثل البيع والشراء.

والمزارعة، المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها ويكون البذر من مالكها، فإن كان من العامل، فهي مخابرة.

وقد كانوا يتعاملون مع المزارعين أو الأجراء على "القصارة". وهي ما يبقى في المنخل بعد الانتخال، اْو ما بقي في السنبل من الحب، مما لا يتخلص بعدما يداس، أو ما يبقى على لأرض من حب بعد التذرية. فيشترط بعضهم أن تكون القصارة للمذري، وقد لا يوافق على ذلك صاحب الزرع، فتكون له. وقد يحدث الاختلاف بين صاحب الزرع وبين المذري، بسبب اتهامه للمذري، باستغلال الشرط، والإفراط في إسقاط الحب على الأرض للاستفادة منه.

وذكر إن أحدهم كان يشترط في المزارعة ثلاثة جداول والقصارة، أي ما سقى الربيع. وقد نهى النبي عن ذلك. والجدول النهر الصغير، ونهر الحوض ونحو ذلك من الأنهار الصغار.

ولما جاء المهاجرون إلى يثرب. وكان بينهم قوم يحسنون الزراعة، وكانوا يريدون عملاً يعتاشون منه، حاقلوا أصحاب الأرض على زرع أرضهم في مقابل نصيب معلوم، كانوا يتفقون عليه. وقد نجح بعض منهم في استغلال الأرض، وكسبوا منها. غير إن قسماً منهم اختصموا مع الملاّك، بسبب توزبع الحاصل أو الماء، فكان الرسول يتداخل بنفسه لحسم الخلاف. وقد صار الصحابة من من أهل مكة بين تاجر وبين زراع، ورد في حديث "أبي هريرة": "لم يشغلني عن النبي غرس الوديّ، أي صغار النخل". وورد إن الأنصار قالوا للمهاجرين: تكفونا المؤونة في النخل بتعهده بالسقي والتربية ونشرككم في الثمرة، واتفقوا على ذلك.

وقد نهى الإسلام عن المحاقلة والمزارعة والمؤاكرة، وذلك لما كان يقع بسببها من خلاف بين المالك والفلاح، وما كان يقع من ظلم في القسمة أو اختلاف على توزبع الحاصل. فلما جاء الرسول إلى "يثرب"، ورأى هذه الخصومات، نهى عن إبجار الاْرض وكرائها بقوله: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه". وفي رواية أخرى أنه لم "يحرم المزارعة، ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئاً معلوماً، لأنهم كانوا يتنازعون في كراء الأرض حتى أفضى بهم إلى التقاتل بسبب كون الخراج واحداً لأحدهما على صاحبه، فرأى أن المنحة خير لهم من المزارعة التي توقع بينهم مثل ذلك".

وقد ذكر العلماء أن هذا النهي إنما وقع بسبب المنازعات التي كانت تقع فيما بين الطرفين المتعاقدين، لاتفاقهما على شيء مجهول، وذكروا مثلآ آخر على ذلك هو كرى المزارع على الأربعاء وبشيء من التبن. والربيع هو النهر الصغير. فتقع المنازعة وّيبقى المزارع أو رب الأرض بلا شيء. وقد كانوا يتعاقدون على ما ينبت على ربيع الساقي، أي النهر الذي يسقي الزرع. فيقع اختلاف بين المزارع والمالك، أو بين صاحب الماء والمزارع. أما إذا كان الاتفاق على شيء واضح معلوم، في مثلَ استئجار الأرض البيضاء من السنة إلى السنة، او في آجال يتفق عليها بالذهب والفضة، أي بالدنانير والدراهم، فقد جاز كذلك كا ورد في كتب الحديث.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1640 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والتسعون معاملات زراعية


1640

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
        
الفصل السابع والتسعون

معاملات زراعية

وقد تطرقت كتب الحديث والفقه إلى ذكر معاملات زراعية، كان المزارعون في الجاهلية يمارسونها. وهي عبارة عن عقود ومواثيق كانوا يأخذونها على أنفسهم بالقيام بأعمال زراعية معينة، مثل: المحاقلة، والمخابرة، والمزارعة، والمساقاة.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1639 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء الخصومات بسبب الماء


1639

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

الخصومات بسبب الماء

وطالما وقعت مشاحنات وخصومات بين أصحاب المزارع بسبب اشتراكهم في الماء، في مثل الشراج والجعافر والأنهار وأمثالها، إذ كان يستأثر بعضهم به، ولا يدع الماء يسيل الى غيره إلا بعد أن يسقي زرعه سقيا كاملاٌ،وكان أصحاب المزارع الذين تقع مزارعهم في أعالي منابع الماء يستأثرون به، بتوجيهه الى مزارعهم، أو بوضع سكر يحبس الماء عن البساتين الواقعة خلف السكر، فيذهب الماء إلى مزارعهم ولا ينال المزارع الأخرى الا للقليل منه. ونجد مثل هذه الخصومات في العربية الجنوبية وفي منطقّة يثرب وفي مواضع الحسي وعيون الماء. وقد خاصم أنصاريٌ " الزبيرَ بن العوّ ام" عند النبي في شراج الحرة، وهي مسايل الماء التي يسقون بها النخل، فقضى النبى، إن يسقى الأعلى ثم الأسفل.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1638 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء حقوق الري


1638

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

حقوق الري

وللجاهلين أعراف محلية قامت مقام القوانين في الاستفادة من الماء. والمياه عندهم، اما مياه طبيعية لا دخل ليد الإنسان في استنباطها، مثل مياه الأمطار والعيون والأنهار. واما مياه وجدت باستنباط الإنسان لها، باستخدام ماله ويده في تذليلها،كمياه الآبار والعيون التي يفجرها الإنسان ومياه الصهاريح والكهاريس والمياه التي تتجمع من إقامة السدود وما شاكل ذلك مما للانسان يد وعمل في الاستفادة منها.

وطبيعي إن تختلف هذه إلأعراف باختلاف مواضع جزيرة العرب. فالمياه في العربية الجنوبية من أمطار ومن مياه مستخرجة أو نابعة هي أكثر بكثير من مياه أي منطقة أخرى من جزيرة العرب. ولهذا نجد لها ذكراً في الكتابات العربية الجنوبية، حيث نجد فيها إشارات إلى أحكام وإلى كيفية السقي وحقوق أصحاب الأرض في الماء وحقوق المستأجرين للارض في الماء وإلى خصومات وقعت بينهم في موضوع حقوق التصرف بالماء.

ولدينا في الوقت الحاضر كتابات، هي قوانين صدرت من حكومات العربية إلجنوبية في تنظيم حقوق السقي والاستفاده من الماء ومن حق الانتفاع من الابار. كما تعرضت لموضوع حقوق شراء الأرض، وكيفية بيعها وما إلى ذلك مما يتعلق بالري والزراعة.

وأما في الحجاز، فقد استخدمت الآبار المحفورة، يحفرها أهلها ليستفيدوا من مياهها في الشرب وفي اسقاء الزرع والمواشي، وقد يكرونها لغيرهم مقابل كراء يعين. لهذا وضعوا أعرافاً خاصة بالنسبة إلى الاستفادة من حقوق ملكية الآبار.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1637 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء توزيع الماء


1637

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

توزيع الماء

وقد يوزع الماء الجاري من العيون والأنهار، باًلنصيب. بأن تعين أوقات تفتح فيها المياه على مزرعة ما، فإذا انتهى الوقت سد الماء، وحُوّل الى مزرعة أخرى، وذلك لقلة الماء وعدم كفايته في اسقاء المزارع كلها دفعة واحدة، فيوزع بالحصص، في أوقات تثبت وتعين. وقد تقع الخصومات من جراء التجاوز وعدم التقيد بضبط الأوقات، كما يحدث في أيامنا في كثير من الأماكن الزراعية. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة من أمثلة هذا النزاع. ويقال للنصيب من السقي "سِقي". أي الحظ من الشرب ّ.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1636 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء سد مأرب


1636

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

سد مأرب

واستبد سدّ مأرب من بين سائر سدود جزيرة العرب بالإسم والذكر، ونال مكانة كبيرة في كتب التفسير والسير والأخبار. ولذكر القرآن ل "سيل العرم"، نصيب كبير في توجه اًنظار علماء التفسير واللغة والأخبار اليه، وفي خلود اسمه إلى الآن. وقد روى أهل الأخبار قصصاً عنه وعن كيفية خرابه، وتشتت شمل سبأ بسببه، ونزوحهم إلى مواضع بعيدة عن ديارهم القديمة.

ويعدّ سدّ "مأرب" من أهم السدود التي أقيمت في اليمن وفي جزيرة العرب، وقد بني من أجل السيطرة على مياه الأمطار والسيول التي تتدفق منها لوقاية المزارع والقرى منها، وللاحتفاظ بهذه السيول للاستفادة منها إذا انقطعت الأمطار. وإرواء مناطق واسعة من الأرضين، جيدة التربة، خصبة مثمرة. لكن بها حاجة شديدة إلى الماء، وما كان في الامكان إنباتها لولا السيطرة على السيول وإنشاء هذا السدّ.

وتأتي السيول إلى السد من أماكن عديدة، من "ذمار"، و "جهران"، و "الحدي"، و "حولان"، و بلاد مر اد، وقيفة، وعروش، وجوا نب ردمان، وشرعة، وكومان وغيرها، وذلك إذا أمطرت السماء وتجمعت فيها السيول وانحدرت، حتى تنتهي إلى وادي "أذنة"، فتسير فيه المياه حتى تنتهي إلى مضيق بين جبلين، يقال لكل منهما "يلق"، ويسميهما "الهمداني" مأزمي مأرب، تسير المياه فيه حتى تدخل منخفضاً من الأرض واسعاً، هو حوض هذا السد. تدخر مياه الأمطار فيه. وله سدود وأبواب لحجز المياه وحبسها، أو لتصريفها حسب الحاجة. فتمر من أبواب تفتح وتغلق،لتمر المياه منها في قنوات توزع إلى الأماكن التي يراد توجيه الماء إليها.

ولا توجد لدينا نصوص عن أول رجل أقام هذا السد، وعن العهد الذي تم فيه البناء. وكل ما لدينا اليوم عن وقت بنائه لأول مرة هو لذلك حدس ونخمين.

ويرى "كلاسر" أن عهده يعود إلى السنة السبعمئة قبل الميلاد. وقد بقي قائماً يؤدي واجبه إلى حوالى السنة "575" بعد الميلاد. ويظهر من بعض الكتابات المحفورة على جدرانه بالمسند أن جملة تحسينات وتعميرات أدخلت عليه في أوقات مختلفة قبل الميلاد وبعدها، وآخرها هو اصلاح أبرهة له الذي تم على أثر تصدعه سنة 542للميلاد. ويظهر أن تصدعاً اخر وقع للسدّ في أيام طفولة الرسول، وذلك في حوالى السنة "575" للميلاد، لم يكن من الممكن التغلب عليه،بسبب التدهور الاقتصادي الذي حدث في هذا العهد في اليمن وارتباك الأوضاع السياسية واضطراب الأمن وانتشار الثورات في كل مكان وتدخل الأجانب في شؤون البلاد، فتصدع قسم كبير منه، ولم يهتم أحد من الحاكمين في اعادته إلى أصله بإصلاحه وترميمه، وتحولت بذلك الأرضين الخصبة التي كانت تروى بمائه والتي كانت واسعة إلى أرضين موات، غطتها الطبيعة بطبقة من الرمال والأتربة وألبستها أكسية الصحراء الحزينة، حداداً على فراقها لذلك السدّ العتيد.

وتعود أقدم الكتاباًت الباقية إلى أيام "المكربين". وتأتي كتابة "سمه على ينف" "سمهعلى ينوف" مكرب سبأ على الرأس. ويظهر منها إن هذا المكرّب قدأقام سد "رحاب"، وقد اشتغل به ابنه "يئع أمر بين" وقوّ اه، كما بنى سداً آخر عند "حبابض"، ويقع في المنطقة الشمالية من سد مأرب.

وقام المكرب "كرب ال بين بن يثع امر"، ببناء جزء من السد وتقوية أجزائه الأخرى. كما قام الملوك بإضافة أجزاء جديدة اليه، وتقوية الأجزاء القديمة منه. ومن هؤلاء الملك "ذمر على ذرح" ملك سبأ، والملك "يدع ال وتر" "يدع ايل وتر".

كذلك أصلح الملك "شمر يهرعش" هذا السد، ورممه الملك "شرحبيل يعفر" في سنة "449" للميلاد. ولكن المياه جرفت أقساماً منه سنة "450" للميلاد، أي بعد سنة من الترميمات، فاضطر إلى إعادة إصلاحه وتقويته.

وقد أقام المهندسون في الجهة الضيقة التي تسيل منها السيول إلى المجاري ثم إلى حوض واسع سداً قوياً طوله نحو من "577" مترأ ونصف المتر، عرف ب "رحاب" في المسند. أقيم في المنطقة التي تضيق فيها الشقة بين جزءي جبل "بلق"، حيث يمر بينهما واد يفصل بين الجزءين المعروفين ب "بلق القبلي" و "بلق الأوسط". فسدّ الوادي بذلك وتحكم السد بمسير ماء السيول. وصار يجري من خلال فتحة، هي باب يتحكم الإنسان فيها كيف يشاء إلى "وادي أذنة" "وادي ذنة"، حيث يملا الحوض. وينتهي الحوض بسدين آخرين أقيما لتنظيم تصريف الماء المخزون عند الحاجة وتوجيهه إلى الأرضين المحتاجة اليه، بهما منافذ هي أبواب تفتح وتغلق للتحكم في توزيع الماء.

وقد استخدمت في بناء السد والحواجز حجارة اقتطعت من الصخور، وعولجت بمهارة وحذق حتى توضع بعضها فوق بعض، وتثبت وتتماسك وتكون وكأنها قطعة صلدة واحدة. ونحتت الصخور، بحيث صارت تتداخل بعض في بعض، بأن يدخل رأس من صخرة في فتحة مقابلة لها، فتكون كالمفتاح في القفل، وبذلك تتماسك هذه الصخور وترتبط ارتباطاً وثيقاً، وتكون كاًنها صخرة واحدة. وقد وجد إن بعض الأحجار قد ربطت بعضها ببعض بقطع من قضبان اسطوانية من المعدن المكون من الرصاص والنحاس يبلغ طول الواحد منها حوالى "16" سنتمتراً، وقطرها حوالى الثلاثة سنتمترات ونصف. وذلك بصب المعدن في ثقب الحجر، فإذا جمد وصار على شكل "مسمار"، يوضع الحجر المطابق الذي صمم ليكون فوقه في موضعه بإدخال "المسمار" في الثقب المعمول في الجهة السفلى من ذلك الحجر، وبذلك يرتبط الحجران بعضهما ببعض برباط قوي محكم. وقد اتخذت هذه الطريقة لشد أزر السد، وليكون في امكانه الوقوف أمام ضغط الماء وخطر وقوع الزلازل. أما المادة التي استعملت في البناء لربط الأحجار بعضها ببعض فهي من أحسن أنواع الجبس Gips، وقد تصلب هذا الجبس الذي طليت به واجهات السد أيضاً حتى صار كأصلب أنواع السمنت.

وقد أقام المهندسون أبواباً لدخول المياه منها وخروجها، كما أنشأوا فتحات لتقسيم المياه وتوزيعها على المجاري والسواقي تفتح وتقفل بحسب حاجة المزارع والأماكن إلى المياه. ولا يزال بعض جدر السد قائماً.، وآثار السواقي والمجاري التي كانت تجري فيها المياه من الحوض باًقية، وهي تدل على مهارة مهندسي الري في ذلك العهد وعلى براعتهم في كيفية الاستفادة من الأرض ومن الطبيعة لخدمة الإنسان.

وبنيت في اليمن سدود أخرى، منها "قصعان" و "ربوان"، وهو سدّ قتاب، وشحران، وطمحان، وسد عباد، وسد لحج، وهو سد عرايس، وسد سحر، وسد ذي شمال، وسد ذي رعين، وسد نقاطة، وسد نضار وهران، وسد الشعباني، وسد النواسي، وسد الخانق بصعدة، وسد ريعان، وسد سيان، وسد شبام، وسد دعان وغيرها. وذكر "الهمداني" أن في مخلاف "يحضب العلو" ثمانين سدأَ.

وسد "الخانق " سد ينسب إلى "نوال بن عتيك" مولى سيف بن ذي يزن، ومظهره في "الخنفرين" من رحبان. وقد خرّ به "ابراهيم بن موسى العلوي" بعد هدم صعدة.

وهناك آثار سدود جاهلية أخرى أقيمت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية. منها آثار سد قتباني أقيم عند موضع "هجر بن حميد" بوادي بيحان. وقد درسه ووصفه "بوون". كان يسقي بمائه منطقة واسعة من أرض مملكة قتبان.

وآثار سد "مرخة"، وآثار سد آخر أقيم عند "شبوة"، وسد آخر عند "الحريضة"، تفرعت منه شبكة من القنوات والمجاري لايصال الماء إلى المزارع والأرضين الخصبة التي تعيش عليها.

وقد ظهرت من الصور "الفوتغرافية"، الذي أخذت من الجو لبعض مواضع من جزيرة العرب آثار شبكات للارواء تتصل بأحواض مياه وسدود أقيمت لخزن مياه الأمطار فيها للاستفادة منها وقت الحاجة. ففي "وادي عديم" آثار جدر سدود وقنوات ومجاري مياه متصلة بعضها ببعض تمتد إلى مسافات بعيدة كانت تمدها بإكسير الحياة. وكذلك تشاهد آثار الإرواء عند "حصن العر" و "ثوية" في القسم الجنوبي من "وادي حضرموت". وقد نحتت الصخور عند "نجران" لعمل ممر منها للماء ليذهب إلى حوض واسع أحيط بسد وجدار حيث يمكن خزن مئة مليون "غالون " من الماء فيه.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1635 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء السدود


1635

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

السدود

السد في اللغة الحاجز، و الوادي فيه حجارة و صخور يبقى الماء فيه زماناً. وقد كان الجاهليون يقيمون حواجز عند مخارج السيول، لحبس الماء في المنخفضات لتكوين أحواض لحفظ الماء فيها، للاستفادة من مائها عند انقطاع السيول وظهور الجفاف. ولما كان بناء سد ضخم بحجارة وبجدر مرتفعة طويلة، عمل يحتاج إلى مهارة وخبرة والى مال، والى وجود حكومة كبيرة متمكنة من الناحية المادية، وهي شروط لم تكمن متوفرة في معظم أنحاء جزيرة العرب، ما خلا اليمن، صارت السدود في معظم أنحاء جزيرة العرب سدوداً صغيرة بدائية في أغلب الأحيان، هي مجرد حواجز من تراب أو من صخور كدّست بعضها فوق بعض لحبس الماء في المنخفض ومنعه من الجريان. وقد شاهد السياح آثار سدود جاهلية في أنحاء جزيرة العرب، ووصفوها، وذكروا أن من الممكن الاستفادة من بعض تلك السدود ومن مواقعها، وأشادوا بمقدرة من شيدها وأقامها وبقابلياته الهندسية وبفطنته في حسن اختيار المواقع، بالرغم من ضعف القدرة الفنية وبدائية الأساليب التي استعملت في ذلك الزمن.

ومن السدود: "السد" ماء سماء في "حزم بني عوال"، جبيل لغطفان أمر الرسول بسدّه. وسد "أبي جراب" أسفل من عقبة منى دون القبور عن يمين الذاهب إلى منى، منسوب إلى "أبي جراب عبد الله بن محمد بن عبد الحاراث بن أمية الأصغر"، وسد قناة، وسد "العياد"، وقد أقيم في موضع يبعد عن الطائف زهاء ستة أميال، كتب عليه بالخط الكوفي المحفور على الحجر:  

"هذا سد عبد الله بن معاوية أمير المؤمنين. بناه عبد الله بن ابراهيم". وكان ذلك سنة "58" للهجرة. وقد أقيم بالحجارة وحدها، فلم يضع مهندسه، عبد الله ابن ابراهيم، مادةً من مواد البناء مثل الملاط أو الطين وما شابه ذلك بين الحجارة لتثبيتها وضمها بعضها إلى بعض حتى تتماسك، فتكون كأنها قطعة واحدة. وهي طريقة معروفة في اليمن، استعملها المهندسون الجاهليون كما يظهر ذلك من فحص الخرائب العتيقة الباقية من الأبنية وألسدود الجاهلية. ولا يزال هذا السدّ في حالة ممتازة يتحدث عن نفسه وعن قدرة المهندس الذي أقامه في هذا المكان.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1634 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء الاحباس


1634

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

الاحباس

و "الحِبس" خشبة أو حجارة تبنى في مجرى الماء لتحبسه، كي يشرب القوم و يسقوا أموالهم. و الجمع أحباس. و قيل ما سدّ به مجرى الوادي في أي موضع حبس. و قيل الحبس كالمصنعة تجعل للماء. و "العرمة" سد يعترض به الوادي ليحتبس به الماء، و الاحباس تبنى في أوساط الاودية. و "الرجيع" محبس الماء، و "الحرنق" مصنعة الماء، و السرج و القرى و الحافشة. و هذه مسايل الماء. و "الخربق" مصنعة الماء و اسم حوض. و "الردم" السدّ. و "الحواجز" و "الحاجز" ما يمسك الماء من شفة الوادي و يحيط به. و من الأحباس: حبس ضعاضع. جبيل عنده حبس كبير يجتمع عنده الماء. و هو حجارة مجتمعة وضعت بعضها على بعض.

و تكون السواقي و مسايل الماء و السدود، مسايل جانبية، عند الحاجة لمرور الماء منها إلى المزارع، من المسيل الاعظم يمنة و يسرة، و يقال لها: "النواشط". و طريق ناشط، اذا كان ينشط من الطريق الأعظم يمنة و يسرة.

وقد كان نضوب الماء من الآبار و الغدران و مواضع الماء الاخرى من المشكلات التي جابهت الجاهليين. ومن المسكلات التي ما برح سكان جزيرة العرب يواجهونها اليوم أن بعض الابار يغور ماؤها، فيضطر الناس إلى ترك أماكنهم، أو قد يتبدل طعم الماء، فلا يكون مستساغاً للشرب و لا مجديا في الزراعة. و حفر الابار في مواضع متقرابة يؤدي إلى انخفاض مستوى الماء أو نضوبه في كثير من الاحيان. و قد أدى اهمال الناس للآبار إلى تراكم الأتربة فيها، و اهيار جدرانها و نضوب الماء منها، و ارتحال الناس عنها.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1633 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء السكر


1633

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

السكر

ويعبر في لهجة أهل الحجاز بلفظة "سِكْر" و "سكر الانهار" عن سدّ الماء و حبسه، وذلك لظبط الماء، فلا يتسرب إلى المزرعة أو إلى مكان فيغرقه، أو لحبس الماء للأستفادة منه في الاسقاء. و قد يكون السكر ثابتاً دائماً، مبنياً له فتحات تغلق و تفتح وقت الحاجة اليه؛ و قد تكون مؤقتة تزال و تسدّ بحسب الحاجة، و تكون هذه في السواقي و النهيرات. و تؤدي لفظة "حبس الماء" معنى سدّه و منعه من السيلان و الجري، و ذلك بواسطة السكر و الحاجز المقام. و تؤدي لفظة "سكر"، معنى سدّ النهر و "العرم" أي السدّ، و المسناة.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1632 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء المصانع


1632

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

المصانع

وللاستفادة من ماء المطر استعملوا المصانع، جمع مصنعة. مساكات لماء السماء، يحتفرها الناس فيملؤونها ماء السماء يشربونها. والمصنعة كالحوض أو شبه الصهريج، و ذكر ان الحبس مثل المصنعة. و ذكر ان المصانع مساكات لماء المطر يحتفرها الناس، و أن العرب القرى مصانع، تقول هو من أهل المصانع، أي القرى و الحضر، و المصانع أيضاً المباني من القصور و الابار و غيرها و الحصون. و الصنع مصنعة، و هي خشبة يحبس بها الماء و تمسكه حيناً، وسمت المبني للماء. و يكون من حجارة مرصوفة بعضها إلى بعض في مسيل فيجتمع فيها المطر.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1631 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء المسايل


1631

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

المسايل

وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار،عمد العرب الجنوبيون إلى الوسائل الصناعية الفنية في التحكم فيها، فاًنشأوا المجاري الصناعية لتجري فيها المياه وتسيل فلا تذهب عبثأَ ولا تجري في القنوات إلا بقدر. ومن هذه المجاري ما يقال له "مأخذ" و "مأخذت" في لغة المسند. أي "مأخذ" و "مأخذة". ويراد بالمأخذ المجرى المحفور المعمق لمرور المياه إلى الحقول والبساتين أو المعابد.

ويقال للقناة أي الممر الذي تمرّ منه المياه "عبرن" في اللهجات العربية الجنوبية، أي المعبر. ذلك لأن المياه تعبرها وتجري فيها وتسيل منها إلى الأماكن التي كان يقصد وصولها إليها. وترد بكثرة في النصوص المتعلقة بتنظيم الإرواء وفي النصوص المتعلقة بشؤون الزراعة. وأما لفظة "امررن " فتعني "المرور"، والامرار و "الممرات"، وقد وردت فيَ النصوص الزراعية بمعنى الممرات المائية التي تجري فيها المياه، فهي بمعنى سواق لإسقاء الأرض. وأما الممر الواحد أو الوادي، فيقال له "سر ن".

وترد كثيراً في النصوص المتعلقة بشؤون الإرواء لفظة "حرت". وورودها فيها يدل على وجود علاقة لها بالإسقاء والإرواء.ويظهر أن لهذه اللفظة صلة بلفظة "خر" العربية التي تعني ما خدّه السيل من الأرض، والشق، فيقال خر الماء الأرض خراً إذا شقها، والهوى من علو إلى أسفل، واذا تدهدى الشيء من علوه. وهي بهذا المعنى وبمعنى ثقب وفتحة في لغة بني إرم وفي العبرانية المتأخرة، وتؤدي لفظة "خرو" Harru معنى قناة في الأشورية. وهذا يدل على إن للفظة "حرت" معنى قناة أو فتحة تفتح في السد، أو في مجرى ماء، لإسالة الماء من الفتحة إلى القناة أو المجرى المخصص بجري الماء.

وقد عثر السيّاح الذين زاروا اليمن ودرسوا آثار السدود على "حر"ات"كثيرة تتخلل جانبي السدّ. وهي عبارة عن فتحات مستديرة، تختلف أقطار فتحاتها بحسب كميات المياه المراد إمرارها منها إلى "القنوات". وهذه الفتحات هي الحرات "حررتن". والفتحة الواحدة هي "حرت" "حرة".

ويعبر عن احداث فتحة أو ثغرة في جدار أو جبل أو في صخرة لإسالة الماء منها أو فتح شيء ما، بلفظة "بلق". وتؤدي لفظة "مخض" معنى "بلق" أيضأَ، فهي أيضاً بمعنى احداث ثغرة اًو فتحة، غير أنها تستعمل للتعبير عن معان أخرى مثل فتح الطرق وشقها في الجبال في الغالب، أو احداث طريق فوق "منقًلن". ويراد بالمنقل معنى "نقيل" أي ممر.

ولما كانت العربية الجنوبية ذات جبال ومرتفعات، تصطدم بها الرياح المتشبعة باًلأبخرة، فتتساقط مطراً، عمل المهندسون على الاستفادة من هذه الأمطار بالتحكم فيها وبتوجيهها الجهة التي يريدونها، وذلك بإحداث فتحات في الصخور وعمل قنوات وأنفاق لإكراه الماء على المرور منها إلى المواضع التي يريدون خزنها فيها للاستفادة منها عند الحاجة، ولتكوين مسايل كبيرهّ تتجمع فيها المياه فتجري كالأنهار.

وتؤدي لفظة " قلح" معنى سال وجرى وصب، ولها معان أخرى ذات صلة بالحركة. وبهذا المعنى ترد لفظة "سفح" كذلك. ولسفح في عربيتنا معنى قربب من معناها في المسند، فمن معاني السفح، عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء، وسفح بمعنى سال وأراق وصب. وهي معان لها صلة بجريان الماء.

وأما لفظة "منفخت" "منفخة" و "منفخ"، من أصل "نفخ"، فإنها تعني فتح الماء واسالته، وذلك بفتح الفتحات الماسكة له ليسيل منها إلى المجاري المخصصة بمسيله. وهي في معنى لفظة "منفس" التي هي من أصل "نفس". ويراد بها خروج الماء وجريانه من الفتحات الحابسة له وارتفاعه نتيجة لفتح الماء. وهي من ألفاظ الإرواء الواردة في الكتابات العربية الجنوبية.

وبستعمل العراقيون جملة "تنفس الشط" بمعنى ارتفع ماء النهر وزاد، وذلك في ايام الفيضان. و "تنفس الموج" و "تنفس دجلة". فالمنفخ والمنفس اذن في معنى واحد، ويطلقان على عملية رفع مستوى الماء بزيادة كمياته من الفتحات التي تضبطه وتسيطر عليه، لأجل رفع مستواه في الأنهار أو في المجاري والسواقي لإرواء الأرضين في يسر وسهولة، ولا سيما الأرضين المرتفعة بعض الارتفاع. ويقال لمجرى الماء الصغير المتفرع من مجرى أوسع منه "مسبا". وذهب بعض الباحثين إلى أن المراد بهذه اللفظة الصهريج. وقد عرف علماء اللغة "المسبا" بأنه الطريق في الجبل.

أما السواقي ومجاري الماء الصغيرة التي تستعمل في اسقاء المزارع والحدائق، فيقال لها "مسقيت"، أي "مسقية" و "ساقية". وذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "مسفحة" "المسفحة"، تعنى الساقية أيضاً.

ويعبر عن خروج الماء وسيلانه ونزوله بلفظة "فجر". و "الفجر" في عربيتنا تفجير الماء، يقال انفجر الماء وتفجر: سال وانبعث. والمفجر والمفجرة منفجر الماء من الحوض وغيره. وفجرة الوادي، متسعه الذي ينفجر اليه الماء. و "الشرج" مسيل ماء من الحرة إلى الوادي، ومنفسح الوادي، فلها علاقة بمسير الماء وسيلانه. وبهذا المعنى وردت لفظة "سفح" في المسند.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1630 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء التحكم في الماء


1630

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

التحكم في الماء

وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار، عند أهل الجاهلية إلى اتخاد مختلف الوسائل في التحكم فيها. بعضها بدائية وبعضها راقية تدلّ على براعة وعلم وفن. منها اتخاذ السدود للهيمنة على الماء، وخزنه للاستفادة منه عند الحاجة، وتوجيهه الجهة التي يريدونها. وقد أظهر العرب الجنوبيون مقدرة كبيرة في الاستفادة من الأمطار ومن مياه الينابيع والأنهار لاستعمالها في الإرواء والشرب والسقي. وتحكم مهندس الإرواء عندهم في الماء وسيطر عليه، لكيلا يذهب هباء، فاستخدم لضبطه الأبواب والفتحات والحواجز والرحاب، ونوّع في المجاري وفي مسايل المياه، ليستفيد من الماء قدر إمكانه فلا يفلت منه شيء.

ولم يكن من السهل على حكومات ذلك الزمن السيطرة على مياه السيول والاستفادة منها، فكانت تذهب سدى، بعد أن كانت تصيب الأرض والناس يالأضرار وحين تنحدر هذه السيول من النجاد والجبال والأمكنة المرتفعة، تتحول الأودية فجأة وبسرعة أنهاراً عريضة كبيرة، تسبل مياهها مندفعة هدارة، لكنها لاتلبث طويلاً،بل تزول وتذهب وتجف الأودية ولا يبقى فيها من الماء شيء، إذ يسيل إلى البحر أو يغور في التربة. وقد اجتهد الجاهليون إن يستفيدوا من هذه السيول فاقاموا السدود على قدر إمكَانهم كما فعلوا في سدّ مأرب وفي سدود أخرى كَما يظهر من الآثار، ولكن قدرتهم الفنية والمالية لم تكن من الاتساع والقوة بحيث تساعدهم على السيطرة على السيول.

وقد عثر على آثار سدود في مختلف أنحاء جزيرة العرب. وقد أنشئت في المواضع التي يزورها الغيث وتنهمل عليها الأمطار. وقد تقام لضبط مياه النهيرات والينابيع، لجمعها، ثم إعادة توزيعها. وبعض هذه السدود المندثرة هو اليوم في مناطق صحراوية لا ماء فيها ولا بشر، مما يشير الى أنها كانت مأهولة، ثم عفى على أهلها الدهر، فأهملت وتهدمت.

وبعض هذه السدود، سدود بسيطة، صنعت من تراب أو من تراب وحجارة لمنع ماء المطر من الذهاب عبثاً، فيسد" طريقه ويحبس في منخفض أو حوض ليستفاد منه. وقد أمر الرسول بسدّ ماء السماء في موضع ليستفاد من الماء، فعرف ب "سد". ويطل جبل "شوران" على السد. وأمر "معاوية" بسد الوادي الذي يمر بحرة المدينة، فحبس سيله بسد، عرف بسد معاوية فهو يحتبس فيه الماء، يرده الناس بمواشيهم يسقونها. ويمر على طرف "قدوم" ويصب في "أحد". و "قدوم" جبل على ستة أميال من المدينة.

وتتخذ "المُسُك" لمسك الماء وحبسه، تمنعه من الذهاب عبثاٌ. كاًن تمنعه من إن ينصب في البحر.

ويقال للسد "عرمن" في العربيات الجنوبية، أي "العرم". فلفظة "العرم" تعني السد عند اليمانين القدماء، ولم تكن علماً على سد معين. أعني سد مأرب. وقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: )فأرسلنا عليهم سيل العرم(.

وفي هذه الآية اشارة إلى حادث انفجار سد مأرب كما يذهب إلى ذلك المفسرون. وتولت الحكومات في اليمن إنشاء السدود وحفر القنوات والسواقي، وأنفقت على الأعمال من أموالها، وقدّمت المواد الغذائية وبعض الأجور إلى العمال. وكانت تطلب إلى سادات القبائل والقرى تقديم الرجال للعمل وتقوم هي بإعاشتهم طوال أيام عملهم، كالذي ورد في نص "أبرهة" عامل الحبشة على اليمن، فقد كان يقدم الطعام إلى العمال لقاء اشتغالهم ببناء السد. وقد ذكر مقدار ما قدّمه وما صرفه عليهم من طحين وبرّ وتمر ولحم وقد يشغل العمال سخرة، فلا تدفع الحكومة أو سيد القبيلة أو الموضع اليهم شيئاً. وقد كانت السخرة شائعة في ذلك العهد، لا في اليمن حسب، بل في العالم القديم كله، فيسخر العمال بتكسير الحجارة واقتلاعها من المحاجر ونقلها إلى الأماكن التي يراد إقامة السدود أو منشآت البناء فيها أو غير ذلك، ثم بإصلاحها وببقية أعمال البناء اللازمة، إلى أن تنجز، وعندئذ يسمح لهم بالانصراف إلى حيث يشاؤون.

وفي الحالات الاضطرارية يحشر الناس حشراً، كما في الفيضانات المفاجئة التي تنشأ عن السيول. فتحشر الحكومة ورؤساء المدن والعشائر كل من يجدونه أمامهم للعمل على إنشاء الحواجز والسدود وفتح المجاري لمرور المياه لانقاذ الأرواح والأموال من الكوارث والأضرار.

وقد تتولى المعابد هذه الأعمال، فتصرف عليها من واردها، تعدّ ذلك هبة أو ديناً تتقاضاه من أصحاب الأرض ومن المستأجربن في المدن والقرى، كما يتولاها أيضاً رؤساء القبائل، بأن يكلفوا القبيلة القيام بذلك العمل، مقابل تعهدهم بتقديم الطعام للمشتغلين به، وقد يكلفونهم ذلك سخرة مستخدمين حق القوة التي يتمتعون بها إن كانوا رؤساء أقوياء.

وفي كتب أهل اللغة والأخبار تعابير عديدة عن سيل السيول، وأثرها في الأرض وجرفها التربة وما عليها، وتفتيتها أشفار الأودية والأماكن التي تنْحدر منها وكيفية قلعها الأشجار والصخور. يظهر منها كلها إن أثر السيول كان شديداً مؤذياً، وهو ما زال على أذاه إلى هذا اليوم.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1629 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء التلاع


1629

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

التلاع

وقد تنحدر المياه من عيون في الاسناد والنجاف والجبال حتى تنصب في الأودية وفي الأماكن المنحدرة، مكونة تلاعاً. و "التلعة" مسيل الماء من أعلى الوادي إلى أسفله. والتلاع مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية. وتلعة الجبل أن الماء يجيء فيخدّ فيه ويحفره حتى يخلص منه. وربما جاءت التلعة من أبعد من خمسة فراسخ إلى الوادي، فإذا جرت من الجبال فوقعت في الصحارى حفرت فيها كهيأة الخندق، وإذا عظمت التلعة حتى تكون مثل نصف الوادي أو ثلثيه، فهي ميثاء. وقد نجري التلاع عند سقوط المطر وتكوين السيول، فيجري الماء بسرعة جارفة، تجرف ما قد يقف أمامها من مانع. ولذلك كانوا يخافون نزول التلعة، خشية خطر مجيء السيل فيجرف من قد يكون فيها. وللعرب أمثلة في التلاع، منها: "لا يمنع ذنب تلعة"، يضرب للذليل الحقير، و "لا أثق بسيل تلعتك"، يقال لمن لا يوثق به، "ما أخاف إلا من سيل تلعتي"، أي من بني عمي وأقاربي، لأن من نزل التلعة، وهي مسيل الماء، فهو على خطر إن جاء السيل جرف به. مما يدل على غرق أناس في هذه التلاع.

ويقال لمسيل ما بين التلعتين "المذنب"، وذنب التلعة. والمذنب مسيل في الحضيض ليس بخدّ واسع. وأذناب الأودية ومذانبها أسافلها. وقال بعض علماء اللغة: المذنب: مسيل ما في الحضيض والتلعة في السند، والجدول يسيل عن الروضة بمائها إلى غيرها، فيتفرق ماؤها فيها، والتي يسيل عليها الماء مذنب أيضاً قال امرؤ القيس: وقد اغتدي والطير في وكناتـهـا  وماء الندى يجري على كل مذنب

واذا انحدر المطر إلى موضع واطىء، قيل إنشل، وانشل السيل وانسل ابتّدأ في الاندفاع قبل أن يشتد.

و "الوشل": ماء يخرج من شاهقة، فيسقط إلى منحدر. وتوجد الأوشال في الجبال. وفي الشواهق. وذكر علماء اللغة إن الوشل الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة، يقطر منه قليلاً قليلاً، أو الماء الكثير، فهو من الأضداد. وفي تهامة جبل يقال له الوشل فيه مياه كثيرة. وقد يقال للقطرات التي تنزل من سقف كهف أو لحف جبل فتجتمع في أسفله الوشل.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1628 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء القنى


1628

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

القنى

والقناة كظيمة تحفر في الأرض تجري بها المياه، وهي الآبار التي تحفِر في الأرض متتايعة ليستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض. ويكثر وجودها في العربية الجنوبية، ولا تزال آثارها باقية، وقد استفيد من بعضها في الشرب والسقي. والقنا والفقر، واحد، و "الفقرة" الحفرة في الأرض.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1627 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء الكراف


1627

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

الكراف

وترد لفظة "كرفن"، أي "الكرف" و "الكريف"، في النصوص المتعلقة بالإرواء والإسقاء والزراعة. وقد فسرها بعض العلماء ب "صهريج". وفسر "الهمداني" لفظة "كريف" بقوله: "كريف جوبة عظيمة في صفا يكون فيها الماء السنة وأكثر". والكرف صهاريج، نقرت في الصخر، ومنها كريف "درداع"، و هو كريف "وحاظة" واسمها "سباع"، ذكر ا ن مساحته "600 "ذراع في مثلها، وكريف "الوفيت"، منقور في الصخر الأسود، عمقه في الأرض خمسون ذراعأَ، وعرضه عشرون، وطوله خمسون. محجوز على جوانبه جدار يمنع السقوط فيه.

ويقال للموضع الذي يجتمع فيه ماء كثير،أو للماء الجاري الدائم الذي له مادة لا تنقطع كماء العين والبئر "العدُّ". وقد وردت اللفظة في كتب الحديث. وقد نهى الرسول عن اقطاع "الأعدَاد". وقد ذكر علماء اللغة إن من معاني العدّ: الماء القديم الذي لا ينتزح، وانه الماء الكثير بلغة تميم، والماء القليل بلغة بكرَ بن وائل، والركيّ في لهجة بني كلاب. ومن الماء العدّ: كاظمة، جاهلي اسلامي، لم ينزج قط. وفي الحديث نزلوا أعداد مياه الحديبية، أي ذوات المادة كالعيون والآبار.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

1626 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء الآبار


1626

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

الآبار

وفي الأماكن التي تكون المياه الجوفية فيها غير بعيدة عن سطح الأرض،ويكون من السهولة حفر الآبار فيها، يحفر الناس آباراً في بيوتهم وفي أملاكهم للشرب والزرع إن كانت عذبة وللتنظيف والاستعمال. ويستعان بالخدم وبالسقائين في جلب مياه الشرب من الآبار العذبة والعيون والنهيرات. كما حفروا الآبار في الحصون. وقد كانت في حصن الهجوم بئر عظيمة عميقة، عذبة الماء. وقد بني الحصن من حجارة ضخمة ذكر أن طول الحجر منها سبع أذرع في عرض ثلاثة أذرع، واقام أصحابه عليه الأسوار والأبراج. وقد فتح فيَ أيام الرسولْ.

والبئر هي بار في كتابات المسندز والجمع ابار أي آبار وقد وصلت الينا نصوص عديدة في حفر آبار أو في شرائها وبيعهان وفي تعميرها وإصلاحها. و هي ثروة ورأس مال كبير في جزيرة العرب،تحيي الأرض وتميتها، وتفني الناس وتميتهم، ولذلك كانوا إذا حفروا بئراً أو إذا ظهرت لهم مياه عذبة غزيرة، يقدمون الى آلهتهم الشكَر والحمد والنذور. وقد أقامت الآبار الكبيرة العميقة العذبة مدناً، وأماتت مدناً بسبب نضوب مياهها وجفافها، وهي على هذه الأهمية الخطيرة الى الآن.

وللاهمية المذكورة للآبار في حياة العرب، كثرت في لغتهم المصطلحات الخاصة بها، من أسماء لأنواع الآبار ومن مصطلحات للحفر ولوسائل الحفر، ومن ألفاظ للمواد التي تستعمل في بناء البئر وفي استخراج الماء منها، ومن كلمات تشير إلى أبعاد البئر، ومقدار ما فيها من ماء، وأبعاد أفواهها. ومن أسماء البئر "الطوى" و "الطوية"، إذا بنيت بالحجارة. و "الجب"، البئر، وقيل البئر الكثيرة الماء البعيدة القعر، ولا تكون جباً حتى تكون مما وجد، لا مما حفره الناس. و "القليب" البئر ما كانت. وقيل: البئر قبل إن تطوى، فإن طويت فهي الطوي، أو العادية القديمة منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري. وقد عرفت ب "الرس" كذلك.

ومن أنواع الآبار التي ذكرها علماء اللغة: الشبكة، ويراد بالشبكة الآبار المتقاربة والأرض الكثيرة الآبار. وأما "الفُقُر"، فهي ركايا تحفر ثم ينفذ بعضها الى بعض حتى تجمع ماؤها في ركي. واذا اجتمعت ركايا ثلاث فما زاد إلى ما بلغ من العدة قيل له "فقير"، ولا يقال ذلك لأقل من ثلاث. وورد إن الفقر فم القناة، والمكان السهل تحفر فيه ر كَايا متناسقة، وفم القناة التي تجري تحت الارض، ومخرج الماء منهاْ، وأما "الكظامه"، فإنها بئر إن جنبها بئر بينهما مجرى في بطن الارض. وقيل: كل ما سددت من مجرى ماء أو باًب أو طريق، فهو كظم، والذي يسدّ به الكظامة. وقيل: هي آبار متناسقة تحفر وبباعد ما بينها، ثم يخرق ما بين كل نهرين بقناة تؤدي الماء من الأولى إلى التي تليها تحت الأرض فتجتمع مياهها جارية ثم تخرج عند منتهاها فتسيح على وجه الأرض.

و "الجفر" البئر التي ليست بمطوية، وتجمع على جفار. وأما "الجدّ"، فالبئر الجيدة الموضع من الكلأ، والجمع أحداد، والملك البئر ينفرد بها الرجل، والبود البئر كذلك. والسهبرة من أسماء الركايا. و "القليب" البئر ما كانت، والبئر قبل إن تطوى، فإذا طويت فهي "الطوي"، أو العادية منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري. و "الطوي" البئر المطوية بالحجارة.

ومن المواضع التي عرفت بأطوائها موضع "الأطواء" باليمامة، قرب "قر قرى"، ذو نخل وزرع كثير.

وقد تكون الآبار ذات مياه غزيرة كبيرة، تخص المدينة بأسرها، أو القبيلة بأسرها، وقد تكون ملك أسرة تستغلها الأسرة لحسابها، أو ملك فرد يستفيد منها مباشرة أو يبيع مياهها للناس،لاسقاء الأرضين أو الماشية. وقد تباع لأشخاص آخرين، وقد تؤجر. وطالما كانت الآبار مصدر نزاع خطير بين القبائل وسبباً في إثارة الحروب.

و "العِدُّ " البئر لها مادة من الأرض، فهي كثيرة الماء دوماً ولا تنزح، وأما "المفهاق" فإنها البئر الكثيرة الماء، و "الغروب" الدلاء، واحدها "غرب" وهي التي تجرها الإبل، و "الاسجل" الواسع من الدلاء بمائها، والغَلَل الماء الجاري يجري تحت النخيل،و "اليعيوب" النهر الجاري وتسلسله مضيه في جريته. و "الخسف." البئر ذات الماء الكثير.

وقد اشتهرت بعض الآبار بغزارة مياهها، ذكر "الهمداني" أن "بئر النقير" بناحية البحرين " على عشر قَبَم لا تنكش، ويجتمع عليها كثير من ورّادالعرب وربما سقى عليها عشرة آلاف بعير". وهناك آبار أخرى عرفت بغزارة مياهها.

وقد يحفرون سلسلة آبار نحرق أسافلها، ليفرغ بعضها في بعض من موضع الماء. مثل "الهباءة". وكانوا يزرعون عليها الحنطة والشعير وما أشبه.

ولم يكن من السهل في ذلك الزمن حفر الآبار، لعدم توفر الالات والأدوات الفنية. فإن حفر البئر إلى عمق بعيد الغور كما تتطليه الأماكن المرتفعة يحتاج إلى آلات كثيرة والى علم وتدبير وفن وذكاء في محافظة جدران البئر من الأنهيار على الحفارين، وعلى الماء بعد الانتهاء من الحفر، فتندثر ويذهب المجهود في حفرها عبثأَ. هذا ولا بد لمهندس الآبار من معرفة بطبيعة الأرض ومظنة وجود الماء فيها أو عدمه ومدى عمقه،فلا يعقل اقدام شخص على حفر بئر في أرض لايعرف من أمرها شيئاً. وحفر البئر في النجاد عمل مكلف باهظ، فلا بد إِذن من تخصص أناس بهندسة الآبار،ليقوموا بهذا العمل الذي لا يمكن القيام به ما لم يسنده علم وفهم.

وقد تخصص أناس بحفر الآبار وباختيار المواضع التي يحتمل وجود المياه العذبة بها. ولهم في ذلك علم ودراية وخبرة. وكانوا إذا قربوا من الماء احتفروا بئراً صغيرة في وسط البئر بقدر ما يجدون طعم الماء، فإن كان عذباً حفروا بقيتها، ولذلك يقال "التعاقب" و "الاعتقام". فالاعتقام إذن عملية تجريبية لاختبار طعم ماء البئر وتجربته من حيث العذوبة والملوحة وعليها تتوقف عملية الحفر.

ومتى حفرت البئر ووصل إلى الماء، قيل: أمهت البئر، وأموهت،وأمهيت. ويقال ابتأرت بئراً، اًي حفرتها. ويقال أيضاً: حفرت البئر حتى نهرت، أي بلغت الماء. واذا بلغ الحفارون الأرض الغليطة قيل: يلغت الكدية. واذا وصلوا موضعاً صعباً فصعب الحفر، قيل: بلغ مسكة البئر. ويقال أجبلت، أي انتهيت إلى جبل. ويقال الصلود، وهي الارض التي تحفر فيغلب جبلها الحافر. فيصلد الحفر على الحافر لصعوبة الأرض. واذا حفر الحفارون حتى يبلغوا الطين، فيقال عندئذ: أثلجت، فإذا بلغ الماء، قيل: أنبط ونبط. والنبط أول ما يظهر من ماء البئر حين تحفر. وإن بلغ الرمل، قيل: أسهب، وإن انتهى إلى سبخة، قيل: أسبخت. ويقال: تأثل البئر إذا حفرت البئر، وهزمت البئر حفرتها.

ويتحايل الحفارون في الحفر أذا فوجئوا بصخرة أو أرض صلدة، تمنعهم من الاستمرار في الحفر، خاصة إذا كانوا قد بلغوا عمقاً بعيداً في باطن الارض. وقد كلفهم الحفر صرف مال كثير، فإذا تركوه أصيب صاحب البئر بخسارة، لذلك يتحايل الحفارون على الأرض بالتعريج في الحفر، يمنة ويسرة، للعثور على موضع ينزلون منه إلى موضع وجود الماء، ويقولون لذلك: "التلجيف". ويراد به الحفر في جوانب البئر.

وقد تنقر آبار صغيرة ضيقة الرؤوس في نجفة صلبة، لئلا تهشم، ويقال لمثل هذه الآبار المناقر. وأما المنقر، فيراد بها البئر التي يكثر فيها الماء. وفي بعض المناطق الصخربة والجبلية آبار منقورة تتجمع فيها مياه جوفية تنحدر إليها من المواضع المرتفعة أو من مياه الامطار التي تتساقط على المواضع المرتفعة فتسيل إلى أفواه تلك الآبار وتدخل إليها وتجمع فيها، فيستفيد منها الناس.

وفي جملة الألفاظ الواردة في الكتابات العربية الجنوبية والمستعملة في حفر الآبار وتوسيعها وتعميقها، لفظة "حفر"، وهي بالمعنى المفهوم منها في عربيتنا. ولفظة "سنبط"، ويقصد بها معنى "استنبط"، من "نبط" ويراد بها ظهور الماء واستخراجه من باطن الارض وأما لفظة "سبحر"، فتعني "استبحر"، من أصل بحر، بمعنى التعميق. ولا يزال حفرةُ الابار في العراق يستعملون لفظة تبحير البئر بمعنى تعميقها. وفسرت لفظة "ضفر"، بعنى الدعم بالحجارة، أي كسوة جدار البئر يالحجارة.

وللمحافظة على البئر من الانهيار بسبب رخاوة جدرانها وتساقط المياه الممتوحة منها، عمدوا إلى ربرها من قعرها الى أعلاها بالحجارة. ويعبر عن هذا الجدار بلفظة " كولم" "كول" في المسند. وب "جول" في عربيتنا. ورد في كتب اللغة: "الجول: جدار البئر". ويقال لمثل هذه البئر "المزبورة" أي المطوية بالزبر. وأما "المعروشة"، فالتي تطوى قدر قامة من أسفلها بالحجارة، ثم يطوى سائرها بالخشب وحده، وذلك الخشب هو العرش. فإن كانت كلها بالحجارة، فهي مطوية، وليست معروشة. وهناك تعابير أخرى تشير إلى تبطين البئر وكساء جدرانها بمواد مقوية تمنعها ان تنهار. فإذا بنيت البئر بالحجارة، قيل بئر مضروسة وفى ضريس، وهو ان يسدّ ما بين خصاص طيها بحجر،وكذلك سائر البناء. ويقال الأعقاب للخزف الذيُ يدخل بين الأجر في الطي لكي يشتد. والوَسٌب خشبُ يطوى به أسفل البئر إذا خافوا إن تنهال، والجمع الوسوب. والحامية الحجارة تطوى بها البئر.

وهناك ألفاظ عديدة ذكرها علماء اللغة للآبار التي تكثر مياهها أو تقل. فورد: بئر غزيرة بمعنى كثيرة الماء، وورد بئر ميهة وماهة إذا كثر ماؤها، والعيلم البئر الكثيرة الماء. والخسَيف التي تحفر في حجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة، وهي التي خسفت إلى الماء الواتن تحت الارض، ويقال بئر سجر ومسجورة بمعنى مملوءة، وبئر ذات غيث أي مادة. والقيلذم، البئر الكثيرة الماء، وبئر مقيضة كثيرة الماء قد قيضت عن الجبل. والبئر الماكدة التي يثبت ماؤها على قرن واحد لا يتغير، وإن كثر منها، وان وضع عليها قرنان أو أكثر، غير أن ذلك إنما يكون على قدر ما يوضع عليها من القرون بقدر مائها، وبئر مكود وماكدة لا تنقطع مادتها، والهزائم الآبار الكثيرة الماء، وبئر زغربة كثيرة الماء، وبئر ذمة وذميم وذميمة كثيرة الماء كذلك، والنقيع البئر الكثيرة الماء.

ويقال حبض ماء البئر، وذلك إذا انحدر ونقص، ونكزت البئر أي قلّ ماؤها، وبئر نزح ماء فيها، وبئر مكول وهي التي يقلّ ماؤها فيستجم حتى يجتمع الماء في أسفلها، واسم ذلك الماء المكٌلةُ، وبئر قطعة وبئر ذمة قليلة الماء، وبئر ضهول قليلة الماء، والخليقة البئر التي لا ماء فيها، وقيل هي الحفيرٍة في الارض المخلوقة، والضغيط بئر تحفر إلى جنبها بئر أخرى فيقلّ ماؤها، وبئر قَرُوع قليلة الماء وهي كالضنون سميت بذلك لانها تقرع قرعاً كلما فني ماؤها، وبئر رشوح وبروض وبضوض قليلة الماء.

وتستخرج المياه من الآبار بالدلاء، تربط بالحبال الى الأعمدة المثبتة فوق البئر. ويقال للعمود "عمد" "عامود" و الجمع "عمدُ" و "أعمد". وأما "الدلو" وهو الوعاء أو القربة المصنوعة من الجلد في الغالب، فيقال له "علبت" و "علبم" في المسند، تمتلىء بالماء حين دخولها في ماء البئر، فتسحب وهي مملوءة به. فإذا بلغت موضع سكب الماء سحبت إلى ذلك المكان لتفريغ مائها فيه، فينساب إلى "مسقيت" أي "مسقية"، بمعنى الساقيهّ لإرواء المزرعة، أو لايصاله الى المدينة أو البيوت.

وأما الآلة التي تعلق عليها الدلاء والمتصلة بالأعمدة فتعرف ب "اعرز" في المسند. ويقال للدولاب الذي يستقى عليه: المنجنون، وذلك في عربيتناْ.

ويقال لتفريغ الركية وأخذ ما فيها من ماء "حبض" في لغة المسند. وهي بهذا المعنى أيضاً في عربية القرآن الكريم. والاحباض إن يذهب ماء الركية فلا يعود، و "أحبض الركية" احباضاً، فلم يترك فيها ماء.

ولا بد للدلاء من حبال قوية متينة تتحمل الاحتكاك بينها وبين البكرة وتساعدها في حمل الدلو. وهذه الحبال تتخذ من مواد مختلفة، تفتل وتبرم، والعادة إن يقوى الحبل بجملة حبال تبرم بعضها فوق بعض، وتشد شداً قوياٌ لئلا تتهرأ بسرعة فينقطع. وقد يتكون الحيل الواحد من مجموع عشرة حبال. أما مادة الحبل فالليف والخوص والجلود ولا سيما جلود الإبل والابق والمصاص، وهو نبات، ولحاء الشجر والقنب، ومشاقة "السلبْ"، وهو ضرب من الشجر ينبت متسلقأَ فيطول. ويؤخذ فيحل ثم يشقق فتخرج منه مشاقة بيضاء كالليف يتخذ منها أجود ما يكون من الحبال، وقد تصنع من القطن ومن ليف جوز الهند.

ولفتل الحبال تستعمل المغازل والمبارم، لغزل الالياف وبرمها بعضها فوق بعض، كما تستعمل بعض المواد المقوية للالياف مثل الزيوت لتحافظ على قوة الحبل وعلى تماسكه فتبقيه طرياً،فلا ينقطع بسهولة: وقد تخصص أشخاص بصناعة الحبال وعاشوا عليها، وقد كانت ذات أهمية بالنسبة لذلك الزمن.

ويقال للدلو العظيمة: "الغرب". ويتخذ من مسك ثور، والغرب الراوية. و "السانية" الغرب وأداته، والناقة إذا سقت الارض، وسنيت الدابة، إذا استقى عليها، والقوم يسنون لانفسهم إذا استقوا. والسناية والسناوة السقي، وهو سان. والساني، يقع على الرجل والجمل والبقر، كما أن السانية على الجمل والناقة. والمسنوية، البئر التي يسنى منها، وركية مسنوية، إذا كانت بعيدة الرشاء لا يستقى منها إلا بالسانية من الإبل.

وتستخدم الثيران والجمال والحمير والبغال في مَتحْ الماء بالدلاء من الآبار الكبيرة الواسعة لسقي المزارع والبساتين والناس، ويشرف على ذلك العبيد أو الفلاحون أو أصحاب البئر. أما الآبار الصغيرة الخاصة بشرب الناس، فيستخرج الماء منها الإنسان، وتصب الدلاء المياه في أحواض أعدت لذلك، لها منفذ يسيل منه الماء إلى السواقي.

وقد تحمى البئر من الأدران ومن الأتربة ومن أخذ الماء منها، بإقامة بناء فوقها على هيأة غرفة، فإذا أقيم ذلك على البئر عرف ب "منشا" في المسند. وقد تؤدي هذه اللفظة معنى أخذ الماء وتوجيهه إلى الجهة المراد ارسال الماء إليها بمجرى ياخذ ماءه من "فنوت". وفسرت لفظة "ثقول" بمعنى تعليق. وتعليق شيء فوق بئر، أو انشاء سقف فوقها لحماية البئر ولتعليق الأدوات التي يمنح بها الماء من البئر عليها، وذلك كما في هذه الجملة: "ابارسم وثقولسم"، ومعناها: "وكل آبارهم وسقوفها" أو "وكل آبارهم والأعمدة المقامة فوقها للاستقاء بها".

وتتعرض الآبار لسقوط الأتربة والرمال فيها، وقد تنهار جدرانها فينضب ماوها، ولا تمكن الاستفادة منها إلا بنزحها. ويقال لنزح البئر جهرت البئر واجتهرت، أي نزحت. وقيل المجهورة المعمورة منها عذبة كانت أو ملحة. ولا بد من نزح هذه الآبار دائماً، إذا أريد بقاء الماء فيها، وإلا ذهب ماؤها وانتفت فائدتها، فتترك وتهمل وتنظف الآبار بنزول الرجال فيها فيشد الرجل وسطه بالحبل، ويترك طرفه في يد رجل، او مشدوداً بشيء ثابت قوي. ويقال لهذا الحبل "الجعار". وذكر إن "الجعار" حبل يشد به المستقي وسطه إذا نزل في البئر لئلا يقع فيها، وطرفه في يد رجل، فإن سقط مدّه به. وقيل هو حبل يشده الساقي الى وتد ثم يشده في حقوه. وتعمل في جدر الآبار في العادة مواضع للأقدام متقابلة يضع النازل في البئر رجليه عليها، تمكنه من النزول لمنح البئر، واستخراج ما قد يتساقط فيها من أتربة ورمال، أو لحفر قاعها لزيادة الماء فيها.

ويعبر عن انهيار البئر وسقوطها بألفاظ، مثل: "صقعت"، وانقاصت، وانقاضت، وانهارت، وتنقضت، وتجوخت، وانقارت. والهدم ما تهدم من نواحي البئر في جوفها، وانخسفت البئر، تهدمت.

وتنظف الآبار بالجُبٌجبة، تملأ بالأتربة وبالطين وباًلأوساخ المتراكمة في قاع البئر وترفع، وتصنع من جلود وأدم، وهي نوع من الزبيل. ويستعمل في التنظيف "الثوج" كذلك، وهو زبيل، يعمل من خوص، يحمل فيه التراب وغير ذلك. ويستعمل القفير كذلك، وهو الزبيل بلغة أهل اليمن. ومن أسماء الزببل أيضا "الصن" وهو زبيل كبير، والحفص زبيل صغير من أدم، والعرق نوع من أنواع الزببل. ويقال للخشبتين اللتين تدخلان في عروتي الزبيل إذا أخرج به التراب من البئر "المِسْمعان". وقيل المسمع العروة التي تكون في وسط المزادة.

وتسحب الزبيل بحبال أعلى لاستخلاص ما فيها من تراب وطين ووسخ حتى تنظف. ومن الالفاظ المعبرة عن تنقية البئر ونزولها وتنظيفها من الاوساخ والاتربة قولهم: نُثُلِت. البئر، أي أخرج ترابها، واسم ذلك التراب النثيلة والنثالة والثلة والنبيثة. ويقال نبيثة النهر كذلك. وأما خمامة البئر، فيراد بها ما كنس منها. ويقال جهَرَ تُ البئر، بمعنى أخرجت ما فيها من ألحمأة. وأما الشأو، فما يخرج من ترابها، وقد شأوت البئر نقيتها، ويقال للذيُ يخرج به المشآة، ويقال -أخرجت من البئر شأواَ أو شأوين، وهو ملء الزببل من التراب. وجششت البثر أجشها جشاً، أي كنستها. ونكشتُ البئر،أخرجت ما فيها من الحمأة والجيئة والطين.

وقد يتغير طعم مياه الآبار وألوانها لعوامل عديدة. وهناك مصطلحات عديدة ذكرها علماء اللغة للدلالة على فساد ماء البئر ونتنه. مثل: المسيط والضّغيط، والحماًة الطين الاسود المنتن، وقد يحمىء ماء البئر فيكدر وتخالطه الحمأة فتتغير رائحته. وتنزع حمأة الابار وتنظفّ ليمكن الاستفادة منها. والجيئة والجيأة: البئر المنتنة.

وقد كان أهل المدن والقرى يشربون من العيون ومن موارد المياه الطبيعية الاخرى إن كانت في قراهم عندها أو على مقربة منها، كما كانوا يحتفرون الآبار في بيوتهم أو في خارجها للاستفادة من مياهها، فإن كانت عذبة فرحوا بها وشربوا منها. وكانت قريش قبل جمع قصيّ إياها وقبل دخولها مكة تشرب من حياض ومصانع على رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها "لؤي بن غالب" خارج الحرم تدعى "اليسيرة"، ومن بئر حفرها "مرة بن كعب" تدعى "الروي"، وهي ما يلي "عوفة" ثم حفر "كلاب بن مرة" خم ورم، و"الجفر" بظاهر مكة، وورد أن الذي حفر بئر "خم" هو "عبد شمس بن عبد مناف"، حفرها بمكة. وأن الذي حفر بئر "رم" هو "مرة بن كعب" أو "كلاب ابن مرة" حفرها بمكة. وذكر أن "الجفر" بئر بمكة كانت لبني تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي.

ثم إن "قصي بن كلاب" حفر بئراً سماها "العجول" واتخذ سقاية، ثم إنه سقط في العجول بعد ممات "قصي" رجل فعطلت. وورد أن الذي احتفرها "قصي" أو "عبد شمس". وحفر "هاشم بن عبد مناف" "بذر"،وهي البئر التي عند حطم الخندمة على فم شعب أبي طالب، وهي لبني عبد الدار. وحفر "هاشم" أيضاً "سجلة"، وقد دخلت في المسجد. وحفر "عبد شمس ابن عبد مناف " "الطوى" وهي بأعلى مكة، و "الجفر"، وحفر "ميمون ابن الحضرمي" "بثرة"، وهي آخر بئر حفرت في الجاهلية بمكة. وعندها قبر "المنصور". وورد أن "عبد شمس" حفر أيضاً بئرين وسماهما "خم" و "رم"، على ما سمى "كلاب بن مرة" بئريه. فأما "خم" فهي عند "الردم". وأما "رم"، فعند دار "خديجة بنت خويلد".

وحفرت بنو أسد بئر "شفُيَة". وحفر "بنو عبد الدار" "أم أحراد"، وقد أشير إليها في الحديث. وحفر "بنو جمح" "السنبلة". وذكر إن الذي حفرها "بنو جمح" و "بنو عامر". وحفر "بنو سهم" "الغمر"، وهي بئر "العاص بن واثل". وحفرت "بنو عدي" "الحفير". وحفرت "بنو مخزوم" "السقيا"، و "بنو تيم" "الثريا"، وهي بئر "عبد الله بن جدعان". وحفرت "بنو عامر بن لؤي" "النقيع"، وكانت لجبير بن مطعم بئر، وهي بئر بني نوفل، وكان عقيل بن أبي طالب، حفر في الجاهلية بئراً، وهناك آبار أخرى غيرها، ذكرها "البلاذري" في كتابه "فتوح البلدان".

وقد اشتهرت بعض الآبار وعرفت، ، ولا تزال معروفة نقرأ أسماءها في الكتب. ومن أشهرها "بئر زمزم"، ذات الشهرة البعيدة، بسبب مكانتها من الكعبة، وبئر "طوى". وهي بئر حفرها عبد شمس بن مناف. وبئر "ذروان"، وهي لبني زريق، جاء ذكرها في حديث سحر النبي. و "بئر رومة"، وهي ليهودي كان يببع الماء منها للناس، وقد حصل على مال كثير منها، وكان إذا غاب، قفل عليها بقفل، فلا يستطيع أحد أخذ الماء منها. فشكا المسلمون ذلك إلى الرسول، فقال: "ومن يشتريها ويمنحها للمسلمين ويكون نصيبه كنصيب احدهم، فله الجنة". فاشتراها "عثمان" بخمسة وثلاثين ألف درهم، فوقفها.

وبيثرب وأطرافها آبار عديدة، كان يستقي منها أهلها للشرب، منها بئر "غرس". ويظهر انها كانت من أجود وأحسن آبار يثرب. وقد ورد ذكرها في الحديث، حيث ورد: نعم البئر بئر غرس، هي من عيون الجنة. وغُسّل رسول الله منها. وذكر انها كانت بقباء، وانه برك فيها. ويستقى منها على حمار. ومنها بئر "مالك بن النضر بن ضمضم"، وهي التي يقال لها بئر "أبي أنس". ولما نزل الرسول منزل "أبي أيوب"، كان أبو أيوب يخدمه ويستعذب له هذه البئر، ولما صار الرسول إلى منزله، كان خدمه يحملون قدور الماء إلى بيوت نسائه من بئر السقيا، ومن بئر غرس.

وبئر "يضاعة" بئر معروفة بالمدينة، قطر رأسها ستة أذرع، وهي في بستان، وكان أهل يثرب يطرحون فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والمنتن.

وكان أهل العربية الغربية يحفرون حفراً، يجعلونها كالبئر، يلقون بها الجيف وما شاكلها. وذكر أن "الجباجب"، حفر بمنى كان يلقى بها الكروش، كروش الأضاحي في أيام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها. وقد ورد أن الرسول كان يشرب من بئر "بضاعة" وأنه بصق فيها وبرك. وأن خيل رسول الله كانت تسقى منها، وأن أهل المدينة كانوا يغسلون مرضاهم بمائها، لاعتقادهم أنه يشفي من المرض. ولعل قصة رمي الجيف والمنتن بها من القصص الموضوع المصنوع، أو أن ذلك حدث فيما بعد، حين أهمل شأنها،فلم يعد الناس يستقون منها، فاتخذت موضعاً يرمى فيه الجيف.

ومن بقية الآبار "البقُعْ" وقيل هي السقيا التي بنقب بني دينار، ويئر "جنب"، وبئر "جاسم"،بئر أبي الهيثم بن التيهان براتج، وبئر "العبيرة"، بئر "بني أمية بن زيد"، وقد شرب منها الرسول وسماها "اليسيرة". وبئر "رومة" باًلعقيق، وكانت لرجل من مزينة يسقى عليها بأجر، فقال رسول الله: نعْمَ صدقة المسلم هذه من رجل يبتاعها من المزني فيتْصدق بها. وكان المزني، قد ضرب خيمة إلى جنب البئر، يأخذ أجور الدلاء، وله جرار بها ماء بارد، مرّ الرسول به مرة فشرب منها ماء بارداً، فقال: هذا العذب ا لزلال.

ويرد في كتب السير مصطلح "بئر السقيا" و "بيوت السقيا"، و"السقيا" ورد أن الرسول كان يشرب من بيوت السقيا، وورد أن خدمه كانوا يحملون قدور الماء إلى نسائه من "بئر السقيا"، وأنه شرب حين خرج إلى "بدر" من "بئر السقيا". وقد ذكر بعض، العلماء، أن "بيوت السقيا" موضع في بلاد "عذرة"، يقال له "سقيا الجزل"، قريب من وادي القرى. وهناك بئر قيل لها "السقيا" بنقب بني ديار، ورد ذكرها في الحديث. وهناك مواضع أخرى عرفت ب "السقيا"، و "سقيا"، منها سُقيا غفار، و "السقيا الجزل"، "سقيا يزيد"، والسقيا للعنبر.

وقد ذكر إن الرسول قد شرب من الآبار المذكورة، وبصق فيها وبرك، ليبارك في مائها.

ولأبي عبيدة، معمر بن المثنى كتاب في الآبار، جمع فيه ما ورد ذكره من الآبار.

وقد اتخذ النبط وغيرهم من القبائل آباراً لشربهم ولشرب مواشيهم، لها فتحات تسدّ بالحجارة، فلا يمكن لأحد غريب الوقوف عليها، فإذا داهمهم عدو، أو أرادوا النقلة إلى أماكن أخرى، سدوا بها فتحاتها، ووضعوا فوقها من التراب ما يخفي معالمها. وقد أشار إليها الكتبة اليونان واللاتين.

ولا تزال بعض الآبار القديمة مستعملة ينتفع بمائها وهناك آبار طمرت، أو جفت مياهها، وقد عثرعند أفواهها على كتابات تشير إليها والى أسماء أصحابها. وهناك آباًر أخرى عديدة عثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وبعضها عميقة جداً، وهي كلها "عادية" من أيام الجاهلية. والبئر العادية البئر القديمة التي لا يعرف لها مالك.

وقد استغلت بعض الآبار الجاهلية المندثرة، بتنظيفها وتطهيرها واستغلالها. ذكر "فؤاد حمزة" إن آباراً عديدة جاهلية نظفت وأصلحت، فعادت إليها الحياة، واستغلت مياهها في إحياء الأرضين التي كانت خصبة مثمرة ثم تحولت إلى موات. ولا يزال الناس يستغلون في اليمن وفي غير اليمن بعض الآبار القديمة للشرب، وذلك لصعوبة استخراج مياهها للزراعة لعمقها، واقتصار الناس هناك في استخراج الماء على الدلاء. ويظهر من وجود بعض الآبار "العادية" في البراري إن تلك المواضع كانت في محلات مأهولة، ثم تركها أهلها فعميت،وبقيت آثارها تتحدث عن وجود سكن قديم في هذه المواضع. وفيَ اليمامة آبار عديدة عادية، لا تزال على وضعها، وهي من آباًر ما قبل الإسلام. وأشار العلماء إلى مياه عادية، فقد ذكروا إن "لبينة" ماءة عادية، أي من المياه القديمة التي يعود عهدها إلى الجاهلية.

وقد عثر المنقبون على نصوص جاهلية مدوّ نة بالمسند، تتعلق بتملك الآبار وبحفرها وبإصلاحها. وقد أرخ بعض منها بأيام ملك، أو برجل عظيم كان معروفاً مشهوراً في زمانه،أو بحادث وقع لهم ذي يال. وقد أمدتنا هذه النصوص ببعض المعلومات عن الآبار وعن أصحابها وأسماء المواضع التي حفرت بها.

ويكون نضوب الماء من البئر، أو تحول مائها العذب إلى ماء ملح، نكبة بالنسبة لأهل البئر، ففي تبدل طعم الماء هذا خسارة كبيرة لأهل الماء، وعليهم البحث عن مورد آخر لسدّ رمقهم،واطفاء ظمأ أموالهم، وحفر بئر أخرى في مكان آخر. ونقرأ في كتب أهل الأخبار واللغة أمثلة كثيرة عن هذا التبدل الذي حدث في طعم الماء، وسببه، همو انحباس المطر، وتحول مجاري المياه العذبة الجوفية من مكان إلى مكان، مما يسبب نضوب ماء الآبار والعيون التي كانت على المجاري القديمة، أو تقليل كمياته، فتظهر عندئذ ملوحة التربة، وقد تتغلب على طعم الماء العذب، فتحوله إلى ماء ملح وقد هجرت مستوطنات عديدة بسبب وقوع هذه الظواهر المحزنة في موارد مياهها كانت تستمد مياهها من حوض ماء جوفي، فلما قلت المياه فيهما، أو تحولت إلى موضع آخر، لعوامل "جيولوجية"، تأثرت المنطقة التي فيها الماء، بهذا التحول، واضطر سكانها إلى تركها، نتيجة انقطاع موارد المياه عنها، أو تبدل طعمها، تبدلاً لا يطاق.

بنو سهم، و "غمر ذي كندة" بينه وبين مكة يومان، و "الغمر" باليمامة، موضع ماء. وأما لفظة "الركايا"، فتعني الآبار.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ