إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 29 يناير 2016

1575 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل التاسع والثمانون الزروع و المزروعات


1575

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
      
الفصل التاسع والثمانون

الزروع و المزروعات

والزراعة هي عماد ثروة اليمن وبقية العربية الجنوبية والمواضع التي تتوفر فيها المياه في جزبرة العرب. وهي رأس مالها الاكبر في حياتها. والمورد الأول الذي يتعيش عليه الناس وقد انحصرت في المواضع الخصبة، أي في المواضع التي جادت عليها الطبيعة بالأمطإر أو بالينابيع والجعافر والعيون وباًلمياه الجوفية القريبة من سطح الأرض وبالحسي وما أشبه ذلك. وحيث أن أغلب أرض بلاد العرب هي أرض صحراوية موات، لهذا فإن الزراعة فبها معدومة، ويمكن في المستقبل احياء قسم منها،وذلك باًستخدام الوسائل الحديثة التي استنبطها العقل والتي سيستنبطها في استخراج الماء وفي اصلاح التربة، وسيتحول شكل جزيرة العرب عندئذ عمّا هو عليه الآن كثيراً ولا شك. وقد حولت في هذه الأيام مناطق موات، إلى أرض عمار، تسقى بالمياه المنبعثة من الآبار "الارتوازية"ومن السدود التي حبست مياه السيول، وصارت تتتح في مواضع عديدة من جزيرة العرب غلة زراعة وافرة بفضل استعمال الفن الحديث في استنباط الماء وفي كيفية الاستفادة من التربة وفي ادخال أساليب الزراعة الحديثة إلى هذه الأماكن. وقد يأتي يوم، تتحول فيه معظم أرض جزيرة العرب الفارغة المحملة التي يخشى الإنسان من ولوجها إلى أرض خصبة منتجة، إذا ما زرعت زراعة حديثة، تناسب جو بلاد العرب وتركيب تربتها،واستنبطت المياه الكافية من جوفها للزراعة وللشرب ونحن وإن كنا لا نملك مراجع جاهلية مكتوبة واسعة تتحدث عن الزراعة في جزيرة العرب قبل الإسلام وعن أنواعها وتفاصيلها وأساليبها وطرقها وضرائبها وعن كيفية استغلال الأرض وطرق الاستفادة منها وواجب الفلاح تجاه صاحب الأرض، وعن الحاصلات السنوية ومقدار ما تأخذه الحكومة من المزارعين من ضرائب، وأمثال ذلك من أمور متصلة بالزراعة، لكنا قد تمكنا من تكوين رأي فيها من مراجعتنا للكتابات الكثيرة التي وصلت الينا وفيها أمور متعددة لها علاقة بهذه الموضوعات، كما إن آثار الأقنية والسدود الجاهلية المنتشرة في مختلف نواحي اليمن، هي في حد ذاتها شاهدة على مقدار توسع اليمانين في الزراعة في ذلك العهد. ونجد مثل هذه الآثار الجاهلية في مواضع أخرى من جزيرة العرب، وهي دليل واضح على إنها كانت مزروعة معمورة، لا مغمورة مهملة كماهوشأنها في الوقت الحاضر.

أما بخصوص الزراعة واستغلال الأرضين وايجارها وجباية الضرائب عنها والعقود التي كان يعقدها الملوك مع كبار الاقطاعيين وتنظيم المياه وأمثال ذلك،فقد وصلت الينا كتابات وأوامر عامة فيها، كان يصدرها الملوك و "الكبراء"، يعلنونها على الناس، ليطلعوا عليها، وليعملوا بموجبها، تكتب على الحجارة، وتوضع في محلات عامة، أو في خزانات المسؤولين وذوي الشأن، ليرجع إليها حين الحاجة.

وهنالك كتابات كتبها رؤساء عشائر واًصحاب أملاك، عن حدود أملاكهم، أو عن تأجيرها لغيرهم، أو عن انشاء سدود لضبط المياه وتوزيعها، أو عن حفر آبار، وأمثال ذلك، وهي كلها على صفتها الشخصية ذات قيمة بالقياس إلى هذا، لما ورد فيها من أفكار ومصطلحات فنية، تمكننا من تكوين رأي في الزراعة والنظم الاقتصادية فى العربية الجنوبية في ذلك العهد.

واذا كنا قد حصلنا على فكرة ما عن الزراعة في اليمن وفي بعض أقسام العربية الجنوبية استناداً إلى الألفاظ والمصطلحات الزراعية في الكتابات الجاهلية والى الوثائق الخاصة بالأرض وبالضرائب وبالتأجير وبعقود البيع والشراء، والى بعض الصور المنقوشة علىَ هذه الكتاباًت، فاننا لم نعثر، ويا للأسف، على كتابات جاهلية تتحدث عن هذه الأمور في الحجاز وفي أواسط جزيرة العرب وفي الأقسام الشرقية منها، وآراؤنا عنها مستمدة في الدرجة الأولى من المراجع الاسلامية ومن مشاهدات السياح لمناطق الآثار ووصفهم آثار الزراعة في المناطق الي مروا بها، ومن تقارير الخبراء "الجيولوجيين"وغيرهم من موظقي شركات النفط العاملة في جزيرة العر ب.

وفي لغة المسند مصطلحات زراعية تعبر عن معان خاصة، وفيها مسميّات لآلات وأدوات استخدمت في الزراعة. ولا بد أن تكون لهجات أهل العربية الجنوبية أوسع ألفاظاً في الزراعة من لهجات العرب الاخرين القاطنين في الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، بسبب تنوع الأجواء فيَ العربية الجنوبية، وما أعقب ذلك من تنوع الزرع وطرق الزراعة فيها، أضف الى ذلك خصب التربة ووجود الماء فيها، وجوداً لا يماثله أي مكان آخر في جزيرة العرب. فظهرت فيها ألفاظ زراعة ومصطلحات زراعية لم تعرفها عربيات بقية جزيرة العرب،اضطرت اللهجات الأخرى إلى اًخذها منها، لعدم وجودها عندها، ونجد في معجمات اللغة وفي كتب النبات والأدب ألفاظاً زراعية، نص العلماء على أنها من لغات أهل اليمن.

وقد حفظت الأيام بعض الحجارة المكتوبة بالمسند، وعليها صور، أفادتنا في تكوين فكرة عن ملامح المزارع قبل الإسلام، وفي تبيين طراز معيشتّه، وشكل بعض ملابسه، وما شابه ذلك. وبين هذه الحجارة المصورة المكتوبة، حجر حفرت عليه صورة حرّاث حافي القدمين وقد ارتدى ثوباً بلغ ركبتيه وشد وسطه بحزام وأمسك بيده اليسرى الحبل أو النطاق المتصل يالمحراث، وباليمين آلة على هيأة فأس من خشب، ربما استعملها في ضرب ثوري المحراث، أو استعملها في حفر الأرض أيضاً وفي تفتيت التراب المحفور. وقد ربط الثوران بالمحراث، وأخذا يحرثان الأرض، والفلاح يوجهها. ورسمت تحت الصورة صورة ثلاثة رجال، يظهر من ملامحهم ومن شكل ملابسهم أنهم كانوا من أصحاب الأرض.

ولأهل اليمن سبق على غيرهم من أهل جزيرة العرب في الزراعة، وهم حتى الان على ما كانوا عليه منّ ميل إليها، ويشغل عدد منهم اليوم في المملكة العربية السعودية أجراء لغيرهم في زراعة الأرض، أو مشاركون لأصحاب الأرض في الحاصل. أما الأعراب، فكانوا يزدرون شأنها، وينقصون من قدر المزارع "الخضار". ونجد هذه النظرة الازدرائية إلى المزارع عند أهل الحضر أيضاً، حتى أن بعض الصحابة كرهوا تعاطي العمل في الأرض، حتى بعد الفتح، تاركين ذلك إلى أهل الذمة. روي عن "أبي أمامة الباهلي"أنه قال، إذ رأى سكة وشيئاً من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل. قالوا في تفسيره: "لما يلزمهم من حقوق الأرض التي يزرعونها، ويطالبهم بها الولاة، بل ويأخذون منهم الان فوق ما عليهم بالضرب والحبس، بل ويجعلونهم كالعبيد أو أسوأ من العبيد، فإن مات أحد منهم، أخذوا ولده عوضه باًلغصب والظلم، وربما أخذوا الكثير من ميراثه ويحرمون ورثته، بل ربما أخذوا من ببلد الزارع فجعلوه زراعاً، وربما أخذوا ماله". وهو تفسير فيه شيء من التكلف، يفصح عن كراهية القوم للزراعة أكثر من المعنى المذكور، وأما الحديث نفسه، من حيث الصحة أو الضعف، فلعلماء كلام فيه. وفي كتب الحديث أحاديث أخرى تحث على الزراعة والزرع.

وورد في الحديث أن الرسول كان يحدث جمعاً من الصحابة عن الجنة، وعن رجل زرع في الجنة فاستوى نباته، وعنده رجل من أهل البادية، فلما انتهى الرسول من كلامه، قال الأعرابي: "والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فإنهم أصحاب زرع. وأما نحن، فلسنا بأصحاب زرع".

وكراهة الزرع، كراهية نشأت من عدم توفر الماء والأرض، لأكثر الناس، فصاروا يكرهونها،أما الذين ملكوهما فلم يزدروها ولم يغضوا من شأنها، والأعرابي لا يملك شيئاً، فصار يكره كل شيء لا يملكه ولا يقدرعليه، من زراعة ومن حرف ومن قيود اجتماعية ومن تنظيم، ومن كل ما يخالف مألوفه من عرف وتقاليد، ولذلك صارت الزراعة من عمل أهل المدر، وعمل كل من وجد لديه الماء الوافر، ليأخذ منه ما يلزمه للزرع، وسادات القبائل، الذين توفر الماء عندهم، أو كان لديهم المال لتشغيله في البحث عن الماء، زرعوا مثل أهل الحضر، وشغلوا العبيد وأتباعهم في الزراعة، لما وجدوا فيها من مكسب وربح، وكان للكثير منهم زرع وحوائط.

ونظراً لتغير الحال عند العرب في الإسلام، وظهور الدعوة فيه إلى الأمة والجماعة، فقد حث الرسول المسلمين على الزرع، وظهر من روى عن الرسول انه قال ألزراعة أفضل المكاسب، وذلك لما فيها من عموم الانتفاع، حتى إن منهم من فضلها على التجارة للتوسعة على الناس، ولما للقوت الذي يأتي منها من صلة بحياة الناس. ومع ذلك، فقد بقي العرف الجاهلي مسيطراً على عقليةالسادة الكبار، من افتخارهم بحيازة الأرض، ومن ازدرائهم من الاشتغال بأنفسهم بها، فكانوا يستخدمون العبيد والأجراء وكُرّاء الأرض في استغلالها، فهؤلاء وأمثالهم خلقوا للعمل في الأرض، أما هم فقد خلقوا ليكونوا سادة، عملهم امتلاك الأرض، وقد ظهر من هؤلاء جيل امتلك أرضين واسعة في البلاد المفتوحة شغل فيها أهل الذمة، والنبط وسكان الأرضين المفتوحة، ومئات وآلافاً من الرقيق والعبيد، كان عليهم العمل، ولسيدهم الكسب الوفر والمغنم.

وقد يزرع أهل الحضر في جوف القرية من النخيل والأشجار، أو داخل ما طاف به سور المدينة، وبقال لذلك "الضامنة"، لأن أرباًبها قد ضمنوا عمارتها وحفظها، فهي ذات ضمان، محروسة آمنة، وتحت رعاية وعيون أصحابها. وقد يزرعون خارج قريتهم، وخارج العمارة في البر، أي في الضاحية، ويقولون لذلك "الضاحية". وفي كتاب النبي لأكيدر: إن لنا الضاحية من البعل، وان لكم الضامنة من النخل. وقد كان زرع أهل الطائف وأهل يثرب وقرى اليمامة واليمن وغيرها بين ضاحية وضامنة. والضاحية أوسع وأكثر بالطبع، لاتساع العين ووفرة الماء.

ولم يكن من الممكن بالنسبة لأيام الجاهلية، زرع مساحات واسعة بالحبوب أو الخضر والنخيل وبقية الشجر، لصغر حجوم المياه، وقلة المطر، وعدم كفايته لارواء الزرع منذ بذر بذوره حتى حصاده، وللظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت مهيمنة على مجتمع ذلك العهد، من عدم وجود حكومات قوية كبيرة ترعى الأمن وتحمي حقوق المزارع وزرعه من العبث به، ثم تشجيعه وتقديم المعونة له. لذلك كان من الصعب ظهور مزارع كبيرة تنتج غلات عظيمة تعرض للاستهلاك المحلي والتصدير. ولم يكن في وسع أحد انشاء مثل هذه المزارع إلا إذا كان متمكناً ذا مال ونفوذ، وصاحب عشيرة قوية، تحمي حقه ممن يريد الاعتداء عليه.

وزرع، بمعنى طرح البذر. وقيل الزرع نبات كل شيء يحرث. ويقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البرّ والشعير، والزريعة الشيء المزروع، والزرعة البذر. فالزراعة اذن، هي التي تكَون بفعل انسان، يطرح بذراً أو يغرس غرساً، أو ينبت نبتَاً. وأزرع الزرع طال. وموضع المزروع المزرعة. وقد غلب على المكان الذي يزرع برّاً وشعيراً.

ويكون "الغرس"بفعل انسان، يقوم بغرس الغرس. وغرس الشجر يغرسه غرسأَ، أثبته في الأرض، والغرس الشجر، والغراس وقت الغرس. فلا يكون الغرس ببذور، وانما بغرس غرس، ينمو ويكبر، فيصير غرساً. ولا تعبر لفظة "غرس"عن ظهور النبات بفعل الطبيعة، وانما تعبر عن غرس "فسيل"ليصير شجراً. من ذلك فسيل النخل، وقضبان الكروم والأوراد،وأمثال ذلك. ويعبر عن صغار الفسيل ب "الوديَّ". وفي حديث أبي هريرة، لم يشغلني عن النبي غرس الودي. و "التغاريز"ما حول من فسيل النخل.

وغرسوا الشجر سككاً. والسكة السطر المصطف من الشجر والنخيل. وقد كانت بساتين يثرب سككاً مسطرة بسطور النخل. ومنه الحديث: خير المال: سكة مأبورة ومهرة مأمورة. المأبورة المصلحة الملقحة من النخل، والمأمورة الكثيرة النتاج والنسل. وغرسوا النخل أسطراً على جانبي مسايل الماء والجداول والسواقي. والسطر، الصف من الشيء كالكتاب والشجر والنخل. يقال بنى سطراً من نخل، وغرس سطراً من شجر، أي صفاً.

وغرسوا "الكرم"سككاً كذلك، وقد يتخذون له "عريشاً"يعترش العنب. و "العريش"، ما عرش للكرم من عيدان تجعل كهيأة السقف، فتجعل عليها قضبان الكرم فتعرشها.

ويعبر بلفظة "نَبتَ"عن كل ما نبت من نفسه، أي بدون فعل فاعل، وانما بفعل الطبيعة في التربة، وذلك في الغالب المالوف. وذلك بتأثير المطر عليها، أو بتأثر السيول والطوفان والرطوبة والمياه الجارية، وأمثال ذلك، مما يكون سبباً لنبت النبات. يقال: "نبتت الأرض وأنبنت"، و " نبت الكلأ".

وترد لفطة "سقح"بمعنى زرع وغرس في لغة المسند. رقد فسرها بعض علماء العربيات الجنوبية بمعنى هيأ الماء وجمعه وأجرى السواقي والأرض وحفر القنوات ومهدها للزرع، وبعبارة مختصرة التمهيد لكل شيء ولكل عمل.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق