إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 3 فبراير 2016

1729 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل العشرون بعد المئة أمية الجاهليين


1729

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
       
الفصل العشرون بعد المئة

أمية الجاهليين

الشائع بين كثير من الناس إن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء وضلالة، لا يقرأون، ولا يكتبون، وان الكتابة كانت قليلة بينهم، واستدلوا على رأيهم هذا باطلاقهم لفظة "الجاهلية" على ايامهم، وبما جاء من انهم كانوا قوماً "أميين لا يكتبون". واستدلوا على ذلك بحديث ذكر إن الرسول قاله، هو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب".

وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن معنى "الجاهلية"، وعن الآراء التي قيلت فيها، حديثاً فيه إفاضة وإحاطة، وقد قلت فيما قلته إن تفسير الجاهلية بالجهل، الذي هو ضد العلم، تفسير مغلوط، وان المراد من الجاهلية السفه والحمق والغلظة والغرور، وقد كانت تلك أبرز صفات المجتمع الجاهلي آنئذ، وتحدثت في كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام" عن معنى الأمية وذلك في اثناء كلامي على أمية الرسول وآراء العلماء فيها من مسلمين ومستشرقين، وقلت إن للأمية معنى آخر غير المعنى المتداول المعروف، وهو الجهل بالكتابة والقراءة. فقد ذكر "الفرّاء" وهو من علماء العربية المعروفين، إن الأميين هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب. ويراد بالكتاب، التوراة والانجيل. ولذلك نعت اليهود والنصارى في القرآن ب "اهل الكتاب"، وهذا المعنى يناسب كل المناسبة لفظة "الأميين" الواردة في القرآن الكريم، وتعني الوثنيين اي جماع قريش وبقية العرب، ممن لم يكن من يهود وليس له كتاب.

وللعلماء آراء في الأمية، وذلك لما لها من صلة بالرسول، ولما كان القرآن قد نعت قوم الرسول بالأميين، وجعل الرسول أمياً مثلهم، فقد ذهبوا إلى إن العرب كانوا قبل الإسلام أميين بمعنى انهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون إلا من شذّ منهم وندر، وإلا أفراداً من أهل مكة، زعموا انهم تعلموا الكتابة من عهد غير بعيد عن الإسلام، ولو أخذنا أقوالهم مأخذ الجد، وجب علينا القول بأنهم انما تعلموها في حياة الرسول أي قبل الوحي بسنين ليست بكثرة، وان مكة كانت المدينة الوحيدة التي عرفت الكتابة في جزيرة العرب، وهو كلام لا يقوم على علم. فقد كان بيثرب كتاّب يكتبون بكتاب مكة، وكان في أماكن أخرى كتّاب يكتبون بكتابهم أيضاً، فضلاً عن انتشار الكتابة بالمسند في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب.

والرسول أمي، لم يقرأ ولم يكتب، فإذا أراد كتابة رسالة أو عهد أو تدوين للوحي، أمر كتابه بالتدوين. على ذلك أجمع المسلمون. وقد وردت في القرآن آيات مثل: )اقرأ باسم ربك(، وآية )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون(. اخذها البعض على إن فيها دلالة على إن النبي كان يقرأ ويكتب، واستدل أيضاً ببعض ما ورد في كتب الحديث والسير، وفيه ما يفيد انه كان ملماً بالقراءة والكتابة، كالذي ورد في صلح "الحديبية" انه "هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة. وهو ما وقع في البخارى".

وما جاء في السيرة لابن هشام: "فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكتب الكتاب هو وسهيل". وما جاء في البخارى: "وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكتاب ليكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد". وقالوا إن في هذا المذكور وفي غيره من مثل ما ورد من إن الرسول "لما اشتد وجعه، قال: ائتوني بالدواة والكتب اكتب لكم كتاباً لا تضلون معه بعدي أبداً"، ومثل ما ورد "في حديث أبي بكر رضي الله عنه، انه دعا في مرضه بسواة ومزبر فكتب اسم الخليفة بعده"، دلالة مريحة على قدرته على الكتابة والقراءة. وللعلماء كلام في الأدلة المذكورة، ولهم آراء في تفسير الآيات التي تعرضت لموضوع الأمية. والأمية في تفسير علماء اللغة من لا يكتب، أو العييّ الجلف الجافي القليل الكلام. قيل له أُمي لأنه على ما ولدته أمه عليه من قلة الكلام وعجمة اللسان، أو الجهل التام بالقراءة والكتابة. "لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب"، أو لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة، أو الأمي الذي على خلقه الأمة، لم يتعلم الكتاب، فهو على جبلته. وقد ورد في الحديث: "إنا أمة أمية لا نكتب"، أو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، أو "بعثت إلى أمة أمية"، فذهبوا إلى إن العرب كانوا على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة ولا الحساب، فهم على جبلتهم الأولى. "وكل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال... ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه احداً من ولده. وكانوا اميين لا يكتبون".

وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "الأمي"، و "اميون"، و "اميين"، ونعت الرسول ب "النبي الأمي"،وردت في سور مكية وفي سور مدنية. وردت لفظة "الأمي" في سورة الأعراف، وهي من السور المكية، ووردت لفظة "أميون" و "الأميين" في سورة البقرة، وسورة آ ل عمران، وسورة الجمعة، وهي من السور المدنية. ويلاحظ إن الآيتين المكيتين، خاصتان بالرسول، فنعت فيهما ب "النبي الأمي"، اما الآيات المدنية، فقد قصد بها "الأميين"، الذين ليس لهم كتاب بمعنى المشركين.

وقد بحث "الراغب الاصبهاني" في معنى "الأمية" فقال: "والأمي: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وعليه حمل: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم. قال قطرب: الأمية: الغفلة والجهالة. فالأمي منه، وذلك هو قلة المعرفة. ومنه قوله تعالى: )ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب إلا اماني(، اي إلا إن يتلى عليهم. قال الفراء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب. والنبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل، قيل منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا لكونهم على عادتهم. كقولك عامي لكونه على عادة العامة. وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله منه بقوله: سنقرئك فلا تنسى. قيل سمي بذلك لنسبته إلى أم القرى".

وقد ذهب بعض العلماء إلى إن الأميين من لا كتاب لهم من الناس، مثل الوثنيين والمجوس، قال الطبري في تفسير الآية: )وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ? فإن اسلموا فقد اهتدوا(: "يعني بذلك جل ثناؤه، وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين، الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أ أسلمتم..". وذهب كثير من المفسرين إلى إن الأميين الذين لا كتاب لهم، اي الذين ليسوا يهوداً ولا نصارى. وورد: "إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يكره إن يظهر الأميون من المجوس على اهل الكتاب من الروم"، قال الطبري: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يكره إن يظهر الأميون من المجوس على اهل الكتاب من الروم، ففرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: انكم اهل كتاب والنصارى اكل كتاب، ونحن اميون، وقد ظهر اخواننا من اهل فارس على اخوانكم من اهل الكتاب". فالمسلمون اهل كتاب، والمجوس اميون كمشركي مكة وبقية العرب المشركين، لا لكونهم، لا يقرأون ولا يكتبون، بل لأنهم لم يؤمنوا بالتوراة والانجيل.

ويلاحظ إن الآية: )وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين (، والآية: )ومن اهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل( ؛ والآية: )ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا اماني (، وكذلك: )هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم (، لا تؤدي معنى الأمية، بمعنى الأمة الجاهلة بالقراءة والكتابة، لعدم انسجام التفسير مع المعنى،وانما تؤدي معنى وثنية، أي امة لم تؤمن بكتاب من الكتب السماوية، أي في المعنى المتقدم.

"والأمي والأمان -بضمهما - من لا يكتب أو من هو على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب، وهو باق على جبلته. وفي الحديث: إنا أمة امية، لا نكتب ولا نحسب. اراد انه على اصل ولادة امهم، لم يتعلموا الكتابة والحساب، فهم على جبلتهم الأولى.

وقيل لسيدنا محمد، صلى اللَه عليه وسلم، الأمي لأن امة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولا، وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة احدى آياته المعجزة، لأنه صلى الله عليه وسلم، تلا عليهم كتاب الله منظوماً تارة بعد اخرى، بالنظم الذي انزل عليه، فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، ففي ذلك انزل الله تعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولاتخطه بيمينك، إذا لارتاب المبطلون(. وقال الحافظ ابن حجر في تخريج احاديث الرافعي إن مما حرم عليه صلى الله عليه وسلم: الخط والشعر، وانما يتجه التحريم إن قلنا انه كان يحسنهما، والأصح انه كان لا يحسنهما، ولكن يميز بين جيد الشعر ورديئه. وادعى بعضهم انه صار يعلم الكتابة بعد ان كان لاّ يعلمها لقوله تعالى من قبله في الآية. فإن عدم معرفته بسبب الاعجاز. فلما اشتهر الإسلام وأمن الارتياب عرف حينئذ الكتابة. وقد روي عن ابن ابي شيبة وغيره: ما مات رسول الله صلى الله طيه وسلم، حتى كتب وقرأ، وذكره مجالد للشعبيّ. فقال ليس في الآية ما ينافيه. قال ابن دحية: واليه ذهب ابو ذر الفتح النيسابوري والباجي وصنف فيه كتاباً، ووافقه عليه بعض علماء افريقية وصقلية. وقالوا: إن معرفة الكتابة بعد اميته لا تنافي المعجزة، يل هي معجزة اخرى بعد معرفة اميته وتحقق معجزته، وعليه تتنزل الآية السابقة والحديث فان معرفته من غير تقدم تعليم معجزة. وصنف ابو محمد بن مفوز كتاباً رد فيه على الباجى وبيّن فيه خطأه، وقال بعضهم يحتمل إن يراد انه كتب مع عدم علمه بالكتابة وتمييز الحروف، كما يكتب بعض الملوك علامتهم وهم اميون، والى هذا ذهب القّاضي ابو جعفر السمناني".

وقد تعرض "الألوسي" لهذا الموضوع في تفسيره الآية: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذاً لارتاب المبطلون. بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم، وما يجحد آياتنا إلا الظالمون(. فقال: "واختلف في انه صلى الله عليه وسلم، أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب ام لا? فقيل انه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة، واختاره البغوي في التهذيب، وقال: انه الأصح. وادعى بعضهم انه صلى الله عليه وسلم، صار يعلم الكتابة بعد إن كان لا يعلمها، وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر امر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن ابي شيبة وغيره: ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. ونقل هذا للشعبي فصدقه، وقال: سمعت أقواماً يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال صل الله عليه وسلم: رأيت ليلهَ أُسري بي مكتوباً على الجنة: الصدقة بعشر امثالها، والقرض بثمانية عشر.

ثم قال: ويشهد للكتابة احاديث في صحيح البخاري وغيره، كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله، الحديث.

وممن ذهب إلى ذلك ابو ذر عبد بن احمد الهروي، وابو الفتح النيسابوري، وابو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني. وصنف فيه كتاباً، وسبقه إليه ابن منية. ولما قال ابو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسبّ على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدّعاه، وكتب به الى علماء الأطراف، فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد اميته صلى الله عليه وسلم، لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة اخرى لكونها من غير تعليم.

وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح إنا أمة أمية نكتب ولا نحسب. وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب، فمعناه امر بالكتابة، كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى: من قبله على قوله سبحانه: ولا تخطه كالصريح في انه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقاً. وكون القيد المتوسط راجعاً لما بعده غير مطرّد. وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده، فقال: يفهم من ذلك انه عليه الصلاة والسلام كان قادراً على التلاوة والخط بعد انزال الكتاب، ولولا هذا الاعتبار، لكان الكلام خلواً من الفائدة. وأنت تعلم انه لو سُلّم ما ذكره من الرجوع، لا يتم امر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم، والظانّ ممن لا يقول بحجيته.

ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه:  

ولا يخفى إن قوله عليه الصلاة والسلام: إنا امة امية لا نكتب ولا نحسب، ليس نصاً في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام. ولعل ذلك باعتبار انه بعث عليه الصلاة والسلام، وهو واكثر من بعث اليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب اميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الاكثر بعد. واما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتية، فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلاً عن القاضي عياض: إن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب، كالنص في انه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه. ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا".

وبحث "القرطبي" في هذا الموضوع أيضاً، فقال: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب، الضمير في قبله عائد إلى الكتاب، وهو القرآن المُنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم، أي وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى اهل الكتاب، بل أنزلناه اليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتاباً، ويخط حروفاً لارتاب المبطلون أي من اهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا الذي نجده في كتبنا انه امي لا يكتب ولا يقرأ وليس به. قال مجاهد: كان اهل الكتاب يجدون في كتبهم إن محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يخط ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية؛ قال النحاس: دليلاً على نبوته لقريش، لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط اهل الكتاب ولم يكن بمكة اهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك.

الثانية: ذكر النقاش في تفسير الآية عن الشعبي انه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كتب. واسند أيضاً حديث ابي كبشة السلولي ؛ مضمنه: انه صل الله عليه وسلم، قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وفول الباجي رحمه الله منه.

قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لعليّ: اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال له المشركون: لو نعلم انك رسول الله تابعناك - وفي رواية بايعناك - ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فأمر علياً إن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه فمحاها وكتب ابن عبدالله. قال علماؤنا رضي الله عنهم: وظاهر هذا انه عليه السلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيده، وكتب مكانها ابن عبدالله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا. فقال: فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن إن يكتب. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وانه كتب بيده، منهم السمناني وأبو ذر والباجي، ورأوا إن ذلك غير قادح في كونه أمياً، ولا معارض بقوله: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، ولا بقوله: إن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهاراً على صدقه وصحة رسالته، وذلك انه كتب عن غير تعلم لكتابة، ولا تعاطٍ لأسبابها، وانما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها ابن عبدالله لمن قرأها، فكان ذلك خارقاً للعادة، كما انه عليه السلام عِلم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ معجزاته، وأعظم فضائله. ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن ان يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب. قال شيخنا أبو العباس احمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا، لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه عليه السلام في الصحيح، لا سيما رميُ من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة، على إن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة،غير ان العقل لايحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها.

قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا انها مناقضة لآية أخرى وهي كونه أمياً لا يكتب، وبكونه أمياً في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وانما الآية الا يكتب،والمعجزات يستحيل ان يدفع بعضها بعضاً. وانما معنى كتب وأخذ القلم، أي أمر من يكتب به من كتاّبه، وكان من كتبة الوحي بين يديه صلى الله عليه وسلم، ستة وعشرون كاتباً.

الثالثة - ذكر القاضي عياض عن معاوية انه كان يكتب بين يدي النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال له: ألقِ الدواة وحرّف القلم وأقم الباء وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وحسن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم. قال القاضي: وهذا وان لم تصح الرواية انه صلى الله عليه وسلم، كتب، فلا يبعد ان يُرزق علم هذا، وُيمنع القراءة والكتابة.

قلت: هذا هو الصحيح في الباب انه ما كتب ولا حرفاً واحداً، وانما امر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى. فإن قيل: فقد تهجى النبي، صلى الله عليه وسلم، حين ذكر الدجّال،.فقال: مكتوب بين عينيه ك ا ف ر، وقلتم إن المعجزة قائمة في كونه أمياً، قال الله تعالى: وما كنت تتلو من قبله من كتاب، الآية. وقال: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. فكيف هذا ? فالجواب ما نص صلى الله عليه وسلم، في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضاً. ففي حديث حذيفة: يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أمياً. وهذا من أوضح ما يكون جلياً".

وقد ذهب "الطبرسي" في تفسيره للآية المذكورة إلى إن الرسول ساوى قومه في المولد والمنشأ، لكنه جاء بما عجز عنه الآخرون من كلام الله والنبوة، فهو أمي مثلهم. ثم عرض رأي "الشريف المرتضى"، القائل: "هذه الآية تدل على ان النبي، صلى الله عليه وسلم، ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة، فأما بعد النبوة فالذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالماً بالكتابة والقراءة والتجويز لكونه غير عالم بهما من يخر قطع على أحد الأمرين. وظاهر الآية يقتضي إن النفي قد تعلق بما قبل النبوة دون ما بعدها، ولأن التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة، لأن المبطلين انما يرتابون في نبوته صلى الله عليه وسلم، لو كان يحسن الكتابة قبل النبوة. فأما بعد النبوة، فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز ان يكون قد تعلمها من جبرائيل عليه السلام، بعد النبوة".

وتعرض "الجاحظ" لهذا الموضوع أيضاً، فقال نقلاً عن كلام شيخ من البصريين، "إن الله انما جعل نبيه أمياً لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه واحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب، من قيافة الأثر والبشر، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على انه من الله.

وزعم إن الله تعالى لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظاً من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبياً، وليتولى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى. فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القبائل ليجلي له الكثير".

وقد رد "الجاحظ" على كلامه هذا، بقوله: "وقد أخطأ هذا الشيخ ولم ُيرد إلا الخير. وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه. ولو زعم إن أداة الحساب والكَتابة، وأداة قرض الشعر ورواية جميع النسب، قد كانت فيه تامة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا احتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، واذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، والمعروف من شأنه انه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، ما كان ذلك بمانعٍ من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم. ولكنه اراد ألا يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وان رق، وليكون ذلك أخف في المؤونة، واسهل في المحنة. فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقرض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطلق به، والعادة توأم الطبيعة. فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف. وكانت آلته أوفر وأداته أكمل، إلا انها كانت مصروفة إلى ما هو أردَ.

وبين ان نضيف إليه العجز، وبين ان نضيف إليه العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له، فرقٌ.

ومن العجب إن صاحب هذه المقالة لم يره عليه السلام في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كلُ مطيل، وان قصر القول اتى على غابة كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط واقامة الشعر، فكيف ذهب ذلك المذهب، والظاهر من امره عليه السلام خلاف ما توهم!?".

فهذا هو رأي الجاحظ في امية الرسول.

واما حديث:. "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، فيعارضه حديث آخر ينسب إلى الرسول هو: "قريش اهل الله، وهم الكتبة الحسبة". "وبقال قريش اهل الله، لأنهم كتبة حسبة". والقرآن الكريم نفسه، يفند إن قريشاً لم يكونوا يحسنون الكتاب أو الحساب، لما فيه من آيات تناقض هذا الرأي. وفي الحديث، أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ بها، لأنها ضعيفة، ويشبه ان يكون الحديث المذكور واحد منها. ومن هذه الأحاديث الضعيفة، حديث: "حق الوالد على ولده ان يعلمه الكتابة والسباحة، والرماية، وان لا يرزقه إلا طيباً"، وحديث: " حق الوالد على ولده ان يحسّن اسمه، ويزوّجه إذا أدرك، ويعلمه الكتاب". والحديث المذكور من الأحاديث التي يرجع سندها إلى "ابي هريرة" وفي الأحاديث المنسوبة إليه احاديث كثيرة يجب عدم الأخذ بها.

ولو أخذنا بالحديث على علاته، وقبلناه دون نقد، كما يفعل كثير من الناس، وجب علينا الفول إن الرسول كان يقرأ ويكتب. ورد: "وذكر صاحبُ الشرعة أيضاً، انه صلى الله عليه وسلم، قال لمعاوية رضي الله عنه، وهو يكتب بين يديه: ألقِ الدواة، وحرّف القلم، وانصب الباء، وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وَحسّن الله، ومد الرحمن، وجوّد الرحيم"، وانه قال "لزيد بن ثابت" وهو احد كتّابه: "إذا كتبتَ بسم الله الرحمن الرحيم فبيّن السين فيه"، فهل يعقل صدور هذا الوصف، وهذه التسمية للحروف، وهذه المصطلحات من رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب. وقد روى الرواة هذين الحديثين مع تعارضهما لأقوال العلماء، ورووا أيضاً إن "ابا ذر" الغفاري سأل الرسول ": "يا رسول الله، كل نبي مرسل بمَ يرُسل ? قال: بكتاب منزّل. قلت: يا رسول الله، اي كتاب أنزل على آدم ? قال: ا ب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول الله، كم حرف ? قال: تسع وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى احمرت عيناه، ثم قال: يا ابا ذر، والذي بعثني بالحق نبياً ! ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً. قلت: يا رسول الله، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام: لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك. من خالف لام ألف، فقد كفر بما أنزل على آدم ! ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء مني وأنا بريء منه ! ومن لايؤمن بالحروف، وهي تسعة وعشرون حرفاً لا يخرج من النار ابداً". وبعد فهل نقبل بحديث من هذا النوع، وكل ما فيه يطعن في صحته !  

ويظهر صراحة من الآية: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، إن مرادها من الأميين، ليس الجهل بالكتابة والقراءة، وانما العرب الذين لم يكن عندهم كتاب منزل من السماء. ودليل ذلك ما اورده "الطبري" في تفسيرها من اقوال وروايات. فقد قال: "والأميون هم العرب"، قال "قتادة": "هو الذي بعث في الأميين رسولاّ منهم. قال: كان هذا الحي من العرب امة أمية ليس فيها كتاب يقرأونه، فبعث الله نبيه محمداً، صلى الله عليه وسلم، رحمة وهدى يهديهم به"، وقال: " كانت هذه الأمة أمية لا يقرأون كتاباً"، وقال: "انما سميت امة محمد صلى الله عليه وسلم الأميين لأنه لم ينزل عليهم كتاباً"، وقوله: " ويعلهم الكتاب. يقول ويعلمهم كتاب الله وما فيه من امر الله ونهيه وشرائع دينه،والحكمة يعني بالحكمة السنن".

وقال: "ويزكيهم ويعلمهم الكتاب أيضاً، كما علم هؤلاء. يزكيهم بالكتاب والأعمال الصالحة ويعلمهم الكتاب والحكمة كما صنع بالأولين"، وقال في تفسير " وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين. يقول تعالى ذكره، وقد كان هؤلاء الأميون من قبل ان يبعث الله فيهم رسولاً منهم في جور عن قصد السبيل وأخذ على غير هدى مبين، يقول يبين لمن تأمله انه ضلال وجور عن الحق وطريق الرشد". وقال "ابن كثير" في تفسيرها: " وذلك ان العرب كانوا قديماً متمسكين بدين ابراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركَاً وباليقين شكاً... فبعث الله محمداً صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل لجميع الخلق، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاجون إليه، من امر معاشهم ومعادهم". وقال "القرطبي": قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب، لأنهما لم يكونوا اهل كتاب".

فالأميون اذن هم العرب، لأنهم كانوا اهل شرك، وليس لهم كتاب، وليس للفظة صلة بالأمية التي تعني الجهل بالقراءة والكتابة.

واما حديث: " إنا امة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا: مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين". وقد نسب سنده إلى "ابن عمر"، فحكمه حكم الحديث السابق، وقد فسر الحساب، بأنه حساب النجوم وتسييرها، لا الجهل بالحساب.

وقد ذهب "شبرنكر" الى ان الرسول كان يقرأ ويكتب، وانه قرأ "اساطير الأولين"، و "شبرنكر"من المستشرقين العاطفيين، الذين يأخذون بالخبر، مهما كان شأنه فيبني حكماً عليه.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى إن المقصود من الأميين هنا الوثنيون. وان الأمية هذه اخذت من اليهود الذين كانوا يطلقون لفظة "امت"و "اميم " على غيرهم، يريدون بها الوثنيين. كما في جملة: "امت ها عالولام " Ummot ha Olam وقد أطلق اليهود على الغرباء وعلى كل من هو غير يهودي، "كوي" Goy للواحد، و "كويم" Goyim للجمع. وتقابل هذه اللفظة لفظة Gentile في اللاتينية. ويقال للغريب عنهم "اخريم" Ahrim و Nochrim، كذلك، تمييزاً لهم عن العبرانيين الذين يذهبون إلى انهم أمة مقدسة مفضلة على العالمين.

وذهب بعض المستشرقين اليهود إلى ان لفظة "الأميين" معربة من اصل "كوى" و "كوييم" المذكور.

والذي أراه إن لفظة "أمي" و "أمية" لم تكن تعني عند الجاهليين معنى عدم القراءة والكتابة والجهل بهما، وانما كانت تعني عندهم: مشركين ووثنين، وهو المعنى الذي ورد في القرآن الكريم. والذي نعت الرسول فيه بالأمي، لأنه من العرب، ومن قوم ليس لهم كتاب، عرفوا بذلك من قبل اهل الكتاب اليهود. أما تفسيرها بالجهل بالكتابة والقراءة، فقد وقع في الإسلام، اخذوه من ظاهر معنى لفظة "الكتاب" الواردة في القرآن، فظنوا انها تعني "الكتابة " بينما المراد منها الكتاب المُنزل، لعدم انسجام تفسيرها بالكتابة مع معنى الآية، ودليل ذلك انهم لما فسروا "الأمية" بمعنى عدم القراءة والكتابة حاروا في ايجاد مخرج لهذا التفسير، فقالوا ما قالوه في تفسيرها من انها سميت بالأمية لأنها علي خلقة الأمة، أو لأنها على الجبلة والفطرة، وأصل ولادة الأمهات وما شاكل ذلك من تفاسير مضطربة باردة، تخبر إن علماء اللغة لم يجدوا لها أصلاً ووجوداً عند الجاهليين فلجأوا إلى هذه التعليلات. ولو كانت الأمية معروفة عند أهل الجاهلية بهذا المعنى لاستشهدوا عليها بشعر من أشعار الجاهليين أو المخضرمين، ولما لجأوا إلى هذه التفاسير المتكلفة، لأن من عادتهم الاستشهاد بالشعر في تفسير الألفاظ، ولا سيما الألفاظ الغريبة، فعدم استشهادهم بشاهد من شعر أو نثر في تفسير الأمية هو دليل على إن اللفظة بهذا التفسير من الألفاظ التي ولدت في الإسلام، وانها لم تكن عربية خالصة، وانما سمعوها من اهل الكتاب.

وعندي إن يهود يثرب هم الذين أطلقوا لفظة "الأميين" على العرب المشركين، على عادتهم حتى هذا اليوم في نعت الغرباء عنهم بألفاظ خاصة مثل "كوييم"، لتمييزهم عن أنفسهم، باعتبارهم "شعب الله المختار" المؤمن بإله اسرائيل.

ومما يؤيد هذا الرأي، اننا نطلق في عربيتنا لفظة "الأمي" على من لا يعرف القراءة والكتابة معاً، بينما نطلق على الشخص الذي يحسن القراءة ولا يحسن الكتابة قارىء، أو قارئة، وذلك لوجود جماعة كانوا يحسنون القراءة، ولكنهم لا يكتبون.

ونجد اليوم من النساء من يحسنَّ القراءة ولا يكتبن، ولما نزل الوحي على الرسول: باقرأ، قال الرسول: ما أنا بقارىء، أو لست بقارىء، ولم يقل: أنا أمي، مما يدل على ان الأمية انما صارت تعبر عن عدم القراءة والكتابة فيما بعد.

ثم اننا لا نجد في اللغات القديمة لفظة واحدة في معنى "الأمية" التي نستعملها في عربيتنا في الوقت الحاضر، اي في معنى الجهل بالقراءة والكتابة معاً، وانما يقال لا يقرأ أو لا يكتب، أو يجهل القراءة والكتابة، فلا يعقل خروج العربية على هذه القاعدة. واستعمالها الأمية قبل الإسلام مصطلحاً للتعبير عن الجهل بالكتابة والقراءة معاً. ولم أعثر في النصوص الجاهلية على هذه اللفظة أو على لفظة اخرى تؤدي هذا المعنى.

ولا يعقل ان يكون اليهود أو غيرهم قد أطلقوا الأمية على العرب، بسبب جهل العرب الكتابة والقراءة. فقد كان سواد يهود ونصارى جزيرة العرب أمياً أيضاً، لا يقرأ و لا يكتب، إلا ان القرآن الكريم أخرجهم من الأميين، واستثناهم، وأطلق عليهم "اهل الكتاب"، وذلك يدل دلالة واضحة على إن المراد من "الأميين" العرب الذين لهم كتاب، اي العرب الذين لم يكونوا يهوداً ولا نصارى لا من لا يحسن الكتابة والقراءة. والقرآن الكريم هو الذي هدانا إلى لفظة "الأميين " فلم ترد اللفظة في نص من نصوص الجاهلية، وبفضله ايضاً عرفنا مصطلح "أهل الكتاب" دلالة على اهل الديانتين.

وأنا لا أريد ان أثبت هنا إن العرب قاطبة كانت أمة قارئة كاتبة، جماعها يقرأ ويكتب، وانها كانت ذات مدارس منتشرة في كل مكان من جزيرتهم،  

تعلم الناس القراءة والكتابة والعلوم الشائعة في ذلك الزمن، فقول مثل هذا هو هراء، ما في ذلك شك، ولا يمكن أن يدعيه أحد ثم إن شيوع القراءة والكتابة بالمعنى المفهوم عندنا، لم يكن معروفاً حتى عند أرقى الشعوب إذ ذاك مثل اليونان والرومان والساسانيين في عالم ذلك العهد. فسواد كل الأمم كان جاهلاً لا يحسن قراءة ولا كتابة، وانما كانت القراءة والكتابة في الخاصة وفي أصحاب المواهب، والقابليات الذين تدفعهم مواهبهم ونفوسهم على التعلم والتثقف وتزعّم الحركة الفكرية بين أبناء جنسهم. ومن هنا كانت كل الأمم أمية من حيث الأكثرية و الغالبية، انما اختلفت في نسبة المتعلمين والمتخصصين والمجتهدين ودرجتهم فيها.

وفي هذا تتباين وتختلف أيضاً، فقد كان اليونان والرومان والعالم النصراني في الدرجة الأولى في العهد الذي قارب الإسلام، يليهم الفرس واليهود والهنود. أما العرب، فقد كانوا يتباينون في ذلك أيضاً تبايناً يختلف باختلاف أماكنهم كما سأبين ذلك.

فأهل البوادي، ولا سيما البوادي النائية عن الحواضر، هم أميون ما في ذلك من شك، لأن طبيعة البادية في ظروفها المعلومة لا تساعد على تعلم القراءة والكتابة، ولا على ظهور العلوم وتطويرها فيها، غير اننا لا تعني انهم كانوا جميعاً أميين، لا قارىء بينهم ولا كاتب. فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها مبعثرة في مواضع متناثرة من البوادي، وفي أماكن نائية عن الحضارة. وهي كتابات أعراب ورعاة إبل وبقر وأغنام، دوّنوها تسجيلاً لخاطر، أو للذكرى، أو رسالة لمن قد يأتي بينهم، فيقف على أمرهم، ومن هنا نستطيع أن نقول إن أعراب الجاهلية، كانوا أحسن حالاً من أعراب هذا اليوم، فقد كان فيهم الكاتب القارىء، الذي يهتم بتسجيل خواطره، وباثبات وجوده بتدوينه هذه الكتابات، وأن الأمية المذكورة لم تكن أمية عامة جامعة، بل أمية نسبية، على نحو ما نشاهده اليوم في مجتمعاتنا من غلبة نسبة الأمية على نسبة المتعلمين.

وأما أهل الحواضر، فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، كما كان بينهم الأمي أي الجاهل بالقراءة والكتابة. كان منهم من يقرأ ويكتب بالقلم المسند، وكان بينهم من يقرأ ويكتب بالقلم الذي دوّن به القرآن الكريم، فصار القلم الرسمي للاسلام، بفضل تدوين الوحي به، كما كان بينهم من يكتب بقلم النبط وبقلم بني إرم. وكان بينهم من يكتب ويقرأ بقلمين أو أكثر.

وقد سبق إن ذكرنا إن الأحناف كانوا يكتبون ويقرأون، ورأينا بعضاً منهم كان يكتب بأقلام اعجمية، وكان قد وقف على كتب أهل الكتاب، وكانوا أصحاب رأي ومقالة في الدين وفي أحوال قومهم. وذكرت انهم قالوا عن بعضهم، مثل "ورقة بن نوفل"، انه كان "يكتب الكتاب العبراني،فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب".

وقد ذكر "الهمداني" إن العرب كانت "تسمي كل من قرأ الكتب أو كتب:، صابئاً، وكانت قريش تسمي النبي، صلى الله عليه وسلم، أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن: صابئاً". فالصباة على تفسير "الهمداني"، هم الكتبة وكل من قرأ الكتب، وعلى ذلك يكون الحنفاء في جملة الصباة.

وقد ذكر أهل الأخبار انه كان لدى "الأكاسرة" ديوان خاص يدون فيه كل ما يخص عرب الحيرة وسائر العرب بالعربي، ويتولى أيضاً ترجمة كل ما يرد إلى الدولة بالعربية إلى الفارسية، ويترجم ما يصدر بالفارسية من الحكومة إلى العرب بالعربية، وان في جملة من اشتغل في هذا الديوان وقام بالترجمة فيه "زيداً العبادي"، أبا الشاعر الشهير "عدي بن زيد العبادي"، وزعم "ابن الكلبي" إن ملوك الحيرة كانوا يملكون دواوين فيها أخبارهم ومقدار مدد حكمهم وما قيل في مدحهم من شعر، وفي خبر صحيفة المتلمس وقراءة أحد غلمان الحيرة للصحيفة التي كان يحملها ما يشير إلى معرفة غلمان أهل الحيرة القراءة والكتابة.

وفي كل هذه الروايات والأخبار تفنيد لزعم من ذهب إلى إن العرب قبل الإسلام كانوا جميعاً في جهالة وأمية.

بل ورد في روايات أهل الأخبار في ترجمة عدي بن زيد العبادي المذكور: إن كان في الحيرة معلمون، يعلمون الأطفال القراءة والكتابة، يذهبون إلى بيوت الأطفال يعلمونهم إن شاء أهلهم، أو يعلمونهم في الكتاتيب. وقد ورد أيضاً: إن من الكتاتيب ما كانت تعلم بالعربية ومنها ما كانت تعلم بالفارسية. فكان جدّ عدي ين زيد العبادي مثلاً ممن تعلم في دار أبيه، وخرج من أكتب الناس في يومه "وطلب حتى صار كاتب ملك النعمان الأكبر. وكان أبوه زيد ممن حذق الكتابة والعربية، ثم علم الفارسية. ولما تحرك عدي، وأيفع، طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه، ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بها، وافصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب، فخرج مع الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها".

وذكر أهل الأخبار إن "لقيط بن يعمر الإيادي" الشاعر كتب صحيفة إلى قومه إياد، يحذرهم من كسرى. وكان كاتباً ومترجماً في قصر كسرى، يكتب من الفارسية إلى العربية ومن العربية إلى الفارسية، فلما أراد كسرى الانتقام من قومه، كتب اليهم قصيدة في صحيفة، فيها: سلام في الصحيفة من لقيط  إلى من بالجزيرة من إياد

وذكر إن "سعد بن مالك" أرسل ابنه "المرقش" الشاعر المعروف وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة، فعلمهما الكتابة، فكانا يكتبان أشعارهما، وذكر انه كان يكتب بالحميرية، وانه كتب أبياتاً بها على خشب رحل "الغفيلي الذي تركه وحده لما مرض، فلما قرأوا الكتابة ضربوا "الغفيلي" حتى أقر.

وكان جفينة العبادي، وهو من نصارى الحيرة، وظئراً لسعد بن أبي وقاص، كاتباً، قدم المدينة في عهد عمر، وصار يعلم الكتابة فيها. وقد اتهمه "عبيد الله بن عمر" بمشايعة أبي لؤلؤة على قتل أبيه، فقتله وقتل ابنيه.

ولما نزل "خالد بن الوليد" الأنبار، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم ? فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا - فكانت اوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها - فقال: ممن تعلمتم الكتاب ? فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر: قومي إياد لو انـهـم أمـم  أو لو أقاموا فتهزل النعـم

قوم لهم باحةُ العـراق إذا  ساروا جميعاً والخط والقلم

ووجد "خالد بن الوليد" أهل "النقيرة" يعلّمون أولادهم الكتاب في كنيستها. وهي قرية من قرى "عين التمر". ومنها كان "حمران" مولى "عثمان بن عفان". ولما فتح "خالد" حصن عين التمر، وغنم ما فيه، "وجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الانجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم"، ثم أخرجهم، فقسّمهم في أهل البلاء، فكان منهم نصير، أبو موسى ابن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين، وخمران مولى عثمان وغيرهم.

فنحن في العراق أمام مدارس تعلم العربية في القرى وفي الأماكن التي تكون غالبية سكانها من العرب، وتعلمهم أمور دينهم من نظر في الأناجيل وفي الكتب الدينية النصرانية والعلوم اللسانية المعروفة إلى غير ذلك من علوم ومعرفة وثقافة.

وورد في روايات أهل الأخبار ان عدداً من الشعراء الجاهليين كانوا يكتبن ويقرأون. وكان منهم من إذا نظم شعراً دوّنه ثم ظل يعمل في اصلاحه وتنقيحه وتحكيك ما نظمه إلى أن يرضى عنه. فينشده الناس. وممن كان يكتب ويقرأ سويد بن الصامت الأوسي، صاحب مجلة لقمان، والزبرقان بن بدر، وكعب ابن زهير، وكعب بن مالك الأنصاري، والربيع بن زياد العبسي، وكان هو واخوته من الكملة. وقد كتب إلى "النعمان بن المنذر". شعراً يعتذر إليه فيه.

وذكر ان أهل "دومة الجندل" كانوا يكتبون ويقرأون، وان أهل مكة انما تعلموا الكتابة من أحدهم. وورد إن قوماً من "طيء" تعلموا الكتابة والقراءة من كاتب الوحي لهود. وذكر إن "بشر بن عبد الملك" السكوني، أخو "أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن" السكوني الكندي صاحب دومة الجندل، وكان نصرانياً، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، تعلم الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه "سفيان بن أمية بن عبد شمس " و "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" يكتب فسألاه أن يعلمهما، الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط، فكتبا. ثم إن بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم "غيلان بن سلمة الثقفي"، فتعلم الخط منهم، وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مضر، فتعلم الخط منه "عمرو بن زرارة بن عدس " فسمي عمرو الكاتب. ثم أتى بشر الشام، فتعلم الخط منه ناس هناك.

وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين: "مرامر بن مرة"، و "أسلم بن سدرة"، و "عامر بن جدره"، الذين وضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه منهم أهل الأنبار - رجل من طابخة كلب، فعلمه رجلاً من أهل وادي القرى، فأتى الوادي يتردد، فأقام بها،وعلم الخط قوماً من أهلها.

وقد وصف الشاعر "أبو ذؤيب" الهذلي كاتباً من اليمن وهو يكتب كتاباً، ولم يكن خط هذا الكتاب بالقلم العربي، قلم أهل مكة، وانما كان بقلم أهل اليمن وهو المسند. وذلك كما يظهر من تعابير هذا الشاعر الواردة في شعره، إذ يقول: عرفتُ الديار كرَقْم الـدوا  ة يزبره الكاتب الحميريّ

برقم ووشى كما زخرفت  بميشمها المُزدَهاة الهدي

أدانَ وأنـبـأه الأولــو  ن أن المدان المليُّ الوفيّ

فنمنم في صحف كالـريا  طِ فيهن إرث كتاب محيّ

وهي قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً، ذكر في أولها دروس الديار وطموسها إلى أن رثى ابن عمه "نشيبة" بخمسة أبيات من آخرها.

ويظهر من هذه الأبيات إن ذلك الكاتب الحميري كان يكتب بالحبر الموجود في دواة على شيء يصلح للكتابة عليه كأديم أو قرطاس، ولم يكن يستعمل المزبر المعمول من حديد لنقش الحروف على الحجر. وهذا مما يدل على ان أهل العربية الجنوبية كانوا يكتبون على مواد الكتابة الأخرى بالحبر والقلم، فعل أهل مكة وأهل الحيرة ودومة الجندل.

وذكر أهل الأخبار أيضاً، إن رجلين من "بني نهد بن زيد" يقال لهما "حزن" و "سهل" كانا يكتبان ويقرأ ان، وكانا قد زارا "الحارث بن مارية" الغساني، وكان عندهما حديث من أحاديث العرب، ولهما ظرافة وأدب وصحبة، فنزلا منزلاً طيباً من قلب الحارث، فحسدهما "زهير بن جناب الكلبي" وكان من ندماء الملك، فأراد افساد مكانهما عنده، فقال له: "هما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك". يريد اخباره انهما كانا يتجسسان عليه فيكتبان بأخباره إلى خصمه "المنذر" الأكبر، ملك الحيرة، جدّ النعمان بن المنذر.

وأما عرب بلاد الشام، فلم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن علمهم بالكتابة والقراءة، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون دليلا على جهلهم بها. ولا سيما انهم كانوا على اتصال ببني إرم في بلاد الشام وبعرب بلاد العراق، ثم انه يجوز انهم كانوا يكتبون بقلم بني إرم، على عادة معظم شعوب الشرق الأدنى إذ ذاك، في الكتابة به، لأنه كان قلم العلم والثقافة والأدب في ذلك الحين. ثم اننا سمعنا إن ملوكهم المتنصرين كانوا يرأسون مجالس المناظرات في أمور الدين، ويبحثون مع رجال الدين في موضوعات دينية، ويدافعون عن مذهب اليعاقبة في طبيعة المسيح، ومثل هؤلاء الملوك لا يعقل أن يكونوا جهلة أميين لا يقرأون ولا يكتبون.

وقد سبق أن تحدثت عن،الكتابات الصفوية وعن كتابات عربية شمالية أخرى، عثر عليها السياح والمستشرقون في مواضع متعددة من "الصفاة" وفي البوادي، كتبت على صخور وهشيم صخور منثور، دلّ البحث فيها على انها كتابات أعراب، كان أصحابها يتنقلون من مكان إلى مكان طلباً للمرعى والصيد.

وتدل تلك الكتابات الصفوية على إن أعراب الجاهلية كانوا في أيام الجاهلية أحسن حالاً من حيث علمهم بالكتابة والقراءة من أعراب هذا اليوم. فالكتابات الصفوية الكثيرة المبعثرة في البوادي، هي كتابات أعراب، متجولين، كانوا يرعون الإبل وبقية الماشية،فكانوا يسلوّن أنفسهم بالكتابة والتصوير على الحجارة، بينما لا نكاد نجد بين اعراب هذا اليوم من يكاد يقرأ ويكتب.

كما تحدثت عن كتابات ثمودية، وثمود قوم من لبّ العرب ومادة العرب البائدة الأولى في عرف النسابين، وتحدثت أيضاً عن القلم المسند بلهجاته ولغاته، فهل يصدق بعد هذا قول من زعم إن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء، لا يقرأون ولا يكتبون.

ولا يعقل أن يكون المذكورون أميين كتبوا للتسلية والتلهية، وان الأوامر والقوانين التي دوّنها ملوك اليمن قبل الإسلام وأعلنوها للناس بوضعها في المحلات العامة وفي الأماكن البارزة كانت مجرد تدوين أو تزويق وتزيين، لا للاعلان ولإفهام المواطنين بمحتوياتها. إن تدوين تلك الكتابات ووضع الحجارة الفخمة المكتوبة للاعلان، دليل على إن في الناس قوماً يقرأون ويكتبون ويفهمون، وان الحكومات انما أمرت بتدوينها لإعلام الناس بمحتوياتها للعمل بها، كما تفعل الحكومات في الوقت الحاضر عند إصدارها أمراً أو قانوناً بإذاعته بالوسائل المعروفة على الناس للوقوف عليها، وان من بين الحجارة الصفوية واللحيانية والثمودية المكتوبة، ما هو رسائل وكتب وجهت إلى أشخاص معروفين، كما نفعل اليوم في توجيه الرسائل إلى الأقرباء والأصدقاء.

ووجد عند ظهور الإسلام قوم كانوا يكتبون ويقرأون ويطالعون الكتب بمكة ولهم إلمام بكتب أعجمية، ومن هؤلاء. "الأحناف" وقد ذكر عن بعض إنهم كانوا يجيدون بعض اللغات الأعجمية،. وانهم وقفوا على كتب اليهود والنصارى وعلى كتب اخرى. وفي معركة "بدر" اشترط الرسول على من أراد فداء نفسه ولم يكن موسراً من أهل مكة، أن يعلم عشرة نفر من المسلمين القراءة والكتابة، كما كان من عادة أهل مكة تدوين ما يجمعون عليه وما يلزمون أنفسهم به في صحف يختمونها بخواتمهم وبأسمائهم لتكون شواهد على عزمهم كالذي فعلوه في الصحيفة. وذكر إن أمية بن أبي الصلت كان فيمن قرأ الكتب ووقف عليها، وذكروا غيره أيضاً.

وذكر أهل الأخبار إن قوماً من أهل يثرب من الأوس والخزرج، كانوا، يكتبون ويقرأون عند ظهور الإسلام، ذكروا فيهم: سعد بن زرارة، والمنذر ابن عمرو، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان يكتب بالكتابين العربية والعبرية أو السريانية، ورافع بن مالك وأسيد بن حُضير، ومعنى "معن" بن عدي البلوي، وأبو عبس بن كثير، واوس بن خولى، وبشير بن سعيد، وسعد بنُ عبادهَ، والربيع بن زياد العبسي، وعبد الرحمن بن جبر، وعبدالله ابن أُبي، وسعد بن الربيع، وقد رجعوا أصل علمهم بالكتابة والقراءة إلى قوم من يهود يثرب، مارسوا تعليم الصبيان القراءة والكتابة، دعوهم "بني ماسكة"، ويظهر، إن صحت هذه الرواية، إن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية أيضاً، وانهم كانوا يعلمونها للعرب. وتعرض البلاذري لهذا الموضوع فقال: "كان الكتاب في الأوس والخزرج قليلاً، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون". ونجد هذا الخبر في موارد أخرى، أخذته دون أن تشير إلى السند، فظهر وكأنه حقيقة مسلمة وخبر متواتر، حتى جاز على المحدثين، فبنوا عليه حكماً، هو أن الكتاب كان في يثرب قليلاً، حتى جاء الإسلام، فانتشر بها، وانه لو كانت الكتابة منتشرة عندهم، لما كلف الرسول القارئين الكاتبين من أسرى بدر، بأن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة، فداءً لنفسه من الأسر.

ويظهر إن يهود يثرب، وربما بقية يهود، مثل يهود خيبر، وتيماء وفدك ووادي القرى، كانوا يكتبون بقلمهم، كما كانوا يكتبون بالعربية، ويظهر من استعمال "البلاذري" جملة: "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول"،إن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية، كما كان يكتب بها صبيان المدينة، وكانوا يعلمون الكتابة لصبيان يثرب في مدارسهم. وفي هذا الخبر وأمثاله دلالة على إن الكتابة كانت معروفة بين أهل يثرب أيضاً قبل الإسلام، وانها كانت قديمة فيهم، ولهذا فلا معنى لزعم من قال انها انتشرت بيثرب في الإسلام، وان الكتابة كانت قليلة بها قبل هذا العهد.

وقصد أهل الأخبار بجملة "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، الكتابة بالخط العربي الشمالي، لا بالقلم المسند، لأن هذا هو مرادهم من "الكتاب العربي" و "كتاب العربية"، ويظهر إن اليهود قد تعلموا الخط العربي من عرب العراق وبلاد الشام، أو من التجار والمبشرين الذين كانوا يفدون إلى الحجاز، وأما القلم المسند، الذي هو قلم العرب الجنوبين، فلم يكن مستعملاً في يثرب، وإلا لأشير إليه، مع انها من القواعد المتعصبة للقحطانية، وحاملة الدعوة الى اليمن قبل الإسلام وفي الإسلام. وهذا يدل على إن المسند كان قد طورد في جزيرة العرب قبل الإسلام، وأن سلطانه كان قد تقلص كثيراً، خارج العربية الجنوبية قبل نزول الوحي على الرسول، وربما كان القلم العربي الشمالي قد دخل العربية الجنوبية أيضاً قبل الإسلام، فأخذ ينافس المسند فيها، ولا سيما في المناطق التي تركزت فيها النصرانية وتحكمت في أهلها، فأخذ النصارىَ يقاومون ذلك القلم، لأنه قلم الوثنية، ويعلّمون أولاد النصارى القلم العربي الشمالي، لأنه قلمهم الذي كانوا يعلمون به في كنائس العرب في العراق وفي دومة الجندل وبلاد الشام.

وقد أطلق العرب على الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وقيل الحساب أيضاً، والجَلَد أي الشجاعة، وقول الشعر، وأصحاب الشرف والنسب: الكملة. وجمع بعض أهل الأخبار إلى ذلك استواء القامة وكمال الإنسان. ومن هؤلاء الكملة: "سعد بن عبادة بن دليم" سيد الخزرج، وهو من أسرة غنية تطعم الفقراء، ولها أطم يأوي إليه الفقراء للأكل. ولما نزل النبي يثرب، كانت جفنة "سعد" تدور مع النبي، وكان يعشي كل ليلة أهل الصفة.

ومن الكملة: الربيع بن زياد العبسي. وكان هو واخوته من الكملة. و "رافع بن مالك"، و "أسيد بن حضير"، و "عبد الله ين أبي"، و "أوس بن خولى"، و "سويد بن الصامت"، و "حضير الكتائب".

ويظهر من النظر إلى قائمة أسماء من أدخلهم أهل الأخبار في الكملة، إن الكتابة والرماية والعوم، لم تكن الشروط الأساسية الكافية، لكي يعد الإنسان كاملا، فقد توفرت هذه الشروط في أناس آخرين، لم يدخلوا مع ذلك في الكملة، وانما هنالك أشياء اخرى بالاضافة إلى الأمور المذكورة، هي الشرف وكمال الجسم والعقل والامتناع عن الهجر في الكلام، والتحلي بالحكمة وبالفطانة واللب وقول الشعر المحكم الحكيم.

وكان "عبد الرحمان بن جبر"، أبو عبس الأنصاري، يكتب بالعربية قبل الإسلام. ومات سنة أربع وثلاثين.

وكان "المنذر"، "منذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان" الخزرجي من الكتبة. وكان أحد السبعين الذين بايعوا الرسول، وأحد النقباء الاثني عشر. "وكان يكتب في الجاهلية بالعربية". قتل يوم بئر معونة. وكان "أبو جبيرة بن الضحاك" الأنصاري، ممن يكتب. وقد تولى الكتابة للخليفة "عمر".

وكان "قيس بن نشبة" عم الشاعر "العباس بن مرداس" السلمي، أو ابن عمه من الكتبة. ذكر انه كان ممن قرأ الكتب وتأله في الجاهلية. والعباس بن مرداس نفسه كان كاتباً، ذكر انه لما سمع إن رجلاً من أهل مكة اشترى إبلاً لقيس بن نشبة فلواه حقه، وان "قيساً" قام بمكة يقول: يا آل فهرٍ كنت في هذا الحرمفي حرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع مني من ظلم بلغ ذلك "عباس بن مرداس" فكتب إليه أبياتاً منها:

واَئتِ البيوت وكن من أهلها مدداً  تلـــق ابـــن حــــــرب وتـــــــلـــــــق الـــــــمـــــــرء عـــــــبّـــــــاســـــــا

فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه، وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة.

وفي جملة من كان يكتب ويقرأ من أهل مكة "حرب بن أمية". واليه ينسب قوم من أهل الأخبار ادخال الكتابة بين قريش. وهو أبو "أبي سفيان ابن حرب"، فهو جدّ "معاوية بن أبي سفيان". وورد إن الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة". فهو ناشر الكتابة على هذه الرواية بين أهل مكة. والاثنان على رأي أهل الأخبار من أقدم كتّاب مكة اذن، بل هما ناشرا الكتابة بها. وقد ذهب "ابن قتيبة" إن "بشر بن عبد الملك العبادي" علم "أبا سفيان بن أمية"، و "أبا قيس بن عبد مناف بن زهُرة" الكتاب، فعلّما أهل "مكة". وقد ذكر "السيوطي" عن "أبي طاهر" السلفي في "الطيوريات" بسنده عن "الشعبي"، انه "قال: أول العرب الذي كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس". تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار..

ولو أخذنا برأي من قال إن "حرب بن أمية" أو "أبو سفيان بن أمية"، ما أول من علم أهل مكة الكتابة، نكون قد جعلنا "بني أمية" أول من أدخل القلم إلى مكة، بفضل تعليم "بشر" لهم هذا القلم. ومنهم انتشر بين أهل مكة في عهد غير بعيد عن ايام النبي.

وذكر إن في جملة من كان يكتب قبل الإسلام."عمرو بن عمرو بن عدس"، وذكر "ابن النديم" إن "أسيد بن ابي العيص" كان من كتّاب العرب. وذكر انه كان في خزانة "المأمون" كتاب بخط "عبد المطلب بن هاشم" في جلد أدم، فيه ذكر حق "عبد المطلب بن هاشم" من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري، من أهل وزل صنعا عليه ألف درهم فضة كيلاً بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه. وكان الخط شبه خط النساء.

وكان "حنظلة بن أبي سفيان" ممن يحسن الكتابة والقراءة بمكة. فقد ورد في الأخبار انه كتب من مكة إلى والده "أبو سفيان"، وكان إذ ذاك مع العباس بن عبد المطلب بنجران، يخبره خبر الرسول. وكان والده يكنى به. وقد قتله "علي بن أبي طالب" يوم "بدر".

وكان "بغيض بن عامر بن هاشم" من كتاّب قريش قبل الإسلام. وهو الذي كتب الصحيفة على بني هاشم. وورد إن "أبا الروم بن عبد شرحبيل" واسمه "منصور بن عكرمة" هو الذي كتب الصحيفة.

وكان "الوليد بن الوليد" وهو أخو "خالد بن الوليد" ممن يكتب ويقرأ، وكان "خالد" ممن يقرأ ويكتب كذلك. وكان الوليد سبب اسلام "خالد". فقد كان قد فر من مكة ولحق بالرسول عمرة القضية، وكتب إلى أخيه خالد، إن الرسول قال له: "لو أتانا، لأكرمناه، وما مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فوقع الإسلام في قلب خالد. وكان سبب هجرته.

وكان "نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل ين عبد مناف بن قصي " القرشي ممن يكتب. أسلم يوم الفتح. وهو الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب، أو المصحف، وذكر انه كان يكتب المصاحف، وانه كتب المصاحف لعثمان، فيظهر انه كان من نسّاخ المصاحف، ينسخها للناس.

وكان "حاطب بن أبي بلتعة" من الكتّاب. وكان حليفاً لبني أسد بن عبد العُزى، ويقال حالف الزبير، وقيل مولى "عبيد اللّه بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد". وهو الذي كتب كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله اليهم، فنزلت فيه: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم". وقد شهد مع علي بن ابي طالب على كتاب رسول الله لسلمة بن مالك السلمي، الذي كتب الرسول به اقطاعه ما بين ذات الحناظي إلى ذات الأساود.

وكان الحكم بن أبي أحيحة سعيد بن العاصي، وهو الذي سماّه رسول الله "عبدالله" من اولئك الذين أمرهم الرسول إن يعلم الكتاب بالمدينة. وكان كاتباً قتل يوم "مؤته".

يقول أهل الأخبار: ولما نزل الوحي كان "في قريش سبعة عشر رجلاً كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية، وخالد بن سعيد أخوه، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، ومن حلفاء قريش: العلاء الحضرمي".

ولكننا لو أحصينا أسماء من كان يكتب من اهل مكة، ممن نص أهل الأخبار على أسمائهم، وممن لم ينصوا على اسمهم، وانما ذكروهم عرضاً في اثناء كلامهم عنهم فذكروا انهم كانوا يكتبون ويقرأون، لوجدنا إن عددهم أكثر بكثير من هذا الرقم المذكور، رقم سبعة عشر كاتباً، أو بضعة عشر نفراً، وهو عدد ورد اليهم على ما يظهر من خبر آحاد، انتشر في الكتب، فصار متواتراً منتشراً حتى في كتب المؤلفين في هذا اليوم، اتخذوه دليلاً على أمية العرب قبل الإسلام.

وقد استعان الرسول بقوم كتبوا له، أشار العلماء إلى أسمائهم. منهم من كتب له الوحي، فعرفوا من ثم ب "كتاب الوحي". ومنهم من كتب له بريده ورسائله، ومنهم من تولى له تدوين المغانم وأمور الزكاة والخرص والصدقة وما إلى ذلك من امور اقتضاها تطور الظروف والأحوال، ومنهم مثل "زيد بن ثابت " من كتب له بالعربية وبالعبرانية أو السريانية. وذكر إن بعضهم كان مثل زيد يكتب بغير العربية أيضاً. وكان ممن كتب له: "علي بن ابي طالب"، و "عثمان بن عفان"، و "معاوية بن أبي سفيان"، و "حنظلة الأسيدي"، و "خالد بن سعيد بن العاص"، و "ابان بن سعيد"، و "العلاء بن الحضرمي"، و "عبد الله بن أبي سرح".

وروي إن "أول من كتب له أبي بن كعب، وكان إذا غاب أُبي كتب له زيد بن ثابت".، وكان يكتب في الجاهلية.

وجاء في ترجمة أنس بن مالك: أن أمه جاءت به يوم قدم الرسول يثرب وقالت له: "يا رسول الله، هذا ابني وهو غلام كاتب". ومعنى هذا أن غلمان يثرب كانوا يقرأون ويكتبون.

وقد ورد في أخبار "بدر" أنه كان في أسرى قريش قوم يقرأون ويكتبون، وقد امر رسول الله بفك رقاب هؤلاء الأسرى على أن يكون فداؤهم تعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة. وقد علّم كل واحد منهم صبيان يثرب الكتابة فانتشرت الكتابة بينهم.

وذكر أن ممن كتب لرسول الله: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوّام، وخالد وابان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبداللّه بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وعبدالله بن عبدالله بن ابي بن سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وعبدالله ابن الأرقم الزهري. وذكر أن عدد من كتب للرسول ثلاثة وأربعون كاتباً.

وأول من كتب للنبىّ من قريش "عبدالله بن سعد بن أبي سرح"، وأول من كتب له مقدمه المدينة "أبي بن كعب"، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان. وهو من كتاب الوحي والرسائل. وقد كان "عبد الله بن الأرقم الزهري" من كتاب الرسائل للرسول، وأما الكاتب لعهوده إذا عهد وصلحه إذا صالح، فعلي بن أبي طالب. وقد وردت في أواخر بعض كتب الرسول أسماء كتاب تلك الكتب.

وفي طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر بتدوينه رسول الله لنهشل بن مالك الوائلي من باهلة، كتبه "عثمان بن عفان".

وكان "علي بن أبي طالب" من كتاب الوحي، والكاتب لعهود الرسول إذا عهد، وصلحه إذا صالح. ذكر أنه تعلم الكتابة وهو صغير، ابن أربع عشرة سنة، تعلمها في "الكتاب".

وكان من كتّاب رسول الله الذين كتبوا له الرسائل إلى سادات القبائل يدعوهم فيها إلى الإسلام: خالد بن سعيد بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وعبدالله بن زيد، وأُبي بن كعب، وعليّ. وجُهيم بن الصلت، والأرقم ابن أبي الأرقم المخزومي، والزبير بن العوّام، والعلاء بن الحضرمي، وعقبة، والعلاء بن عقبة، وعثمان بن عفّان، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وثابت بن قيس بن شماس.

وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، من كتاب الرسول، وقد كان أول مرتد في الإسلام. ارتد وكان قد خالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً فهرب، فلما كان يوم "الفتح" التجأ الى "عثمان" أخوه من الرضاعة فأجاره، واستجار له "عثمان" عند النبي فأجاره له. وقد عينه "عثمان" عاملاً على مصر، وافتتح إفريقية، ومات سنة ست وثلاثين، أو سبع وخمسين، أو تسع وخمسين. وروي انه كان أول من كتب له من قريش.

وهناك رواية يرجع سندها إلى "أنس بن مالك"، تذكر أن "رجلاً كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعا بصيراً، كتب سميعاً عليماً، وإذا املى عليه سميعاً عليماً، كتب سميعاً بصيراً. وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان من قرأهما قرأ قرآناً كثيراً، فتنصر الرجل، وقال إنما كنت أكتب ما شئت عند محمد.. قال: فمات". ولا نعرف كاتباً ينطبق عليه هذا الوصف سوى "عبدالله بن سعد بن أبي سرح". فهو المراد بهذه القصة. وهي قصة لا يمكن أن تكون صحيحة، لأن ارتداد "عبدالله" إنما كان بمكة، فدليل النص عليه في سورة الأنعام، وهي سورة مكية، فكيف يكون قد قرأ سورة البقرة وآل عمران، ثم تنصر، وهما سورتان مدنيتان.

وفي "عبدالله" نزلت الآية: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال: أوحى إليّ ولم يوحَ إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل الذيّ أنزل الله"، على رأي أكثر المفسرين. "كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول نعم سواء. فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوّله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة". وورد في رواية أخرى: "وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه سميعاً عليماً، كتب هو عليماً حكيماً: وإذا قال: عليماً حكيماً، كتب سميعاً عليماً، فشك وكفر. وقال: إن كان محمد يوحى إليه، فقد أوحي إليّ وإن كان الله ينزله، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. قال محمد: سميعاً عليماً. فقلت أنا: عليماً حكيماً. فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذّبوا".

وورد في رواية أخرى: "كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم يكتب له شيئاً، فلما نزلت الآية التي في المؤمنين: ولقد خلقّنا الإنسان من سلالة. أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: ثم أنشأ خلقاً آخر، عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت عليّ، فشك عبدالله حينئذ، وقال لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً، لقد قلت كما قال. وذلك قوله: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. وارتد عن الإسلام".

وورد أنه كان يقول: كنت أصرف محمداً حيث أريد. كان يملي عليّ. عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم كلُّ صواب. فهدر النبي دمه. وذكر أنه "قال لقريش: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد. وكان يملي عليه الظالمين، فيكتب: الكافرين، يملى عليه سميع عليم، فيكتب: غفور رحيم وأشباه ذلك. فأنزل الله: ومن أظلم ممن افترى على الله كَذباً، أو قال أوحي إليّ، ولم يوح إليه شيء. ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله بقتله، فكلمه فيه عثمان بن عفّان، فأمر رسول الله بتركه.

وقد ذكر "الجاحظ" أنه "كتب لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فخالف في كتابة املائه. فانزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً، فهرب حتى مات بجزيرة العرب كافراً". والصحيح أنه هرب، فلما كان يوم الفتح أمن النبي الناس إلا أربعة نفر وامرأتين. عكرمة، وابن خطل، ومقيس ابن صبابة، وابن أبي سرح، فأما عبدالله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى اوقفه على النبى، وهو يبايع الناس، فاستجار له عثمان، فأجاره. وعاش وشهد فتح مصر مع "عمرو بن العاص"، وأمرَّه "عثمان" على مصر. واختلف في وفاته، فقيل مات سنة "536" وقيل عاش إلى سنة تسع وخمسين. وكان أخاً لعثمان في الرضاعة.

وكَان "جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي"، ممن تعلم الخط في الجاهلية، فجاء الإسلام وهو يكتب، وقد كان كتب لرسول الله. ذكر انه كان هو و "الزبير بن العوّام" يكتبان أموال الصدقات. وهو الذي كتب كتاب الرسول إلى "يحنه بن رؤبة" بتبوك، وكتابه ليزيد بن الطفيل الحارثي.

وذكر اسم "الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي" في جملة من كتب للرسول. ففي طبقات ابن سعد، أنه كتب له كتابه لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، وكتابه لعاصم بن الحارث الحارثي، وكتابه للأجب، رجل من "بني سُليم".

وكان اسمه "عبد مناف بن أسد بن عبدالله بن عمر بن مخزوم"، ويكنى "أبا عبدالله"، كان من السابقين الأولين، قيل أسلم بعد عشرة، وقيل قبل ذلك. وكان رسول الله يجلس في داره التي على "الصفا"، حتى تكاملوا أربعين رجلاً، وكان آخرهم إسلاماً "عمر" فلما تكاملوا أربعين رجلاً خرجوا،وأقطعه النبي داراً بالمدينة.

و "عبدالله بن الأرقم بن أبي الأرقم" من كتاب الرسول كذلك. كان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده، "قال عمر: كتب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم كتاب. فقال لعبدالله بن الأرقم الزهري: أجب هؤلاء عني، فأخذ عبدالله الكتاب فأجابهم، ثم جاء به، فعرضه على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: أصبت، قال عمر ? فقلت: رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما كتبت، فما زالت في نفسي يعني حتى جعلته على بيت المال". وكتب لأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيام عمر، وكان أميراً عنده. وذكر أنه كان إذا غاب عن الرسول، وغاب زيد بن ثابت، واحتاج الرسول إن يكتب إلى أحد أمر من حضر إن يكتب. فمن هؤلاء عمر وعلي وخالد بن سعيد و المغيرة.

وكان عبدالله من الأرقم بن عبد يغوث الزهري، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات. وذكر إن "عبدالله بن الأرقم" الزهري، كان من المواظبين على كتابة الرسائل عن النبي.

وكان "حنظلة بن الربيع بن صيفي" الأسيدي، من كتاب الرسول، وقد نعته الطبري ب "كاتب النبي". وعرف ب "الكاتب". وهو من "بني أسيد"، وبنو أسيد من أشراف تميم. وهو ابن أخي "أكثم بن صيفي" حكيم العرب. وقد عرف ب "حنظلة الكاتب". وذكر انه كان " خليفة كل كاتب من كتاّب النبي، إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: ألزمني، واذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة ايام إلا أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه". ومات بمدينة الرها.

ومن كتّاب الرسول: "شرحبيل بن حسنة" الطابخي. ويقال الكندي، ويقال التميمي. وهو ممن سيره "أبو بكر" في فتوح الشام. وكان أميراً على ربع من أرباع الشام لعمر بن الخطاب، وقد مات في طاعون "عمواس".

وكان "خالد بن سعيد بن العاص" "خالد بن سعيد بن العاصي"ممن كتب للرسول. كتب له كتابه إلى "بني عمرو بن حمير". وهو من السابقين الأولين. وقد استعمله الرسول على صدقات مذحج وعلى صنعاء، فلم يزل عليها الى أن مات رسول الله. وكان له اخوة هما: أبان وعمرو بن سعيد بن العاص، وكانا ممن عملا للرسول. فلما توفي الرسول، رجعا مع خالد عن أعمالهم، فخرجوا إلى الشام، وفي جملة ما كتبه خالد، كتاب الرسول لبني أسد، وكتابه للعدّاء بن خالد بن هوذة ومن تبعه من عامر بن عكرمة، وكتابه لراشد ابن عبد السلمي، وكتابه لحرام بن عبد عوف من "بني سُليم"، وكتابه لبني غاديا، وهم قوم من يهود، وكتابه لبني عريض، قوم من يهود، وكتابه لثقيف، وكتابه لسعيد بن سفيان الرعليّ.

وكان "ابان بن سعيد بن العاص" "العاصي"، وهو اخو خالد، ممن أسلم بعد هجرة الرسول إلى يثرب. ويقال ايام خبير. وكان هو الذي تولى إملاء مصحف عثمان على زيد بن ثابت، يوم جمعه في خلافة عثمان، أمرهما بذلك عثمان. وذلك في رواية من جعله حياً إلى ايام الخليفة "عثمان". وزعم في روايات أخرى انه قتل يوم أجنادين سنة ثلاث عشرة، أو يوم اليرموك. وقيل قتل يوم مرج الصفر. وذكر في رواية انه توفي سنة سبع وعشرين في خلافة عثمان.

وكان "طلحة" من الكتبة. وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى. وكان تاجراً، وكان عند وقعة بدر في تجارة في الشام. ولما قدم المدينة آخى النبى بينه والزبير. وذكر انه آخى بينه وبين "كعب بن مالك" حين آخى بين المهاجرين والأنصار. وكان من الأغنياء، كانت غلته ألفاً وافياً تهل يوم. والوافي وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية.

والزبير بن العوّام في جملة من كتب للرسول. كتب له كتابه لبني معاوية بن جرول الطائيين.

و "أبو عبيدة بن الجراح"، من هذه الجماعة الكاتبة القارئة. وهو من الأوائل الذين دخلوا في الإسلام، كان إسلامه قبل دخول النبي دار "الأرقم"، وقد آخى الرسول بينه وبين "سعيد بن معاذ".

و "العلاء بن الحضرمي"، وهو "عبدالله بن عماد"، وكان أبوه قد سكن مكة وحالف حرب بن أمية، وكان للعلاء عدة إخوة منهم: "عمرو بن الحضرمي"، وهو أول قتيل من المشركين، وماله أول مال خمس في المسلمين، وبسببه كانت وقعة بدر. وقد استعمل النبي "العلاء" على البحرين. وهو الذي كتب للرسول كتابه لبني معن الطائيين، وكتابه لأسلم من خزاعة.وكان أخوه "ميمون بن الحضرمي" صاحب بئر "ميمون" التي بأبطح مكة، احتفرها في الجاهلية. وذكر "المسعودي" أن العلاء ربما كتب بين يدي النبي مع "ابان ابن سعيد".

و "يزيد بن أبي سفيان" أخو "معاوية" من الكتاب كذلك توفي سنة "18" أو "19" للهجرة. وهو ممن أسلم يوم الفتح، وقد كان عمر قد استخلفه على "الشام" بعد وفاة "معاذ"، فلما مات استخلف أخاه "معاوية".

وكان "معاوية بن أبي سفيان" من كتبة الرسول. وذكر أنه كان "من الكتبة الحسبة الفصحاء". ومعنى هذا أنه كان يتقن الكتابة والحساب. ولم يذكر من ذكر سيرته متى تعلم الكتابة. ولا استبعد أن يكون قد تعلمها بمكة قبل دخوله في الإسلام. وهو ممن ولد قبل الإسلام وأسلم عام الفتح. فتكون كتابته للرسول اذن بعد هذا العام. ومن كتبه التي كتبها للرسول كتابه لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي، وكتابه لبني قرة بن عبدالله بن أبي نجيح النبهانيين، وكتابه لعتبة بن فرقد، وكتابه لوائل بن حجر لما أراد الشخوص إلى بلاده. وذكر "المسعودي" أن "معاوية" كتب للرسول قبل وفاته بأشهر.

و "المغرة بن شعبة" من دهاة العرب وشياطينهم. أسلم قبل عمرة الحديبية. وكان يقال له "مغيرة الرأي". وكان رسول "سعد" إلى "رستم"، أصيبت عينه باليرموك، وروي انه كان أول من وضع ديوان البصرة، واول من سلم عليه بالامرة. وهو الذي كتب كتاب رسول الله إلى أهل نجران. وكتابه ليزيد بن المحجل الحارثي. وكتابه لبني قنان بن ثعلبة من بني الحارث، وكتابه لبني جُوين الطائيين، وكتابه لعامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي، وكتابه لبني الجُرمز بن ربيعة، ومم من جهينة. وذكر انه والحصيٍن بن نمير كانا يكتبان ما بين الناس.

و "معيقيب" ابن أبي فاطمة، من "ذي أصبح" وقيل من "بني سدوس".

وكان حليفاً لبني عبد شمس. اسلم بمكة. وقد ولاه "عمر" بيت المال، ثم كان على خاتم "عثمان". وورد انه كان حليف بني أسد، وكان يكتب مغانم رسول الله.

وكان "عقبة بن عامر بن عبس" الجهني الصحابي المشهور من الكتاب وصف بأنه "كان قارئاً عالماً بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعراً كاتباً، وهو أحد من جمع القرآن". وعثر على مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف "عثمان" "وفي أخره: كتبه عقبة بن عامر بيده". ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر الرسول بكتابته لعوسجة بن حرملة الجهني في آخره: "وكتب عقبة وشهد".

وجاء في خبر ضعيف أنه كان للرسول كاتب يقال له "السجل"، وكاتباً يقال له: "ابن خطل، بكعب قدام النبي، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا نزل: غفور رحيم، كتب رحيم غفور، وإذا نزل: سميع عليم، كتب عليم سميع. وفيه: فقال ابن خطل: ما كنت أكتب إلا ما اريد، ثم كفر ولحق بمكة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قتل ابن خطل، فهو في الجنة.فقتل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة". وهذا وهم، وقد خلط صاحب هذا الخبر بين "عبدالله بن أبي سرح" وبين "ابن خطل" الذي لم يرد في الأخبار انه كتب للرسول.

وذكر "ابن دحية" أن في "بني النجار" كاتباً كان يكتب الوحي للرسول ثم تنصر. وهو خبر لا نجده في الموارد الأخرى، ولم ينص على اسم الكاتب، والأغلب في نظري أنه من الأخبار الموضوعة، وضع على بني النجار للإساءة اليهم، وضعه من كان يتحامل عليهم.

ويظهر إن كتّاب الرسول قد وزعوا الأعمال الكتابية فيما بينهم، أو إن الرسول هو الذي وزع تلك الأعمال عليهم، حيث خصص كل واحد منهم بعمل من الأعمال. فقد روي إن علياً وعثمان كانا يكتبان الوحي فإن غابا كتب أبي بن كعب وزبد بن ثابت. وان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية يكتبان بين يديه في حوائجه، وان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بيٍن الناس. وان عبدالله بن الأرقم والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي. وإن معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي يكتب مغانم رسول الله. وان حنظلة بن الربيع "ربيعة" بن المدقع بن أخي اكثم بن صيفي الأسدي، "الأسيدي"، خليفة كل كاتب من كتاّب النبي، إذا غاب عن عمله فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه. وقال له: الزمني واذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة ايام إلا اذكره، فلا يبيت رسول اقه وعنده شيء منه. فهو كاتب عام يكتب للرسول في كل أموره، وهو خليفة كل الكتّاب. ولهذا غلبت عليه لفظة "الكاتب". وقد كانت وفاته في خلافة "عمر"، ومات في "الرها" من بلاد مضر.

وذكر أن "المغيرة بن شعبة" و "الحصين بن نمير" يكتبان ايضاً فيما يعرض من حوائجه.

و "حذيفة بن اليمان " "توفي سنة 36 ه" ممن بكتب خرص النخل. وخصص" المسعودي" عمله بخرص الحجاز.

وذكر "عبدالله بن زيد" الضمري في جملة كتاّب رسول الله إلى الملوك.ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أرسله رسول الله "لمن أسلم من حدَسٍ من لخم"، كتبه له "عبدالله بن زيد".

وكان "العلاء بن عقبة" فيمن كتب للنبي. وذكر أن الرسول كان يبعثه والأرقم في دور الأنصار. وكانا يكتبان بين الناس المداينات والعهود والمعاملات. وفي جملة ما كتبه للرسول كتابه لبني شنَخْ من جهينة، وكتابه للعباس بن مرداس السلمي، أنه أعطاه "مدفواً". وذكر أنهما كانا يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.

و "أُبي بن كعب بن قيس" من كتّاب الوحي، وهو من يثرب من "بني النجار" من "الخزرج". وقد عرف ب "سيد القرّاء"، وكان أقرأ الناس للقرآن. وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله. وكان ممن كتب للنبى قبل "زيد بن ثابت" ومعه أيضاً. وذكر انه كان أول من كتب لرسول الله مقدمه المدينة، وأول من كتب في آخر الكتاب: "وكتب فلان" وكان إذا لم يحضر دعا رسول الله "زيد بن ثابت" فكتب. وكان وزيد يكتبان الوحي بين يدى الرسول، ويكتبان كتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك. ونجد في طبقات ابن سعد، صور كتب دوّنها أُبي للرسول، منها كتابه لخالد بن ضماد الأزدي، وكتابه لعمرو بن حزم، وهو عهد يعلمه فيه شرائع الإسلام وفرائضه وحدوده، حيث بعثه إلى اليمن، ومنها كتابه لجنادة الأزدي، وكتابه للمنذر ابن ساوى، وكتابه إلى "العلاء بن الحضرمي"، بشأن ارسال ما تجمع عنده من الصدقة والعشور، وكتابه لجماّع في جبل تهامة كانوا قد غصبوا المارة من كنانة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد، وكتابه لبارق من الأزد. وقد شهد على صحته أبو عبيدة بن الجرّاح وحذيفة بن اليمان.

وزيد بن ثابت من الأنصار، من "بني النجار". ولما قدم الرسول المدينة استكتبه، فكتب له الوحي، كما تولى له أمر كتابة الرسائل. ذكر أنه تعلم الكتابة على أسرى "بدر" في جماعة من غلمان الأنصار. فقد "كان فداء الأسرى من أهل بدر أربعين أوقية أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين، فكان زيد بن ثابت ممن عُلّم". وذكر أنه جاء إلى أبيه وهو يبكي، فقال ما شأنك ? قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبداً.

وروي أنه في السنة الرابعة من الهجرة أمر الرسول زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، وقال لا آمن أن يبدّلوا كتابي. فتعلم كتابهم، وتولى أمر كتابة رسائل الرسول اليهم، والرد على رسائلهم. ونسب إليه اتقانه الكتابة بلغات أخرى. ذكر المسعودي منها: الفارسية والرومية والقبطية والحبشية. وأنه تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وكان يكتب إلى الملوك ويجيب بحضرة النبى ويترجم له وقيل إنه كان من أعلم الصحابة بالفرائض. وكان هو الذي تولى قسم غنائم اليرموك. وتولى جمع القرآن في أيام أبي بكر، بتكليف من الخليفة. وذكر أنه كان "رأساً بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض". وقد عرض زيد القرآن على رسول الله، "وكان آخر عرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القرآن على مصحفه، وهو اقرب المصاحف من مصحفنا".

وكان حين قدم رسول الله المدينة ابن احدى عشرة سنة. وكان يوم "بعاث " ابن ست سنين وفيه قتل ابوه. ويظهر انه كان قد تعلم الكتابة وهو صغير. ذكر انه أتي بزيد النبي مقدمه المدينة، فقيل هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأ عليه فأعجبه ذلك، فقال: تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي. فتعلمها، وتولى الكتابة بالعبرانية أو السريانية بين الرسول واليهود، فضلاً عن كتابة رسائله وما ينزل عليه من الوحي حين يكّون عنده لذلك عدّ من البارزين في قراءة القرآن. وبرز في القضاء والفتوى والفرائض،وعدّ من اصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر وعليّ وابن مسعود وأُبي وأبو موسى، وزيد بن ثابت، وهو الذي جمع القرآن.

وهو الذي جمع القرآن في عهد "ابي بكر"، وقد اختلفت في سنة وفاته، فقيل مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، وقيل سنة احدى أو اثنتين، أو خمس وخمسين. وفي خمس وأربعين قول الأكثر، وذكر ان حسان رثاه بقوله: فمن للقوافي بعد حسان وابنـه  ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت

وعهد رسول الله إلى "زيد" احصاء الناس والغنائم، وتقسيمها عليهم حسب حصصهم.

وكان "ثابت بن قيس بن شماس" الأنصاري ممن كتب للرسول. كتب له كتابه لوفد ثُمالة والحدّان. وقد شهد على الكتاب ووقع عليه "سعد بن عبادة"، و "محمد بن مسلمة". وكان خطيب الأنصار. وقد قتل يوم اليمامة". وهو الذي أمره الرسول أن يجيب على خطاب خطيب. "تميم" ولسانها الناطق "عُطارد ابن حاجب". فكان خطيب المسلمين.

و "محمد بن مسلمة"، هو من الأوس. ولد قبل البعثة، وهو أول من سُمّي في الجاهلية محمداً. أسلم قديماً على يدي "مصعب بن عمير"، وآخي الرسول بينه وبين "أبي عبيدة". واستخلفه الرسول على المدينة في بعض غزواته. وقد كتب للرسول كتابه لمهري بن الأبيض. توفي سنة "43" أو "46".

وكان "أوس بن خولي" من كتاب يثرب، ولما كان صلح "الحديبية " وأراد الرسول تدوين الصلح "دعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ، أو عثمان بن عفان، فامر علياً فكتب". وهو من الخزرج. ولما الرسول بين الأنصار والمهاجرين آخى بينه وبين شجاع بن وهب. وكان من "الكملة"، ولما قبض الرسول وأرادوا غسله، حضرت الأنصار، وابت على المهاجرين إلا أن يحضر منها أحد، فقيل لهم: اجتمعوا على رجل منكم، فاجتمعوا على أوس بن خولي، فحضر غسل رسول الله ودفنه مع أهل بيته. وتوفي في خلافة عثمان.

وكان "عبد الله بن رواحة" الخزرجي من كتاّب الرسول ومن الشعراء المعروفين بيثرب ومن السابقين الأولين من الأنصار وأحد النقباء ليلة العقبة. وكان الرسول يقول له: "عليك بالمشركين"، فينظم الشعر فيهم. وكان يناقض "قيس بن الخطيم" في حروبهم، ولما دخل الرسول مكة في عمرة القضاء كان ابن رواحة بين يديه، وهو يقول: خلّوا بني الكفار عن سبيله  اليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله  ويذهل الخليل عن خليلـه

ومدح الرسول، وكان من جيد مدحه له قوله: لو لم تكن فيه آيات مبينة  كانت بديهته تنبيك بالخبر

وذكر بعض أهل الأخبار أنه لما نزلت: "والشعراء يتبعهم الغاوون. قال عبدالله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات". وسورة الشعراء التي فيها آية: )والشعراء يتبعهم الغاوون( وما بعدها، من السور التي نزلت بمكة إلا هذه الآية وما بعدها، وهي أربع آيات في آخرها، نزلت بالمدينة في شعراء الجاهلية، ثم استثنى منهم شعراء المسلمين منهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، فقال تعالى: )إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(، فصار الاستثناء ناسخاً له من قوله والشعراء يتبعهم الغاوون.

وهناك كتبة آخرون كتبوا الكتاب والكتابين والثلاثة للرسول، ذكر "المسعودي " أنه لم يثبت اسماءهم في جملة أسماء من كتب للرسول لأنه لم يكتب من أسماء كتاب الرسول إلا من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتباً ويضاف إلى جملة كتابه.

وذكر إن كتاب النبي كانوا يكتبون بالخط المقور، وهو النسخي. أما الخط "المبسوط" ويسمى باليابس، فقد استعمل في النقش على الأحجار وأبواب المساجد وجدران المباني، وفي كتابة المصاحف الكبيرة، وما يقصد به الزينة والزخرف، وغلب علبه اطلاق لفظ "الكوفي".

وكان بشير بن كعب العدوي ممن قرأ الكتب. وذكر انه كان من التابعين. وكان "عبدالله بن عمرو بن العاص" ممن قرأ الكتب، وكان يكتب الحديث بين يدي رسول الله، ويقرأ بالسريانية.

وذكر أهل الأخبار إن رجلاً من أهل اليمن كان يقرأ الكتب، وان امرأة اسمها "فاطمة بنت مرّ"، كانت قد قرأت الكتب كذلك.

وكان من النساء من يحسن القراءة والكتابة. منهن: "الشفاّء بنت عبدالله بن عبد شمس" القرشية العدوية. من رهط "عمر". أسلمت قبل الهجرة، وهي من المهاجرات الأول. وكانت من عقلاء النساء، وكان "عمر" يقدمها في الرأي. وكان رسول الله يزورها ويقيلّ عندها في بيتهّا، وكانت قد اتخذت له فراشاً وإزاراً ينام فيه، وقد أمرها الرسول أن تعلم "حفصة" الكتابة، فعلمتها، كما علمتها "رقية" تسمى "رقية النملة". وقد تعلمت الكتابة في الجاهلية.

وكانت "حفصة" زوج النبي وابنة "عمر" تكتب. وكانت "ام كلثوم " بنت "عقبة" تكتب. وكذلك كانت "عائشة بنت سعد"، و "كريمة بنت المقداد"، و "شميلة".

وورد إن "عائشة" زوج الرسول، انها كانت تقرأ المصحف ولا تكتب. ولا شك في انهما تعلمتا القراءة في الإسلام.

وورد في بعض الأخبار أن العرب كانت تسمي كل من قرأ الكتب او كتب: صابئاً. وكانت قريش تسمي النبي ايام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئاً.

وقد اشتهر أهل اليمن بشيوع الكتابة والقراءة فيهم، فكان غلمانهم يتعلمونها ويرددون قراءة ما يكتبون ويقرأون وقد أشير إلى ذلك في شعر "لبيد" فورد: فنعاف صارة فالقنان كأنها=زبر يرجعها وليد يمان متعود لحنٌ يعيد بـكـفـه  قلماً على عسب، ذبلن وبان

والزبر: الكتب، فقال: كأن تلك المنازل كتب يرددها وليد يمان، أي غلام يمان، لأن الكتاب فيهم، لأنهم اهل ريف. متعود لذلك: فهِمٌ، ولحِنُّ: بمعنى فهم، يعيد بكفه قلماً، يكتب في العسب والبان. وكانوا يكتبون في العسب والبان والعرعر. فيظهر من ذلك أن أهل اليمن، حتى غلمانهم، كانوا يكتبون، ويردد الأطفال الكتب، لحفظها ولتعلمها، على نحو ما يفعلون في الكتاتيب هذا اليوم.

ويظهر أن ثقيفاً كانت قد حذقت الكتابة وبرزت بها. فقد ورد أن عمر بن الخطاب قال: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، وأن عثمان بن عفان قال: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف". وذكر أن "غيلان بن سلمة بن معتب"، و هو ممن أسلم يوم الطائف، كان كاتباً كما كان معلماً.

وورد في الأخبار أن الجاهليين كانوا يضعون الكتب التي ترسل إلى الملوك من الافاق، على لوح ضمت إليه ألواح من جوانبه، فلا يمسها إلا يد الملك، يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ويجيب على ما فيها. وفي هذا الخبر دلالة على شيوع الكتابة والمراسلات عند الجاهليين، وعلى وجود ديوان خاص لدى الملوك، يتولى، النظر في المراسلات. وفي هذا المعنى ورد في شعر لبيد: أو مذهبٌ جدد علـى ألـواح  هن الناطق المبروز والمختوم

ويظهر إن قوماً من الشعراء كانوا يكتبون و يقرأون. و منهم من كان على ثقافة و علم. ورد في شعر للشاعر "لبيد" قوله: رجلا السيولُ عن الطلول كأنها  زُبر تجدّ متونها أقـلامـهـا

و لا يمكن صدور هذا البيت، إلا من رجل كاتب له ذكاء حاد، و ربما كان ذلك الشاعر كاتباً يدون شعره و يحفظه عنده، فوصفه مثل هذا للطول، لا يمكن أن يقال إلا من رجلٍ له علم بالكتابة، و حذق و دراية.

و في البيت الآتي: فمدافع الريّان عُرّي رسمهـا  خلقاً كما ضمن الوحي سِلامها

أشار إلى الكتابة كذلك، فالوحي هو الكتابة، و السِّلام الحجارة، أي كان ما بقي من رسمها بعد أن عربت، مثل ما يبقى من الكتابة في الأحجار.ويؤخذ من ذلك إن الحجارة كانت- كما ذكرت في مواضع من هذا الكتاب - مادة من مواد الكتابة عند الجاهليين.

وفي شعر لبيد: فنعاف صارةَ فالقنان كأنها  زُبر يرجعها ولـيد يمـان

مُتعود لحنٌ يعيد بـكـفّـه  قلماً على عُسب، ذبلن وبان

دلالة واضحة على إلمامه بالكتابة والقراءة، وعلى وقوفه على خط أهل اليمن، وعلى دراسة غلمان اليمن للزبر، وهي الكتب.

بل ورد: إن لبيداً كان يدون شعره، ويهذبه بعد كتابته، وانه كان يكتب. روي: "إن عمر بعث إلى المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، يطلب إليه أن يستنشد من قبله من شعراء الكوفة ما قالوه في الإسلام. فأجابه الأغلب، وردّ عليه لبيد قائلا: إن شئت ما عفى عنه - يعني الجاهلية - فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها، وقال: أبدلني اللهُ هذه في الإسلام مكان الشعر. فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص عطاء الأغلب خمس مئة، وجعلها في عطاء لببد".

وكان الشاعر "المرقش"، وهو من شعراء الحيرة، كاتباً قارئاً، تعلم الكتابة والقراءة في "الحيرة" مع أخيه "حرملة" عند رجل من أهل الحيرة. وكذلك كان الشاعر "لقيط بن يعمر الإيادي" كاتباً قارئاً، وقد عرف بين أهل الأخبار ب "صحيفته" التي أرسلها إلى قومه "إياد"، ينذرهم فيها بعزم "كسرى" على غزوهم، وهي قصيدة افتتحت بهْذا البيت: سلام في الصحيفة من لقيط  إلى من بالجزيرة من إياد

ويجب ألا ننسى الشاعر: "أمية بن ابي الصلت"الذي لم يكن كاتباً قارئاً حسب، بل كان واقفاً على كتب أهل الكتاب كذلك، وكان يقرأها، ويقتبس منها، وقد استخدم في شعره ألفاظاً ذكر انه أخذها من كتب أهل الكتاب.

ونضيف إلى من تقدم: "الزبرقان بن بدر"، و "النابغة الذبياني " و "الربيع بن زياد العبسي"، و "لبيد بن ربيعة العامري"، و "كعب ابن زهير بن أبي سلمى".

ودعوى إن الجاهليين كانوا أميين وعلى الفطرة والبديهة، لا يحسنون كتابة وقراءة خلا نفر بمكة وأشخاص بيثرب، دعوى باردة سخيفة، لا يمكن لمن له إلمام بأحوال الجاهلية أن يصدق بها. فأهل الأخبار الذين يروون هذه الرواية، يعودون فيخطئون أنفسهم، بسرد أسماء رجال من جزيرة العرب ومن العراق وبلاد الشام، ذكروا انهم كانوا يقرأون ويكتبون، بل ذكروا أكثر من ذلك، ذكروا إن منهم من كان يقرأ العبرانية أو السريانية، كالأحناف، ثم انهم يذكرون أخبار مراسلات سادات القبائل في مختلف مواضع جزيرة العرب مع الرسول، ومكاتبة مسيلمة مع النبى وتأليفه كتاباً زعم انه وحىِ نزل عليه من السماء مثل ما نزل على الرسول، فهل يعقل بعد ذلك، قول قائل إن العرب كانوا أميين، خلا نفر. وقد رأينا انهم تركوا آلاف الكتابات باللهجات العربية الجنوبية وبالثمودية والحيانية والصفوبة، بل قد نجد الكتابة في بعض قبائل الجاهلية مثل قبائل الصفاة، اكثر اتساعاً وانتشاراً مما عليه الحال بين قبائل هذا اليوم.

وبعد، فالأمية الجماعية التي فرضها أهل الأخبار على الجاهليين، فجعلوهم اميين مائة بالمائة، لم تكن امية صحيحة، وإنما جاءت من وهم في فهم المراد من المواضع التي اشرت إليها من القرآن، بدليل مناقضة أهل الأخبار أنفسهم، بذكر أسماء من ذكرناهم وممن لم نذكرهم ممن كان يقرأ ويكتب بهذا القلم العربي الذي دوّن به القرآن. وبدليل ما أوردته من أقوال المفسرين في الأمية، من أنها الوثنية، لا الأمية بمعنى الجهل بالكتابة والقراءة حتماً، لعدم انسجام هذا المعنى مع تفسير الآيات، ثم إن القرآن الكريم حين تعرض للأمية، بمعنى عدم القراءة والكتابة، قال: )وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون. وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون(. فعبر بذلك تعبيراً مبيناً عن معنى عدم القرإءة و الكتابة، بأفصح عبارة، فقال: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب، لا تخطه بيمينك"، ولو كانت الأمية بهذا المعنى لما أهمل ذكرها في هذا المكان. ومن ذلك الوهم جاءت الأحاديث الضعيفة من أنه كلن من أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولعاطفة دينية، شددوا في أمية العرب، فحِعلوها جميعاً اميين، لاظهار معجزة للرسول - هو في غنى عنها- في انه ظهر بالنبوة في امة أمية، وجاء من الله باًحسن بيان، وهي حجة له على أهل الكتاب والمشركين.

وبعد، فقد فهمنا من روايات أهل الأخبار، إن أهل مكة انما تعلموا الكتابة في عهد غير بعيد عن الإسلام. فهل يعني هذا انهم لم يكونوا يحسنون الكتابة والقراءة قبل هذا العهد ابداً? والذي اراه ان ذلك شيء غير معقول، وان أهل مكة كانوا يكتبون ويقرأون، كانوا يكتبون بالمسند، القلم الذي كتب به أكثر أهل جزيرة العرب قبل الإسلام، بدليل ما نقرأه في كتب أهل الأخبار من زعمهم ان أهل مكة كانوا يجدون بين الحين والحين كتابات مدونة بالمسند في مقبرة مكة القديمة وفي مواضع أخرى منها، وفي عثور الناس على هذه الكتابات دلالة على أن سكان مكة كانوا يكتبون بالمسند أو بأقلام مشتقة منه، ولا يعقل عدم استعمال أهل الحجاز لهذا القلم، وقد وجدنا انه والأقلام المشتقة منه، قد كونت قلم اهل هذه البلاد قبل الإسلام، والظاهر انهم وجدوا إن القلم الذي كان يكتب به النبط وبقية العرب، مثل عرب الحيرة، كان أسهل استعمالاً ومرونة من القلم المسند البطيء الحركة، وانه لا يأخذ حجماً كبيراً بالقياس إلى الخط العربي الجنويي، لذلك فضلوه على هذا القلم، واستعملوه عوضاً عنه، دون أن يجروا عليه تحويراً أو تغييراً، لاصلاح ما فيه من خلل، فلما جاء الإسلام، أجرى عليه ما أجرى من تحوير وتغيير وتطوير.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق