إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 3 فبراير 2016

1749 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والعشرون بعد المئة الأمثال


1749

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
       
الفصل السابع والعشرون بعد المئة

الأمثال

و "المثل" لون من الوان الحكمة. وهو يقابل "مشل" في العبرانية،ومعنى آخر هو الحكمة والأساطير والقصص ذو المغزى. ولا يشترط في المثل أن يكون نثراً، فقد يكون شعراً. وفي الموارد الاسلامية امثلة جاهلية كثيرة من النوعين، لم يصل أي مثل منه مدوناً في نص جاهلي.

وللحكماء المذكورين امثلة كثيرة ترد في كتب الأدب والمواعظ والأمثال. وقد شرح غرض ما اصحاب الموارد التي ذكرتها، وتعرض الرواة للقصص المروي عنها. غير إن من الصعب التثبت من صحة نسبة تلك الأمثال إلى أولئك الحكماء. والتثبت من صحة هذا القصص المروي عنها.

وكلمة المثل من المماثلة. وهو الشيء المثيل لشيء يشابهه، والشيء الذي يضرب لشيء مثلاّ، فيجعل مثله، والأصل فيه التشبيه، ويقابله "مشل" "مشال" Mashal في العبرانية، و Parabole " في اليونانية، ومعناها المماثلة والمشابهة، أي المعنى الوارد للفظة في العربية. والغاية من الاهتداء بما فيه من حكمة ومن حسن توجيه، ومثل اخلاقية للسير على هديها في الحياة. وقد ضربت التوراة الأمثال للناس للاتعاظ بها والأخذ بما فيها من عبر. ورد في سفر "حزقيال": "هو ذا كل ضارب مثل يضرب مثلاً عليك قائلا: مثل الأم بنتها"، وجاءت الأمثال في الأناجيل فورد: "في هذا يصدق القول: إن واحداً يزرع وآخر يحصده".

وفد لخص الاصحاح الأول من سفر "الأمثال" الغاية من ضرب الأمثال بقوله: "لمعرفة حكمةّ وادب، لادراك أقوال الفهم، لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة، لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبراً، لفهم المثل واللغز أقوال الحكماء وغوامضهم: مخافة الرب رأس المعرفة. أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب"،. فالأمور المذكورة، تمثل الغاية التي يتوخاها ضراب الأمثال من الأمثال: وقد جعلت أسفار الأمثال المثل: مخافة الرب راس المعرفة أول أمثالها: وهو في العربية: رأس الحكمة مخافة الله.

ونجد في سفر "امثال" كلاماً للحكماء، هو مزيج من امثلة وحكم وألغاز، دون أن يشير إلى أسماء اصحابه، وفي مثل ذلك في الأدب العربي. وقد اشتهر أبناء الشرق بالحكمة عند العبرانيين.

والمثل بعد، هو عقل ضاربه، وثقافة البيئة التي ظهر فيها. ولهذا نجد الأمثال متباينة مختلفة حسب تنوع القوم الذين ظهر بينهم. ففي البيئة الزراعية يكون المثل من هذه البيئة في الأغلب، وفي البيئة الزراعية يكون المثل مشرباً بروح المزارعين، وفي البادية تكون الأمثال ذات طبيعة بدويهّ. ومن هنا اختلفت أمثال قريش عن أمثال الأعراب، وامثال عرب العراق عن أمثال أهل العربية الجنوبية، وهكذا. ولهذا فإن للمثل في نظر المؤرخ قيمة كبيرة: من حيث انه يرشده إلى مظاهر تفكير من ضرب بينهم، ويعرفه بمبلغ ثقافة قائليه.

ولما كانت الأمثال مرآة لعقلية زمانها ولعقلية من ينسب قول المثل إليه، اومن ضرب به المثل. تباينت في البلاغة وفي قوة التعبير وعمق المعنى، وفي الفكرة، فصار بعضها آية في الحكمة وفي قوهَ البيان وفي عمق المغزى والمعنى، وصار بعض منها بسيطاً تافهاً. ونجد هذه الحالة في أمثال كل الأمم. إذ إن المثل لا يصدر عن طبقة معينة، بل قد يأتي من رجل جاهل بسيد، وقد ينسب إلى غبي بليد أو إلى شخص من سواد الناس اتخذ رمزاً للتعبير عن ناحية من نواحي الحياة، أو نموذجاً يعبر عن طبقة من الطبقات. وانما المهم في رواج المثل وفي بقائه، أن يكون منبعثاً عن واقع حال، معبراً عن رأي سديد، قصير قدر الامكان مركزاً له وقع حسن على السمع، يصح أن يكون مثلاً لكل زمان ومكان. فيروج ويدوم، وقد يتخذ مثلا من امثلة الحكمة، وهو كلما قصر، سهل حفظه وطال عمره.

وافضل المثل السائر، أوجزه، وأحكمه أصدقه، وقولهم: مثل شرود، وشارد، أي سائر لا يرد كالجدل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد. وقد تاتي الأمثال محكمة إِذا تولاها الفصحاء من الناس، وإذا جاءت في الشعر، سهل حفظها.

والأمثال مادة مهمة غنية في الأدب الجاهلي والاسلامي. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة ضربت للناس للتفكر والتعقل، وهي تدل على ما لها من أهمية تعليمية في العقل العربي. والأمثال المضروبة مرجع لمن يربد الوقوف على بعض الأمثلة التي استعملها الجاهليون. وفي الحديث النبوي مادة مهمة يمدّ هذا الباحث بمادة غزيرة عن المثل عند الجاهلين.

و الأمثال من حكمة العرب في الجاهلية والاسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في النطق بكناية بغير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاث خلال: ايجاز اللفظ، واصابة المعنى، وحسن التّشبيه". فالأمثال اذن عند الجاهليين نوع من أنواع الحكمة السائرة بين الناس. يقولها السيد والمسود، البارز والخامل، وهي تحفظ بسهولة ولا يحتاج المرء لتعلمها مهارة وذكاء. وكان لحفاظ الأمثال مقام عندهم، لأنهم ممن وهبوا بياناً ناصعاً وقوة في اللسان، تمكن صاحبه من ضرب المثل في موضعه، ومن قوله في مكانه. والعادة أن يكثر الحكيم من الأمثال في كلامه، لأنها المادة التي يستعين بها في إظهار حكمته وعقله، يضيف عليها امثالاً من عنده، هي من وحي تجاربه وقوة ملاحظته.

وقد وردت كلمة "مثل" و "أمثال" في مواضع كثيرة من القرآن، وفي ورود الكلمتين بهذه الكثرة دلالة بالطبع على ما كان للمثل من أهمية كبيرة عند الجاهليين. وفيه أمثلة كثيرة ضربت العبرة والتذكر، لتكون درساً يتعظ به أولو الألباب. ويلاحظ إن العرب يضعون لفظة "ضرب" قبل كلمة المثل في الغالب، ورد في القرآن الكريم )ألم تر كيف ضرب اللَه مثلا(، و )ضرب الله مثلاً(، وورد )وضربنا لكم الأمثال(، و)فلا تضربوا لله الأمثال( و )تلك الأمثال نضربها للناس(، وفي مواضع اخرى منه. وضرب المثل ايراده التمثل به ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب. يقال: ضرب الشيء مثلاً وضرب به ويمثله وتمثل به. وضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به. وقد اشاد العلماء بما للامثال من أهمية في الحث على إصلاح النفس، فقال بعضهم: "انما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيراً ووعظاً"، وقال بعض آخر: " ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد من العقل، وتصويره بصورة المحسوس... الخ". وروي إن الرسول قال: "إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال". وجعل "الماوردي" الأمثال من اعظم علم القرآن.

وللرسول أمثال كثيرة، وذكر عن "عمرو بن العاص"، أنه حفظ عن النبي ألف مثل. وتجد في كتب الأمثال امثالا نسبت إلى الرسول. منها: "إن من البيان لسحراً"، و "إن مما ينبت الربيعُ لما يقبل حبطاً أو يلم".و "إياكم وخضراء الدمن" و "من كثر كلامه كثر سقطه"، و "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ويروى أنه من أمثلة أهل الجاهلية. وقد نسبت أمثلة جاهلية اخرى إلى الرسول.

والأمثال أقوال مختصرة، يراعى في وضعها الايجاز والبلاغة والتأثر. وقد يكون المثل كلمتين، وقد يكون أكثر من ذلك. ولكن العادة الا يكون طويلاً، لأن طول المثل يفقده روعته وتأثره، فلا يكون مثلا، ولا يمكن حفظه عندئذ فيضيع. ويراعى أن يكون سجعا أو طباقاً، وأن يرتب في جمل متوازية بسيطة العبارة، أو مزدوجة أو اكثر من ذلك قليلا. وأن تكون هنالك مناسبة بين الجمل حتى يبدو المثل جميلاً متناسقاً.

والقاعدة في الأمثال الاّ تغير، بل تجري كما جاءت. وقد جاء الكلام بالمثل واخذ به وإن كان ملحوناً. لأن العرب تجري الأمثال على ما جاءت، ولا تستعمل فيها الإعراب. والأمثال قد تخرج عن القياس، فتحكى كما سمِعت، ولا يطرد فيها القياس، فتعرج عن طريقة الأمثال. "قال المرزوقي: من شرط المثل ألاّ يغير عما يقع في الأصل عليه".

وقال المرزوقي "في شرح الفصيح: المثلُ جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من. غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تُضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومُضارع كل ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام".

ويلاحظ إن العرب قد أجازت لضارب المثل الخروج فيه على قواعد اللغة، كما أجازت ذلك للشاعر بدعوى ضرورات الشعر،ليستقيم الشعر مع القوافي والوزن. أجازته في المثل لأنه قد يصدر شعراً، وقد يصدر سجعا، وقد يصدر من أفواه اناس جهلة لا يالون بالقواعد، أو ليس لهم علم بها، وقد يصدر من قبيلة لا تتبع في لغتها قواعد الإعراب.

وفي في كتب الأمثال وفي كتب الأدب امثالاً وضعت لأغراض مختلفة، يغلب عليها الطابع التعليمي، أي تعليم من يقرأها حكمة الحياة، وتجارب الماضين حتى ُيستفاد ويُتعظ. بعض منها نابع من محيط البداوة ومن الطبيعة الأعرابية، وبعض منها تجارب عملية عامة تنطبق على كل الناس وتصلح لكل الأوقات. والأمثال عند بعض الشعوب صنف من أصناف الشعر، لما فيها من الخصائص. المتوفرة في الشعر عندهم. وقد روعي في المثل بصورة عامة إن يكون قصيراً موجزاً وبليغاً معبراً عن حكمة، فيه نغمة وترنيم، ليؤثر في النفوس. ويحمل الطبع قائل المثل على مراعاة بهذه الأمور من غير تفكير ولا تصنع، وهو إذا كان صادراً من قلب وسجية، ومعبراً عن نفس جياشة وعن حس بشري عام، يشعر به كل إنسان تقبله الناس بسرعة، ووجد له مجالاّ من الانتشار، وعمر عمراً طويلاّ.

والأمثال، هي في صدر المؤلفات التي وضعها المسلمون، فقد روي: أن عبيدأ بن شريه الجُرهمي، وهو من أهل "صنعاء" باليمن، من أوائل المؤلفين في الأخبار وملوك العرب والعجم، ألف كتاب "الأمثال" وقد رآه "ابن النديم" في نحو خمسين ورقة. كذلك ألف صحار بن العباس العبدي، وهوِ من بني عبد القيس، وممن أدرك الرسول، "كتاب الأمثال". وذكروا إن "علاقة الكلابي" جمع الأمثال في عهد يزيد ين معاوية، وأن "المفضل الضبي" "168ه" من مشاهير علماء الكوفة في الشعر واللغة ألف كتاباً في الأمثال دعاه: كتاب الأمثال، وأن أبا عبيد القاسم بن سلام "223ه" "224ه"، ألف كتاباً في الأمثال كذلك.

وألف "يونس بن حبيب" "183ه" كتاباً دعاه "كتاب الأمثال""، وألّف "أبو المنهال" كتاباً في الأمثال، عرف ب "كتاب الأمثال السائرة" وقف عليه "ابن النديم"، ولأبي عبيدة "209ه" "210ه" "211ه" كتاب في الأمثال، عرف بكتاب الأمثال، وللاصمعي "217ه" كتاب في الأمثال كذلك 7، وللشورى، وهو ممن اخذ عن الأصمعي كتاب في الأمثال، ولأبي اسحاق ابراهيم بن سفيان، من تلامذة الأصمعي، كتاب في الأمثال. وألف غير هؤلاء من العلماء كتباً في هذا الموضوع طبع بعض منها فنال شهرة، مثل كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري "395ه"، وكتاب مجمع الأمثال للميداني "518ه"، وقد أخذ "ابو هلال العسكري" أمثالاً وردت في كتاب لحمزة الأصبهاني في الأمثال، وهو كتاب توجد نسخة خطية منه في القاهرة.

وبين المؤلفات في الأمثال رسالة لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا الرازي 395ه طبعت بعنوان: "كتاب ابيات الاستشهاد"، دون فيها بعض الشعر الذي استشهد به الناس في أمثالهم. ورسالة أخرى ألفّها "أبو العباس محمد بن يزيد المبرد" الأزدي "285 ه"، بعنوان: "رسالة في أعجاز أبيات تغني في التمثيل عن صدورها".

وهنالك مؤلفات عديدة أخرى، وضعت في الأمثال. وفي إقبال المؤلفين على التأليف بها بهذه الكثرة، دلالة على ما كان للمثل من أهمية، وعلى ما كان له من قيمة في نظر أهل الجاهلية. حفظوه حفظهم للشعر، بل أكثر من الشعر، لأنه يرد على كل لسان، يرد على لسان الحكيم البليغ كما يرد على لسان الغبي والجاهل، ثم إنه توجيه وتربية وتعليم، فلا نستغرب إذن إذا ما وجدنا كتب الأمثال في صدر الكتب التي ظهرت في الإسلام. وقد رأيت أنها ظهرت في عهد "معاوية" وبأمره، فهي بحق من أوائل المؤلفات التي وصلت الينا بالعربية. وكان معاوية مولعاً بسماع الامثال والقصص وأخبار الماضين والشعر.

والأمثال، هي أيضاً مادة مهمة لفهم تأريخ الجاهلي. فقد تعرض جامعوها لأصل المثل وللاسباب مضربه، و جاءوا بشروحهم هذه بمادة تأريخية استعنا بها على فهم مواضع من ذلك التأريخ. ولكنا يجب أن نأخذ هذه الأمثال وشروحها بحذر. ففي أكثر الشروح تكلف وضعف، يدلان على عدم امكان الاعتماد عليها في تكوين حكم علمي.

ونجد في الأمثال الجاهلية أمثالاً ضربت بالناس، مثل: أسخى من حاتم، واشجع من ربيعة بن مكدم، وأدهى من قيس بن زهير، واعز من كليب وائل، وأوفى من السموأل، وحجام ساباط، وقوس حاجب، وغيرها. ونجد أمثالاَ تمثل فيها بالبهائم، وفي ذلك. ولكل مثل قصة تروي منشأ ضرب ذلك المثل وما وراءه من خبر. وهي تعبير عن روح الزمان الذي قيل فيه وعن نفسية المتمثلين به. وكثير من الأمثال الجاهلية ما زالت دائرة على ألسنة الناس. وفي وجودها دلالة على إن الأحوال التي قيلت فيها لا تزال قائمة، ودليل ذلك اعتبار الناس بها والاستشهاد بها في المناسبات.

وبين أمثال العرب أشعار جاهلية الأصل صارت مثلا، ولا يزال بعض منها حي يضرب به مثل، لما فيه من حكمة ومن ملاءمة لكل وقت وزمان. وضرب المثل بعجز البيت أحياناً أو بجزء منه، كما في المثل: "بعض الشر أهون من بعض". فهو من بيت ينسب لطرفة هو: أبا منذر أفنيت فاستبق بـعـضـنـا  حنانيك بعض الشر أهون من بعض

و من الأمثلة القديمة المشهورة حتى اليوم: "آخر الدواء الكي"، و "آخر الطب الكي"، زعم أنه من أمثلة "لقمان بن عاد". وقد ذكر "الزمخشري" سبب ضرب "لقمان" له، وأورد له كلاماً مع امرأة خانت زوجها، وكلاماً مع زوجها وكيف عرفه فأرشده إلى خيانتها له. واورد مثلاً ضرب بكثرة اكل "لقمان"، هو: آكل من لقمان. وكانوا يزعمون أنه كان يتغدى بجزور، ويتعشى بأخرى، ويتخلل بحوار. وانه ضاجع امرأته يوماً، وقد أكل جزوراً، وأكلت فصيلاً، فما قدر على الإفضاء إليها، فقال: كيف أفضي اليك وبيني وبينك بعيران.

ويظهر من القصص المنسوب إليه، أنه قد انتزع من قصص قديم، كان معروفاً عند الجاهليين مروياً بينهم. فإذا أعدنا قصته المذكورة، مع المرأة، وقد رواها "ابن الكلبي" عن "عوانة" نجدها وقد غصت بالأمثلة، وبطريقة الجاهلين في التفسير والتعليل، مما يجعل الإنسان يرى انها من القصص الجاهلي القديم، الذي احتفظ بمعناه ومضمونه، وإن صيغ بلغة حاكيه.

ورووا لقيس بن ساعدة الايادي أمثالا، منها: إذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاصدق، ولا تستودعن سرك أحداً، فإنك إن فعلت لم تزل وجلاً،. وكان بالخيار، إن جنى عليك كنت أهلاّ لذلك، وان وفى لكَ كان الممدوح دونك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى تسد قومك. إلى غير ذلك من أمثال نسبوها إليه.

وفي "كتاب الجوهرة في الأمثال" من "العقد الفريد"، باب خاص عنوانه: "أمثال اكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي". وهي تستحق الدرس والنقد، لمعرفة أصولها وعلاقة هذه الأمثال بالادبين العربي والفارسي.

وفي في كتب الأدب طائفة من الأمثال في الأدب والحكمة، نسبت إلى "أكثم بن صيفي"، منها: ربّ عجلة تهب ريثاً، وادرعوا الليل فإن الليل أخفى للويل، والمرء يعجز لا المحالة، ولا جماعة لمن اختلف، ولكل امرئ سلطان على اخيه حتى يأخذ السلاح فإنه كفى بالمشرفية واعظاً، وأسرع العقوبات عقوبة البغي، وشر النصرة التعدي، ورب قول أنفذ من صول، والحر حر. وإن مسه الضر، والعبد عبد وإن ساعده الجد، واذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، وربّ كلام ليس فيه اكتتام، وحافظ على الصديق ولو في الحريق، وليس من العدل سرعة العذل، وليس بيسير تقويم العسير، واذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة، ولو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم.

وليس في امكان أحد اثبات إن هذه الأمثال وغيرها هي لأكثم بن صيفي حقأَ. وبينها أمثال انسانية عامة نجدها عند مختلف الأمم وبينها، أمثال قيلت في اليونانية وفي بعض اللغات الأخرى قبل ايام "أكثم" بزمن طويل. إلا إن نسبة هذه الأمثال إليه، تشير الى انه كان من حكماء الجاهلية البارزين ومن ذوي الرأي والحكمة عند قومه.

والأمثال النابعة من صميم الحياة الانسانية ومن التجارب العملية، والاختبارات الطويلة، تكون ذات طبيعة حكيمة عامة، فتظهر لذلك عند كل الناس، وتخرج على كل لسان فلا يمكن إن يقال إنها من مخترعات الأمة الفلانية، ومن مبتكرات العقل الفلاني، لأنها كما قلت خواطر إنسانية، تخطر على بال كل شخص، له رأي سديد، وفكر صائب. وإن نسبت إلى شخص معين، لذلك. يصعب علينا ارجاع الأمثال الانسانية العامة إلى جماعة معينة. قال "الجاحظ": وقد كان الرجلُ من العرب يقف الموقفَ فيرسل عدة أمثلة سائرة، ولم يكن الناس جميعاً ليتمثلوا بها إلا لما فيها من. المرفق والانتفاع ؛ و مدار العلم على الشاهد و المثل".

ومن امثال أهل الجاهلية: ان من البيان لسحراً، وإن الجواد قد يعثر، و.إن البلاء موكل بالمنطق، وان أخا الهيجاء من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك. وأنف في السماء وانف في الماء. وأجع كلبك يتبعك، واشتدي ازمة تنفرجي، وربّ رمية من غير رام، ورب أكلة تمنع ألاكلات، واستراح من لا عقل له، وسبق السيف العذل، إلى غير ذلك من أمثلة.

ومن الأمثال الجاهلية الباقية حتى اليوم المثل: مواعيد عرقوب، مثل يضرب لمن يعد ولا يفي. فقد ورد في شعر المتلمس، إذ قال: الغدر والآفات شيمتـه  فافهم فعرقوبٌ له مثل

وورد في شعر كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثل  " وما مواعيدها إلا الأباطيل

قيل: عرقوب رجل من خيبر، كان يهودياً وكان يعد ولا يفي، فضربت به العرب المثل. وقيل: رجل من العماليق أتاه أخ له يسأله فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها. فلما أطلعت أتاه للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحاً، فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهواً، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رُطباً، فلما ارطبت قال: دعها حتى تصير تمراً، فما أتمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجذّها، ولم يعطِ أخاه منه شيئاً، فصار مثلاً، وفيه يقول الأشجعي: وعدت وكان الخُلف منك سجية  مواعيد عُرقوُب أخاه بيثـرب

وقال آخر: وأكذب من عرقوب يثرب لهجـهً  وأبين شؤماً في الحوائج من زُحل

وذكر إن اسمه "عرقوب بن صخر"، أو "عرقوب بن معبد "معيد" بن اسد"، رجل من العمالقة على القول الأول. قاله ابن الكلبي، وعلى القول الثاني، فهو رجل من "بني عبد شمس بن سعد"، وقيل انه كان من الأوس. كان أكذب أهل زمانه، ضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب.

ومن الأمثال القديمة: صحيفة المتلمس، روى إن الرسول كتب كتاباً لعيينة بن حصن، فلما أخذه، قال: "يا محمد أتراني حاملاَ إلى قومي كتاباً كصحيفة المتلمس". هي احدى الصحيفتين اللتين كتبهما "عمرو بن هند" لطرفة والمتلمس، إلى عامله بالبحرين في إهلاكما، وخيلهما انهما كتابا جائزة، فنجى المتلمس عمله على الخرم وهربه الى الشام، وسارت صحيفته مثلاً في كل كتاب يحمله صاحبه يرجو منه خيراً وفيه ما يسوءه.

ومن الأمثلة القديمة "عنقاء مغرب"، والمثل به "طارت به عنقاءُ مغربٌ " زعموا انه طائر كان على عهد "حنظلة بن صفوان الحميري" نبي أهل الرس عظيم العنق، وقيل كان في عنقه بياض ولذلك سمي عنقاء،اختطف غلاماً فاغرب به ولذلك سمي المغرب، فدعا عليه حنظلة فرمى بصاعقة. وقد ذكر المثل في الشعر.

ومن الأمثال الجاهلية الحية التي لا تزال ترزق، المثل: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". يضرب مثلا لمن خبره خير من مرآه. ذكر "ابن الكلبي" إن هذا المثل. ضرب "الصقعب بن عمرو" النهدي. قاله له النعمان بن المنذر، وقال "المفضل": المثل للمنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه فقال: تسمع بالمعيدي خير. من أن تراه، فاًرسلها مثل فقال: له شقة: أبيت اللعن إن الرجال لبسوا بجزُر يراد منهم الأجسام، وانما المرء باصغريه قلبه ولسانه فذهب مثلا، واعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ثم سماه باسم أبيه فقال: أنت ضمرة بن ضمرة.. وقيل إن المثل للنعمان ابن المننر، قاله لشقة بن ضمرة.

وقد أورد "ابن الكلي" قصة تاريخ المثل على هذا النحو: قال: وفد "الصقعب ين عمرو" النهدي في عشرة من "بني نهد" على "النعمان بن المنذر" وكان "الصقب" رجلاً قصيراً دميماً تقتسمه العين، شريفأَ بعيد الصوت، وكان قد بلغ النعمان حديثه، فلما أخبر النعمان بهم قال للاذن: إئذن للصقعب، فنظر الاذان إلى أعظمهم وأجملهم، فقال: انت أنت الصقعب قال: لا. فقال: الذي يليه في العظم والهيئة: أنت هو: فقال: لا. فاستحيا فقال: أيكم الصقعب فقال الصقعب: هأنذا فأدخله إلى النعمان، فلم رآه قال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال الصقعب: أبيت اللعن الرجال ليسوا بالمسوك يستقى فيها، انما الرجل باصغريه بلسانه وقلبه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببييان. فقال له النعمان: فلله أبوك ثم ساله أسئلة امتحنه بها، ليرى عقله، فكان يجيبه احسن جواب. فقال له النعمان: أنت أنت فاحسن صلته وصلة أصحابه.

وينسب المثل: "الوى بعَيد المستمر"، إلى "النعمان بن المنذر"، وأخوه "طفُيل الغنوي" فادخله شعره. ومن الأمثلة الشهيرة القديمة قولهم: "على أهلها جنت براقش"، يضرب مثلاً للرجل يهلك قومه بسببه".

وينسب المثل: "إن الشقي وافد الراجم" لعمرو بن هند، ملك الحيرة، حلف فيقتلن مائة من تميم، فقتل تسعة وتسعين رجلاً منهم إحراقاً بالنار، وبقي واحد، فما دنا رجل من البراجم من الملك، وسأله عن أهله، فقال من البراجم، قال: إن الشقي وافد الراجم، وأمر به فالقي في النار.

ومن الأمثال المشهورة قولهم -: "عند جهينة الخبر اليقين". وقيل: "عند جفينة الخبر اليقين" "جُفينة". وكان من حديثه أن "حصين بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن كلاب" خرج، ومعه رجل من "جهينة" يقال له إالأخنس" فنزلا منزلا"، فقام الجهني إلى الكلابي فقتله، وأخذ ماله، وكانت أخته "صخرة" بنت "عمرو" تبكيه في المواسم، وتسأل عنه فلا تجد منُ يخبرها، فقال الأخنس فيها: كصمخرة آذ تسائل في مِراح  وفي جرم وعلمهما ظنـونُ

تسائل عن حصينٍ كل ركب  وعند جهينة الخبر الـيقـين

ومن أمثالهم المشهورة قولهم بمثل جارية فلتزن الزانية، وذلك إن "جارية بنت سليط بن الحرث بن يربوع بن حنظلة" كان أحسن الناس وجهاً وأمدهم قامة، وأتى سوق عُكاظ فابصرته فتاة من خثعم فاعجبها فتلطفت له، حتى وقع عليها، فعلقت منه، فلما ولدت اقبلت هي وامها وخالتها تلتمسه بعكاظ، فلما رأته الفتاةُ قالت: هذا جارية فقالت امها: بمثل جارية فلتزن الزانية سراً أو علانية، فذهب مثلا.

ونسب المثل: "ارسل حكيماّ ولا توصه" إلى "الزبير بن عبد المطلب"، ونسب المثل "استنوق الجمل" لطرفة بن العبد.. ومن الأمثلة القديمة: "على أهلها دلت براقش"، و "عش رجباً تر عجباً"، و "العصا من العصية" و "اعز من كليب وائل"، و "أعزّ من بيض الأنوق" و "أعز من الغراب الأصم"، و "انصف القارة من راماها". والمثل: "ارسل حكماً، ولا توصه"، هو في الواقع. مثل قديم، لا بد وأن يكون قد وضع في العربية، قبل أيام "الزبير"، إذ ينسب إلى الحكيم "أحيقار"، وربما نقل من السريان إلى العرب.

وقد ضرب المثل بشخصيات جاهلية، تركت أثراً في أيامها فضرب بها المثل. مثل: "أبلغ من قس"، ويراد به قس بن ساعدة الخطيب الشههر، وأعيا من باقل. وهو رجل من إياد، وقيل من ربيعة. اشترى ظبياً بأحد عشر درهماً، فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي فمدّ يديه وأخرج لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي حي مد يديه، وكان تحت ابطيه. وضرب المثل ببخل مادر، فقيل: أبخل من مادر، وبفصاحة سحبان، فقيل: أخطب من سحبان، وهو القائل: لقد علم الحي اليمانيون أنني  إذا قلت أما بعد اني خطيبها

وضرب الجاهليون الأمثال بكل ما وجدوه حولهم من حيوان ومن نبات وصخور. ولذا نجد على أمثالهم طابع محيطهم، فالحيوان الشي ضربوا به المثل، هو من حيوان جزيرة العرب، ومن النوع المألوف عندهم، مثل الضب والحية والعنز والإبل وما إلى ذلك. ومن هنا اختلفت أمثلة الأعراب أهل البادية عن أمثلة الحشر، أهل المدر، لاختلاف طبيعة البادية عن طبيعة الريف، ولوجود أشياء في أحدهما يندر وجودهما في المحيط الآخر،  

وفي شعر "عدي بن زيد" العبادي أمثلة كثيرة، تميز شعره عن شعر بقًية الشعراء الجاهليين. ولو درسنا شعره، تجد أن فيه ما يشير إلى مواعظ ترد في النصرانية كما ترد على خاطر كل إنسان يصاب بنكبة، فتهز مشاعره فتجعله ينظر إلى الدنيا نظرة زاهد فيها، ولا استبعد احتمال تأثره بالكتب التىِ كان قد وقف عليها، فقد كان نصرانياً "وقد قرأ كتب العرب والفرس". ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن "كتب العرب" هل أريد بها كتب دينية وضعت في العربية، أم قصد بها كتب في القصص والأمثال وفي الشعر والأخبار وما شابه ذلك، ولعلهم أرادوا بكتب الفرس، الكتب التي تبحث عن قصص ملوكهم. وقد ترجم قسم منها في الإسلام، وقصص الأساطير. وقد رأينا أنها كانت معروفة عند العرب وان "النضر" كان يقص منها لأهل مكة وكانوا يسمونها الأساطير. ونجد في شعر الشعراء الآخرين أمثلة عديدة دخلت شعرهم، أخذوها من المثل السائر، ومن للحكم التي كانت شائعة في أيامهم، أو من القصص، أو من مبتكراتهم ومخترعاتهم، ولا تزال بعض الأمثال الشعرية حية ترزق، يضرب بها الناس المثل فيما يريدون التمثيل به.

ومن الموارد التي أمدت الأدب الجاهلي بالمثل، الكهان، وكلام الكهان قصير مسجع يميل إلى الرمز والألغاز، يتجنب الصراحة، لتكون فيه قابلية التفسير والتأويل واعطاء كثير من الاحتمالات، وذلك لما تقتضيه طبيعة الكهانة من تأويل التكهن حسب الأحوال والمناسبات. ونجد في كتب الأدب أمثلة عديدة منسوبة إلى هؤلاء الكهان. ولما كان كلامهم مسجوعاً، قيل له: "سجع الكهان"، وقد جاء في الحديث النبوي: "هذا من سجع الكهان". وفي الكهان جماعة من الكاهنات،، عرفن بالتكهن، مثل: الشعثاء الكاهنة، وطريفة، ويذكرون انها هي التي أنذرت عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه، وأخبرته بخراب سد مأرب، وزبراء الكاهنة، وسلمى الهمدانية الحميرية، وعفيراء الكاهنة الحميرية.، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وقد ذكروا انها كانت قد قرأت الكتب.

ومن الأمثلة الواردة في كتب الأدب: "إن العصا من العُصية"، وهو مثل ينسب إلى "الأفعى الجرهمي"، وهو من الكهان، قاله لما احتكم إليه أولاد "نزار" بمدينة النجران. و "الصيف ضيعت اللبن"، وأول من قاله "عمرو ابن عدس"، والمثل "أوسعتهم سباً وأودوا بالابل" وينسب إلى "كعب بن زهير بن ابي سلمى"، والمثل "إن الشقي واقد البراجم"، إلى غير ذلك من أمثلة تجدها في كتب الأمثال والأدب. ولا يزال بعضها حياً يتمثل الناس يه ُبعض منه يرد على لسان كل إنسان " أي امثلة تنطبق على كل البشر، لأنها صادرة من نفس انسانية عامة،فلا تعد من الأمثلة المحلية أو القومية، أي أمثلة نبعت من محيط أمة معينة. لذلك نجد لها شبهاً عند أمم أخرى. ولا نستطيع أن نقول إن الأمة أخذتها من تلك.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق