إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 29 يناير 2016

1577 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل التسعون الزرع


1577

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
       
الفصل التسعون

الزرع

ولابد من حرث الأرض وتنقيتها من الشوائب الضارة بالزرع، ومن تليينها، وذلك قبل الشروع بالبذر أو بالغرس. وقد كان بعضهم يحرق الأدغال والأعشاب وما يجده على الأرض المراد زرعها من زوائد وأوساخ، وذلك للتخلص منها، وللاستفادة منها في تقوية التربة وزيادة نمائها. ثم يقومون بحراثتها فيندمج رمادها في التربة ويصير جزءاً منها. وقد يقتلون أصول الزرع السابق وما يكون قد نبت على الارض من نبات غريب مؤذٍ للزرع، قبل حراثة التربة. فاذا تم ذلك، ونظفت التربة،سقوها بالماء ليكونً من السهل على الأكار حرث الارض وتعزبقها، وربما لا يسقونها، بل يحرثونها مباشرة. وذلك بالنسبة للارضين التي تسقى بماء السماء، حيث لا يتوفر الماء الجاري، أو ماء الآبار. ومتى تمت الحراثة وقلبت التربة، تهيأت للزرع ونظمت وفقاً لنوع الزرع الذي سيكون فيها، على هيأة ألواح طويلة دقيقة، أو مربعات تتخللها السواقي والقُنيّ، أو غير ذلك، ثم يشرع بعد ذلك في الزرع والغرس. ويقوم الزارع نفسه في العادة بحرث أرضه واصلاحها وتمهيدها للزرع. وقد يقوم بالحراثة أشخاص مقابل أجر يدفع لهم.

والحرث والحراثة العمل في الأرض زرعاً كان أو غرساٌ. وقد يكون الحرث نفس الزرع. وذكر أن الحرث قذفك الحب في الأرض للازدراع، والحرّ اث الزرّ اع. و "الكرّاب"في مرادف الحرّ اث، والكرابة الحراثة. والكِراب والكرب إثارتك الأرض. و "الفلاح"في معنى الحرّ اث والأكار. لأنه يفلح الأرض، وحرفته الفلاحة. ورد: "أحسبك من فلاحة اليمن، وهم الأكرة، لأنهم يفلحون الأرض يشقّونها". والفلاحة الحراثة، وهي حرفة الأكار.

و "الجوَّار"الأكار، وقيل: هو الذي يعمل لك في كرم أو بستان.

و "الأكار"الحرّ اث والزارع، والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. وهي المخابرة. ويعدّ الأكار من الطبقات المحتقرة عند العرب. وفي حديث قتل أبي جهل، فلو غير أكّار قتلني. أراد به احتقاره وانتقاصه، كيف مثله يقتل مثله، فهو رجل شريف غني ثريّ، فكيف يقتله من هو دونه في المنزلة والمكانة، فكان يتمنى وهو مقتول، لو كان قاتله مثله في المنزلة و المكانة.

وقد اشتهرت اليمن بالفلاحة، ورد: "وأحسبك من فلاحة اليمن. وهم الأكرة، لأنهم يفلحون الأرض، يشقونها". وقد بقيت شهرة أهل اليمن بالفلاحة الى هذا اليوم، ومنهم قوم هاجروا إلى العربية السعودية للاشتغال يالفلاحة في أرضها.

وأساليب الحراثة تكاد تكون واحدة عند جميع شعوب الشرق الأدنى. وبعض الاساليب بدائي جداً، يُستعمل في حراثة الارضين الصغيرة بصورة خاصة. فتستعمل الحجارة أو الاخشاب أو الفؤوس على اختلاف أنواعها، وبعضها متقدم نوعاً ما اعتمد على المسحاة وعلى آلات الحراثة التي تجرها الحيوانات، وتستعمل هذه الطريقة في حراثة المزارع الكبيرة، ومنها سكة الحراث حديدة الفدان التي يحرث بها الارض. وينسب إلى الرسول قوله: ما دخلت السكة دار قوم إلا ذلوا. إشارة إلى ما يلقاه أصحاب المزارع من عسف السلطان وايجابه عليهم بالمطالبات وما ينالهم من الذل عند تغير الاحوال بعده. وقد ذكرت السكة في ثلاثة احاديث بثلاث معان مختلفة. وورد في بعضها ما يفيد العكس، أي مدح للزراعة والزراعة وحث عليها.

وتشبه آلات حراثة الجاهليين الالات التي يستعملها الفلاحون في بلاد العرب اليوم. وقد استعملوا "الفدان"في الفدن. و "الفدان"الثوران اللذان يفدن عليهما، ولا يقال للواحد فدان. وذكرإن "الهيس"الفدان، أو أداته كلها بلهجة أهل اليمن، أو بلغة أهلُ عُمان.

ومن الآلات التي استعملت في حراثة التربة: المحفار، وهي المسحاة وغيرها مما يحفر به. والمِخَدّ ة، حديدة تخدّ بها الارض، والمعول، لتكسير الحجارة والحفر. والمسحاةَ، وهي من حديد، وصانعها سحّاء، وحرفته السحاية، وهي لا تزال تستعمل في الحراثة وفي سد المياه وفتحها في السواقي لسقي المزارع والبساتين، ولقلع الأعشاب والأشجار. و "المرّ"، المسحاة أو مقبضها، وقيل هو الذي يعمل به في الطين.

ومن المصطلحات المستعملة في الحراثة، العزق، وهو تشقيق الارض بفأس. والأداة المعزق والمعزقة. والكور الحفر، ومنها كرت الارض كوراً أي حفرتها. والجوّ ار الأكار، والأكار الحفّار. والتربيك في الحرث رفع الأعضاد بالمجنب. والكَر مَ من الارض التي عدنوها بالمعدن حتى نقوّا صخرها وحجارتها، فتركوا مزرعتها لا حجر فيها، وهي أفضل أرضهم. والارض الكرم يحرث فيها البرّ، وهي سهلة لا تحتاج إن العدن. والمعدن الصّاقور. ويقال عدنت الارض أي أصلحتها. وأما قولهم نخنختُ الارضَ فبمعنى شققتها للحرث. والنخة البقر العوامل. ويقال رضت الارض إذا أثرتها. وأما وطدت الارض فبمعنى ردمتها لتصلب، والميطدة خشبة يوطد بها المكان من أساس بناء وغيره ليصلب. ويقال شحبت الارض و شحباً وأشحبها. إذا قشرت وجهها بمسحاة وغيرها، وهي يمانية. ويقال لكل واحد من أخاديد الارض تَلَمّ والجمع التلام. وهو مشق الكراب في الارض بلغة أهل اليمن. والخرق بمعنى شق الارض للحرث. وخضضت الارض بمعنى قلبتها.

والحيوانات المستخدمة في الحراثة هي الثيران والحمير والخيل والجمال، وذلك بحسب كثرة هذه الحيوانات وقلتها،ويستعمل في الحرث حيوان واحد حيناً وحيوانان حينا آخر. وقد وصلت الينا بعض النصوص الجاهلية محفوراً فيها صور حيوانات تحرث، تجر المحراث ويسوقها الفلاح. ويكون الكراب على البقر، وهو الغالب، وفي المثل " الكراب على البقر".

ويظهر من كتب الحديث أن اعتماد أهل الحجاز في الحراثة كان على البقر. وقد ورد في الحديث: "بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة". ويظهر أنهم كانوا يستعملون الكلاب في الحراثة كذلك. ففي الحديث: "كلب حرث". وقد ورد أيضاً "كلب غنم " و "كلب ماشية"، و " كلب صيد"، و "كلب زراعة".

ويشتغل الفلاح بعد حراثة الارض باصلاحها ونثر الحب فيها نثراً متساوياً منتظماً، ويستعمل لذلك بعض الآلات، مثل "المالق " و "المملْقَةَ". وهي خشبة عريضة، تجرها الثيران، وقد أثقلت لتستوي السنَّة واللؤمة فتتلما على الحب، وتملس التربة المثارة. و "المجَزُّ"، وهي شبحة فيها أسنان وفي طرفها نَقٌران يكون فيهما حبلان وفي أعلَى الشجة نقران فيهما عود معطوف، وفي وسطها عود يقبض عليه ثم يوثق بالثورين فتغمز الاسنان في الارض حتى تحمل ما قد أثير من التراب حى يأتيا به المكان المنخفض. "والمجنب"وهي شبحة مثل المشط، إلا أنها ليست لها أسنان، وطرفها الاسفل مرهف يرفع بها التراب على الاعضاد والفلجان.

ويعبر في عربية القرآن للكريم عن طرح البذر في الارض بلفظة "زرع". ويقال أيضاً: زرعت الشجر كما يقال زرعت البُرَّ والشعير. والزرع الإنبات. ومن هذا الاصل لفظة الزرع والزراعة.

وتثار الارض وتقلب على الحبّ، لضمان طمر الحب في التربة، فلا يظهرعلى سطحها، فتلتقطه الطيور، ويتعرض للعوارض الجوية التي تفسده وتتلفه. ثم تسقى الارض، ويقال للسقية الاولى العَفٌر، ثم تسقى بعد ذلك بحسب الحاجة حتى ينمو الزرع وينضج ويجمع، فيقطع عندئذ السقي.

والحبِة، بزور البقول والرياحين، أو بزر العشب، أو جميع بزور النبات، وبزر كلَ ما نبت. والحبّة أيضاً يابس البقل، تقول العرب: رعينا الحبة، وذلك في آخر الصيف، إذا هاجت الارض ويبس البقل والعشب وتناثرت بزورها وورقها، فإذا رعتها النعم سمنت عليها. ويسموّن الحبة بعد الاندثار: القميم و القف.

والبزر كل حب يبذر للنبات. والبزور: الحبوب الصغار، مثل بزور البقول وما أشبهها. و "البذر"، ما عزل للزراعة من الحبوب. و "البذر"زرع الارض.

وتزرع بعض الزروع على السواقي وأطراف مسايل الماء، وذلك بوضع "البذر" أو "البصل"في حفر، ثم يوضع فوقها قليل من التراب، لمنع الطيور من التهامها، وللمحافظة عليها من أثر الجو فيها. وقد يزرع البزر، فإذا نبت، تقلع النبتة الواحدة، لتزرع في موضع آخر.

وإذا أصاب الزرع الخصب والنماء، عبر عن ذلك بلفظة "خصب" في المسند. اللفظهَ التي نستعملها نحن في الزراعة، بمعنى كثرة العشب والزرع والنماء والوفرة.

ولا بد لنمو الزرع ونضوجه من اسقاء، ويعبر عن السقي بلفظة أخرى هي "المكر". والمكر سقي الارض. يقال أمكروا الارض إذا سقوها.

ولتقوية الارض وإعادة الحيوية إليها، استخدم الجاهليون التسميد. وبالسماد تعاد إلى الارض بعض قوتها، وينمو الزرع، وقد استعملوا في ذلك جملة وسائل كما يفعل المزارعون في الزمن الحاضر الذين لا يزالون يسيرون على طريقة القدماء في التسميد، فاستعملوا فضلات الإنسان والحيوانات، كما استعملوا الزبل أيضاً. وذكر أن من أسمدتهم عذرة الناس والسرقين برماد، يسمد به النبات ليجود. والسرجين، والسرقين، الزبل تدبل به الأرض. والمزبلة موضع الزبل، وزبل زرعه يزبله، سمده، أي أصلحه باًلزبل وكذلك الأرض. ويقال لتسميد الأرض بالزبل "عدن الأرض"أي أصلحها بالزبل. ويقال دبل الأرض دبولاً، بمعنى أصلحها بالسرقين ونحوه لتجود، فهي مدبولة.

ولحماية الزرع من عبث الطيور و بقية الحيوانات به، اتخذوا وسائل عديدة لحمايته. منها: اللعين. ما يتخذ في المزارع كهيأة رجل، أو الخيال تذعر به الطيور والسباع والوحوش. و "الخيال"، كساء اسود ينصب على عود يخيل به للبهائم والطير فتظنه انساناً. وقبل خشبة توضع فيلقى عليها الثوب للغنم إذا رآها الذئب ظنها انساناً. و "الخيلان"، ما ينصبه الراعي عند حظيرة غنمه. وقيل: الخيال، ما نصب في أرض ليعلم إنها حمى، فلا تقرب.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

هناك تعليق واحد: