إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 29 يناير 2016

1574 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثامن والثمانون أَثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين


1574

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
     
الفصل الثامن والثمانون

أَثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين

للوقوف على أسس اقتصاد امة من الأمم،لا بد من الوقوف على طبيعة إقليمها من جوّ وأرض. فللطبيعة أثر كبير في تحديد خيرات تلك الأمة وفي تكوين سماتها وعاداتها وانتاجها: من نتاج زراعي أو حيواني أو صناعي، ثم في فقرها وغناها. فالجوّ البارد ذو الأمطار الغزيرة، لا يمكن أن يكون أثره في الأحياء أثر الجو الحار الرطب، أو الجو الحار الجاف،أو الجو المعتدل. الجو البارد يدفع الإنسان إلى العمل ويبعث فيه الحيوية والنشاط، ويجبره على العمل، ويقدم له الماء هدية من السماء، ثم هوُ يكره الأرض أن تتلقح بماء المزن، لتولد خضرة تكسو الأرض ببساط جميل يخلب الألباب، ولتولد للماشية علفاً طرياً شهياً، وللانسان أرضاً طيعة لا تحتاج إلى سقي باليد أو باًلآلة، ثم هو يوفر له كثيراً من الجهد الذي يجب على الإنسان أن يبذله في البلاد الحارة الجافة لاستصلاح التربة ولمكافحة الحشرات التي تبارك فيها الحرارة إلى غير ذلك من صعوبات، لا تقاس بها الصعوبات التي تواجه سكان البلاد الباردة الممطرة.

أما الجو الحار الرطب، فيغيث الإنسان بمطر، قدّ ينهمر انهماراً، وقد ينزل بمواسم، لكن حرارته الشديدة المتشبعة بالرطوبة، تهد الجسم، وتعطيه رخاوة في بدنه وفي عقله، تجعله يميل إلى الخمول والكسل والدعة، والى الاسترسال في العواطف، ثم تحرمه من نشاط انسان الجو البارد، وتجعله دونه في العمل وفي السعي في هذه الحياة والضرب في هذه الأرض وفي استغلال التربة وما فيها وما عليها. وأما الجو الحار الجاف، فيحرم سكانه من نعمة "الغيثّ"في الغالب، ويلبس سطح الأرض أكسية غبراء من رماله تذروها الرياح، ثم هو يجعل من الصعب على الإنسان أو الحيوان إن يجد قوته في هذه القفار الواسعه المغبرة، أو إن يعيش فيها عيشة مستقرة دائمة، في مجتمعات كثيفة كمجتمعات الأجواء الباردة أو المعتدلة أو الحارة الرطبة، فاضطر الى التنقل والارتحال بحثاً عن الكلا والماء، اللهم إلا في مواطن الماء، وهي عزيزة ثمينة لأنها في أرض غلب على طبعها الجفاف. فتصير هذه المواطن القليلة هدفاً لهجمات العطاشى عليها في سني القحط وانحباس المطر، وايام الضيق والشدة، لسد الرمق وللمحافظة على ما في الجسم الذابل النحيل من عروق لتعينه على البقاء،حتى يفنى بطعنة، أو يموت حتف أنفه. تبلغ مساحة جزيرة العرب حوالى مليون وربع مليون ميل من الأميال المربعة.

إذا ثبتنا مواضع المياه على "خارطتها"، نجد إنها قليلة، لا يتناسب توزيعها ووجودها مع هذه المساحة الشاسعة. ثم إنها مياه ضيقة المعين،لا يتسع صدرها لارواء بقاع واسعة على نحو ما نجده في مياه الأنهار الكبيرة. وفي هذه المواضع انحصر السكن، فصار من ثم عدد سكانها قليلاً جداً في كل وقت. واذا قسنا مساحة الأرضين الخصبة منها القابلة للزرع والإنبات ذات الماء باًلأرضين المجدبة، نجد إنها قلة إلى كثرة، وان ما لا يصلح منها للزرع أكثر بكثير مما يصلح له. وان مساحة البراري والبوادي تزيد على مساحة الأرض الطيبة الخصبة، وان هنالك أرضين ذات طبقات ثخينة من الرمال، أكرهت الناس على الابتعاد عنها، ترفعاً من إن يطأ وجهها خفّ جمل أو نعل انسان، أو ان تدوسها الأقدام.

وقد نشأ عن هذا الوضع ضيق في مساحة الأرضين المزروعة، لشح الماء وعدم كفايته لارواء الإنسان ولارواء ماشيته واسقاء أرضين واسعة، ضيق أثر في شكل تكوين المجتمع العربي، فلم يسمح بظهور المجتمعات الكثيفة الكبيرة في جزيرة العرب، والمجتمعات الكثيفة الكبيرة، هي المجتمعات الخلاقة التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللانتاج وللتعامل بين الناس. جعل المجتمعات المذكورة مجتمع مستوطنات، رزقها من زراعتها الصغيرة ومن رعاية الماشية، وصار اقتصادها من ثم اقتصاداً بدائيأ لا تعقيد فيه ولا تطوير يحول المواد اللأولية إلى مواد أخرى أفيد منها وأكثر ربحاً تفيد المجتمع، وتعود عليه بأرباح طائلة من بيع المنتجات في الأسواق.

وهو ضيق صير العرب قوماً يكرهون الزراعة وينفرون منها، ويرون المزارع مواطناً من الدرجة الدنيا، ولا سيما ذلك المزارع الذي يزرع الخضر والبقول وعلف الحيوان، فهو عندهم "خضّار". ولو كانت للعرب مياه فائضة، وأمطار غزيرة لما كرهوا الزراعة، ولما ازدروا شأنها، فحرمانهم من الماء جعلهم يستحقرون شاًن الزراعة لأنهم لم يتذوقوا ثمرتها ولم يشعروا بخيراتها، ولهذا اختلف عنهم أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية ومن وجد عندهم الماء، فغرسوا وزرعوا واعتبروا الزراعة نعمة، وتقدموا إلى آلهتهم لكي تبارك في زرعهم وتنعم في حصادهم وتعطيهم غلات وافرة كثيرة.

وجوّ جزيره العرب جو من أجواء البلاد الحارة الجافة. أمطاره على العموم قليلة، ولا سيما في أواسط جزيرة العرب. وقد تنحبس في بعض السنين انحباساً تاماً، فيسبب انحباسها هذا كارثة ومصيبة، يجف في أثنائها العشب، وييبس كل أخضر، فلا تجد إلإبل لها طعاماً، ولا يكون في وسع أهلها تقديم طعام لها لعدم وجوده عندهم، وقد ينفق مالهم من العطش والجوع، فيصاب أصحابها بخسائر كبيرة، وقد يهلك عدد من الناس قبل بلوغهم موضع ماء، إما من شدة الحر والعطش والجوع، وإما من السيف الذي لا بد لهم من استعماله لاجبار أهل الماء على السماح لهم بمشاركتهم لهم اياه، او بالاستحواذ عليه ونزولهم به، وطردهم أصحابه عنه إلى أماكن أخرى،أو بهروبهم من هذا الموضع لقوة أصحابه ولتمكنهم من رد الطامعين عنه.

وتتساقط الأمطار في العربية الغربية والعربية الجنوبية، ولكن سقوطها ليس منتظماً وعلى طول أيام السنة. فقد تثور السماء فجأة على الأرض، فترسل عليها سيلاً مدراراً، يكتسح ما يجده أمامه من إنسان وحيوان وكل عائق، ليجد له سبيلاً إلى أرض منخفضة أو إلى أودية، ثم لا يلبث أن يختفي ويزول، لأن عمره قصير في الغالب، إذ تبتلعه أرض رملية، فيغور إلى باطنها ليكوّن مياهاً جوفية، وقد تبتلعه البحار، إذ يسيل بشدة إلى الأودية المنحدرة الشديدة الانحدار فيتوجه مسرعاً نحو البحر، فيذهب فيها هباء من غير أن يفيد أحداً من الناس أو أن يغيثهم بشيء. وفي كتب أهل الأخبار قوائم بسيول كثيرة مهلكة مدمرة وقعت قبل الإسلام وبعده.

والأمطار في جزيرة العرب هي قليلة على العموم، مقدار ما يتساقط منها لا يسد رمق الزرع ولا يغني الزارع ولا يكفي في بعض السنين لانبات الخضرة ولظهور الكلأ. وقد يستمر هذا المعدل سنين، فيتضايق الناس، وقد ترد بعدها سنين ينهمر فيها المطر انهماراً، فيسقط من السماء وكأنه ماء انهمر من أفواه قرب، فيسبب سيولاً تؤذي الناس ولا تنفعهم، وقد يستمر هطول المطر على هذا المعدل من الشدّة عدة سنين، ثم يقف فيشح، وتبخل السماء، فلا تعطي الأرض من غيثها إلا قليلاَ. وقد تبخل بخلاً شديداً فلا تعطيها منه شيئا يذكر، فيتضايق الناس، ويعيشون عندئذ عيشة صعبة قاسية، قد تضطرهم إلى الارتحال إلى مواضع أخرى بحثاً عن الكلأ والماء.

وقد يكون انحباس المطر، ظاهرة موضعية، تصيب موضعاً، ولا تصيب مواضع أخرى، وقد يكون عاماً، يصيب أكثر جزيرة العرب أو كلها. وتكون شدته عندئذ في هذه الحالة أعم وأشد. وضرره في الناس أكثر، فأينما ترحل القبائل لا تجد أمامها إلا القحط والمحنة، وقلة الماء والغذاء، أي "القحط"والجدب والمحل. و "القحط"الجدب من أثر احتباس المطر، فيتأذى الناس، ويقل الطعام وترتفع أسعاره. ويعيشون في شدة. ويلازم القحط في الغالب، اختفاء الطعام وارتفاع ثمنه. فالقحط ملازم اذن لانحباس المطر، ويلازمه الجوع وارتفاع السعر، وقلة الطعام، واختفاؤه من السوق، بسبب الخزن أملاً في الحصول على ربح ومكسب، أو بسبب قلة حاصل الموسم. ويقال أقحط القوم، أي أصابهم القحط، وكان ذلك في اقحاط الزمان.

وقد يعقب انحباس المطر ظهور الملح في طعم مياه الأبار والعيون، حتى قد يصير الشرب منها صعباً، والزرع عليها غير ممكن. فيضطر أصحابها عندئذ إلى تركها والارتحال عنها إلى مواضع أخرى، يحفرون فيها آباراً جديدة ؛ تكلفهم مالاً وجهداً، وقد لا يجدون في الأرض الجديدة ماء عذباً سائغاً فراتاً للشاربين، وقد لا يجدون فيها ما يكفيهم لشربهم ولشرب أموالهم، مما يحملهم على الارتحال إلى أرض أخرى، أو على التشتت والتبعثر، بسبب عدم وجود الماء أو عدم سدّه حاجتهم.

ويقال للسنة وللأرض التي لم يصبها المطر: "الجماد". وسنة جامدة لا كلأ فيها ولا خصب ولا مطر. وأرض جماد، يابسة لم يصبها مطر ولا شيء فيها. وهي من السنين الحرجة في حياة العرب، المؤذية المهلكة للانفس وللمال. ويقال للمُحل "الجدب". والجدب نقيض الخصب. و "المحل" الجدب وانقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ. وتعد أيام المحل من شرّ الأيام، يقال: "زمان ماحل"، و "مكان ماحل"، و "بلد ماحل"، و "أرض محل"، وأرض محالة ومحول. يريدون بالمحل الشدة والجوع الشديد وإن لم يكن جدب، على سبيل المجاز، لأن المحُل الجدب ويبس الأرض وانقطاع المطرة فتشتد حالة الناس، ويظهر الجوع ويعيش الناس في ضنك شديد.

ويقال لمثل هذه السنين الشديدة، التي تجف فيها المراعي، ويصاب الناس فيها بأزمة شديدة،سنة جرداء " وسنة الجمود لجمود الرياح فيها وانقطاع الأمطار وذهاب الماشية وهزالها وثبات الغلاء. ويقال لها الحطمة والأزمة واللزّبة والمجاعة والرّمد، وكحل والقصر والشدة والحاجر، وما شاكل ذلك من ألفاظ فيها معاني الشدة والفقر والجوع. .

وكان منهم من يتصور أن نجوم الشتاء هي سبب نزول الغيث. ولذلك كانوا إذا لم يمطروا، وانحبست السماء عندهم يقولون: "أجحرت النجوم". قال الراجز: إذا الشتاء أجحرت نجومـه  واشتد في غير ثرى أزومه

ومن المجاز أجحر القوم، إذا دخلوا في القحط. والجحرمة الضيق. ولبس أشد على العرب وأضيق في انحباس المطر عنهم.

واذا أمطرت السماء، استبشر الناس خيراً، فالمطر خير وبركة ونعمة. يعقبه ربيع مفرح مبهج، تسمن فيه إبلهم ومواشيهم، ويكث ولدها، فتنمو أموالهم، وكانوا يقولون إذا ألبنوا وسمنت إبلهم: "كان ربيعنا مملوحا".

وقد تهب بعض الرياح فتنكب الناس بأنفسهم وبأموالهم وتؤذيهم،لذلك يسمونها "النكباء". و "النكباء" ريح انحرفت ووقعت بين ريحين. وهي تهلك المال وتحبس القطر. ذكر إنها تهب بين الصبا والشمال، والجربياء التي بين الجنوب والصبا. وذكر بعضهم إن نكب الرياح أربع: الأزيب، وهي نكباء الصبا والجنوب، مهياف ملواج ميباس للبقل، وهي التي تجيء بين الريحين. وذكر بعض آخر إن الأزيب، هو الجنوب لا نكباؤها. والثانية الصابية، وتسمى النكيباء أيضاً، وهي نكباء الصبا والشمال، معجاج مصراد لا مطر فيها ولاخير عندها. والثالثة الجربياء، وهي نكباء الشمال والدبور، وهي قرة وربما كان فيها مطر قليل، وهي نيحة الأزيب. والرابعة الهَيف، وهي نكباء الجنوب والدبور، وهي نيحة النكيباء.

وقد تأتي السماء بسحب كثيفة من جراد، فلا تهبط مكاناً إلا جردته. والجراد من شر الآفات والنوازل التي تنزل بالزرع، يجرده جرداً وينزل الخسائر بأصحابه، أضف إلى ذلك الأوبئة والأمراض التي كانت تهب بين الحين والحين، فتصيب الإنسان أو الحيوان أو الزرع، وهو عاجز إذ ذاك عن مقاومتها وعن التغلب عليها، نضيف إليها الحميّات التي كانت قد عششت في مواضع المياه،كالعيون، فكانت تصيب الناس، ولا يكاد يسلم منها انسان، فقد عرفت "خيبر" بالحمى، حتى قيل لها "حمى خيبرية"أو "خيبرية" وعرفت يثرب بالحمى أيضاً، وعرفت مواضع من وادي القرى، بالحمى كذلك، كما عرفت "هجر"في العربية الشرقية بهذا الوباء كذلك.

ويتضايق الإنسان في التهائم من أثر الحرارة المتشبعة بنسب عالية من الرطوبة. ودرجات الحرارة فيها وإن كانت دون درجتها في الأماكن الأخرى في الأغلب، غير أن اقترانها بالرطوبة العالية جعلتها حرارة تضايق الإنسان إلى حد مزعج، تبعث على الاسترخاء والكسل، حتى صيرت الجسم خاملاً، خال من الحيوية والنشاط، غير فعّال لا يستطيع أن يعمل بنشاط وهمة أهل الأجواء المعتدلة أو الحارة الجافة. وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الرطوبة في هذه التهائم وتشبع هوائها ببخار الماءفإنها لم تحظ بدرجة عادلة من المطر، يخفف من شدة وطأة الحرارة فيها. ويسقي أرضها سقياً كافياً لتنبت لسكانها ما ينبته الجو الاستوائي المشبع بالرطوبة المذابة في الحرارة المشابه لجو هذه التهائم في البلاد الأخرى. فحرمت من الغابات ومن الأشجار الضخمة ذات الخشب الصلد، ومن الأدغال التي تؤوي الوحوش، ومن المياه الفوّارة المتدفقة، ومن الحشائش، ومن أمثال ذلك مما يرى في البلاد ذات المناخ المشابه، مما يكون ثروة لسكانها، قد تعوض عن حرمانهم من الجو المعتدل أو الجو البارد المنشط.

وتخف الرطوبة ويقل شأنها وتذهب حدتها كلما ابتعد الإنسان عن الساحل، فيزداد الجفاف في الجو حتى يبلغ أقصاه في البواطن، فيشعر الإنسان عندئذ بانطلاق في جسمه وبشيء من النشاط في حركته، وبحدة في ذهنه، لأنه يجد أمامه مناخاً أصح وأصفى من مناخ السواحل، هواؤه جاف في الشتاء وفي الصيف، البرودة فيه في موسم الشتاء أظهر وأبرز من برودة الأشتية في التهائم، واسر فيه في الصيف أخف على الجسم بكثير من حر صيف السواحل. أما المطر،فنسبة سقوطه في الباطن أقل من نسبة هطوله على التهائم وفي العرببة الجنوبية. وقد عوضت الطبيعة أهل البواطن عن شح مطرها هذا، بارسال الوان وأشكال من الأهوية والرياح والعواصف عليهم، تحمل بعضها في أمواجها سحراً عجيباً ينعش الروح والبدن، إذا مس انساناً اًنساه شظف عيشه وغلظ الجو الذي يعيش فيه، وصيره يحس وكأنه ملك الملوك، وصاحب خزائن الأرض، واذا مست عصاه احداً من أصحاب الحس المرهف، أثارت فيه قريحته، فصيرته شاعراً ينظم إحساسه بكلم موزون مقفى، وبشعر غزلي، يتغزل فيه، يتغزل بتلك الأهوية، التي لمست جسمه، وأغرقت فمه ووجهه بقبلاتها الحبيبة المثيرة، التي أنسته أشجانه وما يلاقيه في حياته من ضيق وشح، وهو ما يكاد يفيق من حلم حبه هذا، حتى يفاجأ بأعاصير ورياح الواقع، تعصف به وبخيمته الخفيفة، وبماله، تتلاعب به، وقد ترشق وجهه بموجات متعاقبة من سموم مشبع برمال، تجعله يغمض عينيه ويسدّ فمه، ويبرقع وجهه ببرقع ليقيه من هذه الرياح العاتية التي تحرشت به من غير سبب، مع انه انسان مسكين قنوع، لا دخل له في وجوده في هذا المكان، ولد فيه عن غير عمد ولا اختيار، وسيموت فيه وهو لا يدري لمَ يموت، ولمَ عاش، والى أين ذاهب. فاذا ذهبت وولت، وركد الجو واستقر، جلس تحت خيمته التي لا تقيه من حر ولا من برد، ولا من شمس ولا من مطر: إلا بقدر، ليستجم ويستريح، اًو ليستلقي على أرضها، وليتناول أكله، وهو أبسط أكل يأكله انسان في هذه الحياة من غيرشك.

والسعيد في جزيرة العرب من ولد في مستوطنة ذات ماء. فهو في عيشة هنيئة راضية، في بيت مهما كان نوعه، فإنه أحسن حالاً على كل حال من بيوت الوبر أو الشعر، يستطيع أن يشرب فيه ماءً يتناوله من منبعه، لا من قرب خزن الماء فيها أياماٌ، وأن يرى نخلاً وشيئاً من شجر و خضرة وزرع، وصوت رجال ونساء وأطفال، وبعض بائعين وبائعات. أي حياة جماعة. وهو أكثر سعادة وحضارة إن كانت مستوطنته على ملتقى طرق، تمر بها القوافل لتمتار منها ميرة الطريق، ولتأخذ منها الماء ولتسقي إبلها وترويها، ولتشتري منها ما تجده من حاجات ضرورية ومن منتوجات موضعية، تحتاج إليها، أو يمكن بيعها في مواضع أخرى. وفي هذه المواضع نجد الحضارة الجاهلية ومن آثارها نستنبط التأريخ الجاهلي، وفيها نرى معدن الرقة وموطن اللين والدماثة، لما فيِها من ظرف تهدأ النفس وتريح الأعصاب، فصار أصحابها من ثم ألين عريكة وأسهل انقياداً من الأعراب الذين ولدوا في محيط خشن، ونشأوا من خشونة، فصار طبعهم من ثم غليظاً خشناً، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك، وليس له دخل في ظهور هذا الطبع عنده.

ومن هنا صار أهل اليمن من ألين العرب عريكة ومن أكثرهم تعاوناً فيما بينهم. جاء في الحديث: "إن رجلاء من أهل اليمن قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنا أهل قاه، فاذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر، فقال: أله نشوة ? قال: نعم. قال: فلا تشربوه. قال أبو عبيدة: القاه سرعة الاجابة وحسن المعاونة، يعني إن بعضهم يعاون بعضاً، وأصله الطاعة. وقيل المعنى: إنا أهل طاعة لمن يتملك علينا، وهي عادتنا لا نرى خلافها، فاذا أمرنا بأمر أو نهانا عن أمر أطعناه، فاذا كان قاه أحدنا، اًي ذوقاه أحدنا دعانا إلى معونته. وقال الدينوري: إذا تناوب أهلى الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا وتعاونوا على الدياس، فان أهل اليمن يسمون ذلك القاه، ونوبة كل رجل قاهة، وذلك كالطاعة له عليهم " وجاء في الحديث: "أهل اليمن هم أرق قلوباً، أي ألين، وأقبل للموعظة، والمراد ضد القسوة والشدة".

ومن هنا صار الأعرابي جلفاً صعباً خشناً، يكره كل شيء لا يجده عنده، لا يخضع لسلطان، ولا يستسلم لقيادة أحد إلا لقيادة قبيلته المتمثلة في سيدها إلى غير ذلك من صفات وسمات تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي مواضع أخرى من الأجزاء الباقية.

والماء في أغلب أجزاء جزيرة العرب مقنن قدر بقدر، ليس فيه فيض، ولا زائد يحمله إلى الجري إلى مسافات بعيدة ويكميات كبيرة عن منبعه. ثم هو بين عيون وحسى وآبار محفورة،ومدى موارد هذه المياه مقدر محدود، وهي لا تفيض فيض مياه الأنهار. فلم يتسع زرعها، ولم تتحمل نشوء مجتمعات كبرى عندها، وإنما ساعدت على ظهور مستوطنات، لم تكن حضرية تماماً ولا بدوية تماماً، بل كانت منزلة بين المنزلتين، ودرجة وسطى بين الحضارة والبداوة. تمكنت من إعالة نفسها، بما توفر فيها من مواد أولية، وبما زرعته من نخيل وحبّ وخضر، ومن بيع ما زاد عن حاجتها من حولها والى من كان يقصدها من الأعراب. وأوجدت فيها حرفاً، ولكنها لم تكن حرفاً متطورة ذات انتاج واسع، لضآلة الموارد، ولصغر المجتمع، ولعدم وجود رؤوس الأموال الكبيرة لتشغيلها في استغلال ما قد يكون فيها من موارد طبيعة كامنة أو ظاهرة. وفي تغرير الناس للعمل في استثمارها وفي استثمار الأرض استثماراً واسعاً، ينتج غلة وافرة، وفي مجتمعات صغيرة، ذات موارد محدودة، لا يمكن أن تظهر فيها رؤوس أموال كبيرة، وكيف تبرز رؤوس الأموال في مستوطنات فقيرة، مواردها محدودة، وخيراتها مقننه، وهي في محيط فقير، تتناولها الرياح من كل جهة، وأعين الأعراب الجياع الفقراء لها بالمرصاد.

وقد انتشرت هذه المستوطنات وتناثرت وتبعثرت في أرضين واسعة غلب على طبعها اليباس والجفاف، كسيت بطبقات متفاوتة السمك من الرمال، فحالت بينها وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وبين ظهور حكومات كبيرة قوية في جزيرة العرب. وجعلت من العرب شعوباً وقبائل، متناثرة متشاحنة، ذات لهجات، تشعر كل قبيلة منها، إنها أمة قائمة بذاتها، ولها كيان خاص، ونسب وجدّ، ولاء أبناؤها للقبيلة، ولرمزها: سيد القبيلة ولرؤسائها المتزعمين لفروعها ولأغصانها، أو للمكان الذي أقامت فيه. ومجتمع مثل هذا، حضره في مستوطنات متباعدة صغيرة، وبدوه متباعدون متنافرون متشاحنون، لا أمان فيه للافراد وللتجار وللمسافرين إلا بعقود وبعهود، لا يمكن إن يظهر فيه اقتصاد متين متطور، ذو انتاج متطور متقدم، يفيض على حاجة أهله، فيصدره إلى الخارج، فتخلف اقتصاده، ولم ينتج إلا المواد الأولية البسيطة المتوفرة لديه، مثل التمور والحبوب والخمور والجلود، وهي سلع استهلكت في الداخل، ولم يصدٌر منها إلى الخارج إلا القليل مثل الجلود، ثم هو أخّر الزراعة وعاق أهل المال من البحث عن الماء لخوفهم من تعرضهم لغارات الأعراب الفقراء. وخطر الأعراب على الزرع لا يقل عن خطر الجرادعليه.لذلك لم يقبل المتمكن المتمول استنباط الماء ومن الزرع عليه، إلا إذا وجد نفسه في مكان مأمون وفي موضع محمى له فيه أهل وعشيرة وجوار.

أما السلع المعدنية، فهي من حاصل مواطن الحضر، وهي من حديد، في الغالب،صنعت من حديد استخرج من معادن جزيرة العرب، ومن حديد استورد من الخارج،ومن سلع حديد استوردت من الخارج، إذا استهلكت أعيد سبكها، ثم استعملت من جديد. وأغلبها صناعة سيوف وخناجر، ومساحي ومناجل وما شابه ذلك من مواد ضرورية للحياة في جزيرة العرب. ولم نسمع بتصدير شيء منها إلى الخارج، لأنها لم تكن باًنتاج واسع ولا بأتقان لتنافس السلع المماثلة لهذا في الخارج، بل تجد أن أهل جزيرة العرب كانوا يستوردون أمثالها من الخارج أيضاً، لرخص ثمنها بالنسبة إلى المنتوج المحلي، ولتفوقها على المنتوج العربي في نقاوة المعدن وفي الصنعة والاتقان.

والمعادن في جزيرة العرب، محدودة وبقدر وبشح في الغالب، وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن وجود ذهب وفضة وخامات حديد ونحاس في مواضع من جزيرة العرب. وسأتحدث عنها أيضاً في أثناء بحثي عن الصناعة عند الجاهليين. وهي في العربية الغربية وفي العربية الجنوبية في الغالب. وقد عرفت المواضع التي استخرج المعدن منها ب "المعدن"و "معدن". والمعدن مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه. ولكن استخراج المعدن من منجمه وخامه، يحتاج إلى مال وعلم وأيد عاملة فنية، لها مران وخبرة في الاستخراج وفي التنقية، ليمكن استخراجه بكميات وافرة، وبسعر اقتصادي مناسب، منافس للاسعار العالية في الأسواق الأخرى. وهذه الشروط لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، لذلك لم نسمع بتصديرها من المعادن، إلا الذهب، حيث قدمه السبئيون للاشوريين وللعبرانيين، رشوة وجزية كما تقول الموارد. أما المعادن الأخرى، فلم نسمع في كتب المتقدمين على الإسلام من الأعاجم، ولا في كتابات الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، أنها صُدّرت إلى الخارج.

وأما الأخشاب الصلدة الثقيلة القوية مثل الساج، وهو خشب رزين قوي، ومثل الآبنوس، والصندل، وأمثالها، فغير موجودة في جزيرة العرب، وانما كانت تستورد من الهند في الغالب لعمل السفن وللاغراض الأخرى، لأنها من اشجار تحتاج إلى أمطار وحرارة ورطوبة وهي شروط غير متوفرة في أكثر أنحاء بلاد العرب. وفي بلاد العرب أشجار ذات خشب، نمت في الجبال بصورة خاصة، لذلك عرفت ب "شجر الجبال"، سأتحدث عنها في أثناء بخثي عن الشجر، أمدت أهل العربية الغربية والجنوبية، بشيء من حاجتهم إلى الخشب، حيث استعملوه في البناء وفي الأثاث، لكن أخشابها لم تكن قوية صلدة مثل الأخشاب المذكورة، ثم إن الناس كانوا يقتطعون شجرها ولا يزرعون غيرها في مواضعها، فقلّت، وقل الخشب نتيجة لذلك، حتى ان أهل الأخبار ليذكرون إن أهل مكة لما أرادوا تسقيف الكعبة، لم يجدوا خشباً يصلح للتسقيف،فلما سمعوا بخبر تحطم سفينة رومية عند "الشعيبة"، ذهبوا إلى هناك، وجاءوا بالخشب اللازم للتسقيف من ذلك الميناء. وخشب السراة،وخشب المواضع المرتفعة الأخرى، خشب لا يضاهي خشب الهند أو أفريقية في الصلابة وفي المتانة والصلادة، لذلك لم يستعمل في بناء السفن ولم يساعد في تطوير وسائل النقل في البحار.

أما الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم يكن شجرها من النوع المنتج للخشب الصلد المتين الصالح لصناعة السفن أو لأعمال البناء ولصنع أثاث البيت وغيره، وإذا وجد شجر ذو خشب أنبتته الطبيعة، أو كان من زرع الإنسان، فإنه لم يكن كثيراً ولا كافياً لسد حاجات الناس. ثم إن شجر الطبيعة -ما نبت منه في الجبال، وما أنبت منه في السهول والمنخفصات - مشاع بين أهل المنطقة، يقطعه من يريد، لا يجبر قاطعه على زرع غيره في محله، لذلك قضى عليه هذا القطع والاهمال، وصار الخشب اللازم للنجارة وفي الاْعمال الاخرى قليلاً في جزيرة العرب، مع أنه من الوسائل المهمة الداخلة في تنمية الاقتصاد وفي الترفيه عن الناس وفي رفع مستواهم الحضاري.

ولم تعرف بلاد العرب بتصدير الخضر والاثمار والحبوب. فلم نعثر في الاخبار على خبر يفيد تصدير شيء منها إلى العراق أو بلاد الشام، أو أي بلد آخر خارج حدود جزيرة العرب. بل نجد أنها كانت تستورد الحبوب والدقيق والزيوت من بلاد الشام، وذلك لان موارد الماء فيها لم تمكنها من زرع زراعة كثيفة واسعة، فصارت زراعتها زراعة محلية في الغالب، عمادها الاستهلاك المحلى، أو التصدير إلى الارضن المجاورة للمزارع في داخل الجزيرة وفي المواسم الجيدة وعند ظهور فيض في الحاصل، فصارت لليمامة ريفاً لاهل مكة تمونهم بالحبوب،وكانت سوقاً للاعراب، تمدّهم بالتمور. وكانت الطائف، مزرعة تمد أهل مكة بالاثمار والزبيب.

والجمل في طليعة حيوان جزيرة العرب من حيث الفائدة والشهرة هو رمز البداوة وعنوان الصحارى،والحيوان الوحيد الذي رضي بمصادقة الأعرابي وبتمضية حياته معه، قاطعاً الفيافي والبراري معرضاً نفسه للجوع وللعطش، ولتحمل الحياة الشاقة الخشنة في البادية، مع الأعراب الغلاظ الجفاة، الذين استصعب اخوانهم أهل الحضر العيش معهم، وهو لولاه لما تمكن الأعراب من اختراق البوادي ومن التنقل بها، ولما طابت لهم الحياة فخيامهم من وبره، وشربهم وكسر حدة جوعهم من لبن نياقه، ثم هو طعامهم عند الحاجة، ورأس مالهم، إذا احتاجوا إلى مال. تليه الخيل والضأن والمعز والحمير وغيرها. وهي كلها دونه بكثيرفي تحملّ العطش والجوع ومشقات الحياة،ثم هي لاتستطيع تحمل غلظ الأعراب وصعوية حياتهم، لأنها أكئر رقة من الجمل، لذلك اجتنبت البوادي، وعاشت على المراعي الخضراء وعند مشارف الحضارة، وشاركت الحضر في بيوتهم، فهي من أموال العرب في الغالب، أي الحضر والرعاة الملازمين للمراعي المتصلة بمشارف الحضارة.

ودولة الحيوان في جزيرة العرب دولة صغيرة، إذا قيست بما يجب إن تكون عليه بالنسبة إلى المساحة السطحية. وسبب صغرها إن المراعي الغنية بالعلف اللازمة لتربية الحيوان ولإكثار نسله، لم تكن متوفرة عند اْهل الجاهلية، وان أصحاب الماشية كانوا عالة على الطبيعة، لعسر أحوالهم وعدم تمكنهم من الانفاق على الماشية وتهيئة العلف الصحي اللازم لنمو الحيوان ولاكثار نسله، ثم إن الأحوال الافتصادية لم تكن حسنة وعلى ما يرام، بل كانت منخفضة، وهذا ما حدَّ من الاستهلاك المحلي، وحد من عدد الذين كانوا يمتهنون حرفة تربية المواشي، إلى أسباب أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

والعدد العام لسكان جزيرة العرب، في الجاهلية وحتى إلان هو قليل بالنسبة إلى ما يجب إن يكون عليه إذا قسنا العدد بعدد الأميال المربعة التي تكوّن المساحة السطحية لبلاد العرب. وسبب ذلك إن المسكون المعمور منها، قليل بالنسبة إلى المهجور القفر، والبوادي فيها أوسع وأكثر من الأرضين الصالحة للزرع وللرعي وللسكن وان الموارد المعاشية التي تعيّش الإنسان وحيوانه، لا تكفي في معظم أنحاء جزيرة العرب لأعاشة المجتمعات الكثيفة المكتظة، والمستوطنات الضخمة. فالحسي أو العيون أو الآبار أو البرك، أو ما أشبهها من موارد ماء، لا يمكن إن تستضيف مجتمعاً كبيراً مع توابعه من المواشي، وهي لا تتمكن أيضاً من توفير الماء اللازم لزرع كثيف، ولتهيئة كلأ تعلفه المواشي. لذلك صار حجم مستوطناتها يتناسب مع حجم الماء المتوفر فيها، وانتاجها انتاج محدود، هو حاصل زراعي في الغالب، يختلف قلة وكثرة باختلاف حجم المساحات المزروعة، أي سعة الماء الموجود في المستوطنة.

وفي هذه المستوطنات وفي الأرياف والقرى،تجد الملكية الفردية، بصور متباينة. ملكية دور ثابتة، وملكية مزارع وآبار. فالذي يحضر بئراً وينفق من ماله على حفرها تكون البئر بئره، في امكانه بيع الماء منها للمحتاج إليه، وفي امكانه الزرع عليها، فيكون الزرع زرعه بالطبع، وله بيع حاصله من ثمر أو خضر، أو حب. والذي أقام على مقربة من الحضر، ولا سيما من حضر العراق وبلاد الشام استطاع الاتجار مع تلك البلاد، ببيع ما عنده من ماشية وجلود وبشراء ما كان يحتاج إليه من مواد ضرورية، أو من مواد يتاجر بها مع المستوطنات ومع الأعراب.

فتولد رأس المال في هذه المستوطنات، ولا سيما في الكبيرة منها، ذات الماء الغزير، وجاء الرأس المال بالعبيد لتشغيلهم في الزرع.

أما البوادي وديار الأعراب، فالأرض فيها للقبيلة، ما خلا الاحماء. وأما الماء والكلأ فللجميع، لا يمنع أحد من أبنائها من وروده، وحق الرعي فيها للجميع. لصاحب الإبل حق رعي إبله في أي موضع شاء من حيّه، وله أن ينقل بيته في "دبرته"، ليجد لإبله الكلأ اللازم لها، وأن يذهب إلى الركل ومواضع الماء لأخذ ما في يحتاج إليه من الماء، الذي يكون في الغالب على ساعات أو أيام من بيته. واذا جف الكلأ واختفى خير الأرض، اضطر للانتقال إلى مواضع أخرى، ليجد فيها ما يعلف إبله. وفي هذا المجتمع الاعرابي، ملكية فردية، هي ملكية الخيام وما فيها من أشياء بسيطة وملكية إبل، وبعدد ما يملكه الإنسان من جمال ونوق، تقدر ملكية الأفراد. وفيه شيوع: شيوع في الماء والكلأ والنار. الماء للجميع، ما لم يكن محمياً ولا مملوكاً، والنار للجميع، أي حق الاحتطاب، فلكل حق قطع الشجر وما يراه من زرع نابت غير محمي ولا مملوك.

ومجتمع على هذا النوع من البساطة في الحياة، يكون اقتصاده بالطبع بسيطاً، الجمل والناقة فيه، المال ورأس المال. وكل شيء يقاس فيه على عدد من الناحية الاقتصادية، ما يملكه الإنسان من أباعر ونوق. فهو اقتصاد إبل، الإبل فيه في محل الدراهم والدنانير أو الفضة والذهب. وهو عالم استهلاكه قليل وتصديره قليل كذلك، ليس فيه استهلاك سلع متطورة، وليس فيه انتاج متطور، كل انتاجه الإبل ومشتقاتها وكفى.

وقد حالت البراري بين العرب وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وعرقلت الاتصال بين المستوطنات التي بعثرتها ونشرتها هنا وهناك. وبعثرت الأعراب في البوادي على شكل قبائل وعشائر، تغزو بعضها بعضاً طمعاً في رزق هي في حاجة إليه، وتعقد أحلافاً فيما بينها للدفاع عن نفسها، ثم هي توجه كل أنظارها نحو المستوطنات ومواضع الحضر، لتجد فيها غفلة أو موضع ضعف تدخل منه إلى ديارهم لتأخذ منها كل ما يمكن أخذه، وكل شيء يقع في أيديهم هو ثمين بالنسبة لهم، لأنهم لا يملكون شيئاً، والذي لا يملك شيئاً ويجهل قيم الأشياء يحسب كل شيء يقع في يديه ثميناً له قيمة، وهكذا صارت البوادي والأعرابية من عوامل القلق وعدم الاستقرار في جزيرة العرب،ومن عوامل التحاسد والتباغض والتناحر فيما بين سكانها لأتفه الأسباب، حتى صارت من الأمراض المستعصية عند العرب، التي لا تزال باقية حية. وفي ظروف من هذا النوع، لا يمكن أن يظهر فيها اقتصاد متطور وانتاج كبير، وان يرتفع مستوى حياة الناس، فتأخر اقتصاد سكان جزيرة العرب، وغلب على سواد الناس. وهبط بينهم مستوى المعيشة، حتى اضطر البعض إلى وأد بناتهم خشية املاق، أو بيع أولادهم من جوع وفقر.

وقد وجدت هذه الروح الأعرابية بين الخضر كذلك، نجسمت في العصبية للحي وللقرية، وفي تناحر الزعماء على الزعامة والملوك على الملكية، حتى في اليمن التي تمثل النموذج الحسن للانسان الحضري الطيع الهادىء،نجد الملوك يحاربون بعضهم بعضاً، والزعماء يثورون على ملوكهم لأخذ عروشهم، مما حمل الحبش والفرس والروم على التدخل في شؤونها، فدمرت المدن والقرى والمستوطنات، وأحرق الزرع، وتباهى الملوك والثوار بعدد ما أحرقوه من مدن وقرى وزرع، ومحيط تسوده الفتن والقلاقل والحروب لا بد وان يتأثر اقتصاده بها، وأن يتأخر زرعه وعمله، وكيف يعمل الإنسان ويجازف بماله، وهو غير مطمئن على حياته ولا واثق من يومه ولا مما سيأتيه به الغد من مصائب وأحزان ! لقد حالت البوادي بين العرب وبين ظهور اقتصاد متقدم متطور عندهم، يقوم على تحويل المواد الأولية، أي المواد الخام إلى مواد أفيد منها وأهم، والى انتاج كبير راق، يجلب لهم دخلا طيباً يرفع من مستواهم. فساءت أحوالهم وغلب الفقر عليهم. وصار معاشهم ضيقاً، وحياتهم الاقتصادية متأخرة، اًغلب منتجاتهم بسيطة، ليس فيها تطوير ولا تنويع، ولا تصنيع، وليس في أسواقهم مشترون جيوبهم منتفخة بالعملة، ليجازف التاجر بجلب سلع متنوعة إليها،فصارت سلعهم قليلة، اقتصرت على السلع الضرورية جداً للبيت، وعلى الناتج الطبيعي استحصل من الزرع أو من الحيوان: من الحاصل المحلي في الغالب.

وقد أوجد عدم التناسق والتناسب والاتزان بين نسب توزبع الخصب إلى الجدب تبايناً كبيراً في كيفية توزيع الناس، فجعل السكان ثلاث طبقات: أهل مدر، وهم حضر مستقرون، وهم أرقى أهل جزيرة العرب. وأهل وبر، وهم أعراب يقطنون البوادي. وطبقة ثالثة، كانت بين بين، ووسط بين الحضر وبين البدو، عاشت على اتصال ومقربة من الحضر، لم تبتعد عنهم، ولم تفارق الماء والحضارة، بل لازمتهما، ولم تمعن في البادية إلا في أيام الربيع عند نزول الغيث واخضرار الأرض،فتبتعد عندئذ بماشيتها إلى البادية لتنعم هناك بنعمة الربيع. وهي جماعة الرعاة. والرعاة قوم بين الحضر وبن الأعراب. كانوا متنقلة في الأصل، فما قاربوا الماء والحضر، تأثروا بالظروف الجديدة، فاستقروا بعض، الاستقرار، وأضافوا إلى رعاية الإبل، رعاية البقر والغنم والخيل. وكان هؤلاء مادة الحضر في الغالب، والجرثومة التي كونت المجتمع الحضري.

واقتصاد الأعراب اقتصاد واحد، وان تنوع أصحابه قلوا أو كثروا، قبائل كانوا أم عشائر أم أفخاذ. لأن جذوره وأسسه واحدة،هي البادية وتربية الإبل، وليس في البادية غير كلأ وعشب وشجيرات أو أشجار، تعلف أوراقها وأغصانها الإبل، وبحتطبها الجو لبيع حطبها من أهل الحضر إن كانوا على مقربة منهم، أو لأستعماله وفوداً لهم، أو فحماً يبيعونه للحضر، وليس فيها غير "وبر"، وشيء من الملج، يحملونه إلى أهل الحواضر لبيعه منهم. وأما مشترياتهم، فبسيطة،تمور ودقيق وأبسط أنواع الثياب وما يحتاج البيت اليه من مواد. واقتصاد من هذا النوع، لا يساعد على ظهور رأس مال كبير، وعلى حدوث تطوير في الصناعة،لذلك تخلف اقتصاد الأعراب عن اقتصاد المستوطنات والقرى بدرجات ودرجات.

أما اقتصاد أهل الحضر، فإنه اقتصاد متطور بالقياس إلى اقتصاد الأعراب: اقتصاد البداوة، أو اقتصاد بدوي إن شئت تسميته بذلك. اقتصاد الحضر متفاوت في الدرجات، أبسطه اقتصاد المستوطنات الصغيرة المنتشرة في بواطن جزيرة العرب وأعلاه اقتصاد المدن الواقعة في أطراف ألجزبرة وعلى سواحل البحر وفي أرضين خصبة غنية بالماء وبالزرع وقد برز بعض أهل تلك المستوطنات في التجارة، وبرز بعض آخر بالزراعة، وجمع بعض آخر بين الزراعة والحرف اليدوية القائمة على أساس تحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات أخرى، أو تحويل الجلود إلى أدم، أو تحويل المواد الأولية المتيسرة إلى مواد ذات ضرورة للمجتمع. وهي إما استهلاكية، تُوجِرَ بها فى ألأسواق الداخلية، وإما انتاجية،صنعت للاستهلاك المحلي وللتصدير.

ومن أبرز المستوطنات التي ظهرت في باطن جزيرة العرب، مستوطنات اليمامة، والمستوطنات التي ظهرت على الأودية ومواضع الماء. وقد عاشت على الزراعة وتربية الماشية، وموّنت الأعراب باًلتمور، ومو"نت اطجاز باًلحبوب، ومنها ما كانت ملتقى طرق برية، ربطت العربية الجنوبية باًلعراق، ومنها ما ربط بين العربية الشرقية وبلاد الشام. وأنا آسف، لأن أقول إن معارفنا عن المستّوطنات قليلة، لعدم وصول شيء في النصوص الجاهلية عنها، ولعدم تطرق اهل الأخبار إليها، إلا عندما يكون لذكرها صلة بالأيام أو بالشعر أو بالحوادث البارزة جداً التي وقعت قبيل الإسلام، أو التي كان لها اتصال بظهور الإسلام.

وأما المستوطنات التي برزت وظهرىَ في أطراف الجزيرة، فهي عديدة " أشهرها وأعرفها وأعرضها ذكراً مكة والمدينة. مكة في التجارة، والمدينة في الزراعة. ولا يعني ذلك،إن المدينتين المذكورتين كانتا أعظم المستوطنات المذكورة، وأبرزهما في التجارة والزراعة عند ظهور الإسلام، وان البقبة الباقية، لم تكن لاحقة بهما في الناحيتين. فقول مثل هذا لا يمكن إن يجزم به مؤرخ حصيف، وانما جاءتهما هذه الشهرة بفضل الإسلام،فقد ظهر الإسلام في المدينتين المذكورتين، ونزل القران الكريم فيهما، وأشير فيه إلى أمور عديدة وقعت بهما،وعاش الرسول فيهما، فمن هنا صار اهتمام العلماء وأهل الأخبار بهما أكثر من سائر مواضع جزيرة العرب، ولا سيما المواضع البعيدة النائية عن المدينتين، والتي لم يكن لها اتصال متين بظهور الإسلام، ومن هنا كثرت أخبارهما، حتى ظن الناس، إن مكة قبل الإسلام، كانت أرض التجارة والتجار، وقبلة جميع العرب، ومجمع أصنام كل العرب، وموضع تكدس الأموال، وبلد الربا والمرابين. وهو استنتاج أخذ من الروايات التي قصها أهل الأخبار عنها دون نقد ولا تحليل. ولكننا لو استعرضنا ما ذكره أهل الاْخبار أنفسهم عن هجر وعن البحرين وبقية العربية الشرقية، فانه يرينا على قلته، إن مدن وقرى هذا الجزء من جزيرة العرب، لم تكن أقل درجة في المال والتجارة والانتاج من مكة أو المدينة، إن لم تكن قد تفوقت عليهما بالفعل،.دليل ما جاء في أخبارهم عن مقدار الزكاة والصدقات التي أرسلها عمال الرسول والخلفاء إلى المدينة، فانها تدل على وجود تجارة وأعمال في هذه الأرضين ربما كانت قد فاقت أرباح وأعمال أهل مكة، لكننا لا نعرف عنها شيئاً، بسبب عدم اهتمام المؤرخين والأخباربين بأخبارها في الجاهلية، لعدم وجود صلة لها بتأريخ الإسلام، أو بسبب عدم وقوفهم على أخبارها، فلم يتطرقوا لذلك إلى شيء من أحوالها بصورة مفصلة،فظهرت وكاًنها قد تأخرت عن مكة من النواحي الاقتصادية بكثير. وصارت مكة،بذلك،الموطن المتفوق الأول في المال وفي الزعامة وفي كل شيء في جزيرة العرب.

لقد أثر الجو اذن على اقتصاد جزيرة العرب، كما أثر عليهم في كل شيء، حتى صيرهم على النحو المعروف، لهم خصائصهم وصفاتهم المميزة لهم عن غيرهم، ولو كان للعرب جو مثل أجواء أوروبة، لكان شأنهم ولا شك في التأريخ شأن آخر. على كل، فقد كتب عليهم أن يعيشوا في الجو المذكور، وكان من نصيبهم في هذه الحياة حرارة وجفاف، وحرارة ورطوبة، وأرضون غلب عليها اليبس والجفاف، فصارت موارد رزقهم شحيحة في الجاهلية، وتخلفوا عن غيرهم في الانتاج وفي الابداع، وغلب على سوادهم الفقر. والفقر كافر لا يرحم، ولولا "النفط"اليوم، الذي جاء على عرب القرن العشرين بالمال، لما تضخمت جيوب الأسياد، وبنيت القصور الشاهقة الضخمة بالملايين من الجنيهات، وأملى إن يكون هذا إلمال سبباً في استغلال العرب أنفسهم لمواردهم الظاهرة والباطنة، وأن يكون سبباً من أسباب التعمير، لا الانفاق والتبذير، وأن يحول الطاقات المهملة إلى طاقات منتجة، قبل أن يأتي يوم تنضب فيه آبار النفط، أو إن يموت النفط فيه أو يهمل،بسبب العثور على موارد تكون أحسن نوعية وأقل كلفة منه.

لقد جعل هذا الجوّ العرب - كما سبق أن ذكرت - قبائل وشعوباً متنابذة متخاصمة، متحالفة متعاقدة متآخية، متطرفة في كل شيء، متطرفة في حبها وفي اخلاصها، متطرفة في الوقت نفسه في بغضها وفي حقدها، تميل إلى المادة إلى درجة العبادة، ثم تتطرف في أمور عاطفية بعيدة عن المادة والماديات بعداً كبيراً، تمجد العقل والتعقل، وتقيم وزناً كبيراً للحكمة ولضرب الأمثال، حتى ليخيل إليك أن كل أفعال الناس وأعمالهم إنما تصدر منهم عن عقل وحكمة، لكنك سرعان ما تصطدم بوجود واقع آخر، هو واقع تغلب العواطف على العقل، وانصياعهم إلى الانفعال وسرعة التأثر وفقدان الوزن بين الأمور بميزان العقل، وتركهم أنفسهم فريسة لهذه العواطف، تعبث بهم في حياتهم، ولا تزال تعبث بهم الان. تراهم كرماء،يقدمون أعز شيء عندهم لضيوفهم، بإسراف وتبذير، ثم تراهم بخلاء يحرصون على أتفه الأشياء أحياناً حرصاً يدفعك على الاستغراب من وجود هذا التضاد في الأخلاق، أو ما نسميه بازدواج الشخصية في اصطلاح المحدثين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.

لقد أثرت الطبيعة اذن في تكييف اقتصاد الجاهليين وفي تعيين موارده، وفي توجيههم توجيهاً تجارياً في المواضع التي قلّ فيها الزرع، مثل مستوطنات الأطراف حيث نجد أهلها يميلون إلى التجارة، ويرون فيها مهنة من أشرف المهن،وتوجيهاَ زراعياً في المواضع التي توفرت فيها شروط الزراعة، وتوجيهاً رعوياً في المواضع الأخرى، لا سيما بين الاعراب. فلندخل الآن في استعراض هذا التوجيه وفي دراسة الموارد الطبيعية لجزيرة العرب، وفي دراسة كيفية تعامل أهل الجاهلية في الاسواق، بعد أن قدمنا مقدمتنا القصيرة عن أثر الطبيعة في الاقتصاد.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق