إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 17 يوليو 2014

50 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: سادسا : حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ الإسلامي:


50

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

سادسا : حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ الإسلامي:

يمكن القول بأن عماد الذين زنكي استطاع أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه وأن يكون لنفسه مكانه خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واع أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قِبل الصليبيين فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بمقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات تستطيع أن توقف الزحف الصليبي، ومن ثم تبدأ بالهجوم المنظم على قواعد الصليبيين هذه العوامل التي دفعت زنكي إلى اتباع سياسة الهجوم، والتي تخللتهاا أحياناً علاقات سلمية ومعاهدات استدعتها طبيعة الظرف الذي كان يمر فيه وفي نفس الوقت، عمل زنكي على تأمين حدود إمارته باتجاه الشرق والشمال الشرقي، حيث يشكل الأكراد والتركمان في هذه المناطق عناصر خطر بالغة ضد إمارته، لاسيما عند تأزم علاقاته بالإمارات الغربية، أو عند توغله بعيداً عن مقره في الموصل () . ومن تم تبدو لنا واضحة أهمية الدور الذي لعبه زنكي في التاريخ الإسلامي إذ يعتبر أول قائد قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي ملم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكين 502 - 507ه وإيلغازي وبلك الأرتقيين 512 – 518ه () ومن المرجح أنه لو تمكن زنكي من فتح دمشق وإنجاز محاولته لتوحيد الشام، ولو لم يقتل – وهو في قمة انتصاراته ضد الصليبيين – لكان قد استطاع أن يستكمل الأجزاء المتبقية من برنامجه، ولتكاملت أمام الباحث الحديث الصورة الواضحة للدور الذي قام به في التاريخ الإسلامي، وهو دور فاصل تتضح خطورته، إذا عرفنا أن نور الدين محمود، ومن بعده صلاح الدين لم تكن جهودهما سوى اتمام العمل الذي بدأه عماد الدين زنكي وفي نفس الطريق ().





يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

49 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 10-من أساليب عماد الدين زنكي في محاربة الصليبيين:


49

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

10-من أساليب عماد الدين زنكي في محاربة الصليبيين:

لم يقتصر عماد الدين زنكي، في قتاله للصليبيين على الحروب النظامية، فحسب، إذ كان ذلك يقتضي منـه البقاء باستمرار في بلاد الشام، واستنفاد قواه في قتال أعدائه هؤلاء، وعدم تمكنه – بالتالي – من التفرغ لتصفية مشاكله العديدة في العراق وأدرك أهمية الاستفادة من الغارات، أي الهجوم والإنسحاب السريع، سيما في فترات غيابه عن الشام، ذلك أن هذا النوع من القتال سيتيح له الحصول على نتائج هامة، أولها أقلاق الصليبيين وعدم أعطائهم المجال لإعادة تنظيم قواتهم، ورسم الخطط الهجومية على مواقع المسلمين في المنطقة، ومن ثم تمكين هؤلاء من الدفاع عن مراكزهم والاحتفاظ بها، وثانيها إضعاف قوى العدو العسكرية والاقتصادية، بما تحدثه – هذه الحروب – من قتل وأسر ونهب وتخريب، وثالث تلك النتائج قطع الاتصال بين المراكز الصليبية شمالي الشام، وعدم إعطائهم الفرصة للتجمع وتوجيه ضربة موحدة ضد المسلمين () ، وقد اعتمد زنكي في هذا النوع من القتال على محاربي التركمان، ومهد لذلك بتوثيق علاقاته بقادتهم وإسناد كبرى المناصب الحربية إليهم وقد عمل زنكي على توفير القيادة الحاذقة من التركمان ايتكين، ولجة التركي والياروق وغيرهم، والمحاربين الشجعان، للقيام بشن ما يطلق عليه اليوم حروب المقاومة والعصابات، وجعل من حلب مركزاً لهم نظراً لأهمية موقعها بالنسبة للحصون الصليبية والإسلامية على السواء، فهي تتوسط أنطاكية والرها الصليبيتين، وتسيطر على خطوط المواصلات بينهما، كما أنها تعد خير قاعدة عسكرية لتوجيه الهجمات السريعة ضد مواقع وتحركات الصليبيين، وقوافل امدادهم وتموينهم وقد قامت هذه الجماعات من التركمان بشن غارات عديدة ضد جيوش الأعداء ومعسكراتهم، وقوافلهم ومراكز تجمعهم، ولم تخل سنة من سني الصراع وحروب العصابات كان يقوم بها هؤلاء التركمـان، ويلحقون – بفضلها – خسائر مختلفة في صفوف أعدائهم، ففي رجب من عام 524ه على سبيل المثال جهز زنكي قوة عسكرية أغارت على عزاز الصليبية وعاشت في بلاد جوسلين أمير الرها () وفي العام التالي حدث اشتباك بين سوار وجوسلين، شمالي حلب، أسفر عن انتصار الصليبيين ومقتل عدد من المسلمين، مما دفع سوار إلى القيام بهجوم على ربض الأثارب، والاستيلاء على مقادير من أمـوالهم ومحاصيله ثم ما لبث، بعـد عام واحد 526ه أن أوقع بصليبي تل باشر وقتل منهم خلقاً كثير () ولم يتوقف سواء وجنده التركمان عن شن الغارات ضد الصليبيين كلما اتيحت الفرصة لذلك، وشهد صفر من عام 527ه عدة اشتباكات بين الطرفين، وقع أحدها بالقرب من قنسرين، أثر قيام بلدوين بيت المقدس بمحاولة للهجوم على أطراف حلب، حيث تصدى له سوار، وجماعة من جنده، وأسفر القتال عن هزيمة المسلمين وإنسحابهم إلى حلب، إلا أن قائدهم الشجاع ما لبث أن خرج بهم ثانية ووقع على طائفة منهم فأوقع بهم وأكثر القتل والأسر، وانهزم من سلم منهم إلى بلادهم وعاد إلى حلب حاملاً معه رؤوس القتلى والأسرى وكان يوماً مشهوداً () ، ولم تمض سوى أيام قلائل حتى قام صليبيو الرها بمحاولة جديدة للإغارة على أعمال حلب، فخرج إليهم سوار يصحبه الأمير حسان البعلبكي أمير منبج، وأوقع بهم على حين غرة، وتمكن من إبادة عدد كبير منهم، وأسر الباقين، ثم قفل عائداً إلى حلب دون أن يصاب أحد من جنده بأذى () وفي جمادي الآخرة من نفس العام قام سوار على رأس قوة من الفرسان بالأغارة على تل باشر، فتصدى له صليبيو ذلك الموقع، إلا أنه تمكن من هزيمتهم، وحصد رؤوس ألف رجل، حملها معه إلى حلب () . وفي ربيع الأول من العام التالي سار صاحب موقع القدموس الصليبي إلى قنسرين، على رأس قوة من فرسان أنطاكية، فلقيهم عسكر حلب بقيادة سوار وأسفر القتال عن انتصار الصليبيين واضطر قائد زنكي إلى مصالحتهم، إلا أنه ما لبث أن باغت إحدى سرياهم بهجوم سريع وتمكن من قتل معظم أفرادها، ثم قفل عائداً إلى حلب: فسر الناس بذلك بعد مساءتهم، ولم يمض سوى وقت قصير حتى أغار فرسان الرها على أطراف حلب الشمالية في طريقهم إلى إحدى المعسكرات الصليبية فأوقع بهم سوار وحليفه أمير منبج، وأباد عدداً كبير منهم، بينما وقع معظم الباقين في الأسر () ، ثم ما لبث سوار أن قام – في نفس العام – بغارة واسعة على المواقع الصليبية في منطقة الجزر () ، وزردنا، وأوقع بأعدائه عند حارم تم عاد إلى حلب محملاً بالغنائم والأسلاب () ، وأخذ نطاق الغارات والهجمات المفاجئة يتسع شيئاً فشيئاً، وشهد رجب من عام 530ه محاولة واسعة قام بها سوار، إذ سار على رأس ثلاثة آلاف فارس من التركمان وفاجأ بلاد اللاذقية وأعمالها بهجوم مباغت لم يكن الصليبيون يحسبون له أي حساب، وتمكن بذلك من أسر سبعة آلاف أسير، والحصول على مقادير كبيرة من الغنائم، واجتياح عشرات من القرى والمزارع الصليبية ملأ المسلمون أيديهم منها بالأسرى والغنائم، وقد استبشر مسلموا المنطقة أيما استبشار لهذا النصر الكبير الذي أحرزه سوار، والذي كان بالنسبة لصليبي الشمال نكبة لم يمنوا بمثلها () والواقع أن ما شاهدته أنطاكية، خلال عامي 529ه،530ه من فتن داخلية بسبب النزاع على الحكم، أسهم إلى حد كبير في عجز هذه الإمارة عن الدفاع عن نفسها إزاء هجمات المسلمين () الأمر الذي دفع قائدهم إلى استغلال الفرصة وتحقيق نصر كبير ضد صليبي الشمال وفي أواخر العام التالي قام سوار بهجوم مباغث ضد سرية بيزنطية كبيرة العـدد، كانت تتقـدم شرقاً، وتمكن من قتل وأسر عدد من أفرادها تم قفل عائداً إلى مقره في حلب () ، ولم تمض سوى أشهر معدودات على هذا الهجوم حتى قام الصليبيون والبيزنطيون بإرسال قوات مشتركة لاحتلال قلعة الأثارب القريبة من حلب، وبعد أن حققت هذه القوات هدفها، وأوكل إليها حراسة أسرى المسلمين الذين جمعوا في هذا الموقع. إلا أن سوار ما لبث أن خرج على رأس قواته وهاجم الحامية الصليبية والبيزنطية، وتمكن من استخلاص معظم أسرى المسلمين من أيديهم، وعاد بهم إلى حلب التي عمها السرور وسادتها الأفراح لهذا النصر الذي حققه أميرها () وفي عام 533ه هاجم سوار عدداً من المواقع الصليبية واستولى على بعض الغنائم، إلا أن فرسان الصليبيين تمكنوا من اللحاق به وإنزال هزيمة بقواته أسفرت عن أسر ما يزيد عن ألف فارس منهم، وانسحب هو إلى حلب بمن سلم من جنده () واستمرت المناوشات بين الطرفين طيلة السنين التالية، وأصابها بعض الفتور خلال عامي 534ه - 535ه . أثر فشل زنكي في الاستيلاء على دمشق، وتحالف الصليبيون والدمشقيون ضده إلا أن هذه المناوشات ما لبثت أن استعرت من جديد في عام 536ه والسنين التي تلته، ففي الأشهر الأولى من هذا العام قام الصليبيون بهجوم سريع ضد بعض المواقع الإسلامية غربي حلب، ولدى تفرقهم، أرسل سوار قوة من التركمان بقيادة ابنه علم سبيل تحقيق برنامجه المزدوج أي تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين وقد اتضح لنا من خلال استعراض علاقة عماد الدين زنكي بالقوى الإسلامية كامارات المدن والإمارات المحلية في الجزيرة والشام، والقبائل الكردية والتركمانية – مدى قدرته السياسية وبراعة خططه العسكرية خلال علاقاته السلمية والحربية مع هذه القوى المنبثة في المنطقة، فهو من الناحية الرسمية كان قد تسلم من السلطان السلجوقي "محمود بن محمد بن ملكشاه " عام 522ه منشوراً يقر سلطته الشرعية على الموصل والجزيرة والشام، وقد تأكد هذا المنشور خلال الأعوام التالية. إلا إنه لم يكن كافياً لتثبيت سلطته الفعلية في هذه الفترة التي استطاع فيها عدد كبير من الأمراء أن يفرضوا سلطتهم على عدد لا يحصى من المدن والأقاليم، مستقلين إلى حد كبير عن السلطة السلجوقية ومستفيدين من مجموعة من العوامل الشخصية والسياسية والجغرافية والاقتصادية والبشرية، فكان لابد لزنكي إذن، من إخضاع هذه العدد الكبير من السلطات المتمركزة في المنطقة، ومن اختيار أسلوب الهجوم، منُذ البداية بالرغم مما يحيق بهذا الأسلوب من أخطار أولها احتمال تشكيل حلف دفاعي مضاد من الأمراء العادين وقد يتحول هذا الحلف فيما بعد إلى حلف هجومي، كما حدث بالنسبة للأراتقية وثاني تلك الأخطار عدم وجود خط رجعة في حالة إنكساره أو إنسحابه أمام الأمراء المحليين الذين كانوا يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم. إلا أنه لم يأبه لهذه الأخطار، وراح يهاجم الأمراء المحليين منُذ البداية، دفعه إلى ذلك طموحه وشجاعته الشخصية، وإطمئنانه إلى قاعدة شعبية تحبه وتخلص له لمواقفه السابقة تجاه الصليبيين، قبل أن يتولى الحكم في الموصل، كما ساعده على ذلك منشور السلطان، آنف الذكر بتسلم الموصل والجزيرة والشام، وما كان يتضمنه من اعتراف بحرية زنكي في الاشتباك مع التشكيلات السياسية المحلية واكتساحها، والتوسل بأية وسيلة يراها مناسبة لتحقيق هذا الهدف () ، ولكن الأهم من ذلك كله ما تمتع به زنكي من مقدرة سياسية وعسكرية وما تميز به من نظر بعيد. ذلك أنه عرف – منُذ البدء – أنه إذا ما سلك سبيل المسالمة والتودد تجاه الأمراء المحليين فإن حصونهم ومدنهم وإماراتهم ستظل تشكل عوامل خطر ضد إمارته، لقربها منها، ولاستراتيجية مواقعها إذ تشكل نقاط تسلط مرتفعة، إنحدارها باتجاه الموصل، وخطوطها الخلفية سلاسل جبلية وأنهار متشابكة وحصون منيعة. كما أن السياسة الانعزالية التي اتبعها أولئك الأمراء تجاه الخطر الصليبي المتقدم نحو الشرق، وما تبع ذلك من تشتيت لإمكانات المسلمين البشرية والعسكرية والاقتصادية، قد أدت إلى عجز هذه الإمارات عن الوقوف بوجه هذا الخطر الصليبي الزاحف هذا في الوقت الذي كان على زنكي فيه أن يعمل على إزالة العقبات التي تقف أمام توحيد الإمارات المتفرقة، المبعثرة، في جبهة إسلامية موحدة الدين، أغارت على المواقع الصليبية وتوغلت إلى أسوار أنطاكية، تم عادت تحمل معها كثيراً من الغنائم والأسلاب () وبعد فترة قصيرة أغار لجة التركي على بعض المناطق الصليبية في الشمال فساق وسبى وقتل، وذكر أن عدد القتلى بلغ سبعمائة رجل () ، وفي رمضان من العام نفسه هاجم سوار معسكراً صليبياً عند جسر الحديد، إلى الشمال الشرقي من أنطاكية، بعد أن اجتاز بقواته نهر العاصي صوب تجمعات العدو، وتمكن من قتل معظم أفراد المعسكر، وأسر الباقين () ، وما لبث أمير أنطاكية أن خرج – في العام التالي – للأغارة على وادي بزاعة القريب من حلب، فتصدى له سوار وأجبره على الإنسحاب. وتمكن جوسلين من الفرصة فقام بهجوم على تجمعات المسلمين عند ضفاف الفرات، وتمكن من أسر تسعمائة رجل منهم، تم أرتأى الطرفان عقد هدنة بينهما لم يكن لأمير أنطاكية نصيب فيها () ، وهكذا ظل القتال مستمراً بين هذه الإمارة وقوات حلب وعندما خرجت طائفة كبيرة من تجار أنطاكية وفي جمادي الأولى من عام 538ه - تحرسها قوة من الفرسان في طريقها إلى بعض البلاد الصليبية المجاورة ومعها مال كثير وأموال ومتاع باغتها المسلمون، وأوقعوا بهـا، وتمكنوا من إبادة كافة أفراد القوة التي خرجت لحمايتها، وغنموا ما كانت تحمله من بضائع قيمة () وفي أواخر ذي القعدة من العام نفسه هاجمت مجموعة من فرسان حلب قوة من الفرسان الصليبيين الخارجين من فرسان حلب قوة من الفرسان الصليبيين الخارجين من باسوطا وأبادوهم، وأسروا صاحب باسوطا حيث اعتقله سوار في حلب ().




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

48 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 9- الأحداث العسكرية بعد فتح الرها:


48

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

9- الأحداث العسكرية بعد فتح الرها:

كان فتح الرها بداية لها ما بعدها، إذ لم يكن من الصعب على عماد الذين زنكي أن يستكمل مهمته بفتـح بـاقي المعـاقل الصليبية التابعة لهذه الإمارة، فاستغل فرصة تضعضع أحوال الصليبيين في المنطقة () ، واتجه إلى سروج التي تخلت حاميتها عنها مولية الفرار واستولى عليها، وما لبثت الحصون المجاورة أن أخذت تسقط في يديه واحدة تلو الأخرى () ، وجعل لا يمّر بعمل من أعمالها ولا معقل من معاقلها، إلا سّلم إليه في الحال ()  ، تم يمم وجهه صوب قلعة البيرة الحصينة المطلة على الفرات، وكانت من أهم الحصون التي تبقت لجوسلين الثاني، وأشدها مناعة ففرض الحصار عليها وقطع عنها ما كان يصل إليها من القوت والميرة والمعونة حتى أشرفت على الاستسلام، وحينذاك بلغ زنكي نبأ مقتل نائبه في الموصل فاضطر إلى فك الحصار والإسراع بالتوجه إلى مقر إمارته لإقرار الأوضاع فيها: إلا أن صليبي الحصن خافوا من مهاجمته إياهم ثانية، فأرسلوا إلى حسام الدين تمرتاش الأرتقي وأعلموه برغبتهم في التنازل له عن موقعهم هذا، قبل أن يسقط بيد عدوهم اللدود. وهكذا فقط صليبيو الرها كافة حصونهم الواقعة شرقي الفرات () ، كنتيجة مباشرة لسقوط القاعدة الأم بيد زنكي، ولم يتبق لجوسلين من إمارته الواسعة سوى عدد من الحصون المنتشرة غربي الفرات كتل باشر ومرعش ودلوك وسميساط وعينتاب وعزاز () واستطاع نور الدين محمود – فيما بعد – أكتساحها جميعاً، ومحو أولى الإمارات الصليبية من الوجود ().



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

47 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 8- مدح الشعراء لعماد الدين عند فتح الرها :


47

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

8- مدح الشعراء لعماد الدين عند فتح الرها :

إن كثيراً من الباحثين والكتاب لم يهتموا بالأدب في الحروب الصليبية، بل إن الكثير منهم أطلقوا عليه أدب الإنحطاط، آخذين بأقوال وآراء المستشرقين الذين رغبوا في أن نبتعد عن دراسة تاريخ وأدب هذه الحروب لأسباب كثيرة منها رغبتهم في عدم إطلاعنا على وحشية الصليبيين وقسوتهم، ثم حتى لا نشعر بالعزة والفخر ونحن نقرأ عن تاريخ الأبطـال المسلمين عـرباً وأكـراداً وأتراكاً – يقودون الجيوش وهم يحملون راية الإسلام – مقاتلين ومجاهدين ومنتصرين يترفعون عن القوميات والوطنيات الجاهلية وتجمعهم حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته، إن أدب هذه الفترة ما زال بحاجة إلى دراسات مستفيضة، ثم إلى إعادة تقييم وحينئذ سنجد أن آراءنا قد تغيرت تغيراً إيجابياً لإننا سنجد فيه الكثير مما يستحق الدراسة وسنجد الكثير من الأشعار اللطيفة الرقيقة في الحماسة ووصف المعارك ومديح الأبطال وسنجد الشعر الحزين الباكي في رثائهم () وهذه باقة طيبة من الأشعار متعلقة بفتح الرها ومدح عماد الدين زنكي فقد وصف ابن الأثير جيش عماد الدين في خروجه لفتح الرها فقال:


بجيش جاش بالفُرسان حتى
          
    ظننت البَّر بحراً من سلاح
      
وألسنة من العذبات حُمْر
          
    تخاطبنا بأفواه الرَّياح
      
وأروع جيشه ليلٌ بهيم
          
    وغُرَّته عمود للصباح
      
صفوح عند قدرته ولكن
          
    قليل الصفح ما بين الصفاح
      
فكان ثباته للقلب قلباً
          
    وهيبته جناحاً للجناح ()
   

أ- القيسرني يمدح عماد الدين في فتح الرها: قال الشاعر:


هو السيف لا يغنيك إلا جلاده
          
    وهل طّوق الأملاك إلا نجاده
   

لقد كان لهذا الفتح رنة فرح في نفوس الناس وبفتح الرها تغيرت نظرة الفرنج إلى قوة المسلمين، وأعادها عماد الدين زنكي إلى ديار الإسلام بعد أن حكمها الفرنج نصف قرن ومما جاء في القصيدة:

وعن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظُّبي
          
    سناها وإن فات العيون اتقاده
      
سمت قبة الإسلام فخراً بطوله
          
    ولم يك يسمو الدين لولا عماده
      
وذاد قسيُم الدَّولة ابنُ قسيمها
          
    عن الله مالا يُستطاعُ ذيادة
      
لِيَهْنِ بي الإيمان أمنٌ ترفَّعَتْ
          
    رواسيه عزَّاً وأطمأنَّ مهادة
      
وفتحٌ حديثٌ في السماع حديثه
          
    سهيُّ إلى يومِ المَعَادِ مُعَاُده
      
أراح قلوباً طِرْن من وُكُناتِها
          
    عليها فوافى كلَّ صدر فؤادُهُ
      
لقد كان في فتح الرُّها دلاِلة
          
    على غير ما عند الُعلُوجِ اعتقاده
      
يُرَجُّون ميلاد ابن مريم نصرة
          
    ولم يُعْنِ عند القوم عنهم ولاده
      
مدينة إفك منُذ خمسين حِجَّة
          
    يِفلُّ حديد الهند عنها حداده
      
تفوتُ مدى الأبصار حتى لو أنها
          
    ترقت إليه خان طرْفاً سواده
      
وجامحةٌ عزَّ الملوكَ قِيادُها
          
    إلى أن ثناها من يعزُّ قياده
      
فأوسعها حرَّ القِراع مُؤيَدٌ
          
    بصيرٌ بتمرين الألدَّ لِدَادةٌ
      
كأنَّ سنا لَمْعِ الأسنَّةِ حوله
          
    شرارُ ولكن في يديه زناده
      
فأضرمها نارين: حرباً وخدعة
          
    فما راع إلا سورُها وإنهدادُهُ
      
فصَّدت صُدُودَ البِكْر عند افتضاضها
          
    وهيهات كان السيف حتماً سفاده ()
      
فيما ظَفَراً عمّا البلاد صلاحه
          
    بمن كان قد عمَّ البلادَ فساده
      
فلا مُطْلَقٌ إلا وشُدّ وثاقه
          
    ولا مُوثَقٌ إلا وحُلَّ صِفاده
      
ولا مِنبرٌ إلا ترنحَّ عُوُده
          
    ولا مصحف إلا أنار مداده
      
فإن يثكل الإبرنز فيها حياته
          
    وإلا فقل للنجم كيف سُهادُهُ
      
وباتت سرايا القمص نقمص دونها
          
    كما يتتّرى عن حريق جراده
      
إلى إين يا أسرى الضَّلالة بعدها
          
    لقد ذَلَّ غاويكم وعَزَّ رشاده
      
رُوَيْدكُمُ لا مانع من مُظفَّر
          
    يعانِدُ أسباب القضاء عِنادُهُ
      
مُصيبُ سهام الرأي لو أن عَزْمَهُ
          
    رمى سَدَّ ذي القرنين أصمى سَدادُهُ
      
وقل لملوك الكُفر سُلُم بعدها
          
    ممالكها إن البلاد بلاده
      
كذا عن طريق الصُّبح أيتها الدُّجى
          
    فيا طالماً غال الظلام امتدادُهُ
      
ومن كان أملاك السَّمواتِ جنده
          
    فأية أرض لم ترضها جياده
      
ولله عزم ماءُ سيحان ورده
          
    وروضة قسطنطينية مستراداه ()
   

وله قصيدة هنَّأ بها القاضي كمال الدين بن الشهرُزُوري أَوّلُها : هي جنة المأوى فهل من خاطب يقول فيها:


إن الصَّفائح يوم صافحت الرُّها
          
    عطفت عليها كل أشوس ناكب
      
فتح الفتوح مبشَّراً بتمامه
          
    كالفجر في صدر النَّهار الأيبِ
      
لله أّية وقفة بدرية
          
    نُصرت صحابتها بأيمن صاحب
      
ظفٌر كمال الدين كنت لقاحَه
          
    كم ناهض بالحرب غير محارب
      
وأمدكم جيشُ الملائك نصرةً
          
    بكتائب محفوفة بكتائب
      
جنبوا الَّبور وقد تم ريح الصبا
          
    جندُ النبوة هل لها من غالب
      
أترى الرُّها (الورهاء) () يوم تمنعت
          
    ظنت وجوب السورِ سورة لاعب
      
لا أين يا أسرى المهالك بعدها
          
    ضاق الفضاء على نجاة الهارب
      
شدَّا إلى أرض الفرنجة بعدها
          
    إن الدُّرُوبَ على الطريق اللاَّحب
      
أفغَرّكم والثّأرُ رهنُ دمائكم
          
    ما كان من إطراق لحظ الطَّالب
      
وإذا رأيت الليث يجمع نفسه
          
    دون الفريسة فهو عينُ الواثب ()
   

ب- ابن منير يمدح عماد الدين في فتح الرها:


صفاتُ مجِدكَ لفظ جلَّ معناه
          
    فلا استردَّ الذي أعطاكه الله
      
يا صارماً بيمين قائمُةُ
          
    وفي أعالي أعادي اللَّهِ حَداَّه
      
أصبحت دون ملوك الأرض منفرداً
          
    بلا شبيهٍ إذ الأملاكُ أشباه
      
فداك من حاولت مسعاك هِمتُهُ
          
    جهلاً وقصَّرَ عن مسعاك مسعاه
      
قل للأعادي ألا موتوا به عمداً
          
    فالله خيبَّكم والله أعطاه
      
مَلْكٌ تنام عن الفحشاء هِمِتَّهُ
          
    تقى وتسهر للمعروف عيناه
      
ما زال يًسْمُكُ والأيام تخدمه
          
    فيما ابتلاه وتُدْني ما توخّاه
      
       
 
حتى تعالت عن الشَّعْرى مشاعره
          
    قدراً وجاوزت الجوزاء نعلاه
      
وقد روى الناس عن فتح أُتيح له
          
    مظّلٌ أفف الّدنيا جناحاه
      
على المنابر من أنبائه، أرج
          
    مقطوبة بفتيق المِسْك رَياه
      
فتحٌ أعاد على الإسلام بَهجَتهُ
          
    فافتَّر مبسُمه واهتزّ عِطْفَاه
      
يُهْدَى بمتعصم بالله فتكته
          
    حَديثها نَسَخ الماضي وأنساه
      
إن الرُّها غير عمُّوريةٍ وكذا
          
    مَن رامها ليس مَغْزَا، كمغزاه
      
أخذت الكواكب عِزَّا ما بغى أحٌد
          
    من الملوك لها وَقْما ()  فواتاه
      
حتى دلفت لها بالعزم يشحذه
          
    رأيٌ يبيتُ فُوَيْقَ النَّجْم مسراه
      
مشمَّراً وبنو الإسلام في شُغلٍُ
          
    عن بَدْءِ غرْس لهم أثمار عقباه
ججج      
يا مُحيي العَدْلِ إذ قامت نَوَادبَُه
          
    وعامر الجُودِ لمامحَّ () معناه
      
يا نعمة الله يستضفي المزيد بها
          
    للشاكرين ويستقني صفاياه
      
أبقاك للّدين والدُّنيا تحوطُهما
          
    من لم يُتوَّجْك هذا التَّاج إلا هو ()
   
ولابن منير أيضاً من قصيدة أخرى يقول فيها:


أيا مِلكاً ألقى على الشَّرك كلكلاً
          
    أناخ على أماته كَلْكَلُ الُّثكل
      
جمعت إلى فتح الرُّها سدّ بابه
          
    بجمعك بين النَّهْب والأّسْر والقتل
      
هو الفتحُ أنس كلَّ فتح حديثه
          
    وتوَّجَ مسطورَ الرَّواية والنَّقْلِ
      
فضضت به نقشً الخواتمِ بعده
          
    جُزيتَ جزاءَ الصدق عن خاتم الرسلِ
­      
تجردت للإسلام دون ملوكه
          
    تُبتَذكُ أسباب المذلَّةِ والخذل
      
أخو الحرب غَدَّتْهُ القراع مفطَّماً
          
    يشوب بإقدام الفتى حُنْكَة الكهل
   

وقال أيضاً:


بعماد الدين أضحت عروة الدين
              
    معصوبا بها الفتح المبين
      
واستزادت بقسيم الدَّولة
              
    القسم في إدحاض كيد المارقين
      
ملك أسهر عيناً لم يزل
          
    هُّمها تشديد هَمَّ الرَّاقدين
      
       
 
لاخَلْت من كَحَل النَّصْر فقد
          
    فقأت غيظاً عيون الحاسدين
ج      
كلَّ يوم مرّ من أيامه
          
    فهو عُيد عائد للمسلمين
      
لو جرى الإنصاف في أوصافه
          
    كان أولاها أمير المؤمنين
      
ما روى الرَّاوون بل ما سَّطروا
          
    مثل ما خَطَّتْ له أيدي السنين
          
إذ أناخ الشرك في أكنافه
          
    بمئي ألفٍ تلاها بمئين
      
وقعة طاحت بكلب الروم من
          
    قطعه التَّين إلى قطع الوتَينْ ()
      
إن حمت مصر فقد قام لها
          
    واضح البرهان أن الصَّين صينْ
      
والرُّها لو لم تكن إلا الرُّها
          
    لَكَفَتْ حسماً لشك الممُترين
      
درج الدّهر عليها مُعصِراً
          
    لم تدنس بمرام اللاّ مسين
      
هَمَّ قسطنطين أن يَفْرعَهَا
          
    ومضى لم يَحوِ منها قِسْطَ طين
      
ولكم مِنْ مَلِكٍ حاولها
س          
    فتحلَّى الحين وسما في الجبين
      
هي أخت النجم إلا أنّها
          
    منه كالنجم لرأي المبصرين
      
مُنِيَتْ منه بليث قائدٍ
          
    بِعران () الدُّلّ أساد العرين
      
زارها يزأرُ في أسد وغًى
          
    تبدل الأسد في الزأر الأنين
      
صولجوا البيضَ () بضرب نثر
          
    الهام في ساحاتها نثر الكُرِيْن ()
      
يا لها هَمةُ نَغْرِ أضحكت
          
    من بني القُلْفِ () ثغور الشَّامتين
      
بَرْنَسَتْ رأسَ برنسٍ ذِلةً
          
    بعدما جاست حوايا جوسلين
      
وسروج مُذْوعت أسراجه
              
    فَرَّقَتْ جُمَّاعها عنها عِضين
      
تلك أقفال رماها الله من
          
    عزمه الماضي بخير الفاتحين
      
شامَ منه الشُّامُ برقاً ودْقُه ()
          
    مؤمنُ الخوف مخيفُ الآمنين
      
كم كنيس كُنِست آرامها
          
    منه بعد الروح في ظل السَّفين
   



إلى أن قال:


همة تمسي وتضحي عزمةٌ
          
    ليس حصن إن نحته بحصين
      
قل لقوم غرهّم إمهاله
          
    ستذوقون شذاه بعد حين
      
إنه الموت الذي يدرك من
          
    فر منه فشجاً للغافلين
      
وهو يُحيي مُمسكي عُروته
              
    إنها حبل لمن تاب متين
      
من يطع ينج ومن يعص يكن
              
    من غداةْ عبرةُ للأخرين
      
أقسم الجد بأن تبقي لكي
          
    تملك الأرض يميناً لا يمينْ ()
      
وتٌفيض العدل في أقطارها
          
    منسياً مؤلم عسف الجائرين
      
لا تزل دارُك كيف انتقلت
          
    كعبة محفوفة بالطائفين
      
كل يوم يتحلى جُيدها
          
    من نظيم المدح بالدُّرَّ الثمين
      
كلما أُخلص فيها دعوةٌ
              
    لك قالت ألسْنُ الخلْفِ أمين() 
   



يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

46 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 7-رأي المستشرق جون لامونت في عماد الدين:


46

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

7-رأي المستشرق جون لامونت في عماد الدين:

يعد المستشرق جون لامونت من أبرز المؤرخين الأمريكيين خلال النصف الأول من القرن الماضي، وتعددت مؤلفاته في مجال الصليبيات، ولاسيما دراسته الوافية عن الملكية الإقطاعية في مملكة بيت المقدس، غير أن له دراسة أخرى عنوانها الحرب الصليبية والجهاد ضمن كتاب التراث الإسلامي الذي نشره نبيه فارس وفي هذه الدراسة؛ اتجه لامونت إلى تفنيده فكرة الجهاد عند المسلمين حينذاك، وتصور تحرك قادة الجهاد الإسلامي حينذاك على أنه من خلال الدوافع السياسية والاقتصادية فقد وذكر بأن عماد الدين زنكي لا يعتبر بأي حال من الأحوال بطل الجهاد، فإن عماد الدين وإن كان يطمع في استرجاع الرها منُذ وقت طويل كما يقول كمال الدين بن العديم، لم يقم بهذا العمل بوضوح إلا متأخراً، وإلا بعد، حثه على ذلك أميـر حران جمـال الدين أبو المعالي فضل الله بن ماهان الذي بين له سهولة احتلال المدينة () ، ويستمر في تصوره قائلاً: الظاهر أنه هو نفسه كان يعتبر احتلال الرها خروجاً عن سياسته وعملاً قام به بناء على تحريض الآخرين () وذكر أيضاً : أن استيلاء زنكي على حماه، وحلب وحروبه ضد الأرتقيين أعظم أهمية عنده من حرب النصارى، وما كان ليكره التحالف مع اللاتين إذا رئ ذلك مصلحته (). ومن الممكن تفنيد تلك الآراء على النحو التالي:
- كان اتجاه عماد الدين زنكي لمهاجمة الرها متأخراً وذلك أمر لا يقلل البتة من دوره الجهادي خاصة أنه كان يرى أن يستهلك طاقات تلك الإمارة الصليبية في صراعاته وحروبه معها ضد حصونها ومعاقلها، تم يتجه بعد ذلك إلى مهاجمة الإمارة نفسها بعد أن يتمكن من سبر غور دفاعاتها، ومعرفة نقاط الضعف فيها، وكذلك نقاط القوة، ومن ناحية أخرى من الطبيعي تصور أن نصيحة أمير حران لزنكي بإسقاط الرها لم تكن لتغير من الموقف شيئاً لم يكن زنكي قد خطط مسبقاً لذلك، بل أغلب الظن أن سقوط تلك الإمارة من الصعب تصور حدوثه على النحو الذي يصوره لامونت، بل أنها في الأغلب كانت من مخططات الزنكيين منُذ أمد بعيد، أما تعليل عدم تبكير زنكي، بالاستيلاء عليها، فذلك مرجعه إلى عدم رغبته في إجهاض قوته الحربية في صدام مبكر مع الصليبيين غير مضمون النتائج خلال مرحلة حكمه المبكرة، ولذا فمن الممكن اعتبار توقيت الاستيلاء على الرها – على نحو ما فصلته المصادر اللاتينية والسريانية، والعربية، يعتبر بحق من أبرز دلائل حنكة زنكي السياسية يبدو أن إدعاء لامونت بأن إسقاط الرها كان بعيد عن سياسة عماد الدين زنكي هو أكبر الإدعاءات التي لا تجد سنداً تاريخياً يدعمها، فمن المعروف أن زنكي كان مشتركاً في جيش مودود، وبنص عبارة ابن الأثير: شهد معه حروبه () ، ولا ريب في أنه أدرك أهمية إسقاط الرها، بل إن ذلك الحلم ترسب في ذهنه منُذ زمن بعيد والمتصور أنه أراد النجاح فيما أخفق فيه مودود من قبل، وقد أعتقد أن إسقاطها أمر ضروري على اعتبار أنها الهدف الصليبي الأقرب إلى الموصل، كما أن تحقيق مثل ذلك الهدف من شأنه تيسير إتصاله بشمال الشام، وخاصة من خلال رؤيته التوحيدية الثاقبة ().
- إن افتراض جون لامونت بأن زنكي كان يمكن أن يتحالف مع اللاتين من أجل مصلحته السياسية، افتراض يدعم حنكة عماد الدين زنكي السياسية، فقد لجأ إلى عقد الاتفاقيات مع الصليبيين أحياناً من أجل التقاط الأنفاس، وعدم الوقوع في آتون جبهتين جبهة الشرق بصراعه مع قواه السياسية وجبهة الصراع مع الصليبيين ثم أنه أراد أن يبعث الطمأنينة في نفوس الأخيرين من خلال مثل تلك الاتفاقات، في حين كان يبطن النية للإجهاز على الرها، ولذا جاءت عمليات الحصار من جانبه نحوها أمراً مفاجئاً لأهلها ().

- أما القول بأن زنكي لم يكن هدفه الوحيد إسقاط الرها، بل إنه كان سعى أيضاً إلى بناء دولته على حساب جيرانه سواء المسلمين أو الصليبيين فينبغي ملاحظة أن كافة القيادات الإسلامية التي ظهرت خلال عصر الحروب الصليبية على امتداد القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادين/السادس والسابع الهجريين وساهمت في قضية الجهاد، كان لديها طابع ما من الطموح السياسي وكانت تسعى بالفعل إلى توطيد أركان دولها على حساب القوى السياسية المجاورة لها، غير أن العبرة هنا بأن الطموح السياسي – كما أشرت من قبل – يتم تفجيره في قضية الأمة بأسرها وهي الجهاد، لأن مثل تلك القيادات كان من الممكن أن ترضى العيش في ذلة وإنكسار مع الصليبيين ولا تتوسع على حسابهم تجنباً لإثارة المشكلات السياسية معهم ولسقوط القتلى والجرحى بل وتعرض مناطق نفوذها الأصلية لاعتداءات الغزاة غير أنها رفضت ذلك وقبلت التحدي الصليبي وأظهرت قدرتها على تغيير الجغرافية السياسية للمنطقة من خلال تبنيها لمشاريع الجهاد ().

- من المهم أن تعرف أنه لا يخفى على دراسي تاريخ العلاقات الإسلامية مع القوى المسيحية في مرحلة الحروب الصليبية، كيف أن قطاعاً من المستشرقين حرص على سلب المسلمين إنجازاتهم، وشككوا في المراحل الناصعة من تاريخهم، كما أن هناك ثأراً ملازماً ذلك القطاع منهم لاسيما مع فكرة الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام، ولذلك حرصوا الحرص أجمعه على إنكارها، والتشكيك فيها، والإساءة إلى كافة التجارب الجهادية الماضية للمسلمين حتى لا يتبنوها في الحاضر والمستقبل، وهكذا من الممكن التقرير – بموضوعية ودون اعتساف في الأحكام – أن عصر الحروب الصليبية شهد نقلة نوعية في تطوير فكرة الجهاد في الإسلام، حيث أن الجهاد هذه المرة ضد عدو استقر على الأرض الإسلامية، بعد ضعف المسلمين من جراء صراعاتهم مع بعضهم البعض، فإذا ما أدركنا أن هويتهم الدينية كانت في خطر أمام مشاريع التنصير التي علقت عليها البابوية آمالاً كباراً، أدركنا كم كانت فكرة الجهاد فكرة محورية في عصر الحروب الصليبية () ، إن المراجع الغربية حاولت تشويه صورة هذا المجاهد الكبير قديماً وحديثاً ومن أشهر الكتب المعاصرة، كتاب الحرب المقدسة، الحملات الصليبية وأثرها على العالم اليوم قالت صاحبة الكتاب كارين ارمسترونغ عن عماد الدين زنكي: لم يكن هذا بأي حال قدوة تحتذى، بل كان سكيراً عربيداً قلما يفيق من سكره، كما كان قاسياً بطاشاً مثل معظم رجال الحرب في عصره () ، وسيرة الرجل تكذب ما يقولون ووصفه مؤرخونا بالشهيد وهو وسام عالي الرتبة والمقام لا يعطي إلا لمن هو أهلاً لهذا الوصف الكبير، فقد قالوا في سيرته من أحسن سير الملوك وأكثرها حزماً للأمور وكانت رعيته في أمن شامل يعجز القوي عن التعدي على الضعيف () ، وكان معظماً للشريعة ومقيماً لحدودها في دولته وقد كلف بذلك القضاة إن من أهداف بعض المستشرقين:

تشويه رموز الجهاد لكي تبقى أجيالنا بدون قدوات تقوي العزائم وتنهض بالهمم.
إضعاف روح الفداء والتضحية والشهادة والجهاد في الأمة حتى يستطيعوا سوقها كالبهائم.
محاولة فصل الأمة عن تاريخها بالأكاذيب والتشويه حتى لا ترجع إلى تاريخها الحافل فتستخرج منه الدروس والعبر.
كانت كتابتهم تنبثق من روح صليبية حاقدة على الأبطال الذين ساهموا في إفشال المشروع الصليبي وذلك حاول المستشرقين تشويه صورة عماد الدين زنكي.
إن سيرة عماد الدين ومن حوله من أعوانه المخلصين كالقاضي الشهرزوري تقطع بدون شك بكذب أولئك المستشرقين الذين حاولوا طمس الحقائق والصاق التهم الباطلة بذلك الرجل العظيم، فتجربته الجهادية تستحق الدراسة والتحليل العميق مع ربط ما وصلنا إليه من دروس وعبر بواقعنا المعاصر، لكي نستفيد منها في السعي الجاد لنهضة الأمة.





يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

45 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 6-نتائج فتح الرها:



45


موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

6-نتائج فتح الرها:

حقق عماد الدين زنكي بفتح الرها أهم إنجازاته التي قام بها ضد الصليبيين طوال مدة حكمه، وكانت لهذا النصر نتائج هامة في العالمين الإسلامي والنصراني ومن أهم تلك النتائج على الإجمال:
أ- تأكد للمسلمين أن حركة الجهاد الإسلامية وصلت سن الرشد وتجاوزت المراهقة السياسية والعسكرية دون أن يكون ذلك إجحاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي لاسيما مودود – وإذا كانت أولى الإمارات الصليبية تهاوت تحت أيديهم، فإنها البداية، واليوم أسقاط الرها وغداً إسقاط باقي الكيان الغازي الدخيل، وهذا ما حدث فعلاً، ومن الآن فصاعداً لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل التقدم إلى الأمام بكل ثقة، وإباء، وإنجاز.

ب- تأكد منطق التاريخ من أن مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمر على الأرض المسلمة، لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينينة الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخيل وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق، ولم تعد الرها تمثل دور الفصل والكيان الصليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كل من سلاجقة آسيا الصغرى، وسلاجقة العـراق، وكذلك بلاد فارس ().

ج- زاد الضغط على النطاق الصليبي الذي اتخذ شكلاً طولياً من أنطاكية في الشمال إلى إيلات (الرشراش) جنوباً ومن نهر الأردن شرقاً إلى الساحل الشامي – باستثناء عسقلان، إذ أن صور سقطت بالفعل عام 1124م/518ه/ بما اشتمله من إمارة طرابلس، ومملكة بيت المقدس الصليبية، فالمؤكد أن رأس الحربة الصليبية في الرها سقطت إلى غير رجعة، والآن أصبح ذراعها قائماً في باقي الكيان الصليبي، ولذلك ازداد الضغط العسكري عليه من قِبل القوى الإسلامية التي سيطرت على الظهير الشـامي الموازي للساحل والسهل السـاحلي، وكـأن المعـركة صـارت – على المستوى الجغرافي – معركة بين الساحل والظهير، واعتمد الأول على الدعم الخارجي الأوروبي في الأساس، واعتمد الثاني على إمكاناته المحلية الوافرة التي تزايد شأنها مع ظهور قادة الوحدة بين المسلمين.

د- أدى إسقاط الرها بمثل هذه الصورة إلى تحرك الحلف الدفاعي الاستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق، والرحم الأمم في الغرب الأوروبي، فلم يكن ذلك الغرب ليسمح لامتداده السياسي والتاريخي في الشرق أن ينهار قطعة قطعة، بل لابد من التدخل من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإجهاز فعاليات إمـارة الموصـل، ومـن ثم كان قيام صليبية 1147 – 1149/542ه - 544ه التي اشتهرت بالصليبية الثانية، وهي من النتائج المباشرة لإسقاط الرها وهو أمر يوضح لنا بجلاء كيف أن قادة الجهاد الإسلامية حاربوا قوى عالمية، ولم تكن مجرد قوى محلية محدودة التأثير والفعالية، وأنهم بالفعل كانوا جزءاً من صراع قاري أو عالمي على نحو يجعل لهم مكانة بارزة في تاريخ المسلمين – عامة – في عهد الحروب الصليبية.

ه- ومن النتائج العديدة التي نتجت عن ذلك الإنجاز، إرتفاع شأن عماد الدين إلى حد بعيد، فبعد أن كان مجرد حاكم محلي محدود النطاق والفعالية، تردد اسمه سريعاً في الحوليات اللاتينية والسريانية ليعكس أنه أحدث تأثيراً كبيراً في مجرى أحداث الشرق اللاتيني، وبصورة غير مسبوقة، أما بالنسبة للمسلمين، فقد احتل مكانة بارزة () ، فقد عزّز فتح الرها مركز عماد الدين تجاه السلطان السلجوقي مسعود والخليفة العباسي المقتفي لأمر الله الذي أنعم عليه بعدد كبير من الألقاب التي حازها عن جدارة، كالأمير المظفر، ركن الإسلام، عمدة السلاطين، زعيم جيوش المسلمين، ملك الأمراء أمير العراقين والشام () وجعل هذا النصر عماد الدين زنكي المدافع الأول عن الدين والمجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، ودارت في المحافل الإسلامية، أحاديث تمحورت حول شخصه، تصور لنا مدى التقدير، والإعجاب اللذين نالهما إثر تحقيقه هذا النصر الكبير، ومهد هذا الفتح الطريق أمام عماد الدين زنكي لاستكمال فتح الحصون المجاورة، وفرض سيطرته التامة على أملاك أعدائه في المنطقة، وأَّدى فتح الرها دوراً كبيراً في إنقاذ إمارة عماد الدين زنكي من خطر استمرار الغارات الصليبية عليها، فأصبح أهلها بعد الخوف آمنين () وهذا إنشاء الله من عاجل بشرى المؤمن.




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

44 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 5-موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرها وماذا جرى في صقلية:


44

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

5-موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرها وماذا جرى في صقلية:

ورويا لعماد الدين بعد موته:

موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرها: كان للفقيه المؤذن موسى الأرمني المدرس بإحدى مدارس الموصل موقف مشكور في فتح الرها حيث استخدم أسلوب الحرب النفسية في حملة عماد الدين زنكي على الرها عام 539ه/1145م فقد نزل الفقيه محاصراً ومقاتلاً، فخطرت بذهنه فكرة ذكية أثناء حصار عماد الدين للرها، فقد نزل السوق، واشترى ملابس الأرمن، لكي يدخل بها إلى المدينة حتى لا يعرفه الصليبيون، ويشكون في أمره () : فقال فنزلت السوق، واشتريت لباساً من لباس الأرمن، وتزينت في زيهم () ووصلت إلى البلد لأنظره وأكشف حاله، فجئت إلى الجامع فدخلت ورأيت المنارة فقلت في نفسي أصعد إلى المنارة، وأوذن حتى يجري ما جرى، فصعدت وناديت الله أكبر الله أكبر، وأذنت، والكفار على الأسوار، فوقع الصياح في البلد أن المسلمين قد هجموا البلد من الجهة الأخرى، فترك الكفار القتال ونزلوا على السور، فصعد المسلمون وهاجموا المدينة ().

ملك جزيرة صقلية: كان ملك جزيرة صقيلة من الفرنج لما فتحت الرُّها، وكان بها بعض الصالحين من المغاربة المسلمين، وكان يُحضره ويكرمه ويرجع إلى قوله، ويّقدمه على من عنده من الرهبان والقسيسين، فلما كان الوقت الذي فتحت فيه الرُّها سير هذا الملك الإفرنج جيشاً في البحر إلى إفريقية فنهبوا وأغاروا وأسروا، وجاءت الأخبار إلى الملك وهو جالس وعنده هذا العالم المغربي، وقد نعس وهو شبيه النائم فأيقظه الملك وقال: يا فقيه، قد فعل أصحابنا بالمسلمين كيت وكيت، أين كان محمد عن نصرهم؟ فقال له: كان قد حضـر فتـح الرها – أي اتبـاع رسـول الله صـلى الله عليه وسلم – فتضاحك من عنده من الفرنج، فقال لهم الملك : لا تضحكوا، فوالله ما قال عن غير علم واشتد هذا على الملك، فلم يمض غُير قليل حتى أتاهم الخبر بفتحها على المسلمين، فأنساهم شدة هذا الوهن رخـاءَ ذلك الخبر؛ لعّـلو منزله الرّها عند النَّصرانية () .
رويا للشهيد بعد قتله: ويحكى أن رجلاً من الصالحين قال: رأيت الشهيد بعد قتله في المنام في أحسن حال، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي. قلت: بماذا ؟ قال: بفتح الرها ().
مؤامرة فاشلة من سكان الرها: ما لبث سكان الرها من الأرمن أن دبروا – في العام التالي – مؤامرة استهدفت الفتك بالمسلمين وإعادة المدينة إلى السيطرة الصليبية بعد القيام باستدعاء جوسلين، إلا أن زنكي سرعان ما تمكن من كشف هذه المحاولة الخطيرة، والقبض على مُدبريها وإعدامهم، ثم أعقب ذلك بنفي عدد من الأرمن كيلا يتاح لهم مرة أخرى أن يسعوا إلى طعن المسلمين من الخلف، وتسليم أهم مواقعهم لقمة سائغة للغزاة الصليبيين ().




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

43 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 4-العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرها:


43

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

4-العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرها:

هناك العديد من العوامل التي ساعدت عماد الدين على تحرير الرها منها:
- تنامي حركة الجهاد الإسلامية حتى عصره وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال، فلا ريب في أن التجارب السابقة أثبتت أن إمارة الرها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك، وقد اجهدها أمر الإغارات المستمرة من جانب أتابكة الموصل على نحو خاص طوال ما يزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثل موتاً بطيئاً لها إلى أن تم الإجهاز عليها في العام المذكور.
- ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين زنكي العسكرية الذي فاجأ تلك الإمارة الصليبية بالهجوم، بعد أن أطمأن الصليبيون إليه وتصوروا أنه لن يهاجم فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ووجه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها، وهكذا أثبت ذلك القائد المسلم الكبير أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم.
- زد على ذلك: أن الخلاف الواقع بين إمارتي الرها وأنطاكية أثر بدوره على إمارة الرها، وأدى إلى إجهادها واستهلاكها سياسياً وعسكرياً () ، على نحو أثبت أن الخلافات التي كانت تحدث بين القيادات الصليبية أثرت بدورها على كياناتهم السياسية وها هي – لحسن الحظ – إمارة الرها تدفع الثمن بأن سقطت في قبضة من استحقها من قادة الجهاد الإسلامي في ذلك الحين.
- ولا نغفل – من ناحية أخرى شخصية أمير الرها جوسلين الثاني الذي لم يكن على نفس القدر من الكفاءة السياسية والعسكرية التي اتصف بها والده جوسلين الأول، وكان أميل إلى حياة الخلاعة والمجون والسعي الحثيث إلى الملذات، بل إن كثيراً ما غادر مدينة الرها ذاتها واتجه إلى تل باشر من أجل أن يجد هناك ما يبحث عنه من صور الفساد ولذلك أدرك فيه المسلمون تلك الزاوية فأحسن قائدهم الإفادة منها وهاجم الرها وقت أن غاب عنها جوسلين الثاني، فأصابها في مقتل ().
- ويبدو أن الجيل الصليبي الذي حل بعد الجيل الأول الذي أسس الكيان الصليبي وحافظ عليه، لم يكن قادراً على الحفاظ على ما شيده السابقون بل لم يكن يدرك أهمية دوره التاريخي في ذلك الموقع الشديد الحساسية الذي أحاطه المسلمون من كل جانب، وهكذا شارك جوسلين الثاني – دون أن يدري – في إنجاح حركة الجهاد الإسلامية حينذاك بقيادة قائدها الكبير عماد الدين زنكي ().
- وعلى أية حال: من الممكن أن من المؤرخين الغربيين من حاول إظهار عوامل الضعف الداخلي في إمارة الرها، وجعل تلك العوامل وحدها هي التي أدت إلى إسقاطها، وهدف من وراء ذلك إضعاف فعاليات المسلمين السياسية والحربية، غير أن المنطق التاريخي يدعونا إلى تصور أن العوامل الداخلية والخارجية تعاونت معاً من أجل صنع انتصار عام 539ه/1144م ومهما كان أن شأن عوامل "النحر والانتحار" الداخلية ونتائجها في الرها فإنها ما كانت لتسقط دون الفعاليات العسكرية لقائد موهوب مثل عماد الدين زنكي، وجنوده من خلفه ().




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

42 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 3-سياسة عماد الدين زنكي في الرها:


42

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

3-سياسة عماد الدين زنكي في الرها:

رأى عماد الدين زنكي، بعد أن فتح الرها، أن ذلك البلد لا يجوز في السياسة تخريب مثله () وأصدر أوامره إلى جنده بإيقاف أعمال القتل والأسر والسلب، وإعادة ما استولوا عليه من سبي وغنائم، فاعيدوا ولم يفقد إلا الشاذ النادر، وأعقب ذلك بإصدار أمر آخر بالإسراع في تنظيم ما اضطرب من أمور الرها، وتعمير ما تهدم خلال أسابيع طويلة من القتال ورتّب من رآه أهلاً لتدبير أمرها وحفظها والاجتهاد في مصالحها، ووعد أهلها با جمال السيرة وبسط العدالة () مستهدفاً من وراء ذلك استمالة سكانها الأصليين من المسيحيين الشرقيين ضد الصليبيين الكاثوليك، الأمر الذي يؤكده قيامه بتدمير عدد من الكنائس الكاثوليكية، واحتفاظه بكنائس الشرقيين ().



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

41 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 2-عمليات الفتح:


41

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

2-عمليات الفتح:

استغل عماد الدين زنكي الظروف السابق ذكرها وسعى إلى تدبير خدعة تتيح له تحقيق هدفه من أقصر طريق. وكان يعلم أنه لن يستطيع أن ينال غرضه من الرها ما دام جوسلين وقواته موجودين بها، وهكذا انصب اهتمامه على إيجاد وسيلة تدفع غريمه إلى مغادرة مقر إمارته، فاتجه إلى آمد، وأظهر أنه يعتزم حصارها، وأنها هدفه دون غيرها، وبث عيونه – في الوقت نفسه – في منطقة الرها ليطلعوه – أولاً بأول – على تحركات أميرها الذي ما أن رأى إنهماك زنكي بجيوشه في ديار بكر وعدم تفرغه للهجوم على المواقع الصليبية، حتى غادر مقر إمارته على رأس قواته () ، بعد أن اتخذ إجراءاً احتياطياً بأن عقد هدنة مع فرار أرسلان صاحب حصن كيفا الذي كان قد التجأ إليه بعد تهديد زنكي لإمارته () ، ومن ثم اتجه إلى تل باشر الواقعة على الضفة الغربية للفرات، كي يتخلص هناك، من كل مسؤولية، ويتفرغ لملذاته، تاركاً حماية الرها لأهاليها من الأرمن والسريان والنساطرة واليعاقبة، وكان معظمهم من التجار الذين لا خبرة لهم بشؤون الحرب والقتال بينما تولى الجند المرتزقة مهمة الدفاع عن القلعة () ، جاءت عيون عماد زنكي لتطلعة على النبأ الذي كان يتحرق إليه فأسرع بالتوجه إلى الرها مستعيناً على السرعة بركوب النجائب الإبل مستنفراً كل قادر على حمل السلاح من مسلمي المنطقة للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وما لبث أن انهالت عليه جموع المتطوعين، فطوق بهم الرها من جهاتها الأربع، وحاول في البدء أن يتوسل بالطرق السلمية علها تحقق هدفه دون اضطرار إلى رفع السيف، فراسل أهالي الرها، باذلاً لهم الأمان، طالباً منهم أن يفتحوا له الأبواب قبل أن يجد نفسه مضطراً إلى تدمير أسوار بلدهم وإخلاء دياره، إلا أنهم أبوا قبول الأمان () . وحينئذا اشتد زنكي في التضييق على الحصن، مستخدماً آلات الحصار الضخمة التي جلبها معه لتدمير أسواره، أن تتاح الفرصة لتجمع الصليبيين والتقدم لإنقاذ هذا الموقع الخطير، وأرسل جوسلين لدى سماعه نبأ الهجوم – في طلب نجدة مستعجلة من كافة الإمارات الصليبية في الشام، فلم يستجب له سوى (ميلزاند) الوصية على بيت المقدس، التي وصلت نجدتها بعد فوات الأوان () ، كما أنه قام بمحاولة للدخول إلى المدينة، أو إرسال نجدة لتعزيز دفاعها فحيل بينه وبين ذلك وفي السادس والعشرين من جمادى الآخرة 539ه وبعد مرور ثمان وعشرين يوماً على بدء الحصار إنهارت بعض أجزاء الحصن، أثر الضرب المركز الشديد الذي تعرضت له، فاجتاحت قوات المسلمين المدينة () ، ثم ما لبثت القلعة أن استسلمت بعد يومين، وقام القس اليعقوبي برصوما بإجراءات تسليم الرها لزنكي ().



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

40 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها: 1-أوضاع إمارة الرها الداخلية:


40

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

1-أوضاع إمارة الرها الداخلية:

كانت ظروف الرها الداخلية مؤاتية لعماد الدين زنكي، إذ اتصف أميرها جوسلين الثاني بضعف الشخصية وإنسياقه وراء العواطف والأهواء وعدم امتلاكه مقدرة سياسية، وبعد نظر، والواقع أن جوسلين الثاني تأثر في نشأته بالميول الأرمينية بفعل أن والدته كانت منهم، فترعرع وفي نفسه ميل إلى الأرمن وغيرهم من السكان الأصليين من الطوائف النصرانية الشرقية وفضَّلهم على النصارى الغربيين الأمر الذي أثار الفرسان الصليبيين وأوجد نوعاً من عدم الاستقرار داخل الإمارة وعُرف عن صاحب الرها أنه كان من ذلك النوع الذي يؤثر الراحة والعافية، حتى أنه في الوقت الذي هاجم فيه عماد الدين زنكي إمارته، اختار أن يترك مدينته ليقيم في تل باشر عن الضفة الغربية للفرات، وإذا أضفنا إلى ذلك أن المسلمين أحاطوا بهذه الإمارة من كل جانب، وفصلها نهر الفرات عن بقية الممتلكات الصليبية في بلاد الشام؛ لاستطعنا أن نكّون فكرة عامة عن العوامل التي ساعدت على سقوطها والجدير ذكره أن هذه شَّكلت خطراً كبيراً على المواصلات الإسلامية بين حلب والموصل وبغداد وسلاجقة الروم في آسيا الصغرى، كما كانت عائقاً حال دون قيام الوحدة الإسلامية في بلاد الشام والجزيرة بسبب تدخلها المستمر لصالح خصوم عماد الدين زنكي من الأمراء المسلمين في المنطقة () ، فكان فتحها ضرورة سياسية وعسكرية واقتصادية () ودينية.




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

39 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:


39

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

خامساً:أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها:

استطاع عماد الدين زنكي أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه وأن يكون لنفسه، مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي، كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واع أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قِبل الصليبيين، فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بمقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج أن تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين وقد فصلت ذلك في حديثي عن عماد الدين زنكي في كتابي عن الدولة الزنكية ويعتبر فتح الرها من أهم إنجازات عماد الدين زنكي، فقد كانت إمارة الرها الصليبية أولى الإمارات التي تأسست في الشرق سنة 491ه/1097م بزعامة بلدوين الأول الذي استمر في حكم هذه الإمارة حتى سنة 494ه/1100م حين انتقل إلى حكم بيت المقدس عقب وفاة جورفرى ملك بيت المقدس () . وقد تميزت الرها عن بقية الإمارات الصليبية بموقعها في الحوض الأوسط لنهر الفرات حيث تحملت عبء الدفاع عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام، وذلك لقربها من الخلافة العباسية ثم لوقوفها في وجه التركمان الذين كانت تعج بهم منطقة الجزيرة عقب التفكك الذي أصاب السلاجقة في بلاد الشام والعراق عقب وفاة السـلطان ملكشاه 485ه/1092م () ، ولم تقتصر أهمية الرها على موقعها الاستراتيجي وكونها خط الدفاع الأول عن بقية الإمارات الصليبية في بلاد الشام بل إنها شكلت خطراً أساسياً على خطوط المواصلات الإسلامية بين الشام وآسيا الصغرى والعراق ومنطقة الجزيرة () وعلى الرغم من أن الرها لم تقع في نطاق الأراضي المقدسة في فلسطين فقد عدها الصليبيون من أشرف المدن عندهم بعد بيت المقدس وأنطاكية والقسطنطينية، وفيرة الثروات ساعدات أمراء الرها على توسيع رقعتهم فامتدت إمارة الرها الواقعة على ضفتي نهر الفرات من راوندان وعين ثاب غرباً إلى مشارق ومن بهنسي وكيسوم شمالاً إلى منبج جنوباً () واكتسبت الرها أهمية بما تهيأ لها من حكام اتصفوا بالقوة والشجاعة واستطاعت الصمود في وجه المقاومة الإسلامية، على الرغم أن الرها كانت تعاني من نقطتين ضعف واضحتين أحدهما الحدود الطبيعية إذ لا توجد لها موانع طبيعية تحميها وتكسبها وقاية ومناعة وثانيها عدم وجود تجانس بين سكانها إذ كانوا خليطاً من المسيحيين الشرقيين " السريان والأرمن اليعاقبة " ومن الصليبيين الغربيين فضلاً عن المسلمين الذين تركزوا في مدن بكاملها كسروج والبيرة التي خضعت للصليبيين () ، ولم تقتصر أهمية الرها على الجانب الصليبي، بل كانت في نظر المسلمين من أهم المواقع التي يجب السيطرة عليها، فقد ذكر ابن الأثير مكانتها في بلاد الجزيرة بسبب موقعها بين الموصل وحلب، ووصفها بأنها من الديار الجزرية عينها ومن البلاد الإسلامية حصنها مما جعل القوى الإسلامية سواء في العراق أو الشام ترغب في السيطرة عليها ().





يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

38 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي: 8- جهاد أمير الموصل آق سُنقرُ البرسقي لإنقاذ حلب:


38

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي:

8- جهاد أمير الموصل آق سُنقرُ البرسقي لإنقاذ حلب:

أ- حلب تتصدى للصليبيين:

تعرضت حلب لضغط الصليبيين وهجماتهم مراراً عديدة بدأت مع فجر الغزو الصليبي لبلاد الجزيرة والشام وكان أبرزها وأخطرها ولا ريب حصار عام 518ه وقد أدرك هؤلاء الغزاة الأهمية البالغة لهذه المدينة وما كانت تتمتع به من مركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية والعسكرية والسياسية والاقتصادية وخطوط المواصلات، فهي تقع في مركز وسط حصين بين إمارتين صليبيتين، هما: الرها شرقاً في الجزيرة الفراتية، وإنطاكية غرباً على البحر المتوسط في نفس الوقت الذي يمكنها الاتصال بالقوى الإسلامية التركمانية المنتشرة في الجزيرة والفرات الأناضول وشمالي الشام مما يعد أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد وتحقيق أهداف حاسمة ضد الصليبيين وفي المقابل فإن إسقاط حلب وضمها إلى الكيان الصليبي سوف يؤمن المواصلات بين الرها وإنطاكية، ويعجل إقامة وحدة سياسية وعسكرية بينهما، كانت ستلعب ولا شك دوراً خطيراً لصالح الغزاة () وإذ أدرك الحلبيون عدم جدوى بقاء حلب على هذه الأوضاع القلقة، وضرورة تسليمها لأمير قوي، لذلك أرسلوا إلى إيلغازي الأرتقي حاكم ديار بكر يطلبون منه القدوم لتسليمها إياه، فتقدم هذا إلى حلب عام 511ه، وتولَّى مقاليد الأمور فيها، وفرض سيطرته على المواقع التابعة لها، ولكن إنشغال الرجل بأمور ولايته في ديار بكر كان يضطره في كثير من الأحيان إلى الغياب عن حلب وإدارة ظهره لمشاكلها وكان الصليبيون يستغلون ذلك ويشددون هجماتهم على حلب والمناطق المحيطة بها، حتى إذا توفي الرجل في رمضان عام 516ه سعى الصليبيون لاستغلال الفرصة وانقسام إمارته بين أبنائه وانعزال حلب عن القوى المقاتلة في ديار بكر لتحقيق انتصارات سريعة في شمال الشام، ولكن ظهور ابن أخيه بلك بن بهرام وتوليَّه قيادة حركة الجهاد ضد الغزاة؛ قطع الطريق على هؤلاء، وأنقذ حلب من خطر محقق، غير أن مقتل بلك بعد سنتين من توليه الحكم وانتقاله إمارته إلى ابن عمه حسام الدين تمرتاش الذي تميز بالضعف والانهزامية، فتح الطريق ثانية أمام الصليبيين لكي يشددوا النكير على حلب ويحققوا حلمهم بالسيطرة عليها، ويصف المؤرخ ابن العديم كيف تدهورت الأوضاع في حلب إثر تولَّي تمرتاش الحكم، ويقول : فأما تمرتاش فإنه لما ملك حلب، ألهاه الصبا واللعب عن التثمير والجد والنظر في أمور الملك، ففسدت الأحوال وضعف أمر المسلمين بذلك () . وقد بدأ تمرتاش ولايته بإطلاق سراح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس الذي كان بلك قد أسره في إحدى معاركه ضد الغزاة، وذلك لقاء مبلغ تافه من المال، وقد أطلقه تمرتاش من معتقله وأحضره إلى مجلس؛ فأكلا وتشاربا وخلع عليه تمرتاش قباءً ملكياً، وأعيد إليه الحصان الذي كان قد أخذه منه بلك يوم أسره (). ولم يلبث تمرتاش – بعدها – أن انسحب إلى ولايته في ديار بكر لكي يتبع سياسة انعزالية فلا يرمي بسهم ضد الغزاة وبهذا اتيحت لهؤلاء الفرصة – كرة أخرى – لتضييق الخناق على حلب والسعي لتحقيق هدفهم الذي عجزوا عنه في السنين السابقة، وهكذا شهدت حلب في عام 518ه حصاراً من أخطر ما تعرضت له في تاريخ الحروب الصليبية الطويل () .

ب- خيانة دبيس بن صدقة المزيدي أمير الحلة:

بدأت المحاولة لإسقاط حلب بخيانة تقدم بها أحد الأمراء العرب : دبيس بن صدقة المزيدي أمير الحلة الواقعة جنوبي بغداد، والهارب من وجه الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية بسبب استفزازه المستمر لهما وتآمره عليهما، قال للصليبيين بأن له أنصاراً في حلب، وأنهم متى رأوه على رؤوس المهاجمين سلموا إليه البلد ومما قاله للصليبين: إن أهلها شيعة وهم يميلون إلىّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إليّ، وبذل لهم على مساعدته بذولاً كثيرة () ووعد بلدوين أمير إنطاكية وجوسلين أمير الرها بأنه سيقدم لهما الكثير لقاء مساعدتهما له، وقال لهما: إنني أكون في حلب نائباً عنكم مطيعاً لكم (). وتمكن – أخيراً – من التوصل مع الصليبيين إلى اتفاق تكون حلب بموجبه له، أما الأموال فتكون لهم، فضلاً عن بعض المواقع القريبة من حلب () ، وتقدم بلدوين على رأس قواته ونزل على نهر قويق قريباً من حلب، وأفسد المناطق الزراعية المحيطة به، ثم رحل إلى حلب فنزل عليها في أواخر شعبان 518ه، وتقدم جوسلين أمير الرها بصحبة دبيس بن صدقة () – وكان دبيس شيعياً كآبائه - () صوب ناحية أخرى من أعمال حلب، وقاما بتدمير مزروعاتها، وقدرت الخسائر بما يقرب من مئة ألف دينار، ومن ثم رحلا ونزل مع بلدوين على حلب، واجتمع بهم هناك (خونة) آخرون من أجل تطميين مصالحهم واقتسام الغنائم في حالة سقوط حلب : سلطان شاه بن رضوان السلجوقي، عيسى بن سالم بن مالك العقيلي، ياغي سيان بن عبدالجبار الأرتقي .. وفرضوا جميعاً الحصار على حلب من شتى جهاتها (). ووطَّنوا أنفسهم على المقام الطويل، وأنهم لا يغادرونها حتى يملكوها، وبنوا البيوت لأجل البرد والحر () ، فضلاً عن ثلاثمائة من الخيام، بينما لم يكن في حلب يومها سوى خمسمائة فارس ().

ت- أعمال استفزازية صليبية ضد أهالي حلب:

بدأ الغزاة بشن هجماتهم الدورية على حلب، وقطعوا أشجارها، وأفسدوا بساتينها وزروعها في محاولة لتدمير اقتصادياتها التي تعتمد على الزراعة بالدرجة الأولى، كما قاموا بتخريب مشاهد المسلمين ونبشوا قبور موتاهم، وسلبوا أكفانهم، وجعلوا من توابيتهم أوعية يتناولون بها طعامهم وعمدوا إلى من لم تتقطع أوصاله منهم فربطوا في أرجلهم الحبال وسحبوهم أمام أنظار المسلمين المحاصرين في حلب، وجعلوا يصيحون: هذا نبيكم محمـد!! وأخذت جماعة منهم مصحفاً من المشاهد المحيطة بحلب وصاحوا : يا مسلمين أبصروا كتابكم !! ثم ثقبه أحدهم بيده ثم شده بخيطين وربطه بأسـفل برذون قريب فـراح هـذا يروث عليـه .. وكلما أبصر صاحبه الروث يتساقط على المصحف الشريف صفق بيديه وضحك عجباً وزهواً ().

ث- المقاومة الحلبية الشعيية:

لم يكتف الصليبيون بهذا بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين، فاضطر هؤلاء إلى مجاراتهم بالمثل، وكان يقود المقاومة الإسلامية القاضي أبو الفضل بن الخشاب الذي كان قد تمّرس على أعمال الدفاع منذ بداية العقد، وكان يملك شعبية واسعة في حلب فأصدر أوامره بتوجيه ضربات مباشرة في قلب معسكرات الغزاة فكانت جماعة من مقاتلي حلب تخرج سراً لتغير على هذه المعسكرات، فتقتل وتأسر وتقفل عائدة من حيث أتت ... وفي الوقت نفسه كانت الرسل تتردد بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق ولكن دون جدوى ().

ج- استنجاد أهالي حلب بأمير ديار بكر:

ضاق الأمر بالمسلمين في حلب واعتصرهم الإرهاق والجوع، فاتفق أميرهم بدر الدين الأرتقي وجماعة من كبار المسؤولين على إرسال وفد من زعماء حلب إلى ديار بكر للاستنجاد بأميرها حسام الدين تمرتاش وتسلَّل أعضاء الوفد الثلاثة ليلاً ومضوا إلى ماردين – قاعدة ديار بكر – ليستغيثوا بأميرها علَّه يولي اهتماماً لما تعانيه حلب من ويلات وعندما وصلوا إلى هناك كان حسام الدين منهمكاً في الاستيلاء على بلاد أخيه سليمان الذي كان توفي في تلك السنة، الأمر الذي دفعه إلى إهمال شؤون حلب وعدم الاستجابة لمطالب وفدها، وقد بقي أعضاء هذا الوفد فترة من الوقت في ماردين يحثون حسام الدين على التوجه إلى حلب لإنقاذها من الحصار، وهو يعدهم ويمنيهم ويماطلهم دون أن يقدم على أي إجراء فأعلموه أنهم لا يريدون سوى أن يصل بنفسه، والحلبيون يكفونه أمر الغزاة () إلا أن مساعيهم فشلت وفي نهاية المطاف تمكن الوفد الخلاص من مراقبة حسام الدين التي فرضها عليهم حتى لا يغادروا ماردين للاستنجاد بأمير آخر، خوفاً من ازدياد ضعف مركزه وفقدانه مدينة حلب، واستطاع الوفد الاتصال بوالي الموصل السلجوقي آق سنقر البرسقي ().

س- آق سنقر البرسقي واستجابته لاستغاثة أهل حلب:

 كان البرسقي حينذاك مريضاً، وكان الضعف قد بلغ منه مبلغاً عظيماً، فمنع الناس من الدخول عليه إلاَّ الأطباء ووصل إلى دبيس من أخبره بذلك، فأعلن البشائر في عسكره وارتفع عنده التكبير والتهليل، ونادى بعض أصحابه أهل حلب: قد مات من أملتم نصره؛ فكادت أنفس الحليبيين تزهق () ، وعندما استؤذن للوفد الحلبي بالدخول أذن البرسقي لهم، فدخلوا عليه واستغاثوا به وشرحوا له الأخطار التي تحيق بحلب ومدى الصعوبات التي يعانيها أهل المدينة، فأجابهم الرجل: إنكم ترون ما أنا الآن فيه من المرض، ولكني قد جعلت لله عليَّ نذراً لئن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم والذي عن بلدكم وقتال أعدائكم ولم تمض ثلاثة أيام على مقابتله تلك حتى فارقته الحمى، وتماثل للشفاء، وسرعان ما ضرب خيمته بظاهر الموصل، ونادى قواته لأن تتأهب لقتال الصليبيين وإنقاذ حلب، وفي غضون أيام معدودات غدا جيشه على أهبة الاستعداد فغادر الموصل متجهاً إلى الرحبة، وأرسل من هناك إلى طغتكين أمير دمشق وخير خان أمير حمص يطلب منهما مساعدته في إنجاز مهمته، فلبى هذان الأميران دعوته وبعثا عساكرهما للانضمام إلى جيش البرسقي الذي كان قد تحرك آنذاك صوب بالس القريبة من حلب وأرسل من هناك إلى مسؤوليها وشرط عليهم – مسبقاً – تسليم قلعة حلب لنوابه لكي يحتمى بها في حالة انهزامه أمام الصليبيين فأجابوه إلى طلبه، وما أن استتب الأمر لؤلاء النواب وأطمأن الرجل إلى وجود حماية أمينة في حالة تراجعه، حتى بدأ زحفه صوب مواقع القوات الصليبية التي تطَّوف حلب (). وصلت قوات طلائع البرسقي حلب يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة من سنة 518ه وما أن اقترب البرسقي بقواته المنظمة حتى أسرع الصليبيون في التحول إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية، فعسكروا في جبل جوشن على الطريق إلى إنطاكية، وهكذا غدوا في حالة الدفاع بعد أن كانوا مهاجمين، وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنالوا منها ما أرادوا، بينما اتجه قسم آخر منهم لاستقبال البرسقي والاحتفاء به لدى وصوله، وقد أدرك الرجل ما يرمي إليه الصليبيون بانسحابهم واتخاذهم موقفاً دفاعياً، فلم يتسرع بمهاجمتهم قبل أن يعيد تنظيم قواته من جديد، خوفاً من نزول هزيمة فادحة بعساكره قد تعرض حلب للسقوط، وأرسل طلائعه الكشفية لرد القوات المتقَّدمة إلى معسكراتها في حلب وقال موضحاً خطته هذه : ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ويهلك المسلمون؟ ولكن قد كفى الله شرهم، فلندخل إلى البلد ونقويه وننظر إلى مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ثم نخرج بعد ذلك إليهم. ومن ثم دخل البرسقي حلب، وبدأ بحل مشاكلها ورفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي، فنشر العدل وأصدر مرسوماً برفع المكوس والمظالم المالية وإلغاء الصادرات وعمَّت عدالته الحلبيين جميعاً بعدما منوابه من الظلم والمصادرات وتحكم المتسلطين طيلة فترة الحصار الصليبي () ، ولم يكتف البرسقي بذلك، بل قام بنشاط واسع لجلب المؤن والغلال إلى المدينة كي يخفف من حدة الغلاء، ويقضي على الضائقة التي يعاينها الحلبيون، وما لبث النشاط الزراعي في منطقة حلب أن عاد إلى حالته الطبيعية، حيث استأنف المزارعون العمل في الأراضي التي شَّردوا عنها، كما عاد النشاط التجاري إلى سابق عهده اعتماداً على ما تمتعت به المنطقة من أمن واستقرار () ، وهكذا استطاع البرسقي أن يحكم الطوق الذي أحاط به الصليبيون حلب، وأن يخلصَّ هذا الموقع الهام من أخطر محنة جابهته طيلة الحروب الصليبية ويوحده مع الوصول لأول مرة منذ بدء هذه الحروب، الأمر الذي أتاح لهـذا القائد ولعماد الدين زنكي من بعده أن يفيد من هذه الوحدة لتحقيق انتصارات عديدة ضد الغزاة () يقول المؤرخ الإنكليزي المعاصر ستيفن رنسمان : ... سرعان ما غدت الإمارة التي شكلها البرسقي نواة لما قام بعدئذ بالشام من دولة إسلامية متحدة زمن الزنكيين والأيوبين والمماليك، ولم يكن الصليبيون الذين وحد بينهم نظام الملكية في بيت المقدس، يواجهون قبل ذلك سوى بلاد تنازعتها في الشام قوى عديدة وإقطاعات متفرقة زادت من ضعفها، وما حدث – إذن – من توحيد حلب مع الموصل يعتبر بدء توحيد الجبهة الإسلامية التي قدر لها أن تقضي في يوم من الأيام على قوة الصليبيين في الشام () . ونلاحظ حرص عامّة المسلمين على الاندماج في كيان إسلامي سني بغض النظر عن القيادة سواء كانت تركية أو عربية أو غيرها وإنما المهم من يقوم بواجب الدفاع عن الإسلام والمسلمين تحت راية أهل السنة.

ك- مقتل البرسقي:

 في سنة 520ه ثامن ذي القعدة، قتل قسيم الدولة آقسنقر البرسقي صاحب الموصل، بمدينة الموصل قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع وكان يصلى الجمعة مع العامة وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة من الكلاب ثاروا به، فقتل بعضها، ونال منه الباقي ما أذاه فقص رؤياه على أصحابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام فقال : لا أترك الجمعة لشيء أبداً، فغلبوا على رأيه، ومنعوه من قصد الجمعة، فعزم على ذلك، فأخذ المصحف يقرأ فيه، فأول مارأ " وكان أمر الله قدراً مقدوراً " (الأحزاب، آية : 38)، فركب إلى الجامع على عادته، وكان يصلي في الصف الأول، فوثب عليه بضعة عشر نفساً عدة الكلاب التي رآها، فجرحوه بالسكاكين، فخرج هو بيده منهم ثلاثة وقتل رحمه الله، وكان مملوكاً تركياً خيراً، يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلى من الليل متهجداً ().

ن- الباطنية من أخطر معوقات حركة الجهاد :

أثبت الباطنية عداءهم الكامل لقادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر، وكأن خناجرهم المسمومة كانت تشق للصليبيين طريقاً نحو تثبيت أقدامهم في بلاد الشام والجزيرة على حساب المسلمين وهكذا أثبتت وقائع التاريخ كيف التقى قادة الجهـاد الإسلامي في ذلك العصر في بعض الأحيان – في الشهادة – فمن قبل اغتيل شرف الدين مودود، والآن نجد آق سنقر البرسقي يلقي نفس المصير، وقد عكس ذلك كله : أن مسلك الإسماعيلة النزارية في ذلك الحين كان من أخطر معوقات حركة الجهاد ضد الغزاة نظراً لوجود عدوين في وقت واحد أمام القيادات السنية على نحو عكس المشاق البالغة التي واجهت أولئك القادة () في الدفاع عن عقيدة الأمة ودينها وأعراضها وأوطانها.

هذا وإن كان أقسنقر البرسقي قد استشهد فإن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله، ففي ربيع الآخر من عام 521ه/1127م عهد السلطان محمود إمارة الموصل إلى عماد الدين زنكي وبظهوره على مسرح الأحداث بدأت صفحة جديدة في ميزان القوى بين المسلمين والصليبيين () ، وقد بدأ عماد الدين بتكوين جبهة إسلامية متحدة ضد الصليبيين فسيطر على القلاع القريبة منه مثل جزيرة ابن عمر ونصيبين وسنجار وبلاد الخابور وحران، ثم اتجه تفكيره بعد ذلك للاستيلاء على حلب، أكبر المراكز الإسلامية بشمال الشام، وواتته الفرصة عندما علم باضطراب الأحوال بها وتهديد كل من جوسلين الثاني صاحب الرها وبوهيمند الثاني صاحب أنطاكية لها، فسارع عماد الدين زنكي إليها فلقيه أهلها بالبشر ودخل البلد في يوم الاثنين 13 جمادي الأخرة سنة 522ه/يونيو 1128م() ، واستولى عليه ورتب أموره وأقطع أعماله الجنود والأمراء، ويؤكد ابن الأثير على أهمية هذا الفتح بقوله: ولولا أن الله تعلى مَن عـلى المسلمين بولاية الشهيد لكـن الفـرنج استولوا على جميعه ().




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

37 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي: 7- بلك بن بهرام بن أرتق:


37

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي:

7- بلك بن بهرام بن أرتق:

بلك بن بهرام صاحب قلعة (خرتبرت) استلم راية الجهاد بعد عمه "إيليغازي – صاحب ماردين" كان خصماً عنيداً للصليبيين وكان يتطلع للقضاء عليهم لا في منطقة الجزيرة فقط بل وفي بلاد الشام وقد استهل أعماله العسكرية أثناء مرض عمه نجم الدين إيلغازي في رجب سنة 516ه/1122م بحصار الرها، ولكنه لم يستطيع النيل منها بعد فترة طويلة من الحصار، مما اضطره إلى الإنسحاب عنها، لذا رأى الصليبيون الذين بالرها أنه لابد من الاستعانة بجوسلين صاحب الأطماع الكثيرة وخصم المسلمين العنيد، الذي كان وقتذاك مع بلدوين ملك بيت المقدس بالبيرة مستغلين في ذلك تفرق عساكر بلك بن بهرام بن ارتق عقب عودته من الرها، إلا أن بلك بن بهرام استطاع أن ينصب لجوسلين ومن معه من الصليبيين كميناً عند سروج بأرض موحلة ومشبعة بمياه الأمطار فلم تتمكن خيولهم من الإسراع بسبب هذا الوحل، في الوقت الذي سلط عليهم بلك ورجاله الذين لا يتجاوز عددهم أربعمائة فارس وابلاً من السهام فلم يفلت منهم إلا القليل، وأسر جوسلين وابن خالته جاليران صاحب البيرة في سنة 516ه/1122م. وقد ترتب على هذا الانتصار الذي حققه بلك بن بهرام على الصليبيين ضياع قوة الصليبيين المعنوية في بلاد الشام وازدياد حماسة المسلمين وتطلعهم إلى الوثوب على الصليبيين من كل ناحية () ، وحاول بلك بن بهرام بن ارتق أن يحصل من جوسلين ومن معه من الصليبيين الذين وقعوا في الأسر على تنازل منهم على الرها، مقابل إطلاق سراحهم ولكنهم رفضوا قائلين: نحن والبلاد كالجمال، متى عقر جمل حول رحله إلى آخر والذي بأيدينا قد صار بيد غيرنا () عندها حمل بلك بن بهرام أسراه إلى قلعة خرتبرت ووكل بهم من يحرسهم وتوجه سنة 517ه/1123م إلى حصن كركر التابع لإمارة الرها بقصد الاستيلاء عليه() ، وأدرك بلدوين ملك بيت المقدس الذي أصبح وصياً على الرها مضافاً إلى وصايته على إنطاكية أن من واجبه التحرك لتخليص جوسلين من الأسر ومنع كركر من السقوط بيد بلك بن بهرام وافهام المسلمين بأن قوة الصليبين لا زالت قوية باطشة وخرج بلدوين على رأس جيشه حتى وصل عند الضفة الشرقية لنهر سنجه أحد روافد الفرات تجاه معسكر بلك بن بهرام الذي كان قد رفع الحصار عن كركر وعاد لمواجهة بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، ودار القتال بين الطرفين في التاسع عشر من شهر صفر سنة 517ه/1123م، انهزم الصليبيون بالرغم من قلة قوات المسلمين، ولم تقف أهمية الوقعة عند حد انتصار بلك بن بهرام بل تعدته إلى أن بلدوين ملك بيت المقدس قد وقع في أسر بلك في بن بهرام بالإضافة إلى استيلائه على حصن كركر، وحمل بلك أسيره الجديد إلى خرتبرت وضمه إلى جوسلين ومن معه من زعماء الصليبيين وفرسانهم () . وهكذا خلت إمارات الصليبيين، الرها، وإنطاكية، ومملكة بيت المقدس من زعمائها الذابين عنها، مما أدى إلى اضطراب وضع الصليبيين في الجزيرة وبلاد الشام ولكن القوى الإسلامية في بلاد الشام لم تستطع وقتذاك أن تهتبل هذه الفرصة والانقضاض على إماراتهم والقضاء على شأفة الصليبيين ().

محاصرة الصليبيين لحلب:

أما بلك بن بهرام بن أرتق فإنه بعد أن جمع أسراه في قلعة خرتبرت توجه إلى حران للاستيلاء عليها في ربيع الأول من سنة 517ه/1123م، بهدف التقوي بها، فتم له ذلك وكان بلك بن بهرام يطمع في الاستيلاء على حلب من سليمان بن عبدالجبار عقب استيلائه على حران لأنه كان يدرك أهمية حلب الاستراتيجية، وأنه لن يحقق آية نتيجة حاسمة على الصليبيين مالم يضم حلب إلى إمارته كي تكون له قاعدة في بلاد الشام، يستطيع من خلالها التحرك في ميدان فسيح، وليتفرغ لقتال الصليبيين () ، لذلك فرض بلك بن بهرام على حلب الحصار حتى اضطر من بها إلى تسليمها إليه في صباح يوم الثلاثاء غرة جمادى الأولى سنة 517ه/1123م (). إلا أن بلك بن بهرام لم يستطع المضي قدماً في جهاد الصليبيين بالشام حيث وصله نبأ تمكن جوسلين من الفرار من الأسر بمعونة جماعة من الأرمن الذين كان بلك بن بهرام قد أحسن إليهم بخرتبرت، فعاد على وجه السرعة إلى خرتبرت في رجب من نفس السنة 517ه/1123م واستطاع إعادة الأمن بها ونقل الأسرى المتبقين فيها إلى حران بعد معاقبة الأرمن الذين كانوا بها () . وأما جوسلين صاحب الرها الذي هرب من الأسر فقد استطاع تكوين جيش من صليبيين بيت المقدس وإنطاكية، واتجه به صوب حلب وضيق على من بها من المسلمين، ولم يكتف بهذا، بل اقعد على نبش قبور الموتى من المسلمين في البلاد المحيطة بها وظل محاصراً لها حتى شهر رمضان من السنة نفسها 517ه/1123م ولما لم يستطع النيل منها عاد إلى تل باشر، على أن حلب لم تسلم من حصار الصليبيين بعد عودة جوسلين إلى تل باشر، بل تعرضت لحصار آخر من صليبي أنطاكية، أدى إلى قطع الصلة بينها وبين غيرها من البلاد الإسلامية في الشام، تلك البلاد التي كانت تزودها بالمؤن () ، وجد بلك بن بهرام بن أرتق إنه لابد من الاستعانة بآقسقر البرسقي صاحب الموصل وبظهير الدين طغتكين صاحب دمشق لرفع الظلم عن أهل حلب ولإنزال ضربة بالصليبيين يستطيع بعدها بلك بن بهرام العودة إلى حلب وإقرار الأوضاع بها، فوصل إليه سنة 517ه/1123م كل من صاحب الموصل آقسنقر البرسقي وصاحب دمشق طغتكين على رأس قواتهما يعبر بهم الفرات ونزلوا على عزاز، ولكن الصليبيين الذين كانوا قد تجمعوا بها تمكنوا من طرد المسلمين، فعاد كل منهم إلى بلده، ودخل بلك بن بهرام حلب في سنة 518ه/1124م وتخلص من بعض المناوئين له وقضى على فوضى قطاع الطرق، وتزوج بإحدى بنات رضوان بن تتشى لتويثق صلته بالسلاجقة، واتخذ من حلب عاصمة له من بلاد الشام، وقاعدة انطلاق لتوجيه الضربات ضد الصليبيين ولم يكتف بهذا بل نقل إليها أسراه من حران واعتقلهم في قلعة حلب ويبدو أن ما قام به بلك بن بهرام من نقل أسراه إلى حلب إنما كان من أجل الإطمئنان عليهم من أية محاولة لانقاذهم أثناء بعده عنهم، والدليل على ذلك أنه حين جهز فرقة عسكرية في صفر من سنة 518ه/1124م لقتال الصليبيين بعزاز، لم يخرج معهم خوفاً من أن يغدر به بعض سكان حلب المعارضين له ويطلقوا سراح أسراه ().
مقتل بلك بن بهرام: لم يمهل الأجل بلك بن بهرام وبينما كان يحاصر الفرنجة عند قلعة منيح وافته المنية بسهم طائش أصابه فقتله لا يدري من رماه، واضطرب عسكره، وتفرقوا وبمقتله فقد المسلمون فيه رجلاً عظيماً أثبتت أعماله إنه زعيم وقائد حاول جمع كلمة المسلمين في الشام والجزيرة ضد الصليبيين، ويمكن القول إنه بمقتل بلك بن بهرام سنة 518ه/1124م انتهت مرحلة قيادة الأراتقه لحركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، على الرغم من أن حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي قد استطاع الاستيلاء على حلب عقب مقتل بلك بن بهرام إلا أن حلب لم تتمتع في أيامه بأوضاع مستقرة، بل فسدت أحوالها وضعف أمر المسلمين بها حيث، الهاه الصبى واللعب عن التشمير والجد والنظر في أمور الملك ولم يقف حسام الدين عند هذا الحد من الخمول وعدم المبالاة بجهاد الصليبيين، بل قبل وساطة أبي العساكر سلطان بن منقذ صاحب شيزر في إطلاق سراح بلدوين ملك بيت المقدس، الذي كان في أسر بلك بن بهرام () ، الأمر الذي أدى إلى ازدياد حماس الصليبيين في النيل من المسلمين، وهذا بالطبع كان له أثر كبير في تصدي الصليبيين بصلابة لحركة بعث فكرة الجهاد الإسلامي في المرحلة التالية التي قادها كل من آقسنقر البرسقي صاحب الموصل وظهير الدين صاحب دمشق ().




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

36 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي: 6- نجم الدين ايلغازي صاحب ماردين :


36

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي:

6- نجم الدين ايلغازي صاحب ماردين :

ارتبطت حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين ارتباطا شديداً بزعماء الموصل الذين كانوا تحت طاعة السلاجقة وأدت وفاة السلطان محمد بن ملكشاة سنة 512ه/1117م إلى ازدياد تدهور أحوال السلاجقة في العراق، فسعى السلطان محمود بن محمد ملكشاه إلى استدعاء آقسنقر من الموصل لتوليته شحنكية بغداد () الأمر الذي أفقد الموصل مكانتها القيادية في بعث حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين مؤقتاً، وانتقال هذه القيادة إلى نجم الدين ايلغازي صاحب ماردين، واستهل ايلغازي أعماله بالاستيلاء على حلب سنة 511ه/1117م، لاهميتها بالنسبة لأية قيادة عسكرية وسياسية تسعى لمجابهة الصليبيين وذلك لما كانت تتمتع به مركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وكانت حلب تقع بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، وفي نفس الوقت يمكنها الاتصال بالقوى الإسلامية التركمانية المنتشرة في منطقة الجزيرة. لذا كان الاستيلاء عليها بمثابة فتح الطريق لقيادة حركة الجهاد، وذلك ما حدث فعلاً بالنسبة لنجم الدين ايلغازي وابن أخيه بلك بن بهرام ومن بعدهما آقسنقر البرسقي وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود فيما بعد () . وأما عن تفاصيل استيلاء نجم الدين ايلغازي على حلب سنة 511ه/1117م فقد تجدد بها من الحوادث ما أطمع الصليبيين في الاستيلاء عليها حيث بلغت حداً من الضعف والضائقة الاقتصادية مما أعجز أهلها عن تقديم القوت لدوابهم ولكن خوف أهلها من أنه تسقط بيد الصليبيين قد أجبرهم على استدعاء نجم الدين إيلغازي وتسليمه حلب في السنة المذكورة، واستهل إيلغازي أعماله بحلب بفرض سيطرته على بعض المواقع التابعة لها كبالنس، ومصادرة بعض رجال حلب للحصول منهم على مال يهادن به الصليبيين، فاستوجش منه أهل حلب وجندها – على حد قول ابن العديم – مما اضطره إلى مغادرتها إلى ماردين بعد أن استخلف على حلب ابنه حسام الدين تمرتاش واستغل الجند المقيمون في بالس موجة الغلاء التي مروا بها في نفس السنة 511ه/1117م، فأرسلوا إلى الصليبيين ليسلموها إليهم فاضطر إيلغازي إلى العودة على رأس قوة من التركمان إلى حلب، فلما شعر الصليبيون بالخطر، انسحبوا عنها فتسلمها إيلغازي للمرة الثانية، وعاد إلى ماردين بعد أن عقد معهم هدنة بعدم اعتداء أي منهما على ممتلكات الطرف الآخر().

نقض الصليبيين للهدنة: ولكن الصليبيين وجدوا الفرصة سانحة بعد خروج إيلغازي واغاروا على عزاز وشددوا لحصار عليها حتى اضطر من بها من المسلمين إلى التسليم، واضطر أهل حلب إلى مراسلة الصليبيين وطلبوا منهم التمسك بالهدنة التي كان قد عقدها معهم إيلغازي وأن يسلموهم أي أهل حلب تل هراق ويؤدون لهم القطيعة المقررة على حلب عن أربعة أشهر ومقدارها ألف دينار ويكون لهم من حلب شمالاً وغربا (). وغضب نجم الدين ايلغازي لما وصلت إليه أخبار حلب، ولكنه لم يستطع العودة إليها وانقاذها مما هي فيه لقلة عساكرها فاتجه إلى شرق منطقة الجزيرة بقصد جمع العساكر في الوقت الذي أبلغ فيه ظهير الدين طغتكين عن رغبته في الاجتماع به سنة 512ه/1118م واجتمعا على قلعة دوسر بهدف القيام بدفع الصليبيين عن حلب ولكن ذلك لم يتسير لهما، الأمر الذي دفع الصليبيين إلى أحكام السيطرة على مداخل حلب بعد أن استولوا على بزاغة فتردت الأحوال بحلب حتى بلغت حد التلف على حد قول ابن العديم () ، ولم يجد أهل حلب بدا من الاستعانة بالخلافة العباسية والدولة السلجوقية في بغداد، إلا أنهم لم يغاثوا نظراً لإنشغال السلاجقة بالمنازعات الأسرية فيما بينهم من جهة وضعف الخلافة العباسية من جهة أخرى.
إعلان النفير ضد الصليبيين: لم يتيسر لنجم الدين ايلغازي لقاء الصليبيين فقد فارق طغتكين وعاد إلى ماردين لجمع العساكر تمهيداً للعودة للجهاد والالتقاء مع الصليبيين في معركة حاسمة () وفي ماردين حشد نجم الدين ايلغازي ما يزيد على عشرين ألفا من التركمان () . بقصد قتال الصليبيين الذين ضيقوا على حلب حتى كادت أن تعدم القوت. وأرسل ايلغازي رسله إلى بغداد لإعلان النفير ضد الصليبيين وإعلام الخليفة العباسي المسترشد بالله والسلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه بما فعله الصليبيون بالديار الجزرية وإنهم ملكوا قلعة عند الرها وقتلوا صاحبها بن عطير () وكان نجم الدين ايلغازي قد تواعد مع ظهير الدين طغتكين في سنة 512ه/1118م على ملاقاة الصليبيين في شهر صفر من السنة التالية 513ه/1119م بالشام. وتوجه ايلغازي قبل الموعد المحدد إلى الرها وشدد عليها الحصار، مما اضطر من بها من الصليبيين إلى مصالحته لقاء تنازلهم عن الأسرى المسلمين الموجدين بها فأجابهم ايلغازي وشرط عليهم عدم التوجه لمساعدة أمير انطاكية في حالة حدوث قتل معه فأجابوه من عزل إحدى قوى الصليبيين عن مديد العون للقوى الأخرى وهذا دليل واضح على ضعف رضوخ الصليبيين في منطقة الجزيرة إلى مطالب الأمراء المسلمين().
معركة ساحة الدم: وبعد أن أطمأن ايلغازي إلى أنه لن يتعرض إلى طعنة الصليبيين من الخلف توجه إلى بلاد الشام وقد انضم إليه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي والأمير طغان أرسلان صاحب بدليس وارزن، وواصل سيره حتى بلغ قريباً من الاثارب بأرض سرمدا في ربيع الأول سنة 513ه/1119م وهناك انتظر وصول ظهير الدين طغتكين، وكان الصليبيون بقيادة روجر صاحب أنطاكية قد نزلوا بتل عقرين وشرعوا في بناء حصن لهم هناك ولم يدر بخلدهم أن نجم الدين ايلغازي سيباغتهم هناك لضيق الطريق، تم لتوهمهم أن المسلمين سينالون الإثارب أوزوردنا، حتى أن الغرور قد أصابهم لاعتقادهم بحصانة موقعهم، فأرسلوا إلى ايلغازي يقولون له: لا تتعب نفسك بالمسير إلينا فنحن واصلون إليك () . ولما طال انتظار ايلغازي لوصول حليفه، لبى رغبة الأمراء الذين كانوا معه في التعجيل بمباغتة الصليبيين، فما شعر الصليبيون إلا ورايات المسلمين قد اقبلوا وأحاطوا بهم من كل جانب، وذلك يوم الجمعة السادس عشر من ربيع الأول من السنة 513ه/1119م. وخرج قاضي حلب أبو الفضل بن الخشاب وخطب في المسلمين خطبة بليغة استنهض فيها عزائم المسلمين على الجهاد، فحمل المسلمون على الصليبيين حملة واحدة من جميع الجهات فكانت السهام على الصليبيين كالجراد في الوقت الذي أخذتهم السيوف من سائر نواحيهم، فلم يفلت منهم غير يسير بينما كان الباقون بين قتيل وجريح وكان ضمن القتلى روجر صاحب أنطاكية الذي كان قد تعجل لقاء المسلمين قبل وصول قوات بيت المقدس وطرابلس وغيرها ووقع في الأسر نيفا وسبعين من فرسان الصليبيين ومقدميهم، وجاولوا أن يفتدوا نفوسهم بمبلغ ثلاثمائة ألف دينار فلم يقبل منهم نجم الدين ايلغازي بل أمر بقتلهم جميعاً () ، وقد عرفت هذه الوقعة عند المؤرخين اللاتينيين، ومن نقل عنهم من المؤرخين المحدثين باسم ساحة الدم لكثرة ما قتل فيها من الصليبيين والتي لم يقتل فيها من المسلمين سوى العدد القليل ().
الابعاد التي حققها الانتصار على الصليبيين في معركة ساحة الدم: إن أهمية ما حل بالصليبيين لم يقف عند حد النصر العسكري الذي حققه نجم الدين ايلغازي عليهم، بل تعداه إلى أنه قد صاحب هذا النصر قيام جبهة إسلامية متحدة من الأمراء المسلمين في الشام والجزيرة إضافة إلى إنها جعلت حلب في منأى عن أخطار الصليبيين خصوصاً بعد استيلاء نجم الدين ايلغازي على حصن قريب من الإثارب في السنة نفسها فضلاً عن إنها كانت كارثة فادحة حرمت أنطاكية من زعيمها روجر وجيثها مما جعل السريان والأرمن بأنطاكية يتشككون في موقعهم إلى جانب الصليبيين وهـذا على ما يبدو ما دفعهم إلى التآمر للخاص من الصليبيين الغربيين فيما بعد ()، وذكر ابن العديم أن نجم الدين ايلغازي نزل بعد انتهاء المعركة إلى خيمة روجر ليسلم إليه المسلمون الغنائم التي حصلوا عليها ولكنه رد جميع الغنائم إلى المقاتلين ولم يأخذ منهم إلا سلاحاً يهديه لملوك الإسلام ليبعث في نفوسهم حب الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين () واستطاع ايلغازي أن يحقق سلسلة من الانتصارات في شمال الشام هيأت للمسلمين جوا من الهدوء والاستقرار. فقد استطاع المسلمون أن يلحقوا بالنجدة الصليبية التي أتت بزعامة بلدوين ملك بيت المقدس لنجدة روجر صاحب إنطاكية هزيمة ساحقة () ، ولم يكتف نجم الدين ايلغازي بهذا بل اجتمع في ارتاح بحليفه طغتكين واتفقا على مهاجمة الإثارب وزردنا، فاستطاعا الاستيلاء عليهما من الصليبيين، ثم سار ايلغازي إلى دانيت بنفر قليل من المسلمين والتقى ببلدوين ملك بيت المقدس وروبرت صاحب زردنا ودارت بين الطرفين معركة في جمادى الأولى من السنة 513ه/1119م أسفرت عن انتصار نجم الدين ايلغازي وهزيمة الصليبيين الذين احتموا بحصن هاب بعد مطاردة نجم الدين لهم (). ثم عاد نجم الدين ايلغازي إلى حلب بينما التقى رجاله في طريق عودتهم بصاحب زردنا روبرت الأبرص وبصحبته قوة من الصليبيين، فهاجمتهم قوة ايلغازي مما اضطر من سلم من الصليبيين إلى العودة إلى حصن هاب، في الوقت الذي وقع فيه الابرص اسيراً في أيدي المسلمين فحملوه إلى ايلغازي بحلب، وأنفذه بدوره إلى طغتكين بدمشق حيث قتله صبراً () ، وفي أواخر جمادى الأولى سنة 513ه/1119م غادر ايلغازي حلب إلى ماردين بسبب الضائقة المالية التي مر بها إضافة إلى أن حلب كانت من الضعف بحيث جعلته لا يستطيع البقاء فيها ().
حصار إنطاكية وعقد الهدنة مع ملك بيت الملك: وبالرغم من انشغال نجم الدين ايلغازي ببعض الأمور الإدارية في ماردين، فقد جمع جيشاً من التركمان عبر بهم الفرات إلى بلاد الشام في سنة 514ه/1120م واجتمع بطغتكين وسارا إلى أنطاكية حيث ضرب عليها حصاراً، فلم يتمكنا منها، فد خلا إلى قنسرين، وحاصراها يوماً وليلة، ولم ينالا منها شيئاً، وعندها أشار ظهير الدين طغتكين على صاحبه برفع الحصار عنها وأن يعود كل منهما إلى بلده، فقبل نجم الدين ايلغازي مشورة صاحبه، وعاد إلى حلب بعد أن أدرك ما عليه الصليبيون من القوة، وتفرق عساكره من التركمان واضطر ايلغازي إلى عقد هدنة مع ملك بيت المقدس بلدوين الثاني على أن يكون للصليبيين المعرة وكفر طاب والبارة وضياع من جبل السماق، وعلى أن يكون أمد هذه الهدنة نهاية السنة ().
نقض الهدنة: لم يتقيد الصليبيون بهذه المعاهدة، فقد أغار جوسلين صاحب تل باشر في السنة نفسها 514ه/1120م على بعض البلاد التابعة لحلب، مما اضطر أهل حلب إلى إرسال احتجاج شديد اللهجة إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس يخبرونه فيه باعتداءات جوسلين على المسلمين، ولكنه رد عليهم بقوله: مالي على جوسلين يد () . ولم يقف الصليبيون عند هذا الحد بل أغار الصليبيون بأنطاكية على بلد شيزر وأسروا جماعة من المسلمين وطالبوا أمير شيزر العربي أبو العسـاكر سـلطان بن منقذ ببعض المطالـب التعسفية مما اضطره إلى مصالحتهم على مال يدفعه إليهم () . وبالإضافة إلى ذلك فقد استغل الصليبيون فرصة خلو حلب من ايلغازي فشنوا في صفر من سنة 515ه/1121م هجوماً على الإثارب واحرقوا ما بها من الدور والغلال وسار بلدوين الثاني وأغاز على حلب نفسها، وفرض عليها حصاراً شديداً أدى إلى وقوع خمسين أسيراً من أهلها في يده ونجح الحلبيون في استنقاذ اخوانهم وأجبروه على التراجع عنها إلى أنطاكية () وعلى ما يبدو فإن نجم الدين ايلغازي قد اضطر إلى البقاء في ماردين بعض الوقت مما دعاه إلى مراسلة ولده سليمان بن ايلغازي النائب عنه في حلب يأمره بعقد صلح مع الصليبيين، حصل الصليبييون بموجبه على سرمين وبلدة ليلون وبعض الجهات الزراعية المحيطة بحلب، والإثارب ().
تمرد سليمان بن ايلغازي على أبيه: وعلى الرغم من أن الصلح الذي عقده سليمان بن ايلغازي مع الصليبيين لم يكن في صالح المسلمين، فإن سليمان بن ايلغازي لم يسع إلى علاج ما استجد بحلب من الفوضى والاضطراب، بل أعلن عصيانه على والده وأعلن استقلاله بحلب، وقد شجعت هذه الخطوة من قِبل سليمان بن ايلغازي الصليبيين على مضايقة حلب والاستيلاء على بعض المواقع المحيطة بها في جمادى الآخرة من سنة 515ه/1121م، ومطالبة صاحبها سليمان بالتنازل عن الإثارب لبلدوين الثاني ملك بيت المقدس، ولكن سكان الإثارب من المسلمين رفضوا الخضوع للصليبيين الأمر الذي أجبر بلدوين على التراجع إلى إنطاكية ومنها إلى بيت المقدس ().

القضاء على التمرد: وأما نجم الدين ايلغازي، فإنه ما أن سمع بعصيان ابنه بحلب حتى قدم إليها على وجه السرعة، فعاقب من كان وارء عصيان ابنه، فلما رأى سليمان باعوانه من عقاب شديد خاف على نفسه وهرب إلى دمشق وطلب من صاحبها طغتكين حق اللجوء، ولما تم لايلغازي القضاء على الفتنة بحلب استناب بها ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبدالجبار بن أرتق، وعقد هدنة جديدة مع الصليبيين لمدة سنة كاملة، وكان هدف ايلغازي من عقد تلك الهدنة مع الصليبيين هو كسب الوقت حتى يتمكن من العودة إلى ديار بكر وحشد ما يمكن حشده من قوات ليعيد الكرة على الصليبيين، إضافة إلى خوفه من قيام الصليبيين بغارة على حلب فلا يستطيع ابن أخيه صدهم () ، وفي ماردين استطاع نجم الدين ايلغازي أن يحشد أكبر عدد من التركمان ثم سار بهم إلى بلاد الشام في شهر ربيع الآخر سنة 516ه/1122م، مستغلاً في ذلك الشقاق الذي حصل بين بلدوين ملك بيت المقدس ويونز صاحب طرابلس، ولكن نجم الدين ايلغازي لم يستطيع أن يحقق نصراً حاسماً على الصليبيين، وبالرغم من انضمام بلك بن بهرام بن أرتق وظهير الدين طغتكين إلى جانبه غير أنه لم يمكن الصليبيين بأن يمدوا نفوذهم وسيطرتهم على حلب () .
وفاة ايلغازي وأثر ذلك على المسلمين: في شهر رمضان من سنة 516ه/1122م أحس ايلغازي بتدهور صحته فعاد إلى ميا فارقين حيث وافته منيته هناك، وبقدر ما كانت وفاة نجم الدين ايلغازي خسارة فادحة للمسلمين في بلاد الشام والجزيرة عامة فإن المصيبة كانت أعظم على أهل حلب الذين عظمت عليهم وفاته، لأن نجم الدين ايلغازي كان قد قطع أمل زعماء الصليبيين في الاستيلاء عليها، ولم تقف أهمية وفاة نجم الدين إيلغازي إلى هذا الحد، بل أدت إلى أن إمارته قد تفككت وقسمت بين أولاده حسام الدين تمرتاش الذي حصل على ماردين، وابنه سليمان الذي حصل على ميا فارقين، بينما بقيت حلب من نصيب ابن أخيه سليمان بن عبدالجبار بن أرتق، واحتفظ بلك بن بهرام بن ارتق بقلعة خرتبرت وضم إليهم حران فيما بعد () ، ويضاف إلى ذلك أن حلب التي كانت تعتمد على عساكر التركمان الذين كان يحشدهم ايلغازي من شمال الجزيرة قد افتقرت هذا العنصر البشري الذي رجح كفة المسلمين على الصليبيين في عهد إيلغازي مما جعلها عرضة لغارات الصليبيين، وضعف مركز صاحبها سليمان عبدالجبار بن أرتق عن دفع الصليبيين الذين استغلوا وفاة نجم الدين وأغاروا بقيادة بلدوين الثاني ملك بيت المقدس على بزاعة وبالس على نهر الفرات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استطاع الملك الصليبي الاستيلاء على قلعة البيرة، حتى أصبحت حلب محاطة بالصليبيين من جميع الجهات، مما حتم على سليمان بن عبدالجبـار أن يعقد مع الصليبيين صلحاً سنة 517ه/1123م تنازل بموجبه لهم عن حصن الأثارب ().




يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

35 موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى: رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي: 5- شرف الدولة مودود بن التونتكين 501ه - 507ه/1108م – 1113م :


35

موسوعة تاريخ الحروب الصليبية (3)صلاح الدين الأيوبي

الفصل الأول:الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية

المبحث الثالث:بدء الحرب الصليبية الأولى:

رابعاً:قادة الجهاد من السلاجقة قبل عماد الدين زنكي:

5- شرف الدولة مودود بن التونتكين 501ه - 507ه/1108م – 1113م :

يحتل مودود مكانة خاصة في تاريخ الجهاد ضد الصليبيين، وقد أسهمت في تكوين هذه المكانة عوامل عدة أهمها – ولا ريب – الفترة المبكرة التي ظهر فيها، والطابع الإسلامي العميق لشخصيته المتفانية في سبيل أهـداف المسلمين الكبرى، وسـياسته الداخلية العادلة السمحة وقدرته – بنـاء على ذلك كله – على تزعُّم حركة الجهاد وإيجاد نوع من التنسيق، ربما لأول مّرة، بين كافة القوى الإسلامية في ساحات الجهاد، الأمر الذي لن نجده متبلوراً وناضجاً إلاَّ في عهد الأراتقة وزنكي فيما بعد.. وأخيراً نجاحه في وضع الصليبيين في موضع الدفاع، وتحقيقه عدداً من الانتصارات، جاء أحدها عند مرتفعات طبرية في قلب فلسطين، بعيداً عن الساحة التي درج عليها الصراع بين ولاة الموصـل السابقين وأعدائهم .. ثم جاء مقتله السريع، إثر ذلك، في جامع دمشق على أيدي الشيعة الباطنية الأعداء الشرسين لحركة الجهاد والمقاومة، والحزن العميق الذي شمل جماهير المسلمين بعيد اغتياله والكلمات المخلصة التي قالها قبيل استشهاده جاء ذلك كله لكي يؤكد مكانة مودود الإسلامية كبطل من أبطال الحروب الصليبية ورائد من رواد الجهاد الأولين ().

أ- حملة مودود الأولى ضد الرها: في عام 503ه/1109م بعد أشهر قليلة من استتباب الأمر له في الموصل وبعد أن تلقَّى أمراً من السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه بالتحرك لقتال الصليبيين فبدأ مودود بتشكيل تحالف إسلامي ضم الأمير إيلغازي الأرتقي أمير ما ردين بعساكره من التركمان، وسقمان القطبي أمير أرمينية المعروف باسم شاه الأرمن وعدد كبير من المتطوعيين (). وكانت هذه أول مرة يجتمع فيها هذا العدد من الأمراء المسلمين لقتال الصليبيين، ولهذا تُعُّد هذه الحملة فاتحة عهد جديد من النضال ضد الصليبيين، ونقطة تحول هامة من التفرق والتخاذل إلى التجمع والهجوم () ، وما إن علم الصليبيون في الرها بحشود المسلمين حتى أنفذ بلدوين دي بورج رسولاً إلى بيت المقدس يلتمس النجدة العاجلة من الملك بلدوين، متجاهلاً الاستعانة بـ "تانكرد" صاحب أنطاكية، إذ كان يشك في نواياه، وباتفاقه مع المسلمين ضد الرها وكان الملك بلدوين آنذاك يحاصر مدينة بيروت، ولم يتحرك إلا بعد أن استولى عليها، فأسرع بالمسير نحو الشمال، وصحبه برترام أمير طرابلس، وانضم إليه قرب سميساط، بعض زعماء الأرمن وعلى رأسهم كوغ باسيل، فوصل إلى الرها في آخر شهر ذي الحجة/أواخر شهر تمور، وظل الأتابك مودود يحاصر الرها مدة شهرين دون أن يتمكّن من اختراق استحكاماتها، فلما تراءى له جيش بيت المقدس، رفع الحصار عنها وتراجع إلى حّران وفق خطة عسكرية محكمة، وانضم إليه طغتكين أتابك دمشق () ، وقّرر الملك بلدوين مطاردة الجيوش الإسلامية، إلا أنه كان عليه أن يوحَّد كلمة الصليبيين قبل أن يقوم بهذا العمل، فاستدعى تانكْرد صاحب أنطاكية، ونجح في تحقيق المصالحة بينه وبين أمير الرها () ، وكان مودود قد أمعن في إنسحابه لاستدراج الصليبيين إلى مكان بعيد عن قاعدتهم، ثم تطويقهم بعد أن ينحرف فجأة إلى الشمال لكن عملية المطاردة توقفت فجأة، وانفرط عقد التحالف الصليبي، لأنه تظافرت عدة دوافع جعلت الصليبيين يتوقفون عن المطاردة ويتراجعون من المنطقة لعل من أهمها:
- لقد تلقّى الملك بلدوين تحذيراً مبكراً بخطة مودود، ففكّ الحصار عن قلعة شناو التي تقع إلى الشمال الغربي من حّران، كما تلقّى إنذاراً من بيت المقدس بتحرك فاطمي ضد بيروت، فقَّرر التخليَّ عن الحملة ().
- راجت شائعات في الأوساط الصليبية، بأن رضوان صاحب حلب يستعد لمهاجمة أنطاكية في ظل غياب أميرها، فاضطر تانكرد إلى التخلي عن الحملة.
- وبناء على نصيحة الملك، بأن لا جدوى من محاولة حماية الجهات الواقعة شرقي نهر الفرات، أوعز بلدوين إلى السكان بالجلاء إلى الجهات الواقعة على الضفة اليمنى، واحتفظ بحاميات عسكرية، في حصن الرها وسروج الكبيرين، وبعض القلاع الصغيرة، مع تدعيم الإمكانات الدفاعية لها. أما مودود فقد اكتفى بمهاجمة مؤخرة الصليبيين العابرين وعاد إلى الموصل ().

ب- حملة مودود الثانية ضد الرها: جاءت الجولة الثانية بعد أقل من سنتين، إثر الاستنفار الذي دعا إليه وفد من أهالي حلب قدم إلى بغداد للدعوة إلى الجهاد، بعدما رأوا من تمادي رضوان في إذعانه للصليبيين، والهزائم المتتالية التي مُنِيٍَ بها مسلمو الشام والتي سقط على إثرها عدد من المواقع بأيدي الأعداء وقد استفز نداء الوفد الحلبي جماهير بغداد وفقهاءها، فقاموا بتظاهرة واسعة طالبوا المسؤولين خلالهان خلفاء وسلاطين بضرورة إعلان الجهاد وتسيير الجيوش لوقف الزحف الصليبي، .. وقد أسرع الخليفة بإعلام السلطان السلجوقي بما جرى، وطلب منه الاهتمام بالأمر والإسراع بالاستجابة لنداءات المسلمين، فأصدر هذا أوامره على الفور إلى وإليه على الموصل الأمير مودود بتشكيل تحالف إسلامي جديد جاعلاً القيادة الأسمية لابنه الملك مسعود () ، واجتمع تحت قيادة مودود، حاكم الموصل، جميع حكام الأقاليم في دولة السلاجقة، سقمان القبطي صاحب خلاط ()، وتبريز () ، وبعض ديار بكر، وإيلغازي الأرتقي الذي أناب عنه ابنه أياز، والأميران الكرديان أحمديل صاحب مراغة () ، وأبو الهيجاء صاحب إربل، فضلاً عن بعض أمراء فارس بزعامة الأميرين أيلنكي وزنكي التي بُرسُق أمير همذان () بدأت قوات التحالف عملياتها العسكرية في شهر محرم عام 505ه شهر تموز عام 1111م بفتح عدة مواقع صليبية شرقي الفرات ثم اتجه أفرادها لحصار الرها، أثارت الحملة الذعر بين السكان، لكن في الحقيقة لم تغيَّر الموقف فيها، فقد أعيت المسلمين بسبب مناعتها وصمود أهلها، عندئذ رأى مودود أن يعبر الفرات لمهاجمة تل باشر () ، فتحولت قوات المسلمين إليها كي يجرّوا أعداءهم إلى عبور الفرات فيتمكنوا منهم إلا أن هذا كان خطأ من قادة المسلمين، لأن الصليبيين تمكنوا لدى عبورهم الفرات من نقل مقادير كبيرة من الميرة والأعتدة والأقوات إلى الرها فقويت من بعد ضعف كاد يوقعها بأيدي المسلمين لو استمروا على حصارهم لها (). وما لبث جوسلين صاحب تل باشر، الذي تعرض لضغط القوات الإسلامية، أن تمكن من رشوة القائد الكردي أحمديل الذي كان الجزء الأكبر من قوات المسلمين بمعيته فانسحب متراجعاً بالرغم من معارضة سائر الأمراء (). ولم يمض وقت طويل حتى استنجد رضوان بمودود واستدعى قواته للقدوم إلى حلب كي يعملوا سوية من هناك ضد المواقع الصليبية، فغادر مردود تل باشر متجهةً إلى حلب على رأس قواته، وما أن ابتعدوا عن تل باشر حتى خرج إليهم جوسلين، على رأس قوة من فرسانه، وتمكن من مهاجمة مؤخرتهم، وقتل ما يقرب من ألف رجل منهم، وعاد إلى بلده مثقلاً بالغنائم ولم تكن دعوة رضوان لمودود صادقة، فلم تكد القوات الإسلامية تقترب من حلب حتى أقفل رضوان بوجهها الأبواب، واتخذ من إجراءات الحيطة لمنع المظاهرات أن أمر باعتقال عدد كبير من أعيان المدينة واتخذهم رهائن ولم يسع مودود إلا أن يتحّرك بجيشه جنوباً إلى شيزر بعد أن أغار على عدد من المواقع الصليبية في الشمال وفي شيزر اجتمع به طغتكين الذي كان قد توجه إلى بغداد طالباً المساعدة لاستعادة طرابلس، إلا أنه خاف أن تؤخذ منه دمشق فشرع في مهادنة الصليبيين سراً وأما تانكرد الذي عسكر أمام شيزر فإنه تراجع إلى أفامية، وأرسل إلى الملك بلدوين يستنجد به، فاستجاب له هذا وبعث إلى سائر الفرسان في الشرق الصليبي ليلحقوا به فانضم إليه عدد كبير منهم، كما قام تانكرد باستدعاء أتباعه من سائر جهات إنطاكية. وأما مودود فقد تحصن خلف أسوار شيزر قبل أن يكتمل حشد الصليبيين الذين بلغ عددهم نحو ستة عشر ألف مقاتل كان على رأسهم ملك بيت المقدس، وأمراء الرها وإنطاكية وطرابلس، ورفض مودود أن يجَّروه أعداؤه إلى معركة حاسمة. إلا أن الأمور لم تجر على نحو طيب في جيشه، إذ إن طغتكين لم يشأ أن يبذل له المساعدة إلاَّ بعد أن تعهد مودود بالمضي في حملته إلى الجنوب لقتال الصليبيين في فلسطين رغم خطورة هذه المحاولة من الناحية العسكرية وأما برسق الكردي فأصابه المرض وأراد أن يعود إلى بلاده، ومات سقمان القطبي فجأة فانسحبت عساكره صوب الشمال حاملة جثمانه، وبادر أحمديل إلى الإنسحاب بعساكره محاولاً انتزاع جانب من ممتلكات سقمان ولم يعد يوسع مودود القيام بالهجوم نظراً لتناقض قواته يوماً بعد يوم كما أنه لم يكن راغباً في أن يقضي الشتاء بعيداً عن الموصل، فقفل عائداً إليها (). كان لتلك البوادر السيئة من قبل بعض الأمراء أثرها المباشر على إمكان تحقيق أي نصر حاسم ضد الصليبيين، كذلك الذي حققه جكرمش وسقمان في معركة البليخ. وقد أظهرت هذه الأحداث مدى تفكُّك القيادات الإسلامية وعدم وحدتها، في الوقت الذي تجمعت فيه القوى الصليبية في شمالي الشام وجنوبه، وحققت لبلدوين ملك بيت المقدس نوعاً من الزعامة على سائر أمراء الصليبيين ().
كانت سياسة رضوان في إمارة حلب شراً كلها، فقد هادن الإسماعيلية والصليبيين، وحالفهم ضد خصومهم من المسلمين، إذ انضم إلى صاحب أنطاكية الصليبي ضد صاحب الموصل جاولي عام 501ه وعندما هاجم الأمير مودود صاحب الموصل أنطاكية وتل باشرن رفض رضوان مساعدته وأغلق مدينة حلب في وجهه بل تحالف مع "تنكرد" الصليبي صاحب أنطاكية ضد المجاهدين، وبقيت أبواب المدينة مغلقة سبع عشرة ليلة في وجه الجيش الإسلامي () ، ولم يحفظ له الصليبيون هذه المواقف فحاصروا حلب عام 504ه واشتد الحصار، حتى أكل الناس الميتات وورق الشجر، وفرضوا على رضوان مبلغاً من المال كان يحمله إليهم سنوياً ()، وحصل الإسماعيلية الباطنية الرافضية على مكانة مرموقة في حلب، بفضل تشيع رضوان لأرائهم، ومساعدته لهم، ومن ثم صار يستخدمهم في اغتيال خصومه السياسيين () ، وكان يميل إلى الفاطميين، فخطب للمستعلي في بلاده، ولوزيره الأفضل، ودامت الخطبة لها عامين في حلب وكان دميم السيرة، قّرب الباطنية، وعمل لهم دار دعوة في حلب فكثروا وهلك سنة 507ه () ، وصفه المؤرخ أبو المحاسن فقال: كان شحيحاً بخيلاً قبيح السيرة، ليس في قلبه رحمة للرعية، وكانت الفرنج تغير وتسبي ... ولا يخرج إليهم () ، خلفه ابنه ألب أرسلان المعروف بالأخرس، فنكب الإسماعيلية وقتل زعيمهم أبا طاهر الصائغ، وبقية زعماء تلك الطائفة.

ج- حملة مودود الثالثة ضد الرها: ومع أن مودوداً وجد نفسه وحيداً في حركة الجهاد إلا أنه قام في شهر ذي القعدة 505ه/شهر أيار 1112م، بمهاجمة الرها فجأة، وحاصرها لكن المدينة صمدت في وجه الحصار، فرأى عندئذ أن يترك حولها قوة عسكرية ويهاجم سروج في شهر محرم عام 506ه/شهر تموز عام 1112م بوصفها المعقل الثاني للصليبيين شرقي الفرات. وبهذه الخطة العسكرية يكون مودود قد قسَّم قواته أضعفها متخلياً عن حذره في مواجهة الصليبيين، وكانت النتيجة أن لحق به جوسلين صاحب تل باشر وهزمه وقتل عدداً كبيراً من رجاله، فلم يسعه عند ذلك إلا التراجع نحو الرها، لكن جوسلين سبقه إليها لمساعدة بلدوين دي بورج في الدفاع عنها، وفي الوقت الذي كانت تدور فيه هذه الأحداث، تآمر الأرمن في الرها ضد بلدوين، واتصلوا بمودود ليخلصَّهم من حكم الصليبيين، وجرى الاتفاق على أن يساعدوه في الاستيلاء على قلعة تسيطر على القطاع الشرقي من المدينة، مما يمكنّه بعد ذلك من الاستيلاء على بقية المدينة بسهولة، لكن وصول جوسلين السريع حال دون تنفيذ الاتفاق ورُدَّ المسلمون على أعقابهم، فلم يتمكنوا مـن انتزاع المدينة مـن أيـدي الصليبيين ().

س- حملة مودود ضد إمارة بيت المقدس : معركة الصنبرة () : ظل مودود متمسكاً بفكرة جهاد الصليبيين، وهي المهمة التي عهد إليه بها السلطان محمد السلجوقي، بوصفه ممثله في إقليم الجزيرة وبلاد الشام، فتحرك في مطلع عام 507ه/شهر حزيران عام 1113م على رأس تحالف إسلامي لقتال الصليبيين في بيت المقدس بناءً على استنجاد طغتكين أتابك دمشق به، بعد أن تعرضت إمارته لهجمات شديدة من صليبي بيت المقدس، الذين نفذوا من وادي التيم إلى البقاع، ووصلوا إلى بعلبك، انضم : تميرك صاحب سـنجار، وأيـاز بن إيلغازي أمير ماردين إلى هذا التحالف () وكان هدف المسلمين منقطة فلسطين. فنجحوا في استدراج الملك بلدوين إلى أراضي دمشق حتى جسر الصنبرة، الواقع في المجرى الأعلى لنهر الأردن وفي الثالث عشر من شهر محرم حدث اللقاء الذي انتهى بانتصار المسلمين، ونزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة، فارتد ملك بيت المقدس إلى طبرية () ، ولم يلبث أن وصل لنجدته روجر أمير أنطاكية، وبونز أمير طرابلس، في حين لم يستطع أمير الرها الحضور لأن إمارته كانت بحاجة إلى حماية دائمة () ، ومضى المسلمون في زحفهم، بعد المعركة، حتى بلغوا طبرية، غير أنهم لم يغامروا بمواجهة التحالف الصليبي، وبخاصة أنه دخل فصل الشتاء، فقرروا الإنسحاب إلى دمشق (). وكان ذلك أول مرة تتعاون الموصل ودمشق في حرب الصليبيين في مملكة بيت المقدس وتكمن أهمية الأتابك مودود في أنه : أعاد للمسلمين الثقة بأنفسهم، فتحولوا من الدفاع إلى الهجوم في علاقاتهم مع الصليبيين وبلور فكرة الاتحاد بين المسلمين، وأعطاها بُعداً سياسياً وعسكريا، فأضحى أمراؤهم على استعداد للتعاون المثمر بنوايا صادقة ().

ر- مقتل مودود : سيَّر مودود وحليفه رسولاً إلى السلطان السلجوقي في أصفهان يبشرانه بما تمّ على أيديهما من فتح وبعثوا مع الرسول بعض ما غنموه، وعدداً من أسرى الفرنج ورؤوسهم إلا أن بعُد المسلمين عن بلادهم، وإنقطاع الإمداد والتموين عنهم، واشتداد البرد عليهم، واضطرهم إلى وقف عملياتهم في المنطقة والعودة إلى دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول على أمل الرجوع ثانية لقتال الصليبيين عن حلول الربيع، وبعد أن يتلقى مودود جواب السلطان على رسالته، والتعليمات التي سيصدرها لهذا الصدد () ودخل جامع دمشق يوم الجمعة في ربيع الأول، ليصلي فيه، وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة وخرج إلى صحن الجامع ويده في يد طغتكين، وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربع جراحات وقتل الباطني، وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد فأحرق، وكان مودود صائماً، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر فلم يفعل وقال: لا لقيت الله إلا صائماً، فمات من يومه رحمه الله () ، وتأثر المسلمون لمصرع بطل من كبار أبطال الجهاد، واشتهر بإخلاصه وتفانيه وجرأته، وحزنوا حزناً عميقاً لاختفائه السريع، بعد الانتصار العظيم الذي حققه مع حليفه في قلب البلاد الصليبية، وقد عبرت جماهير دمشق عن حزنها وغضبها، حيث شهدت المدينة اضطرابا لم تشهد له مثيلاً منذ فترات بعيدة، ولم يهدئ من روع الناس سوى أملهم بنجاة القائد من الجـراح التي أثخنته، لكنهم ما أن سمعوا نبأ استشهاده بعد ساعات قلائل، حتى عادوا – ثانية – إلى ما كانوا عليه () ، وكتب ملك الفرنج في بيت المقدس كتاباً إلى طغتكين جاء فيه : إن أمة قتلت عميدها، يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها () !! غير أن ملك الفرنج وغيره من أمراء الصليبيين تجاهلوا أو تعمدو التجاهل آنذاك، إن ما هو أكثر عونالهم وأشد خطراً على كل محاولة إسلامية لقتالهم، ليست هي الأمة التي ظنوا أنها قتلت عميـدها في بيت معبودها. فقد عرفنا موقف هذه الأمة من مقتل بطلها المجاهد، إنما هي تلك الفرقة الباطنية الرافضية الحاقدة – التي قامت على مذهب جديد، شديد الميل إلى التدمير كان قد أنشأة في بلاد فارس، شخص يدعى الحسن بن الصباح وقد تحدثنا عنه وقد دعمته الدولة الفاطمية الرافضية الباطنية ولم تكن كراهية الحشاشين هؤلاء للمسيحيين تزيد على بغضهم للمسلمين السنيين () ، وما نشاهده اليوم خير دليل على ذلك.

ك- ما ترتب على حملات بطل الإسلام مودود من نتائج:
وعلى الرغم من الإخفاق الذي حل بحملات بطل الإسلام مودود إلا أنها تمخضت عن عدد من النتائج المهمة في مسار تاريخ حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، ويمكن إجمالها في الآتي:

إن إمارة مودود – على قصر مدتها – تعد نقطة تحول في تاريخ الصراع الإسلامي – الصليبي خلال تلك المرحلة المبكرة، فقد صارت فكرة الجهاد حقيقة واقعة () ، ووجدت فارسها المخلص الذي حمل لواءها ما يقرب من نصف المدة التي تولى فيها أمر إمارة الموصل ().
يمكن اعتبار حملات مودود مقدمة لحملات عماد الدين زنكي مع عدم إغفال الفارق الزمني في صورة الثلاثة عقود الفاصلة بين إنجاز كل منهما والتي أدت إلى سقوط إمارة الرها الصليبية عام 1144م/539ه حيث أن مودود وجه حملاته الأولى إلى الرها وتل باشر، وعمل على إرهاق أهلها على نحو نصفه بأنه المقدمة الأولى لجهود زنكي ضدها، على اعتبار أن قافلة الجهاد متصلة قائداً من بعد قائد.
كشفت حملات مودود عن الضعف الذي كانت عليه القوى الإسلامية في بلاد الشام والجزيرة وعدم إخلاص بعضها لقضية الجهاد ضد الغزاة الصليبيين ().

وعلى الرغم من الدور الرائد الذي قام به مودود؛ إلا أننا نجد البعض يرى أن عماد الدين زنكي هو الذي وضع أساس حركة الجهاد ضد الصليبيين () ، وفي هذا أجحاف بدور تلك القيادة السلجوقية وواقع الأمر: أن المؤرخين الذين أرخوا لتلك المرحلة من تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي انبهروا بحجم الإنجاز الكبير الذي قام به عماد الدين زنكي من حيث إسقاط أول إمارة صليبية أقيمت في المنطقة، فتصوروا أن المراحل السابقة عليه ليست قيمة كبيرة على الرغم من أنها كانت الممهدة الحقيقية لإنجاز عام 1144م/539ه ولا نغفل أيضاً أن الدعاية السياسية الناجحة والفعالة التي قدمها المؤرخ العراقي الفذ ابن الأثير من خلال كتابه الباهر لمؤسس البيت الزنكي قد جعلت المؤرخين يتأثرون بها بصورة أو بأخرى، على نحو جعل سقوط عماد الدين زنكي في مثل ذلك – الموقف – من حيث تقويم دورهم التاريخي، ويكفي مودود فخراً أنه نجح في ضرب الوجود الصليبي في الجليل، وهي منطقة لم تصل إليها فعاليات المسلمين منذ قرابة عقدين من الزمان، ويكفيه أنه الحق الهزيمة بمؤسس مملكة بيت المقدس الصليبي، ونستطيع أن نصل إلى رؤية محددة من خلال أن قادة الجهاد الإسلامي كل يكمل الآخر، ولاخصومه بينهم، وما قام به مودود أفاد – فيما بعد – القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي، ولذا فبالإمكان القول، اليوم الصنبرة وغداً حطين؛ وهذا ما اثبته السياق العام لتاريخ تلك المنطقة في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي ()  وعلى أية حال عند مقارنة جهد مودود بسابقيه في صورة كربوغا، وجكرمش، وجاولي سقاوة سيتضح لنا أنها أدوار متدرجة ومتصارعة، فكربوغا انحصر أمره في نجدة إنطاكية وجكرمش زاد الأمر من خلال تحالفه مع سقمان بن أرتق على نحو أدى إلى الانتصار في معركة حران 498ه/1104م أما مودود فإن دوره أكثر تعاظماً على نحو أدى إلى هزيمة الصليبيين في معركة الصنبرة عام 507ه/1113م، وهو أمر يثبت لنا أنه خلال نحو تسعة أعوام فقط تم الحاق هزيمتين كبيرتين بالصليبيين، غير أن العقبة القائمة تمثلت في عدم الإفادة من كل من الانتصارين في اجتياح مناطق الأعداء، وتحقيق انتصار سريع خاطف يصعب على الصليبيين تعويض خسائرهم من جرانه غير أن بقايا ظاهرة التشرذم السياسي، والتباغض بين القيادات الإسلامية كان عائقاً دون تحقيق ذلك ().



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ