إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 31 يناير 2016

1616 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والتسعون الارواء


1616


( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل السادس والتسعون

الارواء

تعطي الديانات السامية الماء أهمية كبيرة. وقد أثابت الأشخاص الذين يتقربون إلى آلهتهم بتقديم الماء إلى العطاشى، وفرضت عليهم تقديم الماء إلى العطشان لاغاثته وانقاذه من الهلاك. وفي الأسفار القديمة أمثلة عديدة على ذلك، كما أشادت تلك الأديان بقيمة الماء في الحياة.

ولا بد إن تكون للوثنية العربية النظرة ذاتها التي نراها في الأديان الأخرى بالنسبة إلى الماء، بأن أعطته شيئاً من التقديس والأهمية، وجعلت له مكانة في عقائدها، وذلك قياساً على ما قلته من تقديس الأديان الأخرى له. وإن كنا نجهل ذلك لعدم ورود شيء عن ذلك في المسند. ولكن عدم ورود شيء من ذلك في المسند لا يكون دليلاً على عدم تقديس العرب الجاهليين له،لأن نصوص المسند لم تختتم بعد، وما وصل الينا ليس إلا شيئاً قليلاً بالنسبة إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل ولاشك.

وفي الأخبار المروية عن الجاهلين وغيرهم من تقديس بعض الآبار والعيون، والتبرك بشرب الماء منها، دليل على نظرة التقديس التي نظرتها الشعوب الساميّة وغيرها إلى الماء. فالماء هو الحياة. وفي القرآن الكريم: )وجعلنا من الماء كل شيء حي(. ولا بد أن تكون هذه النظرة التقديسية هي التي حملت الجاهليين على تقديس بئر زمزم. ولا يقدر أهمية البئر حق قدرها إلا قطّان هذا البلد الكائن في واد غير ذي زرع وماء، ولولا زمزم وإلآبار الأخرى التي احتفرها أهله، والآبار والعيون الواقعة في أطرافه، يحملون منها الماء إلى بلدهم حملاً، لهلك أهله، أو هجروه. ولا يدرك المرء قيمه الماء إلا إذا كان في صحراء قفرة لا ماء فيها ثم نفد ماؤه. ولهذا كان الغيث رحمة عظمى للاعراب، بغيثهم بعد أن يتعرضوا للجدب والهلاك.

ولا غرابة بعد ذلك، إذا رأينا العرب تقول في دعائها على الإنسان: ما له أحرَّ الله صدره، أي أعطشه.وفي الدعاء: سلط الله عليه الحِرَّة تحت القِرَّة ! يريد العطش مع البرد ؛ ورماه الله بالحرة والقرة، أي بالعطش والبرد. وقالوا: أحرّ الرجل، فهو محرّ: عطشت ابله . وأي شيء أعظم مصيبة وخطراً على الإنسان من العطش في أرض حارة! وتعدّ بقاع جزيرة العرب من الأرضين الجافة، فالأمطار فيها، ولا سيما أقسامها البعيدة عن البئر شحيحة، والأنهار ألكبيرة معدومة فيها، والعيون قليلة أيضاً، وجوّها جاف لا نكاد نستثني منها إلا سواحلها، وهذا إلجفاف صيرّ القسم الأكبر من أرضها صحاري قاحلة تكسوها طبقة غليطة من الرمال في بعض الأماكن مثل الربع الخالي، كما جعلها غير قابلة للزرع. على إن من الممكن إن تبعث الحياة في مناطق واسعة شاسعة من هذه الأرضين، فتجعل أرضين منتجة مخصبة نافعة، إذا اتبعت الأساليب العلمية في معالجة الأرض، وفي استنباط الماء، وفي السيطرة على الأمطار والسيول التي تنشأ منها في بعض الاحيان وتغور في الرمال دون إن يستفاد منها، بإقامة السدود والحياض الصناعية التي تحزن فيها إلى وقت الحاجة، وذلك كما فعل الجاهليون في بعض الاماكن،وخاصة في العربيه الجنوبية، من اقامة سدود تحجز السيول وتحبسها، فإذا انقطعت الامطار وحل الجفاف استفيد منها في الإرواء.

ونجد في بطون الكتب أسماء مواضع عديدة كبيرة كانت ذات عيون ومياه وآبار ونخيل وأناس عند ظهور الإسلام، وهي اليوم صحاري خالية أو مواضع صغرة لا أهمية لها، وذلك بسبب اهمال الإنسان لها واعتدائه عليها، وتحول الطرق التجارية عنها. ويظهر أن لاشراك القبائل في الفتوح، ونزولها في العراق وفي بلاد الشام والأماكن الغنية الأخرى بعد دخول هذه الأماكن في الإسلام أثراً في هجرة الناس عن مواضع العيون والآبار في الحجاز وفي بقية جزيرة العرب، لقلة خيراتها وحاصلاتها وعدم تعلق الفلاح بالأرض في تلك الأماكن. أما في الوطن الجديد الذي حمله الفتح اليه، فقد وجد فيه خيراً كثيراً وأرضاً وماء،وجواً ألطف وأرق من الجو الذي كان يعيش فيه، وبذلك خسرت جزيرة العرب عدداً كبيراً من سكانها، ممن فضل الهجرة على القعود.

ومن يقرأ كتاب "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز"وكتباً أخرى من هذا القبيل، يعجب من التدهور الذي أصحاب الزراعة في جزيرة العرب بعد الإسلام، إذ نجد أسماء مواضع عديدة كانت تكفي نفسها، أو تصدر الحاصل الزراعي إلى الأسواق المجاورة، ثم قلّ حاصلها كثيراً باهمال الزراعة. وإعراض الناس عنها، حتى بعض النواحي القربية من مكة والمجاورة لها، كانت مشهورة بالخضر والفواكه والأزهار والرياحين، ثم فقدت شهرتها من بعد. وذكر "ابن المجاور"إن موضع "الزهران"كان معروفاً بزراعة "الزعفران"، وكان الموظفون يجبون جباية لابأس بها منه ومن الزرع والضرع وسقي الأنهار. "فما دار الدهر، نقص جميع ما ذكرناه، لاختلاف النيات مع قلة الأمانات". وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة على هذا التدهور المؤسف الذي حل بالزرع وبالماء وبالأيدي العاملة المشتغلة بأصلاح الأرض، والذي كان من جملة أسبابه ما قلته من هجرة المتمولين والمثرين والسادة الكبار من الحجاز وبقية جزيرة العرب إلى العراق وبلاد الشام، لوجود مجال واسع للأثراء، لا مثيل له في جزيرة العرب.

وللعرب مصطلحات كثيرة في الإرواء وفي سقيهم وسقي إبلهم، لارتباط حياتهم بالماء،ولأثر الحر والعطش والجفاف فيهم وفي أموالهم. وفي جملة هذه المصطلحات "الشريعة"، " مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. وربما شرعوها دوابهم، فشرعت تشرب منها. والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدّاً لا انقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً لا يستقى بالرشاء. واذا كان من السماء والأمطار، فهو الكرع. وقد أكرعوه إبلهم فكرعت فيه وسقوها بالكرع. وهو مذكور في موضعه كالمشرعة". وتقابل هذه اللفظة لفظة "مشترعن"في لغة المسند، أي "المشترع"، والمشرعة.

وقد تخصص أناس باستنباط المياه وتقدير حفر الآبار، كما تخصص آخرون بالسيطرة عليها وحصرها بالسدود. وسمى علماء اللغة المقدر لمجاري المياه "القنَاقنِ"وهو مثل المهندس في هذا الفن. وذكر بعضهم أن "القُناقن"البصير بحفر المياه واستخراجها، والمهندس الذي يعرف موضع الماء تحت الأرض، أو هو الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريباً أو بعيداً.

وقد قسم بعض العلماء المياه المستخرجة إلى ثلاثة أقسام: مياه أنهار، ومياه ابار، ومياه عيون.

وقسموا مياه الأنهار إلى ثلاثة أقسام: أنهار كبار لم يحفرها الآدميون، وأنهار صغار، لم يحتقرها إنسان، وأنهار احتفرها الناس. فتكون ملكاً لمن احتفرها، لا حق لغيرهم في الانتفاع منها.

وأما الآبار، فابار تحفر للسابلة،فيكون ماؤها مشتركاً، وآبار تحفر للارتفاق بمائها. كالبادية اذا انتجعوا أرضاً وحفروا فيها بئراً لشربهم وشرب مواشيهم. كانوا أحق بمائها ما أقاموا عليها في نجعهم،فإذا ارتحلوا عنها صارت البئر سابلة. وآباًر مملوكة. وتكون ملكاً لمالكها لا ينازعه عليها منازع.

وقسموا العيون إلى ثلاثة أقسام: عيون لم يستنبطها الآدميون. وعيون استنبطها إنسان، فتكون ملكاً لمن استنبطها، ويملك معها حريمها. وعيون يستنبطها الرجل في ملكه، فتكون ملكاً له.

واليمن مثل سائر أقسام جزيرة العرب، خالية من الأنهار الكبيرة كدجلة والفرات والنيل، وخلوّها من امثال هذه الأتهار أثرت كثيراً - ولا شك - في وضع الزراعة فيها. ولكن الطبيعة عوّضتها بعض التعويض عن هذه الخسارة، فصار حالها أحسن كَثيراً من حال الأقسام الشرقية أو الوسطى من جزيرة العرب. فجعلت لها رياحاً تحمل إليها الأمطار في مواسم معروفة، وجعلت لها أمكنة ملائمة لخزن هذه الأمطار الهاطلة، استبدت بها أيدي الإنسان، وتحكمت فيها بأن جعلت لها أبواباً ومنافذ، وسدوداً في بعض المواضع، وتمكنت بذلك من خزن هذه الأمطار للاستفادة منها في أيام الحاجة. ثم جعلت لها تربة حسنة طيبة أريضة تنبت كل ما يبذر فيها، وتنبت ما يتساقط عليها من بذور متطايرة مع الهواء، حتى شاع صيتها وانتشر خبرها بين الناس فعرفت باليمن الخضراء.

وقد ساعدت هذه الأمطار أهل اليمن ع كثيراً في تطوير أحوالهم من النواحي الاجتماعية، فمال كثير منهم ألى الاستقرار والى الاشتغال بالزراعة والتعيش منها. وساعد ذلك على سكناهم في المدر وفي القرى والمدن، على عكَس ما يحدث في الأرضين التي غلبت عليها الطبيعة الصحراوية لانحباس المطر عنها، وهي حالة اضطرت أصحابها إلى التنقل فيها من مكَان إلى مكان طلباً للكلأ والماء، وجعلت من أصحابها أناساً فقراء، يعيشون عيشة شظف وضنك وفقر، مع ما وهبتهم الطبيعة من ذكاء مفرط واستعداد للتطور إن تهيأت لهم الظروف الملائمة وساعدتهم الأحوال.

والأمطار قليلة بصورة عامة في جزيرة العرب، فلم تعتمد الزراعة فيها على الأمطار كما تعتمد في البلاد الأوروبية، وإنما تعتمد على الجعافر والحسي والعيون والابار. ولهذا السبب انحصرت الزراعة في الأماكن التي توجد فيها هذه الموارد المائية. ويختلف عمق الآبار باختلاف المواقع، وبأختلاف سطوح المياه الجوفية عن سطح الأرض. ولما كانت بعض الابار عميقة جداً بسبب بعد سطح مائها عن سطح الأرض، لم يستفد منها في الزراعة كثيراً، وإنما استفيد منها في شرب الإنسان والحيوان فقط.

وفي العربية الغربية مواضع عديدة كانت ذات ماء، ورد اسمها في كتب اللغة وفي كتب "الجغرافيا"والبلدان والرحلات. تكونت من سقوط الأمطار على الجبال والمرتفعات. وبعضها ماء عذب، وبعض منها ماء مج أو مالح، وقد استفيد منها في السقي وفي الزرع. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عنها، انه قد كان في الامكان الاستفادة منها واستغلالها لأغراض زراعية، لو كان لأهل هذه الأرضين علم بكيفية السيطرة على الماء، وكيفية استنباطه من باطن الأرض، وكيفية الهيمنة عليه بحفر مجار له. فقد كانت لبني الحارث بنُ بهثة بنُ سليم، عيون ماء في صخور، لم يتمكنوا من الانتفاع بها، لأنهم لم يتمنكنوا إن يجروها إلى حيث ينتفعون بها، وكان في "يلَيَل"عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماءً، لم يزرعوا عليها إلا في مواضع يسيرة، لأنها تجري في رمل، ولم يكن علم على ما يظهر في كيفية استخراج هذا الماء من ذلك الرمل. وكان في امكانهم مسك مسايل الماء من الجري نحو البحر، وحبسها في أحباس، بصنع سدود لها، لو كان لهم علم ومال وحكومة كبيرة تكون عندها المؤهلات والامكانيات لعمل السدود، للاستفادة من مياه بعض المنابع التي كانت تجري طيلة ايام السنة، فتحول بينها وبين الذهاب عبثاًَ إلى البحر. فتخيي بذلك أرضين مواتاً وعدم وجود حكومات كبيرة تقوم بمثل هذه الأعمال وبضبظ الأمن. واشاعة الاستقرار، هو من أهم العوامل انتي كانت سبباً في عدم الاستفادة من المياه وفي تأخر الزراعة في جزيرة العرب، فلو كانت هناك حكومات كبيرة، لكان في وسعها الاستفادة من المياه الظاهرة والباطنة ومن مياه السماء، فتحيي بذلك أرضين كثيرة خصبة، وتحمي الزرع من عبث العابثين وتشيع الأمن والطمأنينة في النفوس فيقبل الناس على الزرع والعناية بالضرع.

وقد ذكر "عرام"اسم موضع دعاه "ذا مجر"، ذكر أنه غدير كبير في بطن وادي قوران، وبأعلاه ماء يقال له "لقف"، وهو آبار كثيرة، عذبة المياه، ليس عليها مزارع ولا نخل، لغلظ موضعها وخشونته، وفوق ذلك ماء يقال له "شسي"ماء آبار عذاب. وذكر اسم جبل يقال له "مغار"في جوفه أحساء، منها حسي يقال له "الهدّار"يفور بماء كثير، لم يستفد منها فائدة تذكر، فكانت المياه تذهب عبثاً إلى سباخ لعدم وجود من يتغلب عليها بعقله وبعلمه وبماله ويستروضها لتخدمه في إحياء الأرض وفي اعاشته وإعاشة ماشيته.

أما العربية الشرقية والعربية الوسطى، فانهما أقل مياهاً من العربية الغربية، لقلة ما يسقط عليهما من الأمطار. ولذلك صارت مواضع الماء فيها متباعدة، والمسافات التي يجب أن يقطعها المسافرون من موضع إلى موضع أطول من المسافات التي تقطع بين منازل العربية الغربية، لتباعد مواضع المياه. ومن أهم موارد الماء في العربية الشرقية نهر "محلم"بهجر البحرين. ذكر بعض أهل الأخبار أنه في أرض العرب بمنزلة نهر بلخ في أرض العجم، وأن "تبعاً" نزل عليه فهاله. وان مياهه الجوفية متصلة بسيح الأطلس الذي يكون مخرج مائه من عين الناقة.

إن قلة الأمطار أو شحّها وانحباسها في بعض السنين وعدم وجود الماء في أكثر أنحاء جزيرة العرب، أثر أثراً كبيراً في حياة أهلها الاجتماعية، فحوّل قسماً كبيراً منهم إلى بدو رحل، يتنقلون من مكان إلى مكان طلباً للكلا والماء، هدفهم في هذه الحياة الحصول على الكلا والماء. والكلا والماء هما العزّ والجاه والثراء وأغلى شيء في هذه الدنيا، فقاتل بعضم بعضاً من أجل الحصول عليهما، وقطعوا مسافات شاسعة بحثاً عنهما. ولم يتمكن الروم والرومان من منعهما من دخول بلاد الشام بحثاً عن الكلأ والماء، ولم يتمكن الساسانيون من منعهم من الوصول إلى هذه الثروة العظيمة كذلك. هذه الثروة التي سببت اقتتال القبائل فيما بينها من أجل الحصول عليها.

ولحماية الماء ولا سيما مياه الآبار من اعتداء الطبيعة أو الإنسان عليه أقاموا أبنية فوقه، في أيام الجاهلية وفي الإسلام. وقد أشار العلماء إلى قباب بنيت فوق المياه، فقد اتخذ أهل بطن "السيدان"قباباً على كل ماء به، ومياهه تسمى الجرور والجراير، لبعد قعرها، ولأنها لا تخرح إلا بالغروب والسواني لبعد الماء فيها عن سطح الأرض.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق