إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 16 يوليو 2014

موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية (الخلاصة )


موسوعة الحروب الصليبية (2)عصر الدولة الزنكية (الخلاصة )


1.    تبلور المشروع الإسلامي المناهض للتغلغل الباطني والغزو الصليبي في عهد السلاجقة السنيين ونقصد بالسنة فهم الإسلام بفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين المهديين، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
2.    أصبح السلاجقة في عام 447ه أكبر قوة في العالم الإسلامي خاصة بعد أن فرضوا سيطرتهم على بلاد فارس وتغلبوا على الغزنويين والبويهيين، وتوغلوا داخل أراضي الدولة البيزنطية واصطدموا بجيش الروم وبذلك أعطوا دفعة قوية للجهاد ضد الروم الذين عاشوا فساداً أيام البويهيين الشيعة في أراضي الخلافة العباسية لعدم قدرة الخلافة ولعدم أكتراث أمراء البويهيين بالجهاد وقد أكسب هذا العمل وبهذه الصورة السلاجقة شعبية كبيرة سمعة حسنة بين جماهير الناس التي كانت في الماضي القريب ترى وتسمع عن تغطرس الروم وتنادي السلطة بضرورة مجابهتهم دون جدوى.
3.    ساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد ونصروا مذهبها السنّي بعد أن أوشكت على الإنهيار بين النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق والنفوذ العبيدي الفاطمي في مصر والشام، فقضى السلاجقة على النفوذ البويهي تماماً في عام 447ه وتصدوا للخلافة العبيدية الفاطمية، لقد استطاع طغرل بك الزعيم السلجوقي أن يسقط الدولة البويهية في عام 447ه في بغداد وأن يقضي على الفتن وأزال من على أبواب المساجد سب الصحابة وقتل شيخ الروافض الشيعة أبي عبدالله الجلاب لغلوه في الرفض.
4.    كان النفوذ البويهي الشيعي مسيطراً على بغداد والخليفة العباسي، فبعد أن أزال السلاجقة الدولة البويهية من بغداد ودخل سلطانهم طغرل بك إلى عاصمة الخلافة العباسية استقبله الخليفة العباسي القائم بأمر الله استقبالاً عظيماً وخلع عليه خلعة سنية وأجلسه إلى جواره وأغدق عليه ألقاب التعظيم ومن جملتها أنه لقب بالسلطان ركن الدين طغرل بك، كما أصدر الخليفة أمره بأن ينقش اسم السلطان طغرل بك على العملة، ويذكر اسمه في الخطبة في مساجد بغداد وغيرها، مما زاد من شأن السلاجقة ومنذ ذلك الحين حل السلاجقة محل البويهيين في السيطرة على الأمر ببغداد وتسيير الخليفة العباسي حسب إرادتهم.
5.    كانت الدولة الفاطمية تسعى للسيطرة على العراق والمشرق ولذلك قامت بإرسال الدعاة إليها، فقد واصل الحكام الفاطميون جهودهم في نشر دعوتهم مستغلين الاضطراب الذي ساد بلاد العراق وقد استجاب لهم كثير من الناس في عهد الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي والمستنصر بالله الفاطمي وازداد نشاط الدعاة في بلاد المشرق الإسلامي على عهد الأخير، فعهد إلى دعاته بالرحيل إلى فارس وخراسان وما وراء النهر فلقيت الدعوة الفاطمية في بلاد الفرس تأييداً كبيراً فاستجاب لهم كثير من الناس.
6.    من أشهر دعاة الدولة الفاطمية العبيدية المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي وقد تركت جهوده آثاراً خطيرة على الخلافة العباسية في عهد القائم بأمر الله، إذ انضم إليها كثير من قادة الترك والديلم وهم يمثلون عماد القوة التي تعتمد عليها البلاد في التصدي لأعداء الخلافة فظلوا يشجعون الدعوة الفاطمية ويقربون إليهم اتباعها وقد استطاع هبة الله الشيرازي أن يشن حرباً ثقافية فكرية عقائدية على منهج الإسلام الصحيح.
7.    كان البساسيري من القواد المقربين من الخليفة العباسي إلا أن الدعوة الفاطمية العبيدية تغلغلت بين الناس وأثرت في بعض الأعيان والقواد وقد تأثر بهذه الدعوة قائد قواد الجند التركي أبو الحارث أرسلان البساسيري بدعوة هبة الله الشيرازي، وأصبح يكاتب الفاطميين ويعمل على قلب نظام الحكم في بغداد لصالح الدولة الفاطمية وتدهورت العلاقات بين الخلافة والبساسيري وفتنة البساسيري تعطينا درساً بليغاً في أهمية الاعتناء بالقادة العسكريين والوزراء السياسيين وأهل الفكر والرأي العام وتربيتهم على هدي القرآن الكريم وسيرة سيد المرسلين وفقه الخلافة الراشدة حتى لا يقعوا ضحايا للدعوات المنحرفة والمناهج الضالة والعقائد الفاسدة.
8.    دعم هبة الله الشيرازي حركة التمرد التي قادها قائد قواد الجند التركي أبو الحارث إرسلان البساسيري فقد كان هبة الله الشيرازي يتابع أحداث العراق وبخاصة أنه وقف على المكاتبات التي تبودلت بين الخليفة القائم بأمر الله والسلطان السلجوقي وأدرك مدى خطورتها على الخلافة الفاطمية، فعول على الاستفادة من الموقف المتدهور بين الخلافة والبساسيري وأصحابه، فأنفذ إليهم كتباً تضمنت تأييد الخليفة الفاطمي، وحكومته لهم، واستعدادهم لمدهم بالسلاح والمال، فوصلت إليهم هذه الكتب قبيل رحيلهم إلى واسط، فزادت من ثقتهم بانفسهم وقويت شوكتهم ورد البساسيري على مكاتبات الفاطميين برسالة بعث بها إلى المؤيد في الدين شكره فيها على اهتمامه بحركتهم وتأييدهم له ولاتباعه والتمس منه الإمداد السريع بالمال والخيل والسلاح لإظهار الدعوة الفاطمية في بلاد العراق وقد استجابت الدولة الفاطمية لمطالب البساسيري وتحصل على دعمها.
9.    استفاد البساسيري من انشغال طغرل بك السلجوقي باخيه من أمه إبراهيم ينال الذي خرج على طاعة أخيه، فاضطر طغرل بك لمحاربته وترتب على ذلك خلو بغداد من الحامية السلجوقية مما أتاح للبساسيري الفرصة للاستيلاء على حاضرة الخلافة العباسية وإقامة الخطبة فيها للفاطميين فزحف إليها على رأس أربعمائة فارس حاملاً الرايات الفاطمية التي طرزت باسم " الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين، والتف حوله اتباع الدعوة الفاطمية الشيعية الرافضية في بلاد العراق. وأقيمت الخطبة للمستنصر بالله الفاطمي بجامع المنصور في يوم الجمعة الثالث عشر من ذيك القعدة سنة 450ه وزيد في الأذان حي على خير العمل.
10.    انقطعت دولة بني العباس من بغداد وأخرج الخليفة وحُمل إلى الأنبار وحبس بالحديثه، عند صاحبها مهارش بن مجلي العقيلي، فتولى خدمة الخليفة بنفسه وكان أحد وجوه بني عقيل وخطب لبني عبيد الفاطميين في بغداد أربعين جمعه في ولاية المستنصر وحاول البساسيري أخذ الخليفة العباسي وترحيله إلى مصر إلا أن قريشاً بن بدران تصدى لهذه المحاولة وعهد إلى ابن عمه الأمير محي الدين بن مهارش بالتحفظ عليه وتأمين حياته بعد أن استنجد به الخليفة قائلاً : عرفت ما استقر عليه العزم من إبعادي عنك واخراجي من يديك وما سلمت نفسي إليك إلا لما أعطيتني الذمام الذي يلزمك الوفاء به، وقد دخلت إليك ووجب لي ذمام عليك، فالله الله في نفسي، فمتى سلمتني أهلكتني وضيعتني ما ذلك معروف في العرب. وعلى الرغم من ذلك فلم يسمح البساسيري للخلفية القائم بأمر الله بالرحيل إلى الحديثة إلا بعد أن أرغمه على كتابة اعتراف بعدم أحقية بني العباس في الخلافة الإسلامية مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام - على حد زعمه - ولم يكتف البساسيري بذلك بل استولى على ثوب الخليفة  وعمامته وأنفذها إلى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي.
11.    بدأ البساسيري في حملة انتقام واسعة النطاق من أهل السنة واستخدم عوام الشيعة ودفع لهم السلاح ونهب الشيعة دور أهل السنة وتّم الاعتداء على الرموز السنية والانتقام من أهل السنة في بغداد وتّم القبض على رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المُسلمة ولامه البساسيري ووبّخه وضربه ضرباً مبرحاً واعتقله وفي يوم عيد الأضحى من سنة 450ه ألبس البساسيري الخطباء والمؤذَّنين البياض وعليه هو وأصحابه كذلك وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر والشيعة الرَّوافض في غاية السرور والأذان في سائر بلاد العراق بحيَّ على خير العمل وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغَّرق خلقاً ممن كان يعاديه وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا ولما كان يوم الاثنين ليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى ما بين يديه الوزير أبو القاسم بن المسلمة المُلقَّبُ برئيس الوزراء وعليه جُبَّة صوف، وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب جملاً، وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خُلْقان المداسات، وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبُّوه وهذه هي عادتهم عندما يتمكنون من مخالفيهم في كل زمان ومكان، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو في ذلك يتلو قوله تعالى : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعزُّ من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير" (آل عمران، آية : 16).فالبس جلد ثور بقرنيه وعُلّق بكلّوب في شِدقيه، ورفع إلى الخشبة حيّاً، فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه الله وكان آخر كلامه أن قال : الحمد لله الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً.
12.    بقي الخليفة القائم بأمر الله العباسي في اعتقاله يدعو الله ويتضرع إليه وأرسل هذا الدعاء مع بدوي وأمره أن يعلقه على الكعبة وهو في أسره وإليك نص هذا الدعاء إلى الله العظيم من عبدك المسكين، اللهم إنك العالم بالسرائر المحيط بمكنونات الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك وإطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي، بما أن فيه عبد من عبيدك قد كفر بنعمتك وما شكرها، وألقى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك وتجبر بأناتك حتى تعدى علينا بغياً وأساء إلينا عتوا وعدوانا، اللهم قل الناصرون لنا، واغتر الظالم وأنت المطلع العالم والمنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين ونحن نعتز بك يارب العالمين، اللهم إنا حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك وقد رفعت ظلامتي إلى جرمك ووثقت في كشفها بكرمك، فأحكم بيني وبينه وأنت خير الحاكمين، وأرنا منه ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالأثم، اللهّم فأسلبه عزه، ومكنا بقدرتك من ناصيته يا أرحم الراحمين، فحملها البدوي وعلقت على باب الكعبة. فحسب ذلك اليوم فوجد أن البساسيري قتل وجيء برأسه إلى بغداد بعد سبعة أيام من التاريخ.
13.    أرسل الخليفة من أسره إلى السلطان طغرل بك يطلب منه معونته ومناصرته ولبّى السلطان دعوة الخليفة واستطاع السلاجقة أن يفكوا أسر الخليفة وأن يقضوا على البساسيري والوجود الفاطمي بالعراق فقد أدرك السلاجقة الخطر الذي يتهددهم من وراء انتشار الدعوة الفاطمية في بلدان الخلافة العباسية، لذلك اتبعوا سياسة حكيمة بعد أن قبضوا على زمام الأمور في بغداد تتمثل في مناهضة الدعوة الفاطمية، ودعاتها بالحزم والشدة.
14.    حققت دولة السلاجقة انتصارات على المستوى الداخلي وقضوا على البويهيين والنفوذ الفاطمي بالعراق كما حققوا انتصارات على الجبهات الخارجية ضد الدولة البيزنطية في عهد طغرل بك السلجوقي.
15.    تولى ألب أرسلان (محمد) الأسد الشجاع سلطنة السلاجقة بعد وفاة عمه طغرل بك وكان من عظماء ملوك الإسلام وأبطالهم، ملك بعد عمه طغرل بك وكان عادلاً سار في الناس سيرة حسنة، كريما رحيماً شفوقاً على الرعية رفيقاً على الفقراء بارّاً بأهله وأصحابه ومماليكه كثير الدعاء بدوام ما أنعم به عليه كثير الصدقات يتصدق في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار.
16.    كان ألب أرسلان كعمه طغرل بك - قائداً ماهراً مقداماً وقد اتخذ سياسة خاصة تعتمد على تثبيت أركان حكمه في البلاد الخاضعة لنفوذ السلاجقة، قبل التطلع إلى إخضاع أقاليم جديدة وضمها إلى دولته، كما كان متلهفاً للجهاد في سبيل الله ونشر دعوة الإسلام في داخل الدولة المسيحية المجاورة له، كبلاد الأرمن وبلاد الروم، وكانت روح الجهاد الإسلامي هي المحركة لحركات الفتوحات التي قاما بها ألب أرسلان واكسبتها صبغة دينية وأصبح قائد السلاجقة زعيماً للجهاد وحريصاً على نصرة الإسلام ونشره في تلك الديار ورفع راية الإسلام خفاقة على مناطق كثيرة من أراضي الدولة البيزنطية، لقد بقي سبع سنوات يتفقد أجزاء دولته المترامية الأطراف، قبل أن يقوم بأي توسع خارجي، وعندما أطمئن على استتباب الأمن وتمكن حكم السلاجقة في جميع الأقاليم والبلدان الخاضعة له أخذ يخطط لتحقيق أهدافه البعيدة، وهي فتح البلاد المسيحية المجاورة لدولته وإسقاط الخلافة الفاطمية العبيدية وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنية ونفوذ السلاجقة، فأعد جيشاً كبيراً اتجه به نحو بلاد الأرمن وجورجيا فافتتحها وضمها إلى مملكته، كما عمل على نشر الإسلام في تلك المناطق.
17.    وضع السلطان ألب أرسلان نصب عينيه تحقيق هدفي السلاجقة وهما التوسع باتجاه الأراضي البيزنطية وطرد الفاطميين من بلاد الشام والحلول مكانهم ثم استخلاص مصر منهم وقد آثاره احتمال تقارب بين البيزنطيين والفاطميين فحرص على أن يحمي نفسه من بيزنطة بفتح أرمينية والاستقرار في ربوعها قبل أن يمضي في تحقيق الهدف الثاني وهو مهاجمة الفاطميين والواقع أنه كان من الصعب على السلطان السلجوقي من الناحية العسكرية والسياسية أن يتجاوز محور الرها إلى جنوبي بلاد الشام ثم مصر دون تقدير الموقف البيزنطي من جهة ومواقف أمراء الجزيرة وبلاد الشام من جهة أخرى، إذ أن أي اضطراب في العلاقة مع هذه الأطراف من شأنه أن يهَّدد بقطع خط الرجعة على جيشه الذي سيكون بعيداً عن قواعده الخلفية واشتدت في هذه الأثناء غارات الأتراك على أراضي الدولة البيزنطية، وتوغلوا فيها.
18.    استطاع ألب أرسلان أن يضم حلب ويوسع نفوذه في بلاد الشام وتوجه الأتراك بزعامة أتسز، بعد رحيل السلطان ألب أرسلان عن المنطقة إلى دمشق بهدف ضمَّها، فضربوا عليها حصاراً مركزاً وأغاروا على أعمالها وقطعوا الميرة عنها ورعوا زرعها، وغادروها إلى فلسطين فضموا الرملة وبيت المقدس، بعد حصار، وطردوا منها الحامية الفاطمية وانتزعوا طبرية من أيدي الفاطميين وحاصروا يافا فهرب حاكمها رزين الدولة الفاطمي وألغيت الدعوة للخليفة الفاطمي وخطب للخليفة العباسي والسلطان السلجوقي.
19.    تصدى ألب أرسلان لجيوش ملك الروم رومانوس في معركة ملاذكرد وانتصر عليه في عام 462ه، وكان ألب أرسلان في قلة من أصحابه مقارنة لجيوش الروم فقد كانوا قرابة خمسة عشرة ألف وجيوش الروم ثلاثمائة ألف جندي، فاحتسب نفسه ومن معه وقال قولته المشهورة : أنا أحتسب عند الله نفسي وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي، ويومي خير من أمسي.
20.    تعتبر معركة ملاذكرد من المعارك الفاصلة في التاريخ ويسميها بعض المؤرخين باسم الملحمة الكبرى وتعد أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية وأصبحت الأراضي البيزنطية تحت رحمة السلاجقة وبذلك يكون السلاجقة قد تابعوا الجهاد الذي قام به المسلمون ضد الروم.
21.    تعتبر هزيمة البيزنطيين في ملاذكرد نقطة تحول في التاريخ الإسلامي البيزنطي فلأول مرة يقع الإمبراطور نفسه أسيراً في أيدي المسلمين، فهي لا تقل أهمية عن اليرموك ونتائجها، فإذا كانت هذه الأخيرة قررت مصي بلاد الشام، فإن الأولى قد قررت مصير آسيا الصغرى، التي نجح الأتراك السلاجقة في فتحها والتوغل فيها، وكانت بذلك لبنة اجتثت من بناء الدولة البيزنطية، فمهدت لسقوطها فعندما فقدت الإمبراطورية ولاياتها الغنية في آسيا الصغرى أصبحت القسطنطينية رأسا حرم من الجسد الذي يسنده وبذلك غدت آسيا الصغرى برمتها مكشوفة أمام السلاجقة وهكذا بضربة واحدة دفعت الحدود التقليدية التي طالما فصلت بين الإسلام والمسيحية 400 ميل إلى الغرب ولأول مرة استطاع الأتراك السلاجقة أن يحرزوا مكاناً ثابتاً في تلك البقاع ومنُذ ذلك الحين فقد الرؤساء والجنود شجاعتهم ولم تحرز الإمبراطورية نصراً على الإطلاق.
22.    ومن نتائج ملاذكرد أن قضى السلاجقة على التحالف البيزنطي الفاطمي، واضطربت بيزنطة إلى مصالحتهم، أما أرمينية فقد زالت منها الإدارة البيزنطية بعد أن هجرها سكانها وخضعت المدن الأرمينية للسلاجقة، كما أنهار نظام الدفاع البيزنطي الذي تولاه أمراء التخوم.
23.    تُعد معركة ملاذكرد أشد ما وقع في التاريخ البيزنطي من كوارث، بل إنها أكبر كارثة حلت بالإمبراطورية البيزنطية حتى نهاية القرن الخامس الهجري.
24.    إتاحة معركة ملاذكر 463ه للسلاجقة الأنسياب إلى جوف آسيا الصغرى، وشجعتهم النزاعات والحروب الداخلية التي نشبت بين البيزنطيين على الاستقرار في ربوعها وتأسيس سلطنة عرفت في التاريخ باسم سلطنة سلاجقة الروم.
25.    ظهرت الدعوة النزارية الإسماعيلية التي تزعمها الحسن بن الصباح في عهد السلاجقة واستطاع أن يسيطر على قلعة الموت عام 483ه في المشرق الإسلامي وجعلها مقراً له ولجماعته وحصن نفسه واتباعه في قلاع متناثرة في أقاليم بحر قزوين وثبت مركزه في قلعة الموت بنواحي قزوين واعتمد في أسلوبه على العنف والاغتيال وبث الرعب في نفوس الناس ويعتبر الحسن الصباح من إفرازات المذهب الشيعي الباطني الرافضي ومن الموالين للدولة الفاطمية.
26.    استخدم دعاة الباطنية أساليب عديدة لخداع الجماهير، مثل التظاهر بالإسلام والانتساب إلى آل البيت والدعوة إليهم، والتقية واستهداف المسؤولين في الدولة العباسية واستخدام الإرهاب والعنف.
27.    ظهر في عهد ألب أرسلان وملكشاه الوزير نظام الملك الذي كان من عباقرة عصره وقدم للأمة مشروعاً سنياً متكاملاً للإحياء السني والتصدي للغزو الباطني من خلال المدارس النظامية وكان الوزير نظام الملك رجل دولة من الطراز الأول في عهده فضبط أمور الدولة السلجوقية الاقتصادية والإدارية ومؤسساتها.
28.    كان نظام الملك عالماً ديناً وجواداً عادلاً حليماً، كثير الصفح عن المذنبين، طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقَّراء والفقهاء، وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح، كان من حفظة القرآن، ختمه وله إحدى عشرة سنة، واشتغل بمذهب الشافعي وكان لا يجلس إلا على وضوء وما توضأ إلا تنفل، وإذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت أمره بالأذان وهذا قمة حال المنقطعين للعبادة في حفظ الأوقات ولزوم الصلوات وكانت له صلة بالله عظيمة وكان يواظب على صيام الاثنين والخميس، وله الأوقاف الدّاره والصدقات الباّرة.
29.    يعتبر فقه نظام الملك في الاقتراب من السلاجقة والوقوف معهم والترقي في مناصب الدولة من فقه النهوض، حيث استطاع من خلال الدولة السلجوقية الوليدة أن يخدم الإسلام والمشروع السني. فقد تولى اكثر من عشرين سنة مناصب قيادية في عهد ألب أرسلان وملكشاه وأصبح الوزير الكبير الذي تولى القيادة الإدارية واسندت القيادة العسكرية إلى السلاطين السلاجقة وكانت من حكمة السلاجقة اسناد الأمور الإدارية إلى أهلها، ويعتبر نظام الملك نموذجاً للعالم الذي استطاع أن يحقق الكثير لأهل السنة ونستفيد من سيرته أهمية دخول العلماء في معمة الصراع السياسي، وتدافع المشاريع المتناقضة، وتوظيف العلماء والحكام والدعاة لنصرة الإسلام وكسر هيبة الشيعة الباطنية.
30.    استخدم السلاجقة القوة العسكرية للقضاء على شوكة المذهب الباطني في قلاعهم ويعتبر السلطان محمد بن ملكشاه من أبرز السلاطين الذين استخدموا القوة لإضعاف شوكتهم ونجح إلى حد كبير.
31.    يعتبر نظام الملك عبقرياً في الفكر الاستراتيجي للدول وقد رأى أن العقائد لا يمكن القضاء عليها بالقوة العسكرية ولا القرار السياسي وكذلك الأفكار والثقافات وقد لاحظ اهتمام الدولة الفاطمية بإعداد الدعاة من خلال المعاهد والمناهج، والإنفاق وإرسال الدعاة لنشر الفكر الشيعي الرافضي الباطني ولا يبدأ الداعي بالتبشير للمذهب الفاطمي إلا بعد خضوعه لبرامج تعليمية تعد بعناية خاصة في عاصمة الخلافة الفاطمية، لإعداد الدعاة وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي وكان لذلك أثره في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الشرق الإسلامي نتيجة لهذه الجهود المنظمة المستمرة في نشر هذه الدعوة، لذلك كله فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعي بنفس الأسلوب الذي ينتشر به ومعنى ذلك أنه رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية، أيضاً وتربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه، لأنه جد في إنشائها وخطط لها وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السلاجقة.
32.    لقد كان النظام شافعياً سنياً حريصاً على الإسلام الصحيح وقد عاصرت نظام الملك آراء وأفكار متباينة مختلفة كانت منتشرة في العالم الإسلامي، كالمعتزلة والباطنية وبقايا القرامطة وغيرهم من أصحاب الملل والنحل وكان نظام الملك يرمي بدرجة كبيرة إلى توجيه الرعية وجهة تخدم مصلحة الدولة وتبعث على الاستقرار والسكينة والأمن، لذا كان هم نظام الملك التأكيد على مواضع الدراسة على إفهام الناس عامة ومنتسبي النظامية خاصة أصول الدين الصحيحة، ولما كان نظام الملك شافعياً، كان يرى أن يدرس الفقه والأصول المستمدة من أفكار وأراء الشافعية وكان من شروط النظامية أن يكون المدرس من الشافعية أصلاً وفرعاً.
33.    إن من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المد الباطني في أنحاء المعمورة وقد استهدف عقيدة الأمة وكتاب ربها وسنة نبيها وتاريخها وعظمائها والكثير من رموز الأمة الإسلامية في عالم السياسة والفكر والعلم والتاريخ والثقافة في حالة استرخاء وفتور والبراكين المدمرة تجري من تحتهم أفلا نستلهم الدرس ونستخرج العبرة، ونعمل بالسنن والقوانين الإلهية في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من حكامنا، مثل ألب أرسلان في غيرته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته، ومن علمائنا كالجويني والغزالي وابن عقيل والبغوي وغيرهم في دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة وقضايا الفكر، ونوظف الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة وتاريخه الموثق وفكره البديع من خلال الفضائيات والإنترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات والمؤتمرات والمناهج والمدارس والجامعات ووسائل الدعوة بأنواعها، نريد بذلك وجه الله وأجره ومثوبته ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
34.    إن من أبرز الأهداف التي عملت المدارس النظامية على تحقيقها، تحقيق العبودية والأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة، وتوفير جو علمي يساعد الأساتذة والمعلمين على أن يفكروا ويؤلفوا ويبتكروا، فيضيفوا كل جديد إلى العلوم المختلفة بصفة مستمرة، والعمل على توسيع الأفق الفكري لدى الطلاب، بالمدرسة لا تكتفي بتنمية الخبرات بل تعمل على أن تكسب الطالب الخبرات الجديدة الناتجة عن تجارب الأمم السابقة والمعاصرة وهذا ما يسمى عند علماء التربية الإسلامية نقل التراث وهذا يكون من خلال إطلاع على التراث الحضاري والفكري لدى الأمة مما يؤدي إلى توسيع الأفق لديهم نتيجة لإطلاعهم على تلك الخبرات ونشر الفكر السني ليواجه تحديات الفكر الشيعي ويعمل على تقليص نفوذه، إيجاد طائفة من المعلمين السنيين المؤهلين لتدريس المذهب السني ونشره في الأقاليم المختلفة، وإيجاد طائفة من الموظفين السنيين ليشاركوا في تسيير مؤسسات الدولة ؟ وإدارة دواوينها وخاصة في مجال القضاء والإدارة.
35.    أبدى نظام الملك اهتماماً كبيراً بوسائل تحقيق أهداف المدارس النظامية، فاختار الممتازين وأظهر ذكاء ملحوظاً في تحديد المنهج العلمي الذي تسير عليه، ثم بذل أقصى جهوده لتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على العطاء الفكري السخي.
36.    فمن ناحية الأماكن التي أنشئت النظاميات فيها يقول السبكي عن نظام الملك : إنه بنى مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل، فهذه أمهات المدارس النظامية التي أنشئت في المشرق الإسلامي ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أنشيء، إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان حيث كانت الأولى عاصمة للخلافة العباسية السنية وليتمركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضاً والثانية : كانت عاصمة السلطنة السلجوقية في عهد الب أرسلان وملكشاه (عصر نظام الملك) وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور وطبرستان وخوزستان والجزيرة الفراتية، فهذا التوزيع الجغرافي يشير بوضوح إلى أن وضع المدارس النظامية في الأماكن السابقة لم يأت اعتباطاً وإنما كان أمراً مقصوداً ومدروساً حتى تقوم بدورها في محاربة الفكر الشيعي في هذه المناطق وتفتح الطريق أمام غلبة المذهب السني.
37.    وإلى جانب الاختيار المدروس لأماكن المدارس النظامية فإنه تم اختيار أساتذتها بعناية تامة بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول عنه وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء وكان نافذاً بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحليّ به عاطله، ويحي به حقه ويميت به باطله وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين الواحد منهم إلا بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته حدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور فلما مات استاذه في عام 478ه قصد مجلس نظام الملك فناظر الأئمة العلماء في مجلسه وقهر الخصوم وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاه الصاحب نظام الملك بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرسته ببغداد.
38.    حدد نظام الملك منهج الدراسة واعتمد على تراث الشافعي وأبو الحسن الأشعري ومما لا شك فيه بأن تراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد وسيرته الذاتية كان لها أثر على تلك المدارس، وليس في الفقه فقط المتعلق بالأحكام الشرعية العملية وقد مّر أبو الحسن الأشعري في مجال الاعتقاد بأطوار واستقر في آخر حياته على مذهب السلف.
39.    كان اهتمام المدارس النظامية قد انصرف إلى التركيز على مادتين أساسيتين هما : الفقه على المذهب الشافعي، وأصول العقيدة على مذهب الأشعري وكانت تدرس بعض المواد في الحديث والنحو وعلمي اللغة والأدب.
40.    لم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها ولذلك أنفق عليها بسخاء وخصص لها الأوقاف الواسعة واهتم بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس.
41.    كان اختيار الأساتذة للتعليم في النظاميات يجري وفق تقاليد تشبه أرقى الجامعات الحديثة، فقد كان النظام يختبر معلوماتهم خلال المناظرات التي كان يعقدها في المناسبات المختلفة ويلقى عليهم أسئلة كان قد فكّر وأعدّها، فإذا لمس في أحدهم علماً وذكاء وجهّه إلى المسلك الذي يريده.
42.    وفق الله النظام توفيقاً قلّ نظيره في التاريخ السياسي والعلمي والديني، فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء أربعة قرون وأدت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السني الشافعي وزودت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحاً من الزمن وبخاصة في دوائر القضاء والحسبة والاستفتاء وهم أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الدولة الفاطمية العبيدية في مصر وبلغوا الشمال الإفريقي ودعموا الوجود السني بها لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الإسلام ونشروا عقائده الصحيحة في الأمصار التي انتقلوا إليها أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية العمامة في دواوين الدولة.
43.    كان اختيار تراث الإمام الشافعي في مناهج المدارس النظامية له مبرراته حيث أن الشافعي يعتبر من أقرب الأئمة الأربعة لبيت رسول الله، فهو قرشي ولربما كان من أسباب اختيار نظام الملك للمذهب الشافعي قربه من النسب النبوي حيث أن من أهداف المدارس النظامية تفويض المذهب الشيعي الباطني الذي تبنته الدولة الفاطمية والتي يزعم مؤسسوها بأنهم من أهل البيت وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم كما أن لمكانة الإمام الشافعي في المذاهب السنية سبباً في اختيار تراثه وفقه حيث أن المالكية يفتخرون به لكونه من تلاميذ الإمام مالك والإمام أحمد يجله ويحترمه ويعتبره من شيوخه، كما أن الشافعي تتلمذ على يدي محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة فهو واسطة العقد بين المذاهب السنية الأربعة الشهيرة، كما أن نزعته النقلية وانتصاره للدليل وحدة ذكائه واستخدامه للعقل في إقامة الحجة على الخصوم وما تميزت به كتابته في أصول الفقه وبيان الخاص والعام والمطلق والمقيد والمجمل والمفصل ... إلخ ربما كانت من أسباب اعتماد تراثه في المدارس النظامية.
44.    ساهم الإمام أبو الحسن الأشعري بتراثه وأفكاره التي وضعها في كتبه وبواسطة تلاميذه في نشاط المدارس النظامية التي اعتمدت ما وصل إليه من بحوث في عقائد أهل السنة والردود على المعتزلة والمخالفين لأصول أهل السنة والجماعة وكان الأشعري رحمه الله من العلماء الذين حملوا لواء العلم في كل ميادينه وصنوفه، ويعد من العلماء الذين جمعوا بين شتى المعارف والعلوم والفنون وكانت له تصانيف في الرد على الملاحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة قال عنه القاضي عياض : وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله ورؤيته وقدم كلامه وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل العقلية ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة.
45.    تكاد أن تجمع كل المصادر التي ترجمت للأشعري على أنه عاش طوره الأول في ظل المعتزلة والاعتزال وبعد خروجه على المعتزلة سلك طريق عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري وبدأ يرد على المعتزلة معتمداً على القوانين والقضايا التي قالها عبد الله بن كلاب وهي طريقه لم يسبقه إليها غيره ووافقه الأشعري وردّ من خلالها على الجهمية والمعتزلة ومكث الأشعري زمناً طويلاً على طريقة ابن كلاب يرد على المعتزلة وغيرهم من خلال ما اعتقده في هذه الطريقة ولكنّ الله تعالى منَّ عليه بالحق فنَّور بصيرته وذلك بالرجوع التام إلى مذهب أهل السنة والجماعة والتزام طريقتهم واتباع منهجهم وقد صّرح بذلك في قوله : وقولنا الذي نقول به وديانتنا التي نَدين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما رُوي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كانه يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضّر الله وجهه ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مُقَدَّم، وخليل معظم مفّخم.
46.    من الأنصاف العلمي القول بأن المذهب الأشعري لم يستقر على مامات عليه الإمام أبو الحسن الأشعري بل حدث تطور في المذهب الأشعري بحيث أن أقوال الأشاعرة تعددت واختلفت في مسائل عديدة ومن أشهر الذين اجتهدوا وخالفوا أبا الحسن الأشعري في بعض المسائل، أبي بكر الباقلاني وابن فورك وعبد القاهر البغدادي والبيهقي والقشيري والجويني والغزالي وغيرهم على درجات متفاوت بينهم في ذلك.
47.    كان للأشاعرة جهود مشكورة في الدفاع عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى هذه الجهود ابن تيمية في كتبه حيث وصفهم بأنهم من أهل السنة في مقابل المعتزلة والرافضة وقد دافع ابن تيمية عن شيوخ الأشاعرة كأبي الحسن الأشعري، والباقلاني، والغزالي مع نقده العلمي المبني على الإنصاف لبعضهم في بعض المسائل.
48.    من أشهر علماء المدارس النظامية أبو إسحاق الشيرازي والإمام الجويني، والغزالي.
49.    إذا كانت إحدى ثمرات المدارس النظامية أنها مهدت الطريق لسيادة المذهب السني، فإنه كان من أبرز أثارها أيضاً تقلص نفوذ الفكر الشيعي، وخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدارس، وكان الإمام الغزالي - العالم السني - على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة وخاصة الباطنية الإسماعيلية، فقد ألف فضائح الباطنية ... وغيرها من الكتب على أن الشيء المثير للأعجاب هو شجاعة الغزالي في حملته على الإسماعيلية الباطنية جاءت في وقت انتشر فيه دعاتهم في فارس، وتزايد خطرهم حتى أقاموا الحصون والقلاع وهددوا أمن الناس وسلامتهم وقاموا بالاغتيالات على نطاق واسع فشملت كثيراً من الساسة والمفكرين على رأسهم نظام الملك نفسه.
50.    كان لكتابات الغزالي أثر قوي في مجال الرد على الباطنية، فقد استطاع بفكره القوي وبما نال من شهرة أن يكون ذا تأثير قوي في مقاومة الباطنية، وأن يناصر المذهب السني فقد استطاع توظيف العلوم الشرعية والعلوم العقلية من الفلسفة والمنطق والكلام في نسف جذور المذهب الباطني وقال فيهم كلمته التي سارت مسير الأمثال : ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فهم يتسترون بالتشيع وما هم من الشيعة في شيء وإنما هو قناع يخفون وراءه كيدهم لأهل الإسلام.
51.    يعتبر الغزالي المنظر الكبير للدولة السلجوقية ولم يكن يعيش بعيداً عن الأحداث وصراعات السلاجقة مع خصومهم الفاطميين الإسماعيليين، فقد كان قبل عزلته وتركه للنظامية منظر الدولة الكبير وانتصر انتصاراً عظيماً لأهل السنة ولعقيدة الدولة السلجوقية السنية واستطاع أن يوجه ضربات قوية لعقيدة الدولة الفاطمية.
52.    ساهم الغزالي بتعاليمه وكتاباته وتوجيهاته في مجال الإصلاح وشخص أمراض المجتمع من فساد رسالة العلماء، ووجود السلاطين الظلمة، وانتشار البدع والمنكرات ولم يكتف بتشخيص الأدواء بل ساهم في علاج الأمراض وتحدث عن ميادين الإصلاح والتي من أهمها :
* العمل على إيجاد جيل جديد من العلماء والمربين.
* وضع منهاج جديد للتربية.
* بناء العقيدة الإسلامية.
* ميدان دراسة العلوم الفقهية.
* ميدان الحكمة والإعداد الوظيفي.
* إحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* نقد السلاطين الظلمة.
* محاربة المادية الجارفة والسلبية الدينية وتصحيح التصور السائد عن الدينا والآخرة.
* الدعوة للعدالة الاجتماعية.
* محاربة التيارات الفكرية المنحرفة.
* الإصلاح في ميدان الفكر، كابيانه بأنه لا تعارض بين العقل والشرع، ورفض التقليد، والدعوة إلى الكتاب والسنة، والالتزام بمنهج السلف.

53.    يعتبر الإمام البغوي من العلماء الذين ساهموا في إحياء المشروع السني ومحاربة المبتدعة من خلال التدريس والتعليم والتأليف وكانت لجهوده الأثر الكبير في تعلق الناس بكتاب الله وفهمه وتفسيره وهدى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشهر كتبه معالم التنزيل في التفسير، وشرح السنة للحافظ البغوي، ومصابيح السنة وقد وضع الله لكتبه القبول، وبارك الله له في تصانيفه، ورزق فيها القبول، وبارك الله له في تصانيفه، ورزق فيها القبول التام، لحسن قصده، وصدق نيته وتنافس العلماء في تحصيلها وقد ساهمت جهوده العلمية والتربوية في بلورت المشروع السني الكبير الذي تّوج بانتصار الإسلام وتقليص النفوذ الباطني ودحره وتحرير البلاد من أيدي الصليبيين فيما بعد ولم يكن الإمام البغوي من ضمن مشائخ المدارس النظامية ومع هذا ساهم في بلورة المشروع السني وذلك بتنشيطه الدعوة الإسلامية في عهده بالوعظ والإرشاد والتعليم والتربية والتصنيف.
54.    لابد لأي مشروع سياسي أو عسكري أو حضاري يراد له النجاح في أوساط المسلمين أن يهتم بالبعد العقدي والفكري وأن تكون القيادة السياسية مبدعة في التفكير، وفي تحديد الأهداف صادقة في الانتماء لعقيدة الأمة وتراثها ودينها وتاريخها وقادرة على توظيف الطاقات العلمية وتحويلها من أعمال فردية إلى أعمال جماعية، عاملة على وحدة الصف ومحاربة الانشقاق، كما أن قدرة العلماء على النزول بأفكارهم وعلمهم للجمهور الإسلامي العريض من عوامل نهوض الحضارة.
55.    في الوقت الذي أحكم فيه نظام الملك مشروعه السني الكبير، كانت أوروبا بقيادة أوروبان الثاني قد أعدت مشروعها الصليبي لغزو المشرق الإسلامي ومغربه وقد ساهمت عوامل وأسباب كثيرة في بروزه لحيز الوجود منها؛ الدافع الديني، والسياسي والاجتماعي، والاقتصادي وتبدل ميزان القوى في حوض البحر المتوسط، واستنجاد أمبراطور بيزنطه بالبابا أوروبان الثاني.
56.    استطاع أوربان الثاني أن يوحَّد شعوب الغرب في مشروع عام على الرغم من أن لغات هذه الشعوب وعاداتها المحلية واهتمامات أبنائها كانت تختلف اختلافاً بيناً وقد تمتثل نجاح أوربان الثاني في أن خطبته التي دعا فيها إلى الحملة الصليبية كانت بمثابة بؤرة تجمعت فيها كل الأفكار التي مثلت الإطار الإيدلوجي لحركة المجتمع الغربي آنذاك على الرغم من الاختلافات اللغوية والعادات والتقاليد وهكذا لم تكن استجابة جماهير المستمعين إلى البابا في كليرمون مجرد رد فعل لبلاغة كلماته، وإنما كانت هذه الاستجابة تعبيراً عن فرحة أولئك المستمعين بالمشروع الذي مس أوتار الآمال التي كانت تداعب آمالهم تقريباً، وجاءت الحرب المقدسة ستاراً مدهشاً يمكن للجميع أن يتحركوا من خلاله لضمان تحقيق أحلامهم الدنيوية وخلاصهم الأخروي بالنسبة لهم.
57.    نجحت الحملة الصليبية إلى حد كبير في تثبيت أربع إمارات لاتينية : الأولى في أعالي الفرات وهي الرها، والثانية في أعالي الشام وهي أنطاكية والثالثة على الساحل الشامي وهي طرابلس أما الرابعة فكانت قلب فلسطين وهي بيت المقدس، إضافة إلى أربع بارونيات كبرى وهي صيدا ويافا وعسقلان والجليل، وأثنى عشر إقطاعاً تسلمها أصحابها من الملك الصليبي مقابل تقديم فروض الولاء والطاعة له وتتمثل في : أرسوف، حبرون، الداروم، قيسرية، نابلس، بيسان، حيفا، تبنين، بانياس، كيفا، اللد، وبيروت.
58.    إن هذا النجاح الذي حققته الحملة الصليبية يرجع إلى عدة عوامل وأسباب ساهمت فيه منها : إنعدام الوحدة السياسية في العالم الإسلامي، الصراع على السلطنة داخل البيت السلجوقي، وجود الدولة الفاطمية الرافضية، سقوط الخلافة الأموية بالأندلس، خيانة بعض النصارى ممن كان يعيش في بلاد الشام، موقف بعض الإمارات العربية من الغزو الصليبي دور الباطنية الإسماعيلية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين، فقد تعاونوا مع الصليبيين، واغتالوا القادة المسلمين، وأشاعوا الرعب والخوف في المجتمع الإسلامي، انتشار الفكر الشيعي الرافضي والباطني، وتدهور الحياة الاقتصادية قبل الغزو الصليبي، ضعف الدولة البيزنطية تمرس فرسان الفرنج على الحرب، والإمدادات الأوروبية المستمرة لهم.
59.    أيقظت صدمة سقوط القدس غفوة العديد من الفقهاء والقضاة وأدركوا حقيقة ذلك الغزو بعد أن هدد وجودهم ومكانتهم في مدن تلك البلاد فضلاً عن الأرض والعقيدة الإسلاميةن ولذلك بادر فقهاء وقضاة الشام من دمشق وحلب وطرابلس للاستنجاد بالسلطة المركزية ببغداد والإمارات المحلية باعتبارها تملك القوة القادرة على مواجهة العدو.
60.    قام بعض الشعراء بدور كبير في تحريض المسلمين ووصف أحوال الأمة وطبيعة الغزو الصليبي الذي احتل البلاد وهتك الأعراض ومن أشهر هؤلاء ما قاله القاضي الهروي وقيل لأبي المظفر الأبيوردي القصيدة التي  أولها :

مزجنا دماً بالدموع السواجم

    ??    فلم يبق منا عرضه للمراجم

وشر سلاح المرء دمعٌ يفيضه
    ??    إذا الحرب شُبَّت نارها بالصوارم
  

وقال شاعر آخر :

أحلَّ الكفُر بالإسلام ضيماً
    ??    يطول عليه للدين النحيب

فخقُ ضائع وحمى مباح
    ??    وسيف قاطع ودم صبيب

وكم من مسلم أمسى سليباً
    ??    ومسلمة لها حرم سليب

وكم من مسجد جعلوه ديراً
    ??    على محرابه نُصَب الصليب

دم الخنزير فيه لهم خلوقٌ
    ??    وتحريف المصاحف فيه طيب


أمور لو تأملهن طفل
    ??    لطفَّل في عوارضه المشيب

أتسبى المسلمات بكل ثغر ؟
    ??    وعيش المسلمين إذن يطيب

أما لله والإسلام حق ؟
    ??    يدافع عنه شبان وشيب

فقل لذوي البصائر حيث كانوا
    ??    أجيبوا الله ويحكم أجيبوا


وكان لجهود العلماء والفقهاء والقضاة والأدباء والشعراء أثر في تقوية حركة المقاومة المسلحة والتي قادها أمر السلاجقة.

61.    من الحقائق المسلم بها في تاريخ الحركة الصليبية، أن حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين انبعثت لأول مرة في بلاد المشرق الإسلامي من منطقة الجزيرة وهي تقع بين دجلة والفرات مجاورة لبلاد الشام وتشتمل على ديار مضر، وديار بكر، وسميت الجزيرة لوقوعها بين نهري دجلة والفرات، وتمتاز منطقة الجزيرة بأنها صحية الهواء جيدة الريع والنماء واسعة الخيرات، بها مدن جليلة وحصون منيعة وقلاع كثيرة ومن أشهر قادة السلاجقة الذين جهادوا الصليبيين، قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب الموصل، وسقمان بن أرتق صاحب ماردين وديار بكر، وقلج أرسلان في آسيا الصغرى.
62.    ويحتل شرف الدولة مودود بن التونتكين مكانة خاصة في تاريخ الجهاد ضد الصليبيين، وقد أسهمت عوامل عدة من أهمها، الفترة المبكرة التي ظهر فيها، والطابع الإسلامي العميق لشخصيته المتفانية في سبيل أهداف المسلمين الكبرى، وسياسته الداخلية العادلة السمحة وقدرته على تزعم حركة الجهاد وإيجاد نوع من التنسيق ربما لأول مّرة، بين كافة القوى الإسلامية في ساحات الجهاد وإيجاد نوع من التنسيق، ربما لأول مرّة، بين كافة القوى الإسلامية في ساحات الجهاد وقد استطاع وضع الصليبيين في موضع الدفاع وتحقيقه عدداً من الانتصارات جاء أحدها عند مرتفعات طبرية في قلب فلسطين بعيداً عن الساحة التي درج عليها الصراع بين ولاة الموصل السابقين، ثم جاء مقتله السريع إثر ذلك، في جامع دمشق على أيدي الشيعة الباطنية الأعداء الشرسين لحركة الجهاد والمقاومة وقد حزن عليه المسلمون حزناً عميقاً ويعتبر في تاريخ الأمة من أبطال الحروب الصليبية وكانت فترة إمارته للموصل من عام 501ه -507ه وكان عند مقتله صائماً وأراد من حوله تفطيره إلا أنه قال : لا لقيت الله إلا صائماً ومات من يومه رحمه الله.
63.    تعتبر حملات مودود نقطة تحول في تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي خلال تلك المرحلة المبكرة، فقد صارت فكرت الإسلام حقيقة واقعة، ووجدت فارسها المخلص الذي حمل لواءها ما يقرب من نصف المدة التي تولى فيها إمارة الموصل ويمكن اعتبار حملات مودود مقدمة لحملات عماد الدين زنكي مع عدم إغفال الفارق الزمني في صورة الثلاثة عقود الفاصلة بين إنجاز كل منهما والتي أدت إلى سقوط إمارة الرها الصليبية عام 539ه حيث أن مودوداً وجه حملاته الأولى إلى الرها وتل باشر، وعمل على إرهاق أهلها وتعتبر جهوده المقدمة الأولى لجهود زنكي ضدها على اعتبار أن قافلة الجهاد متصلة قائداً من بعد قائد.
64.    من القادة السلاجقة المجاهدين نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين، الذي استطاع أن يكبد الصليبيين خسائر فادحة في الأرواح في معركة ساحة الدم في عام 513ه وأسر معهم الكثير، وقد صاحب هذا النصر قيام جبهة إسلامية متحدة من الأمراء المسلمين في الشام والجزيرة إضافة إلى أنها جعلت حلب في منأى عن أخطار الصليبيين خصوصاً بعد استيلاء نجم الدين إيلغازي على حصن قريب من الاثارب.
65.    تولي راية الجهاد بلك بن بهرام بن أرتق بعد وفاة عمه نجم الدين إيلغازي صاحب ماردين وكان خصماً عنيداً للصليبيين وكان يتطلع للقضاء لا في منطقة الجزيرة فقط بل وفي بلاد الشام وقد استهل أعماله العسكرية أثناء مرض عمه نجم الدين إيلغازي في رجب سنة 516ه/1122م بحصار الرها، ودخل في معمعة الجهاد ضد الصليبيين ووقع في أسره بعض ملوك الصليبيين كجوسلين وابن خالته جاليران صاحب البيرة سنة 516ه ولم يمهل الأجل بلك بن بهرام فبينما كان يحاصر الفرنجة عند قلعة منبج وافته المنية بسهم طائش أصابه فقتله لا يدري من رماه وفقد المسلمون بمقتله رجلاً أثبتت أعماله إنه زعيم وقائد حاول جمع كلمة المسلمين في الشام والجزيرة ضد الصليبيين وكان استشهاده 518ه.
66.    ومن قادة الجهاد آق سنقر البرسقي أمير الموصل السلجوقي الذي استطاع أن يفك الحصار عن حلب من قبل الصليبيين في عام 518ه، وقد تمّ قتل قسيم الدولة البرسقي صاحب الموصل في سنة 520ه بمدينة الموصل قتلته الباطنية يوم جمعة بالجامع وكان يصلي مع العامة فوثب عليه بضعة عشر نفساً وجرحوه بالسكاكين، فجرح هو بيده منهم ثلاثة وقتل رحمه الله وكان تركياً خيراً يحب أهل العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله وكان من خيرة الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها ويصلي من الليل متهجداً.
67.    أثبت الباطنية عداءهم الكامل لقادة الجهاد الإسلامي في ذلك العصر، وكأن خناجرهم المسمومة كانت تشق للصليبيين طريقاً نحو تثبيت أقدامهم في بلاد الشام والجزيرة على حساب المسلمين.
68.    ومن فضل الله على هذه الأمة أن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله ففي ربيع الآخر من عام 521/1127م عهد السلطان محمود السلجوقي إمارة الموصل إلى عماد الدين زنكي وبظهوره على مسرح الأحداث بدأت صفحة جديدة في ميزان القوى بين المسلمين والصليبيين.
69.    وكان من العوامل الرئيسية التي ساعدت على ظهور عماد الدين زنكي، الدور الذي لعبه أبوه آق سنقر في شؤون الدولة السلجوقية السياسية والعسكرية والإدارية.
70.    كان للقاضي بهاء الدين الشهرزوري دور كبير في تنصيب عماد الدين زنكي في الموصل لكونه قائد عسكري قوي ولذلك رشح عماد الدين لقيادة القوى الإسلامية التي كان لها الأثر في التصدي للغزو الصليبي وكان لهذا الاختيار أثره في إرساء حجر الجهاد في المشرق الإسلامي حيث تمكن من خلاله غرس نواة الوحدة مع حلب عندما أخذها ورحب به أهلها عام 521ه وكان لموقع حلب الاستراتيجي بين بلاد الشام ومناطق أعالي الفرات هو الذي جعلها في قلب الأحداث آنذاك وقد أدرك عماد الدين أهمية ذلك الموقع بالنسبة لبلاد الشام والموصل والجزيرة الفراتية، واعترافاً من عماد الدين بالجهد الذي قام به بهاء الدين الشهرزوري في تعيينه ورداً لجميله عينه قاضي قضاة بلاده جميعها وما يفتحه من البلاد وكان يثق فيه وفي آرائه، لذلك كانت منزلته عظيمة عنده، وكان لا يصدر إلا عن رأيه.
71.    اتصف عماد الدين بصفات القادة العسكريين والسياسيين والتي من أهمها؛ الشجاعة، والهيبة، والدهاء، والمكر، والحيلة، والذكاء، واليقظة والحذر، والقدرة على اختيار الأكفاء من الرجال، وتقدير الرجال، وقلة التلون والتنقل، والغيرة على محارم المسلمين، والعدل.
72.    اهتم عماد الدين زنكي بضبط إماراته وكانت النظم التي سار عليها تعتبر امتداداً طبيعياً للسلاجقة في غالب مؤسسات الدولة العسكرية، والإدارية، والمالية والقضائية.
73.    عمل عماد الدين على توحيد الجبهة الإٍسلامية وذلك بضم المدن التي حوله والقريبة منه بسبب ضعفها وتفرقها وضيق مساحتها ثم توسع في مناطق الأكراد وضمها لدولته كالأماكن التي كان فيها الأكراد الحميدية والهكارية والمهرانية، والبشنوية واستطاع عماد الدين أن يضع يده على معظم ممتلكاتها وقواعدها المهمة ويخضعها لسيطرته في أقل من عقد ونصف بفضل الله - ثم قدرته العسكرية وخططه السياسية البارعة التي أتاحت له التغلب على مصاعب القتال في المناطق الجبلية الوعرة.
74.    استمر عماد الدين في توسيع نفوذ دولته ولم يقم في بداية حكمه بأي نشاط عسكري ضد الصليبيين قبل أن يثبت أقدامه في إماراته الجديدة، ويُعزَّز إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية ويؤحَّد ما أمكنه من الإمارة الصغيرة المتناثرة حولها لتأمين خطوط تحركاته في الجزيرة وبلاد الشام إلى الحد الذي يمكَّنه من التصدي لهم وبعد أن أنهى معظم مشاكله وحروبه ضد أمراء ديار بكر وانتهت هدنته مع جوسلين أمير الرها، قرر البدء والهجوم على المواقع الصليبية، وبدأ في فتح الحصون وضمها لدولته.
75.    ظهرت قدرات عماد الدين ودولته في الدفاع عن حلب أمام الحملة الصليبية البيزنطية، فقد قاومت حلب وأخذ أهاليها يقومون بهجمات سريعة على معسكرات الأعداء أدخلت الرعب وعدم الاستقرار في نفوسهم فآثروا الإنسحاب.
76.    وعندما توجهت جيوش الصليبيين والأمبراطور البيزنطي إلى شيزر، كان عماد الدين يقود حركة المقاومة للدفاع عن المدينة واستخدم أساليب الحرب النفسية ضد الجيوش الغازية وأرسل في طلب النجدة من كل المناطق للتصدي للغزاة، وشرع في رمي الأعداء بسهام الحيلة والدهاء وإيجاد فتنة بينهم، فقد اتبع عماد الدين خطة عسكرية فقد راسل المتحالفين وهم في مواقعهم الحصينة عند المدينة يقول لهم : إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فاخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي، فإن ظفرتم أخذتم شيزر، وإن ظفرنا بكم أرحت المسلمين من شركم وكادت الخطة تنجح حين أشار الصليبيون على الأمبراطور بالنزول إليه وقتاله ولكن يوحنا خشي مغَّبة ذلك وأجاب : أتظنون أنه ليس من العسكر الإ ما ترون ؟ وإنما يريد أنكم تلقونه فيجيء إليه من نجدأت المسلمين مالا حّد عليه. وفي نفس الوقت كان يراسل صليبي الشام يحَّذرهم من أمبراطور الروم ويعلمهم أنه إذا استولى على حصن واحد من الشام أخذ البلاد التي بأيديهم منهم، ويرسل من جهة أخرى إلى الأمبراطور يخّوفه من أن الصليبيين في بلاد الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه لتخلوا عنه فاستنفر كل طرف من الطرف الآخر وسادت الشكوك بينهما.
77.    تعتبر من أهم أعمال عماد الدين زنكي فتح الرها، في 539ه وكان لهذا النصر نتائج هامة على العالمين الإسلامي والنصراني ومن أهم تلك النتائج:
* تأكد للمسلمين أن حركة الجهاد الإسلامي وصلت سن الرشد وتجاوزت المراهقة السياسية والعسكرية دون أن يكون ذلك إحجاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي لاسيما مودود وإذا كانت أولى الإمارات الصليبية تهاوت تحت أيديهم، فإنها البداية واليوم أسقاط الرها وغداً إسقاط باقي الكيان الغازي الدخيل، وهذا ما حدث فعلاً، ومن الآن فصاعداً لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل التقدم إلى الأمام بكل ثقة وإباء وإنجاز.
* تأكد منطق التاريخ من أن مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمر على الأرض  لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينية الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخيل وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق ولم تعد الرها تمثل دور الفصل والكيان الصليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كل من سلاجقة آسيا الصغرى، وسلاجقة العراق وكذلك بلاد فارس.
* أدى إسقاط الرها بمثل هذه الصورة إلى تحرك الحلف الدفاعي الاستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق والرحم الأم في الغرب الأوروبي.

78.    بعد فتح الرها إرتفع شأن عماد الدين زنكي إلى حد بعيد، فبعد أن كان مجرد حاكم محلي محدود النطاق والفعالية تردد اسمه سريعاً في الحوليات الاتينية والسريانية ليعكس أنه أحدث تأثيراً كبيراً في مجرى أحداث الشرق اللاتيني، وبصورة غير مسبوقة، أما بالنسبة للمسلمين فقد احتل مكانة بارزة، فقد عزّز فتح الرها مركز عماد الدين تجاه السلطان السلجوقي مسعود والخليفة العباسي المقتفي لأمر الله الذي أنعم عليه بعدد كبير من الألقاب التي حازها عن جدارة، كالأمير المظفر، ركن الإسلام، عمدة السلاطين، زعيم جيوش المسلمين ملك الأمراء، أمير العراقين والشام وجعل هذا النصر عماد الدين زنكي المدافع الأول عن الدين، والمجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، ودارت في المحافل الإسلامية، أحاديث تمحورت حول شخصيته، تصور لنا مدى التقدير والإعجاب اللذين نالهما إثر تحقيقه هذا النصر الكبير.
79.    مدح الشعراء عماد الدين زنكي في فتح الرها والملفت للنظر إن كثيراً من الباحثين والكتاب لم يهتموا بالأدب في الحروب الصليبية، بل إن الكثير منهم أطلقوا عليه أدب الإنحطاط آخذين بأقوال وآراء المستشرقين الذين رغبوا في أن نبتعد عن دراسة تاريخ أدب هذه الحروب لأسباب كثيرة منها رغبتهم في عدم إطلاعنا على وحشية الصليبيين وقسوتهم، ثم حتى لا نشعر بالعز والفخر ونحن نقرأ عن تاريخ الأبطال المسلمين عرباً وأكراد وأتراكاً - يقودون الجيوش وهم يحملون راية الإسلام مجاهدين ويترفعون عن القوميات والوطنيات الجاهلية وتجمعهم حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته، إن أدب هذه الفترة ما زال بحاجة إلى دراسات مستفيضة.
80.    استطاع عماد الدين زنكي أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج من تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين ويظهر أهمية الدور الذي لعبه زنكي في التاريخ الإسلامي إذ يعتبر أول قائد قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكين وإيلغازي وبلك الأرتقين 512ه - 518ه وآف سنقر البرسقي 518- 520ه وقد مهد عماد الدين لابنه نور الدين في توحيده للجبهة الإسلامية وكسر هيبة الصليبيين بفتح الرها.
81.    تولى حركة المقاومة ضد الصليبيين بعد وفاة عماد الدين ابنه نور الدين زنكي وقد تميزت شخصيته بمجموعة من الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة والتي ساعدته - بعد توفيق الله - على تحقيق إنجازاته العظيمة والتي من أهمها؛ الجدية والذكاء المتوقد، الشعور بالمسؤولية وقدرته على مواجهة المشاكل والأحداث، ونزعته للبناء والأعمار، وقوة الشخصية، ومحبة المسلمين له، واللياقة البدنية العالية، وتجرده وزهده الكبير، وشجاعته الفائقة، ومفهومه للتوحيد وتضرعه ودعاؤه، ومحنته للجهاد والشهادة، وعبادته، وإنفاقه وكرمه.
82.    اتخذ نور الدين محمود زنكي من سيرة عمر بن عبد العزيز نموذجاً يقتدي به في دولته، فقد كتب الشيخ العلامة أبو حفص معين الدين عمر بن محمود الإربلي سيرة عمر بن عبد العزيز لكي يستفيد نور الدين منها في إدارة دولته ولقد آتت معالم الإصلاح والتجديد الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية، فقد أقتنع نور الدين بأهمية التجارب الإصلاحية في تقوية وأثراء المشروع النهضوي وأهميته في إيجاد وصياغة الرؤية اللازمة في نهوض الأمة وتسلمها القيادة، فللتجارب التاريخية دور كبير في تطوير الدول وتجديد معاني الإيمان في الأمة.
83.    كانت أهم معالم التجديد والإصلاح التي قام بها نور الدين محمود، الحرص على تطبيق الشريعة، ولقد تحققت في دولة نور الدين محمود آثار تحكيم شرع الله، من التمكين والأمن والاستقرار والنصر والفتح المبين والعز والشرف وبركة العيش ورغد الحياة في عهده وانتشار الفضائل وانزواء الرذائل.
84.    اهتم نور الدين في بناء دولته بالعقيدة الصحيحة وكان أظهر ما في شخصيته هو إيمانه الإسلامي العميق وحرصه على صبغ دولته بمنهج أهل السنة ومواجهة الفكر الشيعي الرافضي واتخذ خطوات سياسية وأكبتها في الوقت نفسه خطوات فكرية هامة، فأهتم بالمدارس السنية ودعمها بالمال والأوقاف واهتم بعلماء أهل السنة وشجعهم على الهجرة لدولته وفتح أبوابها وكان  لخريجي المدارس النظامية مكانة خاصة، فقد كانت لهم قدرة فائقة على الإحياء السني وقمع شبهات المبتدعة من الشيعة الرافضة وكشف باطلهم بأسلوب علمي رصين.
85.    لم تقف جهود نور الدين في حلب عند حد العناية بإنشاء المدارس الحنفية والشافعية، بل إنه كان حريصاً على أن يستفيد من جهود علماء السنة على اختلاف مذاهبهم في محاربة الفكر الشيعي الرافضي والتمكين لمذهب السنة ولذلك كان يعتني بعلماء المالكية والحنابلة وفقهائهم ونجح نور الدين في التخفيف من حدة الصراع المذهبي بين المذاهب السنية المختلفة وتوحيدها في جبهة واحدة ووفقه الله في توحيد جهود علماء السنة لمحاربة الفكر الشيعي.
86.    دعم نور الدين التصوف السني وبنى لهم خوانق وربط واستفاد منهم في الدعاء وجمع المعلومات على الأعداء وفي الجهاد وكان يرحب بهم في بلاطه ويتواصل مع شيوخهم، واستطاع نور الدين أن يستفيد من التصوف السني في محاربة الدولة الفاطمية في بلاد الشام ومصر واستفاد من هذه الطاقات الكامنة في الأمة ولم يعاديها.
87.    اهتم نور الدين محمود بتدريس الحديث الشريف وكانت من ضمن مشروعه في حركة الإحياء السني ومناهضة الفكر الشيعي ذلك أن الشيعة لا يعترفون بصحة الحديث إلا إذا كان مروياً عن آل البيت وكان من الطبيعي أن ينتهي بهم هذا الموقف المجانب للحق والعدل والصواب إلى الطعن في صحاح السنة ويضاف إلى ذلك أن العناية بالحديث الشريف وعلومه كان استجابة لظرف واقعي تمثل في احتلال الصليبيين لأجزاء واسعة من بلاد الشام من بينها القدس الشريف، فكان على هذه المدارس أن تعبيء الناس للجهاد وتحي فيهم روح البطولة والاستشهاد عن طريق تدريس الحديث والعناية به خاصة ما يتعلق منه بباب الجهاد في سبيل الله.
88.    من العوامل التي ساعدت نور الدين في نجاح برنامجه الإصلاحي، أن جهوده جاءت تالية لجهود المدارس النظامية، فانتفع بما حققته من نتائج وفي مقدمتها تخريج جيل يحمل على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السني، والانتصار له وقد استفاد نور الدين من عدد كبير تخرجوا من النظاميات، واستطاع نور الدين أن يوظف بذكاء مواهب العلماء البارزين في عصره ويستعين بهم في دعم المذهب السني وكانت شخصيته وصفاته التي تميز بها من أهم العوامل التي ساعدته على النجاح في المهمة التي سعى لتحقيقها.
89.    كان نور الدين كقائد سياسي وعسكري على قناعة راسخة بالخطورة العظيمة التي يمثلها المد الشيعي الرافضي في سبيل نهوض الأمة والاستمرار في مقاومة الغزو الصليبي ولذلك جعل من أهدافه القضاء على الدولة الفاطمية التي ترعى الفكر الشيعي الرافضي والعمل على التصدي لدعاة التشيع الرافضي بالفكر والعلم والثقافة والسياسة والقوة.
90.    كان سلوك نور الدين محمود زنكي من عوامل انتصار المذهب السني لئن أبرز ما كان يستخدمه الشيعة في الدعوة إلى مذهبهم هو التنديد بمسلك حكام السنة المنغمسين في ترفهم اللاهين في ملاذهم وشهواتهم الغارقين في مظالمهم، وكانت النغمة السائدة لدى دعاتهم : أن الإمام المهدي (القائم أو الغائب) سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً يستدرجون بهذا المحرومين والمسحوقين حتى يجذبونهم إلى صفوفهم، ويدخلونهم في دعوتهم، فجاء نور الدين يدعم المذهب السني بأخلاقه وسلوكه، وحسن سياسته في رعيته ثم بجهوده الفكرية الرائعة.
91.    كان نور الدين محمود زنكي قدوة في عدله، أسر القلوب وبهر العقول، فقد كانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير، حتى اقترن اسمه بالعدل وسمي بالملك العادل، وكان من أسباب نصر الله لهذا الملك العادل على الباطنية والصليبيين إقامته للعدل في الرعية وإيصال الحقوق إلى أهلها، فالعدل في الرعية وإنصاف المظلوم يبعث في الأمة العزة والكرامة ويولد جيلاً محارباً وأمة تحررت إرادتها بدفع الظلم عنها، وقد سجل التاريخ بأن نور الدين محمود ساد العدل في دولته وتم إيصال حقوق الناس إليهم فنشطوا إلى الجهاد والدفاع عن دينهم وعقيدتهم، وأوطانهم وأعراضهم ومن أبرز أعماله التجديدية إقامته للعدل وقد أولى نور الدين المؤسسة القضائية اهتماماً كبيراً وجعلها قمة أجهزته الإدارية وخول القضاة على اختلاف درجاتهم في سلم المناصب القضائية صلاحيات واسعة، إن لم نقل مطلقه ومنحهم استقلالاً تاماً، لكونهم الأداة التنفيذية لإقرار مبادي الحق والعدل وتحويل قيم الشريعة ومبادئها إلى واقع ملتزم وتوجت جهوده بإنشاء دار العدل التي كانت بمثابة محكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين وإرغامهم على سلوك المحجة البيضاء أو طردهم واستبدالهم بغيرهم إن اقتضى الأمر.
92.    لم يترك نور الدين في بلد من بلاده ضريبة ولا مكساً ولا عشراً إلا ورفعها جميعها من بلاد الشام والجزيرة وديار مصر وغيرها مما كان تحت حكمه وكانت النتيجية الطبيعية لذلك أن نشط الناس للعمل، فأخرج التجار أموالهم ومضوا يتاجرون وجاءت الجبابات الشرعية بأضعاف ما كان يجبى من وجوه الحرام. يقول ابن خلدون : العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها، وانقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته، يكون انقباض أيديهم عن المكاسب، كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال ويقول : العدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعاً.
93.    فهم نور الدين محمود أن من أسباب النهوض وجود القيادة الربانية فهي التي تستطيع أن تنقل بفضل الله وتوفيقه بالأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة وكان على قناعة تامة بأهمية وجود العلماء الربانيين على رأس القيادة الربانية فهم قلب القيادة الربانية وعقلها المفكر فنور الدين زنكي يعرف أن تحرير الأرض وتوحيدها ليس عملاً سياسياً أو عسكرياً فحسب، بل أنه أوسع بذلك بكثير إنه بناء أمة مقاتلة تعرف كيف تحمي وجودها العقائدي وتحفظ حدود شخصيتها الحضارية من أن تتفتت وتضيع، ولذلك قدم العلماء على غيرهم في دولته وبذل لهم العطاء الجزيل، واتصل بالمشهورين من علماء الأمة وأتى بهم إلى بلاده، وجاهدوا معه ضد الصليبيين وقاموا بسفارات لدولته وتولوا مناصب رفيعة وساهموا في تعليم وتربية الرعية.
94.    اهتم الملك العادل نور الدين محمود بالشورى فقد رأى أهميتها في حيوية الأمة واستقرارها وأمنها، فقد كان له مجلس فقهاء يتألف من ممثلي سائر المذاهب السنية ورجال الإدارة والأمراء يبحثون في أمور الإدارة والنوازل والميزنية وكانت له مجالس شورى في القضايا العامة، وأخرى في القضايا المتخصصة، فقد مارس نور الدين زنكي الشورى على أسس صحيحة في دولته.
95.    إن من يستعرض إنجازات نور الدين محمود في المجال الإداري يعتقد أن الرجل كان متخصصاً في هذا المجال ومتفرغاً له طول حياته دون غيره في المجالات ولا يسعه إلا الإعجاب بعقليته القيادية الفذة في بناء قيادات إدارية تحسن تنفيذ الخطط المرسومة، فقد اعتمد نور الدين محمود في إدارة دولته المتنامية على عدد كبير من الرجال الأكفاء فكان يختارهم بعناية فائقة وكان يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومن بعد ذلك يراقبهم ويشرف عليهم حتى يتأكد من حسن أدائهم واستقامتهم.
96.    حرصت القيادات السياسية والإدارية والعسكرية على العموم بالتزامها العقائدي في نشاطهاتها وممارساتها والسبب في ذلك يعود إلى تربيتها الإسلامية، وإلى شخصية نور الدين فقد كان نور الدين زنكي تقياً ورعاً وعّده بعض المؤرخين بأنه أفضل من جاء بعد عمر بن عبد العزيز من الحكّام وكان يحافظ على صلاة الجماعة ويكثر من الصلاة من الليل عارفاً بمذهب أبي حنيفة ولكن دون تعصّب على أحد فالمذاهب عنده سواء ولا تعدو على كونها مدارس في الفقه، وكان ذو تأثير كبير على رجاله ومعاونوه وقادة الجيش وأصبح بعضهم يقترب من مستوى نور الدين في العلم والأخلاق والتدين ومن أمثلة ذلك وزيره أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، ومن الطريف أن هذه القيادات؛ كانت تتخير أسماءهم على نحو يوضح تعلقهم بالدين، فبينما البويهيون ينسبون أنفسهم للدولة فيقولون : عضد الدولة بهاء الدولة، صمصام الدولة، كان قادة هذه الدولة وأعوانهم والعاملون معهم يختارون عماد الدين، وسيف الدين وأسد الدين ونجم الدين، وصلاح الدين ونور الدين وثمة ملاحظة أخرى تعلق هذا الجيل بالدين جعلهم يحرصون على الجهاد والاستشهاد، فإذا لم يكتب لهم الاستشهاد أوصوا بدفنهم في مدافن المدينة المنورة، كما فعل الوزير جمال الدين الموصلي وأسد الدين شيركوه وأخوه نجم الدين أيوب والد صلاح الدين.
97.    تواترت لدى المؤرخين المعاصرين أخبار الأمن والعدل واحترام الحريات العامة، كحرية الرأي والمحافظة على كرامة الفرد التي سادت في ذلك المجتمع في الوقت الذي انتفت جميعها في الأقطار الإسلامية المجاورة، ولقد علق ابن الأثير على ذلك فقال : قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين من قبل الإسلام ومنه إلى يومنا هذا فلم أرى فيه بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين الدين، ولا اكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه. قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها وإحسان يوليه وإنعام يسديه، فلو كان في أمة لا فتخرت به فكيف في بيت واحد.
98.    كانت خزائن دولة نور الدين تحظى دوماً بالقدر الكافي من المال، وكانت الدولة لها القدرة على الإنفاق في المجال العسكري والاجتماعي والتعليمي، وغيرها، فقد كان مصادر دخل دولة نور الدين متعددة منها؛ نظام الإقطاع الحربي، والزكاة والخراج والجزية، والغنائم وفداء الأسرى والأموال العظيمة التي خلقها أبوه عماد الدين، والأمانة الكبيرة التي تميز بها نور الدين وحكومته الرشيدة، وساهم استتباب الأمن والاستقرار الداخلي في انتعاش الحركة الاقتصادية للدولة، ومساهمة الأثرياء، ودعم الخليفة العباسي، و... إلخ.
99.    سعى نور الدين محمود إلى تقديم أوسع الخدمات الاجتماعية لشعبه وجعل مؤسسات الدولة أدوات صالحة في خدمة الجماهير وسعت لتغطيت شتى الحاجات : ابتداءً من قضايا المسكن والملبس والمأكل وانتهاءً بقضايا الروح ومروراً بالحاجات الفكرية والصحية والعمرانية والانتاجية وقد أخذت هذه الخدمات أساليب وأشكالاً مختلفة فهي حيناً تأتي عن طريق التوزيع المباشر للمال وحيناً عن طريق (الإعانة) على تلبية حاجة معينة أو الفكاك من الأسر وحيناً ثالثاً عن طريق إنشاء مؤسسات ومرافق كالمستشفيات والملاجيء ودور الأيتام والمدارس ودور الحديث والخانات والربط والجسور والقناطر والقنوات والأسواق والحمامات والطرق العامة والمخافر والخنادق والأسوار وحيناً رابعاً تجيء عن طريق نظم (الوقف) التي شهدت في عصر نور الدين قمة نضجها وتنظيمها وازدهارها وحيناً خامساً عن طريق عدد من الإجراءات التنظيمية التي استهدفت تحقيق الضمان الاجتماعي لقطاع ما من قطاعات الأمة، كان نور الدين يرى في الدولة جهاز خدمة وإنجاز لا أداة قسر واستنزاف.
100.    اهتم نور الدين بالمساجد اهتماماً عظيماً، فقد كان لها دور عظيم عبر التاريخ الإسلامي، فهو أول وأهم أمكنة التعليم على الإطلاق وقد كان المسجد بالإضافة إلى كونه محل عبادة المسلمين يجتمعون فيه خمس مرات في اليوم لأداء الصلوات المفروضة عليهم وظل المسجد قاعدة مهمة في التربية والتعليم، ويروى العماد الأصفهاني أن نور الدين أمر بإحصاء ما في محلات دمشق من مساجد هجرت أو خربت فأناف على مائة مسجد فأمره بعمارة ذلك كله وعين له أوقافاً وأصلح أحوال المسجد الأموي والمساجد في دولته بالتعمير المادي والمعنوي.
101.    اهتم نور الدين بمؤسسات المجتمع المدني، كالمدارس، والربط، والكتاتيب وساهمت تلك المؤسسات في تحقيق أهداف الدولة الزنكية وساند تلك المؤسسات حركة الأوقاف الواسعة التي استخدمها نور الدين لضمان استمرارية وديمومة تلك المؤسسات.
102.    لم يكن التعليم لدى دولة نور الدين مجرد نشاط أكاديمي يستهدف توفير الموظفين والمهنيين، وإنما كان بالدرجة الأولى نشاطاً عقائدياً استهدف إعادة صياغة الجماهير المسلمة بما يتفق وأهداف الإسلام والحاجات القائمة وكانت الصفة الجماعية للنشاط التعليمي الذي رافق الدولة الزنكية تبدو واضحة من تباري الوزراء القادة والأغنياء والرجال والنساء في إنفاق أموالهم في بناء المدارس والمؤسسات التعليمية وتوفير الفرصة لجميع أفراد الأمة لدخولها والاستفادة منها، فقد أعطت الخطة الزنكية أهمية خاصة لتعليم كافة المسلمين من عمال وفلاحين ومزارعين من الكبار والصغار والرجال والنساء وعملت الخطة على تعليم الجميع أصول العقيدة وأركان الدين والقيم والمبادئ الإسلامية، كما عمدت الخطة الحكيمة على تعرية المذاهب الهّدامة، والفرق الضالة من إسماعيلية باطنية، وشيعية إمامية، وشعوبية، وأبانت عن خطرها وضررها على النفس والمجتمع والأمة وأن لا خروج من المحنة ولاخلاص من الضياع إلا بالعودة إلى روح الدين النقية الطاهرة في صورتها الأولى التي كان عليها سلف هذه الأمة دون زيادة أو نقصان، ودون تعقيدات فلسفية ومجادلات كلامية لا طائل من ورائها ولا خير فيها ولا في مروجيها.
103.    بلغ اهتمام المرأة المسلمة بالدراسات الشرعية درجة كبيرة لتتعرف على تعاليم الإسلام الصحيحة لتطبيقه عملياً، وكانت دراسة الحديث تأخذ القسط الأوفى من هذا الاهتمام حيث بلغ كثير من النساء بهذا العلم درجة عالية ونافسن فيه كبار الحفاظ والمحدثين وكنّ مثالاً رائعاً للأمانة والعدالة وقد أشارت كتب التراجم والطبقات إلى النشاط العلمي الملموس لهذه الفئات في العهد الزنكي حيث ذكرت تلك المصادر أسماء العديد من المقرئات والمحدثات والفقيهات والأديبات والنحويات إلى غير ذلك من العالمات بالعلوم الأساسية الأخرى.
104.    شملت النهضة العلمية في العهد الزنكي مختلف العلوم فلم يقتصر الاهتمام بالعلوم الشرعية واللغوية والأدبية دون غيرها، فقد نالت ميادين علمية كثيرة نصيباً من اهتمامات الدارسين والباحثين، وقدمت فيها دراسات علمية رائدة وصنفت فيها كتب مهمة، اعتمد عليها كثير ممن جاء بعدهم حيث ظهرت دراسات متخصصة في العلوم التاريخية والجغرافية وعلوم الرياضيات والفلك وتدريس الطب في كثير من المستشفيات المنتشرة في المدن الزنكية وظهر من بين المشتغلين بهذه التخصصات علماء كان لهم أثر كبير في إثراء المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات المتخصصة التي ظلت رافداً للعلوم الإسلامية حتى الوقت الحاضر.
105.    إزداد الاهتمام بالدراسات الاجتماعية في العهد الزنكي وبخاصة في ميداني الدراسات التاريخية والجغرافية وحيث برز في هذا العهد عدد كبير من المؤرخين الذين تنوعت اهتماماتهم في مختلف صور الكتابات التاريخية، وقد استخدم التاريخ في تقوية الجانب المعنوى لحركة المقاومة ضد الصليبيين، فقد وجد المتخصصون بهذا الفرع من العلوم في الجهاد مادة زخرت بها مؤلفاتهم سواء عن طريق الكتابات التاريخية التي تؤرخ للمعارك بين المسلمين والصليبيين أوفى الكتابة في فضائل المدن وتراجم الشخصيات البارزة في مجال الجهاد ويعد الحافظ علي بن الحسن المعروف ابن عساكر من أكبر مؤرخي العهد الزنكي وكذلك العماد الأصفهاني وابن الأثير وابن القلانسي.
106.    برزت شخصية ابن عساكر إلى جانب السلطان نور الدين محمود في مناصرته على حركة المقاومة وتوحيد الجبهة الإسلامية وطلب نور الدين من ابن عساكر أن يجمع له أربعين حديثاً في الجهاد تكون واضحة المتن متصلة الإسناد تحريضاً للمجاهدين على القتال، فسارع ابن عساكر إلى امتثال ما طلبه نور الدين وتّم تعميم تلك الأحاديث على القادة والجنود وقد استفاد نور الدين من جهود ابن عساكر في تعبئة الأمة فكرياً ودينياً.
107.    من الملاحظات المهمة في دراستي لفترة الحروب الصليبية أن انتصارات نور الدين وصلاح الدين ساهمت فيها عوامل متعددة منها على مستوى الخلافة نفسها ومنها على المستوى الشعبي، فقد أخذت مؤسسة الخلافة تسترج صلاحياتها وتقوى على ما كانت عليه في العهد السلجوقي وكذلك مؤسسة الوزارة العباسية خصوصاً في عهد يحي بن هيبرة، كما كان لعبد القادر الجيلاني جهود معتبرة في الدعوة الشعبية والإصلاح العام، فقد كانت حركته الشعبية معاصرة لعماد الدين ونور الدين وتعتبر حركة عبد القادر الجيلاني من الروافد المهمة في حركة الجهاد والمقاومة التي قادها نور الدين وخصوصاً في القطاع الشعبي العريض وفي عاصمة الخلافة العباسية بغداد، فقد استطاع التأثير في المجتمع بدعوته ومواعظه وتزكيته.
108.    استفاد عبد القادر الجيلاني من جهود وتراث الغزالي وحّول تلك التعاليم إلى مناهج مبسطة يفهمها العامّة وطلاب العلم والعلماء، فقد وضع الشيخ عبد القادر منهجاً متكاملاً يهدف إعداد الطلبة والمريدين علمياً وروحياً واجتماعياً ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد توفر لهذا المنهاج فرص التطبيق العملي في الرباط المعروف باسم الشيخ عبد القادر حيث كانت تجري التطبيقات التربوية والدروس والممارسات العملية ويقيم الطلبة المريدون.
109.    بين الشيخ عبد القادر الجيلاني عقيدته بوضوح وكان كثيراً ما يردد في مجالس وعظه وحلقات دروسه عبارة : اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة، وكان يعرض العقيدة بأسلوب بليغ سهل العبارة.
110.    تنتسب الطريقة القادرية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي يعتبر المؤسس الأول لها خصوصاً بشكلها الجماعي والمنظم القائم على جميع المريدين وربطهم بمشايخ الطريقة لتأديبهم وتربيتهم حيث كان التصوف في السابق يقوم على أساس فردي لا أثر له للتجمع فيه ولم يظهر في شكل منظم تحت طريقه واحدة إلا في عهد الشيخ عبدالقدر الجيلاني والمتتبع لظهور الطرق الأخرى يرى أنها جميعها إنما ظهرت بعد الشيخ عبد القادر الجيلاني.
111.    أكد الشيخة عبد القادر في وصاياه وتوجيهاته، على أهمية التمسك بالكتاب والسنة، والتركيز على الاهتمام بالجوانب العملية والابتعاد عن الأفكار والفلسفات سائدة في عصره، وتأكيده على وجوب تعظيم أوامر الله سبحانه وامتثالها.
112.    اعتمد الشيخ عبد القادر في حركته الإصلاحية التعليم المنظم والتربية الروحية المنظمة، واهتم بالإعداد الديني والثقافي والروحي، والاجتماعي، وركز على الوعظ وانتقد علماء السوء، والحكام الظلمة وانتقد في وعظه ومجالسه الأخلاق الاجتماعية السلبية، ودعا إلى إنصاف الفقراء والعامة، وتصدى للتطرف الشيعي الرافضي وللتيارات الفكرية المنحرفة، وبذل جهداً في إصلاح التصوف وأعادته إلى مفهوم الزهد وتنقيته مما طرأ عليه وقام بحركة واسعة للتنسيق بين الطرق الصوفية بهدف توحيد الجهود وتنظيم التعاون ونجح إلى حد كبير وكان أول الاجتماعات التي استهدفت توحيد القيادة عقد في رباط المدرسة القادرية الكائن في منطقة الحلة في بغداد حيث حضر الاجتماع ما يزيد على الخمسين من شيوخ العراق وخارجه وكان الاجتماع الثاني في موسم الحج حيث حضره شيوخ الطرق الصوفية من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، حضر هذا اللقاء الشيخ عبد القادر الكيلاني من العراق، والشيخ عثمان بن مرزوق القرشي الذي شاعت شهرته وانتهت إليه المشيخة في مصر، والشيخ أبو مدين المغربي الذي يعود إليه نشر الزهد في المغرب في ذلك العصر كذلك حضر الاجتماع شيوخ من اليمن حيث أرسل معهم الشيخ عبد القادر رسولاً ينظم أمورهم. وفي نفس الوقت جرت اتصالات بين الشيخ عبد القادر والشيخ أرسلان الدمشقي الذي انتهت إليه تربية المريدين ورئاسة المشايخ في الشام ثم تلا ذلك اجتماع موسع حضره جمع كبير من الشيوخ يمثلون مدارس الاصلاح في مختلف أقطار العالم الإسلامي، واستطاع الشيخ عبد القادر الجيلاني أن ينقل التصوف السني إلى حركة منظمة في العراق وعلى مستوى العالم الإسلامي، ولقد ترتب على هذه اللقاءات المستمرة للمشايخ والعلماء آثاراً هامة ساهمت في نهضة الأمة وتوسيع جبهة المقاومة ضد الصليبيين.
113.    تدل الأخبار المتعلقة بالمدارس الإصلاحية وخصوصاً مدرسة الشيخ عبد القادر أنها لعبت دوراً رئيسياً في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في البلاد الشامية وتدل الشواهد التاريخية على أن الطلاب الشاميين كانوا يشكلون مجموعة كبيرة بين الطلاب الذين يفدون من خارج العراق للدراسة في مدرسة عبد القادر، وقد قامت المدرسة القادرية بدور هام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي، فكانت تستقدمهم وتوفر لهم الإقامة والتعليم، ثم تعيدهم إلى مناطق الثغور والمرابطة، ولقد كان هؤلاء الطلاب يعرفون باسم المقادسة، نسبة إلى مدينة القدس أو بيت المقدس، ويمكن القول أن أرسال هذه البعوث الطلابية إلى بغداد كان سببه أمران : الأول : حاجة الدولة الزنكية إلى نمط معين من القيادات والموظفين والإداريين : والثاني : ما اشتهرت به مدرسة عبد القادر آنذاك من تجسيد لسياسات الإصلاح، ولإبد أن إقرار إرسال هذه البعوث نتج عن دراسة ومشورة، فقد توثقت الصلات بين الشيخ عبد القادر ونور الدين فكان نور الدين يرسل أبناء المقادسة النازحين من القدس إلى بغداد ليدرسوا في مدرسة الشيخ عبد القادر ثم يعودوا إلى مناطق الثغور قادة ودعاة ومرشدين، كما كان نور الدين يستقدم مشاهير العلماء الذين تخرجوا من المدرسة القادرية، وهاجر بعض العلماء الذين تخرجوا من المدرسة القادرية إلى دولة نور الدين زنكي وشاركوا في الجهاد العسكرية، وميادين السياسية، ومن أشهر هؤلاء زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا الواعظ الإنصاري الدمشقي الذي أصبح فيما بعد من رجال صلاح الدين وكبار مستشاريه.
114.    عاصر نور الدين محمود انتعاش مؤسسة الخلافة العباسية إبان المقتفي لأمر 530ه - 555ه والمستنجد بالله 555ه - 566ه/ والمستضيء بالله 566-575ه وقد اتسم حكمهم بالحرص الشديد على استعادة التوازن السياسي مع السلاجقة في العراق وإيران على نحو خاص، ومن بعد ذلك كافة البقاع الإسلامية الأخرى، وقد ساعد على تمتع الخلافة العباسية بالنفوذ في هذه المرحلة وجود الوزير الصالح العالم الرباني عون الدين بن هبيرة وتعتبر قوة مؤسسة الخلافة وانتزاع صلاحياتها من السلاجقة في هذه الفترة من أسباب النهوض وقد ساهمت مؤسسة الخلافة في دعم نور الدين محمود وحركة المقاومة للغزو الصليبي دينياً، واقتصادياً وسياسياً .. إلخ متوازيا ذلك الدعم، مع الضخ الكبير لمعاني الإسلام والإيمان والإحسان في قطاعات جماهير الأمة في عاصمة الدولة العباسية وغيرها وكان من أبرز قيادات الحركة الشعبية الروحية الإيمانية الشيخ عبد القادر الجيلاني، لقد كانت عوامل النهوض، عديدة منها، روح جديدة في مؤسسة الخلافة والوزارة، وقيادة رشيدة في ساحات الوغى، وزعامة شعبية روحية مخلصة لدين الله ساهمت في تقوية المقاومة للصليبيين وأمدت الأمة بقدرات مادية ومعنوية للتصدي للغزاة، وتحقيق التوازن العسكري ثم التفوق عليهم وفق رؤية نهضوية متكاملة وضع خطوطها العريضة القادة السياسيون، والعسكريون والعلماء الربانيون.
115.    كان نور الدين محمود منُذ توليه الحكم في الثلاثين من عمره واضح الرؤية والهدف منُذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد لتحرير الأرض من الصليبين المعتدين وعلى رأسها بيت المقدس وتوفير الأمان للناس، وأدرك أن الانتصار على الصليبيين لا يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير، حافل بالتضحيات في خطوات متتابعة تقَّرب كل منهما يوم الحسم، فالخطوة الأولى كان قد بدأها والده عماد الدين حين حرّر إمارة الرها التي تشكل تداخلاً في الأراضي الإسلامية، فتمكن بذلك من تطهير الأرض الداخلية، وحصر الوجود الصليبي في الشريط الساحلي، وعليه أن يخطو الخطوة الثانية لذلك وضع أسس سياسة متكاملة تتضمّن توحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني من الاضطرابات وفوضى الحكم ثانياً، وطرد الصليبيين في المنطقة ثالثاً وكان سبيله إلى ذلك مزيجاً من العمل السياسي والمعارك العسكرية والنشاط الثقافي العلمي والتربوي - التي تخدم توحيد الصف والهدف.
116.    استطاعت دمشق بدعم من نور الدين وسيف الدين زنكي من صد هجوم الحملة الصليبية الثانية وقد ترتب على فشل الحملة الصليبية الثانية مجموعة من النتائج منها أججت الغرب أوروبي تجاه الأمبراطورية البيزنطية، وأثرت على طبيعة الوجود الصليبي، وأوضحت عجز الكيان الصليبي بإمكاناته المحلية عن تغيير واقع عام 539ه/1144م وحتى مع  الاعتماد على الوطن الأم عجز أيضاً وتعليل ذلك إلى جانب أخطاء الصليبيين القاتلة أن حركة الجهاد الإسلامي حينذاك وصلت إلى درجة لن تستطيع أن تعود معها عقارب الساعة إلى الوراء بل من الآن فصاعداً الإنجاز وراء الآخر حتى يتم طرد الصليبيين نهائياً من المنطقة لتصحيح خطأ الإنقسام الإسلامي الذي مهد للغزاة للقدوم للمنطقة.
117.    حرص نور الدين على ضم دمشق وكانت خطته للإستيلاء على دمشق سلمياً تقتضي العمل على ثلاثة محاور، فالمحور الأول؛ يتمثل على توجيه حملة دعائية عامة إلى أهالي دمشق يتم خلالها إبراز الأحوال السيئة والأوضاع المتردية التي تسود إمارتهم بسبب سوء إدارة حكامها وفسادهم وتعاملهم مع الأعداء والمحور الثاني : العمل على الاتصال سراً بوجوه مدينة دمشق وأعيانها من كبار التجار والقضاة والعلماء وبعض قادة الجند وقادة التنظيمات الشعبية، لاستغلال نفوذهم وتأثيرهم لصالح التغيير المطلوب في الوقت المناسب والمحور الثالث؛ أخذ نور الدين يراسل مجير الدين آبق ويستشيره في أمور المسلمين ويتقرب إليه بالهدايا حتى أطمأن إليه ووثق به، ثم أخذ يوقع بينه وبين قادته وأمرائه ونجحت المحاور الثالثة وتّم في النهاية ضم دمشق لجبهة المقاومة الإسلامية، وشكل هذا العمل نقطة تحول هامة في تاريخ الحروب الصليبية بفعل أنه ترتب على هذا التحول وحدة بلاد الشام الإسلامية تحت زعامة نور الدين محمود.
118.    عمل نور الدين على ضم القوى الإسلامية وعلى إسقاط نفوذ الأسر الحاكمة في المدن والبقاع الشمالية، فاستطاع ضم شيزر عام 552بعد الزلزال التي أصابها، فجدد أسوارها ودخلت شيزر في دولة نور الدين، وضم بعلبك وانتزعها من الأسرة الجندلية الدرزية، وضّم حّران ومنبج وفتح قلعة جعبر والموصل وتصالح مع سلاجقة الروم وحقق إلى حد كبير هدفه الاستراتيجي الأول وهو وحدة الدول والإمارات الإسلامية المواجهة للفرنجة وأصبح القضاء على الفرنجة مسألة وقت فقط.
119.    دخل نور الدين في صراع مع مملكة بيت المقدس واستهدف تحقيق انتصارات في المجال الاقتصادي والسياسي والعسكري وبالمفاوضات أحياناً أخرى وقد أدركت الدولة النورية أن تجيش الجيوش ضد مملكة بيت المقدس الصليبية خير وسيلة من أجل تحقيق باقي الدوافع السابقة، وكانت هناك صلة وثيقة بين آلة الحرب للدولة النورية وتحركاتها السياسية، وقد حرصت الدولة النورية على الاستيلاء على عدد من القلاع والحصون الاستراتيجية من أجل إضعاف فعاليات المملكة الصليبية عسكرياً ولتأمين حدود الدولة النورية، ولإيجاد توازن عسكري مع المملكة الصليبية يتطور مستقبلاً إلى ما هو أبعد في سبيل تحقيق التفوق العسكري على الوجود الصليبي وهو ما تحقق في عهد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي.
120.    امتدت ساحة صراع نور الدين مع الصليبيين من إمارة الرها إلى أنطاكية ثم طرابلس وبيت المقدس وأسقط ما يزيد على الخمسين من الحصون والمعاقل، وتصارع مع جبهتين شمالية وجنوبية في آن واحد وارتبطت طموحاته بحكمته ودهائه السياسي وحافظ على طاقاته وإنجازاته.
121.    تلخصت سياسة نور الدين تجاه إمارة الرها في القضاء على محاولة أميرها السابق استردادها ثم اتجاهه إلى أسره وإسقاط أملاكه، وطبيعي أن ندرك دوره في هذا المجال كان المحافظة على ما أمكن إنجازه في عهد والده والقضاء على المراكز الحصينة التي سيطر عليها جوسلين الثاني ويلاحظ أن جهوده نحوها لم تكن على ذلك المستوى الكبير الذي حظيت به إمارة أنطاكية مثلاً، نظراً لانتهاء قوة الرها الصليبية الفعلية في عهده.
122.    كانت أهم ملامح العلاقات النورية الأنطاكية انتصارات تلو انتصارات بلغت ذروتها في حارم ومع ذلك لم تسفر عن تغير حاسم، وكأن الأحداث أثبت أن جبهة شمال الشام منغلقة أمام أية توسعات نورية حاسمة مستقبلية طالماً أن الأمبراطورية البيزنطية تقف حائلات دون ذلك ويلاحظ أن الأخيرة كانت حريصة على إضعاف الصليبيين وتفوقها هي عليهم غير أنها في نفس الوقت لم تكن لتقبل بانتصار حاسم لنور الدين بل أرادت أن يكون الجميع في موقف ضعف حتى يحتاجوا إليها.
123.    كانت سياسة نور الدين تجاه إمارة طرابلس تتمثل في الرغبة في السيطرة على قلاعها وحصونها ولم تحدث معارك كبرى في إمارة طرابلس كالتي حدثت في مواجهة أنطاكية، ومما تجدر الإشارة إليه، أن صراع الدولة النورية مع تلك الإمارات قد شهد نوعين من الاحتكاك العسكري معارك كبيرة مثل يغرى، وأنب، وحارم، ثم معارك محدودة من أجل إخضاع بعض القلاع والحصون مثل المنيطرة وانطرطوس، وغيرها وكانت المعارك جميعها برية ولم تحدث أية معركة بحرية وقد غدت تلك الناحية عامل ضعف مؤثر في صراع نور الدين محمود ضد الإمارات الصليبية خاصة إمارتي أنطاكية وطرابلس اللتين امتلكتا سلاحاً ممتداً من السويدية شمالاً إلى ميناء جونيه جنوباً ونلاحظ أن محاولات نور الدين محمود لإخضاع ميناء السويدية والإمبراطورية البيزنطية لتوسعات الدولة الطموحة في ذلك الاتجاه وأدى ذلك إلى عدم تملك الدولة النورية أية مواني.
124.    حرض نور الدين محمود على استمرار الصلات التجارية مع الدولة البيزنطية، فقد كانت سوقاً رائجة لمنتجات الشرق وكانت الدولة النورية طرفاً هاماً في عملية استيرادها وتصديرها من بعد ذلك للقوى الأوروبية.
125.    حرصت الدولة النورية على تجنب الصدام العسكري مع البيزنطيين بمفردهم أو من خلال تحالفهم مع الصليبيين فمختصر سياسة نور الدين تجاه الدولة البيزنطية يهدف إلى تحيدها، وعزلها عن بقية القوى الصليبية في المنطقة في بلاد الشام وفي الاتجاه الجنوني صوب الدولة الفاطمية.
126.    تحالفت الدولة البيزنطية مع الصليبيين وبدأت حشهودهم تتحرك باتجاه الطرف الإسلامي، وقد أثارت مخاوف نور الدين محمود، فكتب إلى ولاة الأعمال والمعاقل بإعلامهم ما حدث من الروم ويبعثهم على استعمال التيقظ والتأهب للجهاد فيهم والاستعداد للنكاية بمن يظفر منهم وبدأت رسل نور الدين تتردد على معسكر الأمبراطور في عمل دبلوماسي سياسي كبير مع استعداده في الوقت للحرب وتواصل قدوم الأمراء وولاة الأعمال بجنودهم وكان على أهبة الاستعداد للجهاد.
127.    استهدف نور الدين العمل على زعزعة الحلف البيزنطي مع مملكة بيت المقدس وأنطاكية ضده وحتى لا يجعل دولته بين عدوين الصليبيين في الجنوب والبيزنطيين في الشمال واستطاعت دبلوماسية الدولة النورية أن تصل إلى صلح مع الدولة البيزنطية واستطاعت المهارة السياسية الزنكية أن تدق أسفين بين التحالف البيزنطي والصليبي وهذا لم يأتي بدون دفع ثمن وإنما لتنازلات غير عادية فقد اتخذ نور الدين خطوة يصعب تقييمها إلا بوصفها من قبيل القرارات الصعبة المصيرية، فلعلم نور الدين محمود بعداء البيزنطيين للروم والسلاجقة ولتقديره أن معركته الحالية والمرحيلة ضد الصليبيين وليست ضد البيزنطيين فإنه وازن بين الإطاحة بمشروعاته على يد الحملة الصليبية البيزنطية وبين الوقوف ضد سلاجقة الروم، فاختار الخيار الثاني وتفاهم مع الأمبراطور البيزنطي ضد السلاجقة وغيرها من الأمور، فقبل الأمبراطور وأنسحب الحلف الصليبي فأوقف الحملة وزال الخطر.
128.    من أهم الدروس والعبر والفوائد من سياسة نور الدين الخارجية، التفكير الاستراتيجي عند نور الدين، وأهمية صلاح أولي الأمر، وشن حرب استنزاف مستمرة ضد الفرنج واعتماد اللين والمرونة والخدعة لتحقيق مالا يمكن تحقيقه بالقوة، واهتم نور الدين بالاستراتيجية العسكرية وتظهر ملامحها في النقاط التالية، التركيز على النوعية والفاعلية، إعلان الجهاد والتعبئة العامة للأمة، والتدرج في مواجهة العدو، وإنهاك العدو واستنزاف قّواته، وتطبيق نور الدين لمبادئ الحرب الأساسية، كتحديد الهدف والعمل التعرضي والحشد، والمناورة، وحدة القيادة، وعنصر المفاجأة، والاستخبارات، والتقُّرب غير المباشر، والجاهزية القتالية.
129.    ركز نور الدين على الحرب النفسية وأحسن استخدامها فقد وجه حربه النفسية في البداية نحو حكام الإمارات الإسلامية الذين كانوا غارقين في حياة اللهو والترف غير مهتمين بأحوال رعاياهم السيئة، أو بمقاومة التوسع الفرنجي على حساب بلاد المسلمين ونحو من كان على شاكلتهم من أبناء الأمة من التجار والأمراء والأثرياء الذين كان همهم جمع الثروات بأية وسيلة، كانت المبادئ التي يدعو إليها نور الدين في حربه النفسية بسيطة وواضحة ومحّددة، هي : دين واحد وهو الإسلام السني، دولة واحدة لمحاصرة الفرنجة من كل صوب هدف واحد هو الجهاد لتحرير الأرض المحتلة وأما الجهاز الدعائي الذي كان نور الدين يعتمد عليه لبث هذه المبادئ بين صفوف الأمة فيتألف من العلماء والعبّاد والزهاد، فكان يطلب منهم كتابة قصائد ورسائل وكتب تدور كلها حول مضمون المبادئ المذكورة أعلاه مع التركيز على توضيح فضائل القدس ومحاسنها وأهميتها بالنسبة للمسلمين، ثم يتم نشر هذه الرسائل بين الناس وقرائتها في المساجد والأسواق واللقاءات في مختلف المناسبات وكان من الطبيعي أن تشير هذه الرسائل والقصائد والكتب إلى نور الدين باعتباره رائد الجهاد الملتزم قولاً وفعلاً بالمبادئ المذكورة وكانت صورة نور الدين التي ترسخت في أذهان الناس تؤيد وتدعم ما تشير إليه الرسائل والقصائد والكتب المذكورة.
130.    كان الموقف العسكري في المشرق الإسلامي راجحاً لصالح الفرنجة عندما تسلم نور الدين حكم حلب 541ه وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ تغيَّر الموقف العسكري فأصبح راجحاً لصالح المسلمين وكان التفوق العسكري الإسلامي على الفرنجة واضحاً جداً في السنوات الأخيرة من حكم نور الدين حقق إنجازات عسكرية كبيرة تمثّلت بشكل عام من ناحيتن : الأولى : إلحاق هزائم منكرة بجيوش الفرنجة في معارك كثيرة الثانية : بناء قوة عسكرية كبيرة منظمة وفعَّالة، كانت في السنوات الأخيرة من حكمه قادرة على تحرير الأرض الإسلامية المحتلة ومواجهة التحديات الخارجية المحتملة.
131.    كان فتح مصر من أعظم منجزات نور الدين رحمه الله فقد تمكن من إسقاط الدولة الفاطمية العبيدية، التي استمرت أكثر من قرنين تنشر الفساد السياسي والخلل العقدي في أنحاء العالم الإسلامي، وقد استخدم نور الدين الدبلوماسية والاختراق الأمني، والدعوة لمذهب أهل السنة، وتوجت جهوده بإرسال الحملات العسكرية مستفيداً من قانون الفرصة الذي أتيح له.
132.    تولى أسد الدين ثم بعد وفاته صلاح الدين منصب الوزارة عند الحاكم الفاطمي، واستطاع من خلال هذا المنصب أن يستميل قلوب الناس إليه، وبذل لهم من الأموال، فمال الناس إليه وأحبوه وسيطر على الجند سيطرة  تامة واستطاع القضاء على الجند سيطرة تامة واستطاع القضاء على مراكز القوة في الدولة.
133.    نفذ صلاح الدين تعليمات وتوجيهات نور الدين زنكي بمصر وكانت من أعظم المهام التي أنجزها صلاح الدين إلغاء الخلافة الفاطمية العبيدية وقد استفاد صلاح الدين من القاضي الفاضل في إعداد خطة محكمة ومدروسة للقضاء على الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي وشرع صلاح الدين في تنفيذها بدقة متناهية، فعزل قضاة الشيعة وألغى مجالس الدعوة، وأزال أصول المذهب الإسماعيلي وأبطل الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر، وأمر في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة 565ه بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر عثمان وعلي وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة فكان الخطيب يقول : اللهم أصلح العاضد لدينك، وولى القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني، فاستناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد وأنشأ المدارس لتدريس المذاهب السُّنية وهو في الوقت نفسه يضيق الخناق على العاضد فيلغي مخصصاته ويحرمه من المال والخيل والرقيق ويمنع رسوم الخلافة وهي حفلاتها الرسمية في الأعياد وغيرها ويحتجز الخليفة في قصره فلا يسمح له بمغادرته إلا في مناسبات قليلة منها خروجه لاستقبال نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوم جاء إلى القاهرة وعمد إلى الخطبة نفسها مع أمراء الجيش فأخذ يحّد من نفوذهم شيئاً ثم قبض عليهم في ليلة واحدة وأنزل أصحابه في دورهم وفّرق إقطاعاتهم عليهم، وانزوى العاضد في مخدعه فريسة للهّم والمرض وأدرك صلاح الدين أن الفرصة باتت مواتية للقضاء على الدولة الفاطمية المحتضرة فعقد مجلساً كبيراً حضره أمراء جيشه وقواده وفقهاء السُّنة ومتصوفوها وسألهم الرأي والنصيحة وقد اتفق رأي الحاضرين على اتخاذ تلك الخطوة الفاصلة في حياة البلاد وفي بداية سنة 567ه/1171م قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين وكان قطعها بالتدرج ففي الجمعة الأولى من محرم 567ه حذف اسم العاضد من الخطبة وفي الجمعة الثانية خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله.
134.    كان نور الدين محمود يرى إزالة الدولة الفاطمية هدفاً استراتيجياً للقضاء على الوجود النصراني، والنفوذ الباطني في بلاد الشام، ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصحيح فوضع الخطط اللازمة وأعد الجيوش المطلوبة وعين الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة، فتّم الله له ما أراد على يدي جنديه المخلص وقائده الآمين صلاح الدين الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة.
135.    استخدم صلاح الدين أساليب عديدة للقضاء على الوجود الشيعي الرافضي بمصر منها؛ إذلال الخليفة الفاطمي العاضد، وإزالة هيبة قصر الخلافة الفاطمي، قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر، وإبطال تدريس الفكر الباطني به، وإتلاف.وحرق الكتب الشيعية الإسماعيلية، وألغى جميع الأعياد المذهبية للفاطمييين، محو رسوم الفاطمية وعملاتهم، الحفاظ على أفراد البيت الفاطمي، إضعاف العاصمة الفاطمية، الاستمرار في ملاحقة بقايا التشيع في الشام واليمن ومصر.
136.    توفي نور الدين يوم الأربعاء الحادي عشر من شّوال سنة تسع وستين وخمسة مئة ودفن بدمشق وكان رحمة الله حريصاً على الشهادة وكان يقول : طالما تعرضت للشهادة فلم أدُرِكها وقال الذهبي : قد أدركها على فراشه وعلى ألسنة الناس نور الدين الشهيد، وبعد وفاة نور الدين حمل راية الجهاد تلميذه الفذ صلاح الدين الأيوبي الذي بنى جهاده على ما أسسه وأتمها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق