إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 31 يناير 2016

1607 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الخامس والتسعون الارض ظهور القرى


1607

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
      
الفصل الخامس والتسعون

الارض

ظهور القرى

وصار بعض هذه المستوطنات قرى، توسع قسم منها حتى صار بمنزلة المدن، منها ما كان يضاهي "يثرب"أو مكة في الحجم، غير أنه لم يشتهر ولم يذكر، لعدم وجود تماس له وصلة مباشرة بتأريخ الإسلام. وهي مستوطنات سكن وماء وأسواق وتجارة، ذكرها أهل الأخبار بقولهم: "قرية كانت عظيمة الشأن " وبقولهم: "قرى"، وصار بعض منها "قرى وزروع ونخيل"، أي قرى غلبت الزراعة على أهلها، فظهرت الزراعة بها. زراعة نخيل، إن كانت زراعة النخيل هي الزراعة المتغلبة عليها، وزراعة نخيل وزروع أخرى، إن شاركت الزروع الأخرى النخيل في ذلك. وهذا هو سبب نص "الهمداني"وأمثاله ممن كتب عن مواضع جزيرة العرب، على القرى، بأنها قرى، أو قرى سكن، أو قرى نخيل، أو قرى زراعة ونخيل، أو نخل وقرية.

وأما القرى التي غلب التعدين عليها، فقد نص عليها بأنها "معدن"،لتمييزها عن القرى الأخرى.

وهكذا ظهرت في البوادي مستوطنات زراعية رعوية، كفت نفسها بنفسها، توقف حجمها على كمية الماء فيها، وتوقف انتاجها على مقداره وكمية، وظهرت فيها نتيجة لذلك الملكية الفردية، تملك المقيم فيها الأرض التي استقَر بها وبنى بيته عليها، وتملك زرعه وحاصله إن كان له زرع، وتملك ماشيته إن كان صاحب ماشية. وتولد نتيجة لكل ذلك مجتمع مستقر، تعاون فيما بينه في الدفاع عن نفسه وعن ماله، وفي جلب السلع التي يحتاج إليها الإنسان والميرة، وتولد فيها تعامل وبيع وشراء، توقف حجمه بالطبع على حجم ذلك المكان وعلى مقدار وجود الماء به.

فالبحث عن الماء والحصول عليه بالمال وبالخدم والعبيد،كوّن الملكيات الفردية في الوادي بين الأعراب، وأوجد المستوطنات الحضرية والمستقرات، وصير من بعض البدر حضراً أو أشباه حضر، وغيرّ بعض التغيير من معاييرهم ومقاييسهم الاجتماعية، بجعلهم زراعاً وفلاحين، بعد كره واستهجان للمزارع وللزراعة. وهذه المستوطنات هي مستوطنات نشأت وظهرت بجهد الإنسان. وبعمله وجدّه، وبأستثمار عقله وماله وفي تسخير أتباعه في استنباط الماء، وتحويل الأرض البكر إلى أرض زراعة وسكن، وفي جزيرة العرب مستوطنات عديدة من هذا القبيل، ومعظم مستوطنات يثرب، هي من هذا النوع، مستوطنات قامت على الآبار التي احتفرها المتمكنون من أهلها، فزرعوها وأقاموا الأطم بها لحماية الزرع والناس من الأخطار. والأطم القصور، وكل حصنُ بني بالحجارة أطم. وقيل هو كل بيت مربع مسطح. وقد اشتهرت يثرب باطامها. وذكر "الأعشى" آطام جو بقوله: فلما أتت آطام جوّ وأهلـه  أنيخت فألقت رحلها بفنائكا

وأقيمت الحصون لحماية هذه المستوطنات، واتخذت وسائل التحصن الأخرى لحماية النفس والزرع من الأعراب الجياع. ولا تزال في اليمامة اثار حصون وآطام عادية، تعود إلى ما قبل الإسلام بأمد. وكانت حماية ومنعة للساكنين حولها، وتشاهد آثار السكن في أطرافها، وآثار آبار مندرسة، وآثار زرع، هي مزارع القوم، فنجد في الافلاج حصوناً، ونجد في "ملهم"حصونا كان يتحصن بها "بنو يشكر"، ونجد في أرضين أخرى حصوناً بنيت كلها لدرء النفس من الأخطار واليمامة حصون متفرقة ونخل ورياض، وفيها بتل، والبتيل، هن مربع مثل الصومعة مستطيل في الحماء من طين، ويرجع أهل الأخبار زمانها إلى "طسم"و "جديس"، وذكروا أن طول بعضها خمسمائة ذراع.

وقد أشار أهل الأخبار إلى قرى ومستوطنات قديمة في مواضع متعددة من جزيرة العرب، نسبوها إلى "عاد" والى "طسم"و "جديس"لبعض منها حصون وآبار. فالقرية موضع قديم به ماء عادي، أي ماء قديم، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في ااصخر.والقصر العادي بالأثل من عهد طسم وجديسْ، و "القرية": القرية الخضراء، خضراء حجر، هي حضور لطسم وجديس، وفيها حصونهم وبتلهم. والبتيل: هنّ مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. بناء بعضه مائتا ذراع أو خمسمائة ذراع مرتفعاً سامقاً في السماء، وبقرية بني سدوس، قصر مبني بصخر منحوت، نسبه أهل الأخبار إلى "سليمان بن داوود". و "تر" نخيل وحصون عادية وغير عادية.

إلى غير ذلك من قرى وقصور وحصون قديمة ذكرها أهل الأخبار، أشرت الى بعض منها في مواضع من هذا الكتاب، نشأت ونبتت في البوادي، في المواضع التي أمكن للانسان بفنه البدائي وبعلمه في ذلك الوقت من استنباط الماء فيها. وبظهور ذلك الماء نبتت مستوطنات وزروع ونخيل وملكيات في أرض كانت ميتة ليس لها مالك، فأحياها استنباط الماء منها، وجعلها ملكاً لأصحاب الماء.

وقد كانت هذه الآطام والحصون معاقل لأصحاب الأرض ومنازل لهم، ومخازن يخزنون بها حاصل أرضهم وماشيتهم عند دنو الخطر، وقد يحتمي بها عبيدهم وأتباعهم فهي مثل، قلاع الأشراف النبلاء في أوروبة أيام الاقطاع ومثل المحافد والقصور في اليمن. وهي تختلف في الحجم والسعة باختلاف درجة ومنزلة المالك للأرض، من حيث تملكه للمال وللخدم والعبيد وما عنده من ثراء، وقد صارت سبباً في تحويل أصحابها الى حضر أو شبه حضر، ولو انهم كانوا وسط بواد وبين أعراب، فإقامتهم. في أبنية مستقرة وحرثهيم الأرض وزرعها، واستخدامهيم للعبيد في الفلاحة، طورتهم بعض التطوير، حى صاروا على شاكلة الحضر، يتركون منازلهم لزيارة القرى والأرياف، ويتصلون بالحضر وقد يقيمون بينهم على نحو ما يفعله كثير من سادات "شيوخ"القبائل في الوقت الحاضر، وكان جلّ سادات القبائل الكبار من أصحاب الأبنية الثابتة، لهم منازلهم ومزارعهم وأعرابهم الذين لم تمكنهم أحوالهم المادية من تملك الأرض والزرع، فاشتغلوا برعي الإبل، وقد تتعرض مزارع هذه المستوطنات إلى الأخطار مع وجود الحصون وأبنية الحماية الأخرى، فالمزارع الكبيرة لا يمكن حمايتها إلا إذا حميت في حصون عديدة من جميع جهاتها وحمايتها على هذا النحو عمل مكلف باهظ. لذلك كان المهاجم يهاجم الزرع ليحرق قلوب أصحابه المتحصنون في الحصن، فلما هاجم "بنو يربوع""بني يشكر"، تحصن "بنو يشكر"بحصنهم بقريش "ملهم"، فأحرق "بنو يربوع"بعض، زرعهم، وعقروا بعض نخلهم، فلما رأى القوم ذلك نزلوا اليهم فقاتلوهم.

وقد اتخذ المزارعون ملاجىء لهم عند أماكن زرعهم يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس ومن المطر والعواصف، وكانوا يسكنون بها، كانت هذه سنتهم في الجاهلية وفي الإسلام. وقد ذكر مؤلف "بلاد العرب"أن بروضة السويس قبتين مبنيتين يسكنها الزراعون.

وقد أولد هذا المجتمع تبايناً في منازل الناس، جعل من أصحاب الأرض الكبيرة ملاكاً كباراً لهم أطم وحصون، يأوون إليها، ولهم خدم يخدمونهم ويخدمون زرعهم وماشيتهم، هم العنصر المنتج، والآلة التي تساعد على الانتاج وعلى تكثيره، وعلى تزييد أموال الملاّك، أما هم أنفسم فمجرد خدم ورقيق، خلقوا لخدمة سادتهم ووجدوا لرعاية أموالهم والعناية بزرعهم وتكثر رزقهم. و،إلى جانب هؤلاء أناس أحرار، كان في رزقهم شحّ، وفي حياتهم عسر، وقوتهم قليل و قاموا بمختلف الأعمال والحرف لإعالة أنفسهم وسدّ رمقهم.

وقد تمكنت بعض هذه المستوطنات من انتاج حاصل زراعي سد حاجة أهل المستوطنة، ومن بيع الفائض منها الأعراب. وبينها مستوطنات زرعت الحبوب، مثل الحنطة وصدرتها إلى أماكن أخرى. فقد ذكر إن قرى اليمامة كانت تمون مكة بالحبّ، وتمون الأعراب بالتمور. وما هذه القرى سوى مستوطنات، ظهرت في البوادي بسبب وجود الماء فيها، وبسسب استنباطه من الأرض بحفر الابار، فنمت وتوسعت، لاتساع صدر الماء بها، ولتفضل الأرض على من نزل بها باعطائهم ماءاً كافياً، كفاية تساعد على توسع المستوطنة، فيما لو عمل النازلون بها على استنباطه من باطنها، واستعملوا عقولهم وأيديهم في استغلال التربة للحصول على موارد الرزق منها.

وتحدد الأرض المملوكة بحدود، وقد توضع على أطرافها علامات، لتكون حدودها معلومة، فلا يتجاوز عليها. ويقال للحد بين الدارين، أو بين الآرضين "الجماد". وقد أشير إلى "الجوامد"، أي الحدود في الحديث. ورد اذا وقعت الجوامد فلا شفعة في الحدود.

والأرض، عامر أو غامر، والعامر المأهول والمزروع والمستغل، والغامر خلاف العامر، وهو الخراب. وقد قسم "عمر"السواد إلى عامر وغامر، أي عامر وخراب. والغامر الأرض ما لم تستخرج حتى تصلح للزراعة والغرس، وقيل: هو ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة. واتما قيل له غامر، لأن الماء يبلغه فيغمره. ويقال للارض العامرة: "السوداء"، وأرض سوداء، أرض مغروسة، والأرض في عرف العرب إذا غرست اسودت واخضرت، و "البيضاء" الخراب من الأرض، لأن الموات من الأرض يكون أبيض.

والبور: الأرض قبل أن تصلح للزرع، وقيل: هي الأرض التي لم تزرع،أو الأرض كلها قبل أن تستخرج حتى تصلح للزرع أو الغرس. وفي كتاب النبي لأكيدر دومة: ولكم البور والمعامى وأغفال الأرض. فالبور الأرض الخراب التي لم تزرع،أو هي التي تجم سنة لتزرع من قابل. وذكر أن المعامى الأعلام من الأرض ما لا حدّ له. والأغفال ما لا يقال على حده من الأرض. والمعامى على حدّ قول بعض العلماء أغفال الأرض التي لا عمارة بها، أو لا أثر للمارة بها. والغفل: ما لا عمارة فيه من الأرضين، وقيل الموات، وأرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة، وأرض سبب ميتة لا علامة فيها، وكل ما لاعلامة فيه ولا أثر عمارة من الأرضين والطرق ونحوها غفل، وبلاد أغفال لا أعلام فيها يهتدى بها. وقد ورد في كتاب الرسول إلى الأكيدر: "أن له الضاحية والبور والمعامى وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور".

والضاحية ما كان خارج السور من النخل، والضاحية البادية، وضواحي قريش النازلون بظواهر مكة.

والعامر، إما ملك للحكومة، وإما ملك للملوك ولذويهم، وإما ملك للمعبد،أي اوقاف حبست على المعابد، وإما ملك لأسر وأفراد، وذلك بالنسبة للحضر،وفي العربية الجنوبية بصورة خاصة. وأما بالنسبة إلى الأعراب، سكنة البوادي، فأرض القبيلة - كما سبق إن قلت - ملك لها، إلا ما حمى منها. فهو من حق أصحاب الإحماء. فالأرض أذن مشاعة بين أبناء القبيلة، ويدخل في ذلك الماء و الكلأ.

وقد عبر في أحد النصوص عن الأرض التي آلت إلى صاحبها بطريق التملك ب "مقبلت قنيو""، أي الأرض التي أقبلت إلى الشخص بطريق الملكية. ومعناها الأرض المقتناة أي الملك. وهي أرض ملكها صاحبها إرثاً من أهله،وذلك تمييزأَ لها عن الأرض التي يتملكها صاحبها شراءً، وقد عبر عنها ب "شامتهو"، أي الأرض المشتراة.

وتعد كل الأرضين التي لا تملكها الجهات المذكورة ملكاً للدولة. ورقبتها بيد الحكومة، وتسجل باسم الشعب الحاكم. فإذا كانت الحكومة حكومة معين، تسجل الأرض باسم شعب معين، وإذا كانت الأرض في سبأ، تسجل باسم شعب سبأ، وقد توسعت رقعة الأرضين الحكومية بالفتوحات الواسعة التي تمت في عهد الملك "كرب ايل وتر"،وفي عهود الملوك المحاربين مثل "شمر يهرعش"الذين إذا انتصروا على خصومهم جعلوا أرضهم وما يملكونه غنيمة لحكومتهم، تابعة لبيت المال. وذلك على نحو ما فعله المسلمون في الفتوحات من تسجيلهم الأرضين التي فتحوها بأسم "بيت مال المسلمين".

وقد تؤجر أرض التاج للقبائل والعشائر بعقد يتفق عليه، تذكر فيه شروطه في الوثاثق التي تدوّن لهذه الغاية، ويتم الدفع بموجبها، فيكون إما عيناً، وإما نقداً. وقد يقوم سادات القبائل باستغلال الأرضين المؤجرة على حسابهم، وقد يؤجرونها أو يؤجرون أجزاءً منها إلى حاشيتهم أو أتباعهم في مقابل جعل يدفع لهم. فيكون دخلهم من هذه الأرض المؤجرة من العوائد التي اتفقوا على استحصالها من المستأجرين الثانويين ومن صغار الفلاحين.

وقد كان الفلاح مغبوناً في الأكثر، لأنه بحكم فقره واضطراره إلى استئجار الأرض بشروط صعبة في الغالب، مضطر إلى الاستدانة في أغلب الأحيان، لضمان معيشته في مقابل تعهد بدفع ما استدانه في آخر موسم الحصاد وقطف الثمر فإذا حقّ ألاجل، اضطر إلى دفع ديونه وما ترتب عليها من ربا فاحش، وما عليه من حق للحكومة ولصاحب الأرض، فلا يتبقى لديه ما يكفيه في عامه الجديد، فيضطر إلى تجديد الاستدانة، والغالب أن أصحاب الأرض هو الذين يقومون بتقديم الديون الى الفلاحين، لربطهم طول حياتهم بالأرض، فلايتمكن الفلاح من الهروب منها بسبب ثقل ما عليه من الديون، ووجوب دفعها مع فائضها كاملة إن أراد تركها، وهو حلّ لا يتمكن من تنفيذه، فيظل لذلك مرتبطاً مع عائلته بأرض المالك صاحب الديون.

وكانت حكومة سبأ تستغل أرضها الخاضعة للخزينة العامة، أي "أرض السلطان"، إما بأدارتها نفسها وباستغلالها بتشغيل المزارعين بها على حساب الدولة، وإما بيعها، وإما بتأجيرها في مقابل "أجر"يقال له، "اثوبت"في لغتهم.

وامتلكت المعابد أرضين واسعة شاسعة، استغلتها باسم الآلهة، ودرّت عليهم أرباحاً كثيرة. وهي أرضين سجلت بأسمها منذ نشأت المعابد وظهرت، فارتبطت بها، وصارت وقفاً عليها. منها ما سجل في عهد "المكربين"أي حكومات رجال الدين في العربية الجنوبية، يوم كان "المكرب"هو رجل الدين والحاكم الدنيوي، فكانت نظرتهم إن الأرض وما عليها ملك للآلهة. ورجال الدين الحكام هم خلفاء الآلهة على الأرض، وهم وحدهم لهم حق الحكم والفصل بين البشر، وما يقرونه حق، وما يخانفونه ويحرمونه فهو باطل. وهم الذين يفصلون بين الحرام وبين الحلال، ويقررون ما يوافق حكم الآلهة رما يخالفه. فهم حكام الشرع و القانون.

وكانت للمعابد الأخرى أحباس خصصت بها، وحميت للمعبد ولما ينذر له ويحبس عليه من حيوان يرعى فيه، فلا يتطاول عليه أحد. وقد سبق إن تحدثت عن حرم "العزى"، وهو شعب حمته قريش للصنم، يقال له "سقام"في وادي حراض، وقد كان حرماً آمناً، لا يجوز قطع شجره ولا الاعتداء على ما يكون فيه من انسان وحيوان. وهو قرب مكة بين "المشاش"و "الغمير" فوق ذات عرق، الى البستان، وقيل بالنخلة الشامية. كما كان بيت الحرام، حرم واسع به شجر وزرع، سبق إن تحدثت عنه.

وقد وجدت في بعض المناطق، مثل أرض قبيلة "بكل""بكيل"، أملاك واسعة حبست على "المقه"، كانت تديرها وتتصرف بها عشيرة "مرثد"،ووجدت أرضون واسعة في مناطق أخرى، جعلت المعبد من أكبر ملاك الأرض.

وقد استغل المعبد بنفسه بعض أملاكه، وأجر بعضاً آخر للاسر المتنفذه ولسادات القبائل، بموجب اتفاقات دونت وحفظت في خزائن المعابد. وقد كان المتنفذون قد استولوا على بعض حبوس المعابد، واستغلوها، ولما كانوا أقوياء،والأوقاف في مناطق نفوذهم، ولا يمكن للمعبد أن ينتزعها منهم، اضطر إلى تأجيرها لهم ببدل ايجار رمزي، ليحافظ بذلك على اسم وقفه، فلا يستبد أولئك السادة به، ويسجلونه ملكاً بأسمه. فصارت هذه الأملاك من أملاك المعبد بالأسم، ومن أملاك إلملاك الأقوياء بالفعل.

ولا نجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود حبوس كبيرة وكثيرة على المعابد في العربية الغربية أو العربية الوسطى أو العربية الشرقية، على نحو ما وجدناه في اليمن، ويعود سبب ذلك في رأيي إلى صغر مساحات الأرضين الخصبة المزروعة في هذه الأقسام، والى قلة الماء فيها، مما جعل من الصعب على الناس التخلي عن أرضين كبيرة للمعبد. بل ترينا أخبارهم إن أهل هذه المناطق كانوا لا يتئثمون أحياناً من التطاول على "حرم"المعابد، فكانوا يقطعون شجره ويستقطعون قطعاً من أرضه لأتخاذها منازل لهم كالذي حدث ل"حرم"بيت الله.

وقد كان الملوك وكبار الملاك يقطعون أرضهم اقطاعات لاستغلالها. ويعبر عن ذلك بلفظة "بضع"في المسند، أي القطعة. وقد يراد بها الأرض المعطاة لجماعة لاستغلالها في الزراعة.

وفي أواخر عصور الملكية في سبأ، نجد طبقة الاْشراف وسادات "الأعراب " "اعربم"والقبائل وقد ازداد نفوذها وقوي سلطانها، فنازعت الملك على صلاحياته في بعض الأحيان. وصار لرؤساء القبائل نفوذ قوي في المملكة، حتى قلصت حكم ال "مزود"واستأثرت بالأرض، واحتكرتها، فاضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أولئك الرؤساء في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والمبالغ التي يجب على رئيس القبيلة أن يقدمها الى الملك في مقابل استغلاله للأرض، ويقوم الرئيس بإيجار أرضه لأتباعه المتنفذين في القبيلة أو لأفراد قبيلته الاعتياديين، يتقاضى على ذلك أجراً يتفق عليه، باهظاً مرهقاً للفلاح المسكين الذي لا يملك في العادة أرضاً، فتحولت العربية الجنوبية بذك الى دولة اقطاعية، أرباحها وحاصلها ونتاجها وقف وإقطاع لطبقات معينة متنفذه.

وفي جملة تلك الواجبات تقديم عدد يتفق عليه من أتباع من حصل على أرض حكومية للقيام بالخدمات العسكرية، ووجوب الدفاع عن الحكومة عند ظهور خطر عليها. فيقوم إلمقتطع للارض بإرسال رجاله على حسابه للدفاع عن الملك. وبذلك صارت جيوش الملك مؤلفة من جنود مرتزقة وجنود أرسلوا إلى القتال إرسالاً بأمر سادتهم تنفيذاً لالتزاماتهم التي ألزموا أنفسهم بها مع الملوك.

وممكن حصر الأشخاص الذين تمتعوا بنعم الاقطاع وامتيازاته بالملوك وبذويهم،والملك هو الراعي الشرعي للحق العام، وهو الناظر والوصي لأرض الدولة، وهو بهذه الصفة يصطفي لنفسه ولأولاده ولأهله خيرة الأرضين، ثم يليه من بعده رجال الدين الناطقون باسم الآلهة، وهم في نظر الشرع، أي الدين أصحاب الأرض، لأن الأرض ملك للآلهة. ثم يليهم قادة الجيش وصفوة الملوك وكبار الحكام، والسادات. سادات الحضر وسادات القبائل. أما السواد، وهم غالبية الناس، فليس منهم من يملك إلا المساحات الصغيرة من الأرض، وإلا البيوت، وأغلب الباقين عالة على غيرهم، يتعيشون باستعمال أيديهم في كسب قوتهم وقد يؤجر سيد القبيلة أو سادات الأرض ما استحوذوا عليه من الحكومة من أرضين إلى أناس غرباء أجراء أم إلى قبائل أخرى، في مقابل شروط يعينها، فيستغلون الأرض بموجبها، ويكونون عندئذ في حمايته وفي رحمته ورعايته،فيعاملون عندئذ وكأنهم فرع من فروع قبيلة صاحب الأرض. واذا استمر العقد، فقد يدمجهم الزمن في قبيلة سيد الأرض فيعدّون منها، وينسبون إليها، مع انهم غرباء عنها. ومن هنا نرى إن القبائل في العربية الجنوبية، لم تكن على نحو ما نفهمه من معنى القبيلة، من إنها بنو أب واحد، وأصحاب نسب واحد يصعد حتى يتصل بجد، بل قد تكون من قبائل وعشائر مختلفة ومن جماعات عمل، تمثل مختلف الحرف، انضمت إلى قبيلة كبيرة، أو إلى ملاّك كبير، للعمل في أرضه أو لأداء خدمات له، فلما طال بها المقام اندمجت في القبيلة الكبيرة، أو في قبيلة الملاك الكبير، فعدّت منها، أو في آل وأتباع صاحب الأرض، فعدّوا من أتباعه، ونسبوا إليه، حتى إذا طال الزمن وتقادم العهد، صار ذلك الرئيس جداً لهم، وعدّ نسبهم منه.

ولما ظهر الإسلام، كان الأقيال وسادات القبائل قد استبدوا بالأمر وتحكموا في رقاب الأرض، واقطعوها فيما بينهم، ولقب بعضهم كما سبق أن تحدثت عن ذلك أنفسهم بألقاب الملوك. ومن هؤلاء "بنو وليعة".ملوك حضرموت: "حمدة"، و "مخوس"، و "مشرح"، و "أبضعة". و "الحار ث ابن عبد كلال"، و "نعيم بن عبد كلال"، و "النعمان"قيل ذي دعين "ذي يزن"ومعافر وهمدان وشريح بن عبد كلال، وزرعة ذي رعين. و "جيفر بن الجلندي"و "عبد بن الجلندي"وهما من الأزد. وكان "جيفر"، يلقب نفسه بلقب ملك عمان. و "ذو الكُلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك ابن حسان بن تبع"، و "ذو عمرو"، و "معدي كرب بن أبرهة"صاحب خولان. و "ربيعة بن ذي مرحب"الحضرمي، وآل ذي مرحب، وكانوا يملكون الأموال والنحل والرقيق والابار والمياه والسواقي والشراجع بحضرموت، و "وائل بن حجر"، من كندة حضرموت، وكان يملك الأرضين والحصون والأودية، وكان "الأشعث"وغيره من كندة ينازعونه في واد.

ويقال لتقديم الفلاح أو المستأجر لأرض ما،ما عليه من حقوق تجاه الحكومة،التي استأجر الأرض منها، أو صاحب الملك، الذي استأجر أرضه لزراعتها، "دعتم""دعت"، أي "غلة"، تسلم إلى وكلاء الحكومة أو صاحب الأرض عن حقهم المتفق عليه.

وتعرف الأرضون الحكومية التي تعطى باللزمة والإجارة لمن لايملكها ب "مقبلت "و "قبلت"، و "مقبل"، من أصل "قبل". تعطى في مقابل تعهد يتعهد الملتزم والمؤجر بدفع مبلغ معين أو حصة معينة إلى الملك أو ممثليه من الموظفين أو أصحاب الأرض، وذلك في مقابل استغلاله للارض. وقد تدون شروط الأتفاق وتثبت ليرجع إليها إذا حدث اختلاف.

وقد صالح الرسول أهل خيبر، على حقن دمائهم، وعلى إن يقوموا على النخل والزرع، لأن لهم علماً باصلاح الأرض وخدمة الزرع، ولم يكن لرسول الله وأصحابه غلمان يقومون بذلك، فأعطاهم خيبر على إن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما. فبقوا يستغلونها على نصف ما خرج منها، فكان "الخارص"يأتي اليهم عند الموسم يخرج ما يخرج منها، فيأخذ النصف، ويترك النصف الآخر لليهود. وصالح الرسول أهل "فدك"على نصف الأرض بتربتها، وعلى نصف النخل.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق