إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 31 يناير 2016

1649 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثامن والتسعون الحياة الاقتصادية


1649

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
         
الفصل الثامن والتسعون

الحياة الاقتصادية

وأقصد بالحياة الاقتصادية كل ما يتعلق بمفهوم الاقتصاد من معنى، ما يتعلق منه بالحكومة أو ما يتعلق منه بالشعب. وما يتعلق منه بالتجارة والمال، أو ما يتعلق منه بالزراعة أو باًلصناعة والحرف.

واقتصاد أية أمة، حاصل أمور عديدة: الجو، من حر وبرد، ومن مطر وجفاف، ومن ثروات طبيعية، تستنبط من الماء أو التربة، ومن نشاط وجهد وظروف اجتماعية، هي من حاصل تأثير المحيط في أهله.

وأدخل هنا في الحياة الاقتصادية ما يشمل التجارة بنوعيها تجارة البر وتجارة البحر، وما يشمل الزراعة، ثم ما يشمل الحرف والصناعات.

وتشمل التجارة: الاتجار داخل جزيرة العرب، أي تعامل أبناء بلاد العرب بعضهم مع بعض، والاتجار مع الخارج، أي مع الحكومات الغريبة مثل الهند وحكومات افريقيا والفرس والروم.

لقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب السامية نشطون في عالم التجارة. والتجارة تكاد تكون الحرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي إليها والى المشتغل بها نظرة استهجان وازدراء وانتقاص. بل اعتبرت عندهم من أشرف الحرف قدراً ومنزلة. ونظر إلى التاجر نظرة تقدير وتجلة، مع أنها حرفة مثل سائر الحرف، فيها من الحيل والخداع واللعب على الناس ما في أية حرفة أخرى وفيها عمل وجهد على نحو ما نجد في الزراعهّ أو في ا لصناعة. ولكنها نظرة واجتهاد الى الحياة، وظروف طبيعية، جعلت العرب تجاراً في الغالب، فشرفوا التجارة على غيرها من الحرف، وقدموها عليها في المنازل والدرجات. وقد بقيت على هذه المنزلةِ والدرجة في الإسلام كذلك. وأشير الى شرفها وسمو منزلتها في كتب الحديث، مما يدل على ماكان للتجارة من منزلة في نفوس الناس.

والتاجر الذي يبيع ويشتري. ومن المجاز التاجر الحاذق بالأمر ، لما تحتاجه التجارة من ذكاء وحذق في مساومات البيع والشراء. وذكرعلماء اللغة إن العرب تسمي بائع الخمر تاجراً، وان أصل التاجر عندهم الخمّار. يخصونه من بين التجار. والتجارة صناعة التاجر. وهو الذي يبيع ويشتري للربح. و "التاجر" هو "مكر" في لغة المسند، و "تمكرو" في الآشورية.

كان الملوك تجاراً يبيعون ويشترون، وكان رؤساء المعبد تجاراً يتاجرون باسم معابدهم، ويكسبون من الضرائب التي تقدم للمعابد كسباً فاحشاً، وكان أصحاب الأملاك ورؤساء العشائر تجاراً كذلك، يتاجرون بما يقدمه اليهم من هو دونهم في المنزلة من حاصل وغلة، ويتاجرون مما يستوردونه من الخارج، من افريقية أو من الهند، من حاصلات ثمينة غالية في نظر تجار ذلك اليوم، لبيعه في الداخل أو نقله إلى بلاد الشام أو العراق لتصريفه في أسواق تلك الجهات.

وفي اللهجات العربية ألفاظ ومصطلحات كثيرة لها صلة بالتجارة وبالتعامل، وهي من اللغات العالمية الغنية في هذه المادة. ويلاحظ بصورة عامة إن اللهجات السامية غنية كلها تقريباً بالألفاظ المستعملة في البيع والشراء والتعامل والتجارة، وفيها مرادفات كثيرة في هذا الباب. وكثرة هذه االألفاظ دليل على حذق الساميين عموماً بالتجارة وافتتانهم بها، وعلى وجود عقلية تجارية لديهم. والتأريخ يؤيد ذلك، فترى الساميين عموماً، وهم أنشط من غيرهم، يتنقلون من مكان الى مكان طمعاً في ربح، وركضاً وراء تجارة، وهم من أحذق الناس يومئذ في التحكم في الأسعار وفي التعامل وفي البيع والشراء.

وفي القرآن الكريم لفظة "تجارة" و "تجارتهم" ومصطلحات أخرىَ عديدة ذات صلة بالاتجار والتجارة والمعيشة والكسب. كما أن فيه اشارات كثيرة إلى تجارة قريش وألى أثر التجارة في حياة الناس في ذلك الوقت. وفيه تحريم للريا وتوبيخ وتقريع و )ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون(. وفيه أمور أخرى توحي الينا بما كان للتجارة من أثر كبير في حياة أولئك الجاهليين. بل نجد القرآن الكريم يحاججهم ويناقشهم ويخاطبهم بلغتهم لتي يفهمونها لغة الربح والخسارة والكسب والثواب والعقاب، والتأجيل والتعجيل، وما أشبه ذلك من كلام له أبلغ ألوقع والادراك في نفس التاجر: الذي يعي الناحية المادية من ربح وخسارة وكسب وتوفير، أكثر من وعيه وادراكه للامورالروحية التي لا يفهمها كثيراً، لأنها ليست من صميم حياته ومحيطه العملي.

والتجارة أنواع كثيرة، تشمل كل أنواع البيع والشراء. والتاجر، هو الذي يتاجر في الأسواق، غير أن منهم من تخصص في نوع خاص من أنواع التجارة مثل بيع الحبوب، وقد يتخصص ببيع نوع خاص من الحبوب، مثل الحنطة، فيقال له: "حنّاط" وحرفته "الحنا طة". وقد يتخصص ببيع وشراء "البز"، فيقال له "البزاز" وحرفته "البزازة". وقد يتخصص ببيع "الزيت"، فيقال لبائعه "الزيات" وللذي يعتصره "الزيات" كذلك.

وتكون التجارة بالمقايضة، وهي المعاوضة، إذا عارض التاجر اًو أي شخص متاعاً بمتاع آخر، وبادل سلعة بسلعة أخرى. وهي الطريقة القديمة في الاتجار، قبل ان يتعامل بالذهب والفضة وزناً، في تقييم قيم الأشياء، وقبل ان تعرف النقود، التي ولدت من التعامل بالذهب والفضة. وطريقة المقايضة أو المبادلة أو المعاوضة، لا تزأل طريقة قائمة معروفة، تتبعها الدول، في تصريف منتجاتها بمنتوجات أخرى عوضاً عن النقد، لحاجتها إلى النقد والى تصريف حاصلاتها الفائضة عليها. وقد اتبع الجاهليون هذه الطريقة، فكانوا يبادلون الجلود بسلع أخرى، ويبادلون التمر بالحنطة. وقد اتبع الجاهليون طريقة التعامل باًلذهب والفضة وزناً كذلك، كما تعاملوا بالنقود.

ويتبين لنا من دراسة كتب التفسير والحديث وكتب الأدب والأخبار والسير انه كان لأهل مكة عرف وضعوه في أصول التجارة يمكن إن نسميه "قانون التجارة" بالنسبة لأهل تلك المدينة، تكوّن من تجاربهم في الاتجار ومن تعاملهم بعضهم مع بعض، ومن تجاربهم وتعاملهم مع الخارج، مثل تعاملهم مع الفرس والروم والحبش، حيث أخذوا من هؤلاء الأعاجم النظم والقواعد التجاربة التي كانوا يسرون عليها والتي لم تكن معروفة عند أهل مكة، بسبب اختلاف المحيط وطريقة التعامل التجاري بين الدول. فتجار مكة وأصحاب المال، هم الذين وضعوا أصول التعامل في التجارة فيما بينهم، وهم الذين كوّ نوا بأنفسهم قوانينهم، إذ لا حكومة منظمة لهم تضع التشربع وتقوم بالتنفيذ على نحو ما كان في العربية الجنوبية أو عند الفرس أو الروم.

ويتبين لنا من دراسة الموارد المذكورة كذلك، أن أهل مكة كانوا خبراء في أصول تنمية الأموال وفي كيفية استثمارها واستغلالها، فكانت لهم مرابحات وكانت لهم شراكات وتعامل ومراسلات مع غيرهم من أصحاب المال في مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان لهم ربا، للحاجة، أي للشدة والعسر والضيق. أو للتعامل بالمال المقترض بالربا لانمائه في مشاريع اقتصادية تعود بالفائدة على المقترض أكثر من فاثدة الرباً التي يدفعها للمرابي،حتى ظهر في مكة أناس كانوا يعدّون من كبار الأغنياء بالنسبة لأهل تلك المدينة وبالنسبة لجزيرة العرب في ذلك الوقت.

وفي المسند ألفاظ كثيرة ذات معاني تجارية تتعلق بالبيع والشراء والامتلاك والعقود وهي دليل على أن العرب الجنوبيين كانوا قوماً تجاراً يجنون من التجارة أرباحاً طائلة، ويعيش الكثير منهم عليها. فكانوا يبيعون ويشترون ويصدرون ويستوردون في الداخل والخارج،يقصدون الأسواق الشهيرة القريبة منهم، كما يقيمون الأسواق في بلادهم في المواسم أو في أيام معينة من الاسبوع للبيع والشراء، ولسد حاجاتهم بما يفيض عليهم من حاصل زراعة أو منتوج حيوان يبدلونه مقايضة بما يعوزهم من ضرورات وحاجات.

والتجارة هي "ش ت ي ط" "شتيط" في لغة قتبان. وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص القتبانية، في أوامر أصدرها ملوك قتبان لتنظيم التجارة وتنظيم الجباية، وفي كيفية جباية "المكس" عن البضائع التي تباع في الأسواق، وفي العقوبات التي تفرض على المخالفين وعلى المتهربين من دفع جباية السوق. وقد حددت القواعد التي يسمح بموجبها للغرباء في الاتجار بأسواق مملكة قتبان، وفي كيفية اتجار القتبانيين في الأسواق الخارجية.

وفي جملة هذه النصوص نص أصدره الملك "شهر هلال بن يدع اب" "شهر هلل بن يدع اب" في تنظيم التجارة وفي كيفية الاتجار. وقد نشر على شكل اعلان أو مرسوم ملكي موجه من الملك إلى التجار من أهل قتبان، والى الغرباًء الوافدين عليها للاتجار، وقد كتب ونشر ليطلع عليه الناس كما تفعل الدول في الوقت الحاضر.

وقد وردت في النص جملة مصطلحات والفاظ، لها معان تجارية، مثل "يشط" أي يتاجر، و "يعرب" من "عرب" بمعنى يقدم عربونأَ ويضع عربوناً . ومن أصل "عرب" العرابة والعربون في العربية الشمالية. و "خدر" بمعنى أقام ومقيم ومقيمين ونازلين. وقد ورد في المعجمات اللغوية إن من معاني هذه اللفظة الاقامة بالمكان. ويُقصد بذلك النازلون في مكان ما. ولما كان هذا النص أمراً وقانوناً فيَ تنظيم التجارة، فقد حدد ما جاء فيه من أوامر، بالنسبة إلى سكان المدينة "تمنع" وخارجها، وكذلك مملكة قتبان، والمقيمين بها، والوافدين من خارج قتبان للعمل بالأسواق والاتجار. ولذلك وردت هذه الجملة: "ومن يتجر تجارة بتمنع وبخارج تمنع، فعليه ان يقدم عربوناً إلى تمنع، وان يكون مقيماً بشمر، وإن آثر قتبان محلاً لاتجاره، وأراد إن يتجول ليشتري، فعليه أن يشتري من شمر...". فحدد بذلك كيفية الاتجار وحق الاتجار والموضع الذي يجب أن يشترى منه بالنسبة الى تجار قتبان والى التجار الغرباء عن تمنع.

وقد حدد هذا القانون حقوق ال "خدر"، أي التاجر النازل والمقيم في إمارة "شمر"، والذي يتجول فيذهب إلى قتبان للاتجار فيها والتسوق من أسواقها، ويذهب إلى قبائلها لبيع ما عنده إليها أو لشراء ما يحتاح اليه من تجارة منها، وعليه أن يفعل ذلك، ولكنه ملزم بأخبار "عهر شمر": بذلك، وذلك لتسوية المشكلات والحسابات التي تتولد من المعاملات التجارية. وقد تطرق النص إلى الأضرار التي قد تصيب الأجانب أو القتبانيين، والى احقاق الحقوق، ولهذا وضع الملك هذا الأمر. وجاءت في آخر النص هذة الجملة: "وخمسي ورقم " أيَ "خمسين ورق". وقد سقطت كلمات قبلها، فلم يعرف المراد من ذكر هذا الرقم، أقصد وضع تأمينات بهذا القدر المذكور، أم قصد جزاءً يفرض على المخالفين، أو غير ذلك.

وهذه القوانين القتبانية،هي من أقدم وأشهر القوانين التي وصلت الينا باللهجات العربية القديمة في كيفية تنظيم الاتجار والتعامل في السوق وفي تعيين حقوق الحكومة ونصيبها من الأرباح المتأتية من التجارة.وهي دليل ناطق على مقدار عناية القّتبانيين بأمور التجارة بالنسبة لذلك الوقت.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق