إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 3 فبراير 2016

1731 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الحادي والعشرون بعد المئة الخط العربي


1731

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
        
الفصل الحادي والعشرون بعد المئة

الخط العربي

والعرب من الشعوب التي عرفت الكتابة ومارستها قبل الإسلام بزمان طويل كذلك. بل عرفوا الكتابة قبل الميلاد ببضع مئات من السنين. وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على كتابات دونت باليونانية وبلغات أخرى. وتبين من دراسة النصوص الجاهلية، إن العرب كانوا يدوّنون قبل الإسلام بقلم ظهر في اليمن بصورة خاصة، هو القلم الذي أطلق عليه أهل الأخبار "القلم المسند" أو "قلم حمير". وهو قلم يباين القلم الذي نكتب به الآن.. ثم تبين انهم صاروا يكتبون في الميلاد بقلم آخر، أسهل وألين في الكتابة من القلم المسند، أخذوه من القلم النبطي المتأخر وذلك قبيل الإسلام على ما يظهر. كما تبين إن النبط وعرب العراق وعرب بلاد الشام كانوا يكتبون أمورهم بالإرمية وبالنبطية، و ذلك لشيوع هذين القلمين بين الناس، حتى بين من لم يكن من "بني إرم" ولا من النبط، كالعبرانيين الذين كتبوا بقلم إرمي إلى جانب القلم العبراني، ولاختلاط العرب الشماليين ببني إرم واحتكاكهم بهم، مما جعلهم يتأثرون بهم ثقافياً، فبان هذا الأثر في الكتابات القليلة التي وصلت الينا مدونة بنبطية متأثرة بالعربية.

ويظهر من عثور الباحثين على كتابات مدونة بالمسند في مواضع متعددة من جزيرة العرب، ومنها سواحل الخليج العربي، بعض منها قديم وبعض منها قريب من الإسلام، إن قلم المسند، كان هو القلم العربي الأصيل والأول عند العرب. وقد كتب به كل أهل جزيرة العرب، غير إن التبشير بالنصرانية الذي دخل جزيرة العرب، وانتشر في مختلف الأماكن، أدخل معه القلم الإرمي المتأخر، قلم الكنائس الشرقية، وأخذ ينشره بين الناس لأنه قلمه المقدس، الذي به كان يكتب رجال الدين. ولما كان هذا القلم أسهل في الكتابة من المسند، وجد له أشياعاً وأتباعاً بين من دخل في النصرانية وبين الوثنين أيضاً، لسهولته في الكتابة، غير انه لم يتمكن مع ذلك من القضاء على المسند إذ بقي الناس يكتبون به. فلما جاء الإسلام، وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم. صار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين، وحكم على المسند بالموت عندئذ، فمات ونسيه العرب، إلى إن بعثه المستشرقون، فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى، ليترجم لنا الكتابات العادية التي دونت به.

وهناك أقلام عثر عليها المستشرقون في أعالي الحجاز، تشبه القلم المسند شبهاً كبيراً، لذلك رأى الباحثون انها من صلب ذلك القلم ومن فروعه للشبه المذكور، ولأنها متأخرة بالنسبة له، فلا يمكن أن تكون هي الأم. وقد سمي قلم منها بالقلم الثمودي نسبة إلى قوم ثمود، وسمي قلم آخر بالقلم اللحيانى، نسبة إلى "لحيان". وعرف القلم الثالث ب "الكتابة الصفوية"، نسبة إلى ارض "الصفاة" الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم.

وقد عرف علماء العربية القلم المسند، ومنهم حصل هذا القلم على اسمه.ولكنهم لم يعرفوا من أمره شيئاً يذكر. وكل ما عرفوه عنه أنه خط أهل اليمن القديم، وأنه خط حمير.وأن قوماً من أهل اليمن بقوا أمداً يكتبون به في الإسلام ويقرأون نصوصه. كما عرفوا القلم الذي دوّن به القرآن الكريم، ودعوه "القلم العربي" أو"الخط العربي" حيناً و "الكتاب العربي" أو "الكتابة العربية" حيناً آخر تمييزاً له عن المسند. ولم يشيروا إلى أسماء خطوط جاهلية أخرى.

وقد تكلم "الهمداني" ومشايخه من قبله عن المسند، كما أشار إليه "ابن النديم"، وذكر أن نماذج منه كانت في خزانة "المأمون". غير أن علمهم به لم يكن متقناً على ما يظهر من نقولهم عنه. كما تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الهمداني". ولم يكن لهم إدراك عن كيفية تطوره. وقد دعوه بالخط الحميري. وعرّفوه بأنه خط مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال "أبو حاتم" هو في أيديهم إلى اليوم باليمن. هذا ولم أجد في المؤلفات الإسلامية المعروفة في هذا اليوم ما يفيد بان أحداً من العرب الإسلاميين كان له علم متقن بالعربيات الجنوبية، أو كان له علم بتأريخ العربية الجنوبية القديم، وفي الذي ذكروه عن الخط المسند وعن لغات العرب الجنوبيين وتاريخهم تأييد لما أقوله.

والعرب تسمي "الكتاب العربي" أي خطنا: "الجزم"، وذكروا أنه إنما سمي جزماً لأنه جزم من المسند، اي قطع منه، وهو خط حمير في أيام ملكهم ولا أستبعد احتمال كون كلمة "الجزم" تسمية ذلك القلم في الجاهلية، وأما تفسير أهل الأخبار لسبب التسمية، فهو من نوع التفاسير المعروفة المألوفة عن اهل الأخبار، يضعونها حينما يجابههم شخص يريد معرفة سبب تسمية شيء بالاسم الذي عرف به. ودليل ذلك ما ذكره "البطليوسي" من أن أهل الأنبار كانوا يكتبون المشق، وأن اهل الحيرة كانوا يكتبون "خط الجزم" وهو خطهم، وهو الذي صار خط المصاحف. و "المشق" في تفسير علماء العربية مدّ حروف الكتابة ومعنى هذا أن خط أهل الأنبار، كان متصل الحروف ممدودها، بينما غلب على القلم الحيري، الشكل التربيعي الجاف ذو الزوايا للحروف. وهو شكل تكون الكتابة به أبطأ من للكتابة بالقلم المشق. ونظيره هو القلم الكوفي في الإسلام، الذي اختص بأنواع معينة من أغراض الكتابة، ومنها الكتابة على الأحجار والخشب. ونظراً لبطء الكتابة به على الغالب لم يستعمل بكثرة في الكتابة.

ولعل سبب اخلاف قلم الأنبار عن قلم أهل الحيرة، هو في المنبع الذي استقى كل من أهل المدينتين قلمه منه. فقد استعمل نصارى العراق في كتبهم الطقوسية القلم "السطرنجيلي"، المشتق من القلم التدمري. وكتبوا به الأناجيل والكتب المقدسة وأحجار المباني، مثل الأحجار التي توضع فوق ابواب المعابد كالكنائس أو البيوت أو القبور وما شاكل ذلك. وهو خط ثقيل يحتاج إلى بذل وقت في نقشه والى جهد في حفره على الخشب أو الحجر، بل وفي الكتابة به أيضاً. واستعملوا قلماً آخر أسرع منه وأسهل وأطوع في الكتابة به من "السطرنجيلي"، كتبت به الأعمال التجارية والمخابرات والرسائل والكتب، كتبوا به بقلم القصب وبالحبر، فكان منه خط النسخ.

هذا وقد كتب النبط بقلمين كذلك: قلم قديم، ثقيل في الكتابة تكثر فيه الخطوط المستقيمة والزوايا والتربيعات فهو على شاكلة "السطرنجيلي"، والخط الكوفي. كتبوا به على الأخشاب والحجارة والمعادن والصخور، حيث حفروا الكتابة حفراً، كما استعملوه في ضرب نقودهم. وهو ثقيل في الكتابة لذلك لم يستعمل في الأغراض اليومية كتدوين المعاملات التجارية والمراسلات وما شاكل ذلك من أمور تستدعي السرعة، بل استخدم الكتاب قلماً آخر لهذه الأغراض، هو القلم المدوّر الذي يشبه النسخ، والذي نستطيع أن نسميه "المشق"، قلم أهل الأنبار. وهو قلم متأخر ظهر عندهم بعد القلم الأول.

ونجد اكثر شعوب الشرق الأدنى على هذه العادة في اتخاذ قلم خاص يكتبون به الكتب المقدسة والأحجار التذكارية، التي توضع فوق أبواب المعابد وفي داخلها أو على القبور للذكرى والتأريخ. لذلك يجتهد فيه أن يكون مزوقاً ذا زوايا وتربيعات وزخرف ونقوش، باعتبار أنه إنما يدوّن للتخليد ولتدوين شيء مقدس ثمين. ومن هذه النظرة تولدت طريقة رسم الحروف الأولى لكلمات الجمل أو عنوان الفصول بحروف بارزة مغايرة للحروف الأخرى التي تدوّن بها الكلمات التالية. واتخذوا أقلاماً أخرى راعوا فيها السهولة والليونة في الكتابة. لتدوين الكتب الأخرى التي لا صلة لها بالدين ولتدوين الأعمال اليومية. جعلوا حروفها مدوّرة أو مقوسة، ليمكن الكتابة بها بسهولة بدون حاجة إلى بذل عناية في رسم خطوطها المستقيمة والمربعة والزوايا التي تكوّن الحروف.

وقد تحدث "الجاحظ" عن الخط، فقال: "وليس في الأرض أمة بها طِرق  

أو لها مسكة، ولا جيل لهم قبض وبسط، إلا ولهم خط. فأما اصحاب الملك والملكة والسلطان والجباية، والديانة والعبادة، فهناك الكتاب المتقن، والحساب المحكم، ولا يخرج الخط من الجزم والمسند المنمنم كذا كيف كان، قال ذلك الهيثم بن عدي وابن الكلبي". فالخط العربي الجاهلي، قلمان: جزم ومسند، ولا ثالث لهما. المسند خط العربية الجنوبية وخط من كتب بهذا القلم من بقية أنحاء جزيرة العرب، والجزم، خط أهل مكة والمدينة وعرب العراق وغيرهم من العرب الشماليين.

ولما كان عرب العراق قد خالطوا بني إرم وأخذوا من ثقافتهم، ومنهم من اعتنق دينهم، فدخل في النصرانية. فلا أستبعد استعمالهما قلمين، أو أكثر في الكتابة. قلم رُوعي فيه ما رآه نصارى العراق في "السطرنجيلي"، والمسمى أيضاً بالخط الرهاوي، وقلم آخر استعملوه للكتابات السريعة. ولا أستبعد احتمال كتابة أهل الأنبار أو أهل الحيرة أو غيرهم من عرب العراق بالقلمين معاً. القلم الذي دعاه البطليوسي بالمشق، وهو على حد قوله قلم أهل الأنبار، والقلم الحيري، وهو الجزم على رأيه أيضاً. ويذكر إن القلم السطرنجيلي قد استنبط في مطلع القرن الثالث للميلاد. وقد استنبطه "بولس بن عرقا" أو "عتقا الرهاوي". وشاع استعماله بين الناس.

هذا وللعلماء المسلمين مؤلفات في تأريخ الخط العربي وتطوره، ولهم نظريات وآراء في منشأ الخط، منها آراء تنسب إلى "ابن الكلبي"، وهو في مقدمة علماء الأخبار في هذا الباب. واليه يرجع أكثر من جاء بعده في رواية أخباره عن منشأ الخط، وعن كيفية تطوره حتى بلغ مبلغه هذا في الإسلام. ومنها آراء تنسب إلى غيره كابن عباس.

ونستطيع تلخيص وجهات نظرهم في منشأ الخط العربي في الملخصات الآتية:

1- كان منشأ الخط في اليمن، ثم انتقل منه إلى العراق حيث تعلمه أهل الحيرة، ومنهم تعلمه أهل الأنبار،ومنهم تعلمه جماعة نقلوه إلى الحجاز. فالأصل، على رأي هؤلاء، هو القلم المسند وكان كما يقولون بالغاً مبلغ الاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف.

2- أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ، وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند، سمي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى "هود".

3- أول ما ظهرت الكتابة العربية بمكة من قبل "حرب بن أمية" وقد أخذها من طارىء طرأ على مكة من اليمن. وقد أخذ ذلك الطارىء علمه بالكتابة من كاتب الوحي لهود.

4- أول من كتب بالعربية اسماعيل. كتب على لفظه ومنطقه موصولاً، حتى فرق بينها ولده هميسع وقيذر.

5- أول من وضع الكتاب العربي نفيس، ونضر، وتيماء، ودومة. هؤلاء ولد اسماعيل، وضعوه موصولاً، وفرقه قادور بن هميسع بن قادور.

6- إن نفيس، ونضر، وتيما، ودومة ؛ بني إسماعيل، وضعوا كتاباً واحداً وجعلوه سطراً واحداً غير متفرق، موصول الحروف كلها، ثم فرقه نبت، وهميسع، وقيذار، وفرقوا الحروف وجعلوا الأشباه والنظائر.

7- كان قلم "الجزم" في نظر بعض العلماء أساس القلم العربي وقد سمي بالجزم، لأن مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، وهم من طيء من بولان، سكنوا الأنبار واجتمعوا فوضعوا حروفاً. مقطعة وموصولة.

فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام. وقد اقتطع مرامر الخط من المسند فسمي الجزم، لأنه جزم أي اقتطع، ولذلك قيل له الجزم قبل وجود الكوفة، فتعلمه منهم أهل الأنبار، وتعلمه منهم أهل الحيرة وسائر عرب العراق، وتعلمه من أهل الحيرة بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق، فتعلم حرب منه الكتابة، ثم سافر معه بشر الى مكة فتعلم منه جماعة من أهلها، فلهذا أكثر الكتاّب من قريش.

8- أول من وضع الخط العربي "أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت"، وهم قوم من الجيلة الأخيرة، وقيل: إنهم بنو المحصن بن جندل ابن يصعب بن مدين، وكانوا نزولا مع عدنان بن أد، فكان "ابجد" ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكلمن وسعفص وقرشت ملوكاً بمدين، وقيل ببلاد مضر، فوضعوا الكتاب على أسمائهم، ثم وحدوا بعد ذلك حروفاً ليست من أسمائهم، وهي الثاء والخاء والذال والظاء والضاد والغين فسموها الروادف.

9- أول من وضع الخط العربي وألف حروفه ستة أشخاص من طسم، كانوا نزولاً عند عدنان بن أدد، وكانت أسماؤهم: أبجد هُوز حطي كلمن سعفص قرشت، فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفاً ليست في أسمائهم ألحقوها بها، وسموها الروادف، وهي ثخذ ضظغ.

10- أول من خط هو: مرامر بن مرة من أهل الأنبار، وقيل إنه من بني مرة. ومن الأنبار انتشرت الكتابة في الناس. ذكروا أن قريشاً سُئِلوا: من أين لكم الكتابة ? فقالوا: من الأنبار.

11- تعلم بشر بن عبد الملك الكتابة من أهل الأنبار وخرج إلى مكة وتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية". وتعلم منه حرب، ومنه ابنه سفيان، ومنه ابن اخيه معاوية بن أبي سفيان، ثم انتشر في قريش، وهو الخط الكوفي الذي استنبطت منه الأقلام.

12- كان الكتاب العربي قليلاً في الأوس والخزرج، وكان يهودي من يهود ماسكة قد علّمها، فكان يعلمها الصبيان، فجاء الإسلام وفيهم بضعة عشر يكتبون، منهم سعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وزيد ابن ثابت، يكتب الكتابين جميعاً العربية والعبرانية، ورافع بن مالك، وأسيد ابن حضير، ومعن بن عدي، وأبو عبس بن كثيم، وأوس بن خولي، وبشير بن سعد.

13- أول من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان، وبولان قبيلة من طيء، نزلوا مدينة الأنبار، وهم مرامر بن مُرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة، ثم قاسوها على هجاء السريانية. فأما مرامر، فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام، ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتعلمه من تعلمه وكثر في الناس وتداولوه.

14- اول من كتب الكتاب العربي، رجل من بني النضر بن كنانة، فكتبته العرب حينئذ.

15- رأى نفر من العلماء إن أهل مكة انما تعلموا الكتابة من إياد أهل العراق وكانوا يكتبون، ورووا في ذلك شعراً زعموا إن "أمية بن أبي الصلت" قائله، منه: قوم لهم ساحة العـراق إذا  ساروا جميعاً والخط والقلم

16- أول من وضع حروف ا ب ت ث نفر من اهل الأنبار من إياد القديمة، وعنهم اخذت العرب.

17- الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة، أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، وقيل حرب بن أمية.

18- من حمير تعلمت مضر الكتابة العربية.

19- أصل الخط العربي من الأنبار، وانما سكن الأنبار والحيرة بقايا العرب العاربة وكثير من المستعربة فنقلوا ذلك.

20- وضع الكتاب العربي عبد ضخم وبيض ولد أميم بالحجاز، ولهم يقول حاجز الأزدي: عبد بن ضخم إذا نسبتـهـم  وبيض أهل العلو في النسب

ابتدعوا منطقاً لـخـطّـهـم  فبين الخط لهجة الـعـرب

21- أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها، آدم - عليه السلام - قبل موته بثلاثماية سنة، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيل - عليه السلام - الكتاب العربي.

22- أول من كتب بالعربية مرامر بن مرة، رجل من أهل الأنبار. ومن الأنبار انتشرت في الناس.

23- تعلمت قريش الكتابة من الحيرة، وتعلم أهل الحيرة الكتابة من الأنبار. وذكر بعض علماء العربية أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحواً ولا إعراباً ولا رفعاً ولا نصباً ولا همزاً.

وهذه هي آراء علماء العربية في اصل الخط عند العرب، وفي كيفية منشئه وظهوره.

وقد ذكر "ابن النديم" مختلف الروايات التي كانت شائعة في أيامه عن القلم العربي. وذكر منابعها أحياناً واهمل ذكرها أحياناً أخرى. وفي جملة من أشار اليهم "ابن عباس"، فنسب إليه قوله إن أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان على نحو ما ذكرت قبل قليل. و "محمد بن إسحق" و "ابن الكلبى"، و "ابن الكوفي"، و "كعب الأحبار" و "مكحول" و "عمر بن شبة" في كتاب مكة، و "ابن أبي سعد". وذكر أنه كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم. فيه حق عبد المطلب على رجل من حمير، عليه ألف درهم فضة كيلاً بالحديدة. وكان خطّه شبه خط النساء. وذكر أن من كتاب العرب أسيد بن أبي العيص. وأن الناس عثروا على حجر كان على قبره كتب عليه اسمه.

ولدينا رأي آخر يقول: "كانت الكتاّب في العرب من أهل الطائف، تعلموها من رجل من أهل الحيرة، وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار". وهو رأي نبع من المنابع المتقدمة.

وقد جزم قوم من العلماء إن أول من كتب بالعربية "مُرامر بن مرّ"، "مرُامر بن مرُّة"، وذهب قوم إن أول من كتب بخطنا "عامر بن جدرة"، وتوقف قوم هل هو خلاف أو يمكن التوفيق. وذهب آخرون إلى إن أول من كتب بالخط العربي عامر بن جدرة ومرامر بن مرة الطائيان، ثم "سعد بن سبل". وقال "شرقي بن القطامي" إن أول من وضع خطنا هذا رجال من طيء منهم مرامر بن مرة. قال الشاعر: تعلمت باجاد وآل مـرامـر  وسودت اثوابي ولست بكاتب

وإنما قال وآل مرامر، لأنه كان قد سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبجد، وهي ثمانية. وأول من كتب بالعربية مرامر بن مرة من أهل الأنبار، ويقال من أهل الحيرة. ويقال انه سئل المهاجرون من أين تعلمتم الخط ? فقالوا: من الحيرة. وسئل أهل الحيرة من اين تعلمتم الخط ? فقالوا: من الأنبار.

والذين يذكرون إن "بشر بن عبد الملك" أخو "أكيدر بن عبد الملك" الكندي صاحب "دومة الجندل"، الذي تعلم الكتابة من أهل الأنبار، وخرج إلى مكة، فتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية" أخت "أبي سفيان"، وعلّم جماعة من أهل مكة الكتابة، فلذلك كثر من يكتب بمكة من قريش، يروون شعراً لرجل من أهل دومة الجندل، زعموا انه قاله إظهاراً لمنة قومه على قريش، هو: لا تجحدوا نعماء بشر عـلـيكـمـو  فقد كان ميمون النـقـيبة أزهـرا

أتاكم بخط الجزم حتى حفظـتـمـوه  من المال ما قد كان شتى مبعـثـرا

واتقنتمو ما كان بالمـال مـهـمـلاً  وطامنتمو ما كان منـه مـنـفـرا

فأجـريتـم الأقـلام عَـوداً وبـدأة  وضاهيتمو كتاّب كسرى وقيصـرا

وأغنيتمو عن مسند الحـيّ حـمـيرٍ  وما زبرت في الصحف أقيال حميرا

فبشر بن عبد الملك، هو الذي نقل "الجزم" إلى "مكة". والجزم هو الخط الذي دوّن به القرآن، أي القلم الذي نكتب به اليوم. فأغنى به أهل مكة عن الكتابة بقلم المسند قلم حمير الثقيل، وصاروا يكتبون بالقلم وبالحبر، على طريقة الفرس والروم يدوّنون به أموالهم. ويظهر من ذلك أن القلم المسند، كان ثقيلاً في الكتابة، ولهذا وجد أهل مكة صعوبة في تدوين أمورهم به، فعدلوا عنه إلى القلم الجزم.

ولو صح هذا الشعر، فإن البيت الأخير منه يدل على أن أقيال حمير وغيرهم كانوا يكتبون بخطهم: المسند على الصحف، وأنه قد كانت عندهم كتابات دوّنوها به بالحبر والقلم على الصحف والأدم ومواد الكتابة الأخرى، ولم يكونوا يكتفون بالكتابة به على الأحجار فقط، لأننا نجد أن كتاباتهم الواصلة الينا إنما قد كتبت بهذه الطريقة حسب. وسبب عدم وصول هذه الصحف الينا، أنها من مادة سريعة العطب، لذلك لم تتمكن من المحافظة على حياتها فذهبت مع أهلها، وقد يعثر على شيء منها مدفون تحت الأرض بصورة يمكن أن يستفاد منها كما استفيد من المسند المنقوش على الحجر.

وورد إن رجلاً قال لابن عباس: "معاشرَ قريش، من أين أخذتم هذا الكتاب العربي قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، تجمعون منه ما اجتمع، وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام ? قال: أخذناه من حرب بن امية. قال: فممن أخذه حرب ? قال: من عبدالله بن جدعان، قال: فممن أخذه ابن جدعان ? قال: من أهل الأنبار، قال: فممن أخذه أهل الأنبار ? قال: من أهل الحيرة، فال: فممن أخذه أهل الحيرة ? قال: من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة. قال: فممن أخذه ذلك الطارئ ? قال: من الخفلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود عليه السلام".

وذكر بعض العلماء إن أول من وضع الخط العربي وألف حروفه وأقسامه ستة اشخاص من طسمٍ، كانوا نزولاً عند عدنان بن أدد، وكانت اسمائهم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، فوضعوا الكتابة والخط على اسمائهم، فلما وجدوا في الألفاظ حروفا ليست في اسمائهم ألحقوها بها، وسّموها الرّوادف، وهي: ثخذ ضظغ.

وذكر بعض اهل الأخبار إن "كلمن" كان رئيس ملوك مدين الذين وضعوا الكتابة العربية على عدد حروف اسمائهم، وقد هلكوا يوم الظلة، فقالت ابنة كلمن ترثي اباها:  

كلمن هدم ركـنـي  هلكه وسط المحله

سيد القوم أتاه الحتف  ناراً وسط ظـلـه

جعلت نار علـيهـم  دارهم كالمضمحله

ويوم الظلة غيم تحته سموم، أو سحابة أظلتهم، فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها مما نالتهم من الحر، فأطبقت عليهم. وقد أشير إلى عذاب يوم الظلة في القرآن الكريم. وذكر أن هذا العذاب أصاب قوم "شعيب" لتكذيبهم رسالته، فرفع الله غمامة فخرجوا اليها ليستظلوا بها فأصابهم بها عذاب عظيم. التهبت عليهم وأحرقتهم. ولما كان أبجد هوز ملوك مدين، وأهل مدين هم قوم شعيب، ربط اهل الأخبار مصيرهم بمصير قوم شعيب، وجعلوا نهايتهم. يوم الظلة، فالكتابة على رأي هؤلاء تعود إلى هؤلاء الملوك، الذين هلكوا بذلك اليوم.

ورويت الأبيات على هذه الصورة: كلمن هدّم ركـنـي  هُلكهُ وسط المحله

سيد القـوم أتـاه ال  حتف تحت ظـلـه

كونت ناراً،وأضحت  دار قومي مضمحله

ووردت على هذه الصورة: كلمن هـدّم ركـنـي  هلكه وسط المحلـه

سيد الـقـوم أتـــاه  الحتف ناراً وسط ظله

جعلت ناراً عـلـيهـم  دارهم كالمضمحلـه

وقد تعرض "المسعودي" لموضوع الحروف، فقال: "وقد كانوا عدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة، فمنهم المسمى بأبي جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقزشت، وهم على ما ذكرنا بنو المحض بن جندل، وأحرف الجمل على أسماء هؤلاء الملوك، وهي التسعة والعشرون حرفاً التي يدور عليها حساب الجمل". "وكان ابجد ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان هوز وحطي ملكين ببلاد وج، وهي أرض الطائف، وما اتصل بذلك من أرض نجد، كلمن وسعفص وقرشت ملوكاً بمدين، وقيل: ببلاد مصر، وكان كلمن على ملك مدين، ومن الناس من رأى أنه كان ملكاً على جميع من سمينا مشاعاً متصلاً على ما ذكرنا، وأن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمن منهم".

وأورد "المسعودي" أبياتاً زعم أن "المنتصر بن المنذر المديني" قالها في هؤلاء الملوك، هي: ألا يا شعيب قد نـطـقـت مـقـالة  أتيت بها عمراً وحيّ بني عـمـرو

هُمُ ملكوا أرض الحجـاز بـاوجـهٍ  كمثل شعاع الشمس في صورة البدر

ملوك بني حُطيّ وسعفص ذي الندى  وهوّز أرباب البنـية والـحـجـر

وهم قطنوا البيت الحرام ورتـبـوا  خطوراً وساموا في المكارم والفخر

وقد وردت في "تاج العروس" على هذا النحو، وقد نسب قولها إلى رجل من اهل مدين، ذكر انه قالها يرثيهم: ألا يا شعيب قد نطـقـت مـقـالة  سبقت بها عمراً وحيّ بني عمـرو

ملوك بني حطّي وهـوّز مـنـهـم  وسعفص اهل في المكارم والفخر

هم صبحوا اهل الحجـاز بـغـارة  كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر

وروي إن "عمر بن الخطاب" لقى أعرابياً فسأله هل تحسن القراءة? فقال: نعم. قال: فاقرأ أم القرآن ? فقال الأعرابي والله ما أحسن البنات فكيف الأم ! فضربه عمر بالدرة وأسلمه إلى الكتاب ليتعلم. فمكث حيناً ثم هرب، ولما رجع لأهله أنشدهم: أتيت مهاجرين فعلموني  ثلاثة أسطر متتابعـات

كتاب الله في رقٍ صحيح  وآيات القرآن مفصلات

فخطّوا لي أبا جاد وقالوا:  تعلم سعفصاً وقريشـات

وما أنا والكتابة والتهجي  وماحظ البنين مع البنات

ويرجع أهل الأخبار "الروادف"، أي الحروف: الثاء، والخاء، والذال، والضاد، والظاء، والغين إلى ايام الملوك المذكورين في بعض الروايات. وهي حروف لم ترد في تركيب الأبجديات السامية القديمة، لأنها غير واردة في أكثر لهجاتها، لذلك وضعها أحل الأخبار في آخر الأبجدية، فأكملوا بذلك الأبجدية العربية. وقد ألحقها الكتاب بها بعد أن تبين لهم بالطبع أن في العربية حروفاً غير موجودة في الأبجدية المذكورة، فأوجدوها بوضع علامات كل الحروف المذكورة التي لم تكن معلمة، فعبرت عن أسماء الحروف الناقصة واستعملوها في الكتابة دون أن يعملوا على إيجاد حروف جديدة للتعبير عن الحروف الناقصة.

ولعلماء العربية مثل "سيبويه" والمبرد والسيرافي وغيرهم آراء في الأسماء المذكورة يفهم منها إن منهم من جعل بعض تلك الأسماء مثل "أبا جاد" و "هواز" و "حطيا" أسماءً عربية، وبعضاً منها مثل: سعفص وكلمن وقرشنات أعجميات. ومنهم من جعلها أعجميات. ويظهر من مراجعة آرائهم هذه انهم كانوا قد عرفوا ترتيب حروف الأبجدية على النحو المتقدم، فلما قرأوها على انها كلمات، كما كان يفعل "بني إرم" وغيرهم في تعليمهم الكتابة والقراءة للمبتدئين تولد عندهم هذا القصص، الذي قد يكون مصدره قصص قديم. ثم تولد لديهم قصص كونهم ملوكاً من مدين، أو رجالاً من أهل الأنبار إلى آخر ما رأيناه من قصص عن منشأ الحروف، ليجدوا بذلك مخرجاً في تعليل تلك التسميات.

وذكر بعض أهل الأخبار أن أول من أتى أهل مكة بكتابة العربية "سفيان ابن أمية بن عبد شمس"، ثم انتشرت.

وترجع أسانيد الروايات المذكورة إلى "عبدالله بن عباس"، و "كعب الأحبار"، و"الشعبي" و "أبي ذر"، و "عوانة"، و "ابن الكلبي"، و "الشرقي بن القطامي"، و "الأصمعي" و "الهيثم ين عدي".

ويظهر من هذه الروايات ومن روايات أخرى أن رأى علماء العربية أن الخط العربي لم يكن أصيلاً في الحجاز، وإنما دخله من اليمن، أو من العراق أو أرض مدين، وأن أهل مكة إنما تعلموه من الأماكن المذكورة، في وقت غير بعيد عن الإسلام، لا يمكن أن يرتقى عنه بأكثر من قرن، إن لم يكن أقل من ذلك، وفقاً لرواياتهم هذه. وأن أقدم من كتب به هم أهل مكة. ولذلك قدم أهل الأخبار خط أهل مكة على سائر الخطوط التي عرفت في الإسلام. وجعلوه أول الخطوط العربية وبعده المدني، أي خط أهل المدينة.

أما أن أصله من اليمن فدعوى لا يمكن الأخذ بها، لأن أهل اليمن كانوا يكتبون بالمسند، والمسند بعيد عن هذا القلم الذي يسميه أهل الأخبار: القلم العربي أو الكتاب العربي أو الخط العربي بعداً كبيراً. وقد بقوا يكتبون بقلمهم هذا زمناً في صدر الإسلام. ثم إن الروايات التي ترجع علم مكة بالخط إلى اليمن، هي آحاد بالنسبة إلى الروايات الأخرى التي تنسب أخذ الخط من العراق.

وأما دعوى مجيئه من مدين، أي من أعالي الحجاز إلى مكة، فدعوى أراها غير مستبعدة. لأن أهل هذه المنطقة كانوا قبل الميلاد وبعده من النبط. والنبط هم عرب. وقد سبق إن تحدثت عنهم. وكانوا يكتبون بخط أخذ من قلم "بني إرم"، حروفه منفصلة ومتصلة، وترتيب أبجديته هو ترتيب "بني إرم" أي "أبجد هوز". وقد طوّروه بعض التطوير، فصار الكاتب يكتب به بالحبر بسرعة، وهو سريع وسهل أيضاً عند حفره على الحجر أو المعدن أو الخشب، ويناسب التاجر و الكاتب ورجل الفكر. وقد وصلتنا كتابات كثيرة كتبتَ به. وفي ضمنها الكتابات الخمسة التي اعتبرها العلماء النموذج الأول والأقدم للكتابات المدونة بلغة قوم كانوا يتكلمون بالعربية، غير إن عربيتهم كانت متأثرة بالنبطية عند الكتابة. أو انهم كانوا يكتبون بالنبطية، غير إن نبطيتهم لم تكن صافية نقية، بل كانت متأثرة بلغتهم اليومية العربية. وفي ضمنها كتابة "النمارة" التي يعود عهدها إلى سنة "328" للميلاد، وكتابة "حرّان اللجا" التي هي أقرب هذه الكتابات إلى عربيتنا. ونظراً إلى ما نجده من تشابه في رسم الحروف بين أقدم الكتابات العربية وبين الخط النبطي، وفي قواعد الإملاء وترتيب الأبجدية، فلا يستبعد أن يكون أهل مكة قد أخذوا هذا الخط فكتبوا به. باحتكاكهم بأهل أعالى الحجاز وبلاد الشام حيث كانوا يتاجرون معهم، أو بمجيء النبط اليهم للإتجار تعلمه أهل مكة منهم.

وذهب الدكتور "خليل يحيى نامي"، إلى أن اصل الكتابة العربية من الحجاز، لما كان للحجاز من مكانة روحية عند العرب ولاشتغالهم بالتجارة. والمكانة الروحية والتجارة تستدعيان القراءة والكتابة أخذوها من التجار النبط الذين كانوا يتوافدون عليهم للاتجار أو من اختلاطهم بالنبط اثناء ذهابهم إلى بلاد الشام. فهو يرى أن الخط النبطي هو والد الخط العربي، ودليله أن ترتيب الحروف على طريقة أبجد هوز، وترتيبها من حيث حساب الجمل، أي جعل كل حرف من حروف أبجد هوز في مقابل رقم حسابي، بردان في عربيتنا على نحو ما ورد عند النبط. مما يدل على إن الخط العربي أخذ من ذلك الخط، أضف إلى ذلك تشابه رسم الحروف المنفصلة والمتصلة في القلمين.

وأما موضوع أخذ أهل مكة خطهم المذكور من العراق، فرأي لا أستبعده أيضاً، فقد كان عرب العراق يكتبون، ولهم مدارس لتعليم الكتابة ملحقة بالكنائس والأديرة، وقد كان بين أهل مكة وبين عرب العراق ولا سيما الأنبار والحيرة اتصال تجاري وثيق، وكان تجار مكة يأتون بتجارتهم إلى الحيرة ويقيمون بها، فلا يستبعد تعلمهم أو تعلم بعضهم الخط من أهل الحيرة ومن أهل الأنبار. كما كان للتبشير يد في نقل هذا الخط إلى الحجاز وربما إلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد كان هؤلاء المبشرون يكتبون بقلم نبطي أو بقلم إرمي متأخر، وهو والد القلم العربي الذي نكتب به. وقد كان المبشرون من أهل العراق نشطون في التبشير في جزيرة العرب، فلا يستبعد إن يكون من بينهم مبشرون حيريون نقلوا الكتابة إلى "دومة الجندل" والحجاز ومواضع أخرى من جزيرة العرب.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى إن كتبة الوحي، إنما كتبوا بخط أخذ من "الجزم"، أي من خط أهل الحيرة. وذلك بحكم اتصال أهل مكة بالحيرة، اتصالاً تجارياً، فتعلموه منهم. فهم يوافقون بذلك بعض الروايات العربية التي ترجع علم أهل مكة بالكتابة إلى الحيرة..

وقد بقي اهل الحيرة يكتبون للولاة، ويقرأون عليهم ما يرد اليهم من رسائل اهل العراق وبلاد الشام، وذلك لحسن خطهم واتقانهم الكتابة. فكان لأبي موسى الأشعري كاتب، ولما سأله "عمر" عن سبب اتخاذه كاتباً من النصارى أجابه: "له دينه ولي كتابته". ولما أراد "عمر" اختيار كاتب حاذق حافظ ذكر له غلام نصراني من أهل الحيرة.

ومما يلفت النظر ويسترعي الانتباه، هو أن المنطقة التي يذكر أهل الأخبار أنها كانت الأرض التي نبت بها الخط العربي، وهي الأنبار والحيرة، لم تعط الباحثين حتى الان أي نص مكتوب. كما أن مكة المدينة الآخذة للخط لم تعطنا أيضاً أي نص جاهلي مكتوب. مع أن نصوص هذه الأرضين تهمنا بصورة خاصة، لما لها من علاقة بالخط العربي الذي نتكلم عنه، وباللغة التي نزل بها القرآن الكريم ونظم بها الشعر الجاهلي، وبالأدب الجاهلي. فلِمَ لم تصل نصوص الينا من العراق ولا من مكة مع أن أهل مكة كانوا يكتبون عند ظهور الإسلام، وكذلك أهل الحيرة كانوا يكتبون، ولهم دواوين في أخبارهم، رجعَ إليها ابن الكلبي، كما نص على ذلك. هل سبب عدم وصولها، أن الذين كتبوا بهذا القلم إنما كتبوا على مواد سريعة التلف وبالحبر، ولذلك، تلفت، ولم تتمكن من العيش طويلاً، كما تلفت مخطوطات أهم منها شأناً مثل النسخ الأولى للقرآن الكريم، والنسخ الأصلية من رسائل وكتب الرسول إلى الملوك والأمراء والى أصحابه. وكذلك خطوط الخلفاء الراشدين وسجلات دواوينهم وما شاكل ذلك من وثائق. قد يكون ما ذكرته هو السبب في عدم وصول نص من هذه الأرضين الينا، وقد تكون هنالك أسباب اخرى. على كل، علينا ألاّ نيأس من المستقبل، فلعل الباحثين سينقبون في باطن الأرض وينبشون الأماكن الأثرية فيجدون أشياء، هي تحت قشرة الأرض في الوقت الحاضر. فيكون من يأتي بعدنا سعداء بالطبع لوقوفهم على أشياء حرمنا من رؤيتها نحن فصرنا في جهل من أمرها، وصاروا هم في نعيم من العلم.

وقد ذهب "جرجي زيدان" إلى إن المضريين الذين تحضروا وأقاموا في العراق وفي بلاد الشام، اقتبسوا الكتابة من جيرانهم، فكتب منهم من كتب بالعبرانية وكتب منهم من كتب بالسريانية، ولكن القلمين النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية، فتخلف عن الأول الخط النسخي "الدارج" وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة. وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة، وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها.

ومعنى ذلك إن السريان في العراق كانوا يكتبون ببضعة أقلام من الخط السرياني، في جملتها قلم يسمونه "السطرنجيلي" كانوا يكتبون به أسفار الكتاب المقدس، فاقتبسه العرب في القرن الأول قبل الإسلام، وكان من أسباب تلك النهضة عندهم وعنه تخلف الخط الكوفي. وهما متشابهان إلى الآن.

ثم تعرض إلى ناقل الخط إلى مكة، فقال: "واختلفوا فيمن نقله إلى بلاد العرب، والأشهر أن أهل الأنبار نقلوه، وذلك أن رجلاً منهم اسمه بشر بن عبد الملك الكندي أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، تعلم هذا الخط من الأنبار وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية، فعلم جماعة من أهل مكة، فكثر من يكتب بمكة من قريش عند ظهور الإسلام، ولذلك توهم بعضهم أن أول من نقل الخط إلى العرب سفيان بن أمية.

ولما أراد ابداء رأيه في أصل الخط العربي جمع بين الرأيين: الرأي القائل أن أصل الخط العربي من العراق، والرأي القائل أن أصله من حوران، فقال: "والخلاصة على أى حال إن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء تجاراتهم إلى الشام، وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل، وظل الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام. والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معاً: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية، كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية، والنبطي لكتابة المراسلات والمكاتبات الاعتيادية. ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي - فضلاً عن شكله - أن الألف إذا جاءت حرف مدّ في وسط الكلمة تحذف، وتلك قاعدة مطردة في الكتابة السريانية، وكان ذلك شائعاً في الإسلام، وخصوصاً في القرآن، فيكتبون "الكتب" بدل "الكتاب"، و "الظلمين" بدل "الظالمين".

والقلم الكوفي هو من أقدم الأقلام العربية الإسلامية. وهو كما ذكرت قبل صفحات، قريب الشبه بالقلم السطرنجيلي، قلم المصاحف عند نصارى العراق، ومن أجل أقلامهم لاستخدامه في كتابة الكتابات الدينية، ومنها الأناجيل. وقد أخذ من القلم الحيري على ما يظهر، لأن أهل الحيرة كانوا يكتبون "الجزم"، والجزم وليد السطرنجيلي، ذلك لأن الكوفة نشأت في خلافة "عمر"، فانتقل إليها في جملهّ من انتقل إليها أهل الحيرة، الكتاب بالقلم الجزم. ولهذا صار قلم الكوفة ثقيلاً في الكتابة ذا زوايا مربعة وحروفاً مستقيمة، والكتابة تميل إلى التربيع. وفد أخذ من "الجزم"، ونسب الى الكوفة لظهوره لأول مرة بها في الإسلام.

ولا يستبعد أيضاً أخذ أهل مكة خطهم المدور المسمى "النسخ" من "حوران " أو من "البتراء" و "العلا" فبين مكة والمكانين المذكورين اللذين سكن بهما النبط اتصال وثيق. أو من الحيرة او الأنبار. فالخط المدور هو قلم النبط المتأخر، وقلم كتبة العراق أيضاً، وهو والد القلم "النسخ". ومن الخطأ اعتبار "النسخ" وليد الخط الكوفي. لأن الخط الكوفي هو الجزم أو قلم آخر مثله اشتق من القلم المربع الزوايا "السطرنجيلي"، بينما النسخ وليد القلم المدور الذي أستطيع تسميته بالمشق مجاراة للبطليوسي، الذى شخصه بأنه قلم أهل الأنبار.

ويرى بعض الباحثين أن القلم العربي قد أخذ من قلم بني إرم. وذلك أن السريان الذين هم من "بني إرم" كانوا قد طوروا القلم الإرمي، وكتبوا بقلمين: قلم قديم كتبت به الأناجيل والكتب المقدسة، وهو المربع، ذو الحروف المستقيمة ذات الزوايا المربعة، الذي هو الخط "الاسطرنجيلي"، وقلم سهل ذو حروف مستديرة أي على شكل أقواس، هو قلم النسخ. وقد عرف العرب القلمين وكتبوا بهما، فسموا السهل النسخ والآخر الكوفي.

وحجتهم في ذلك إن القلم العربي أخذ بترتيب "أبجد هوز حطي"، وهو ترتيب وجد في لغة "بني إرم"، كما أخذ بهذا الترتيب بحساب الجمل. وهو ترتيب موجود عند بني إرم أيضاً. كما أخذ بقواعد من قواعد رسم الحروف في الإملاء موجودة في خط "بني إرم"، مثل قاعدة ربط أو فصل الحروف عند تدوين الكلمة، وقاعدة حذف الألف عند وقوعه في وسط الكلمة، في رحمان ومساكين ويتامى ومساجد وكتاب وابراهيم واسحاق واسماعيل، فإنها كتبت في خط المصاحف بدون ألف. ومثل حذف ألف فاعل وتفاعل في السريانية وفي العربية أيضاً، كما في بارك حيث كتبت "برك" في خط المصاحف، ومثل حذف الألف من ضمير الجمع المتكلم "نا"، كما في "ارسلنك" و "اصطفينه" و "بشرنه"، في موضع "ارسلناك" و "اصطفيناه" و "بشرناه"، وذلك في خط المصاحف، وحذف ألف جمع المؤنث السالم في السريانية وفي العربية، كما "صدقت" و "طيبت"، بدلاً من صدقات وطيبات. ومن هذا القبيل أيضاً، تدوين "شهد" و "كفرين"، بدلاً من شاهد وكافرين. ومثل حذف ياء المتكلم في السريانية وفي القلم العربي القديم، كما في كتابة يرب في موضع يا ربي.

ورأيي إن القول الجزم في أصل قلم أهل مكة، هل هو من العراق أو من بلاد الشام، يجب أن يكون للكتابات. فمتى عثرنا على كتابات مدونة بالعربية بالحيرة أو بالأنبار أو بالأماكن الأخرى من العراق تعود إلى الجاهلية والى صدر الإسلام وعلى كتابات مثلها من حيث الزمن يعثر عليها في بلاد الشام وفي الحجاز أو نجد أو أي مكان آخر من جزيرة العرب، وقارناها بعضها ببعض، وطابقنا فيما بين خطوطها ورسم حروفها وما شاكل ذلك، جاز لنا حينئذ القول بأصل قلم مكة والأقلام الأخرى المشابهة له. وبأصل اللغة التي دونت به، ومزاياها والأماكن التي كانت تتكلم بها. وعندئذ نحل مشكلة أصل اللغة العربية الفصحى أيضاً، وهي من اهم مشكلات تأريخ الأدب الجاهلي ولا شك.

وأما جمهرة المستشرقين المعاصرين الذين عنوا بدراسة تطور الخطوط السامية، ومنشأ الخطوط العربية، فقد رأوا إن الخط العربي الذي دوّن به القرآن أخذ من الخط النبطي المتأخر الذي كان يستعمله النبط، وهو خط تولد من القلم الإرمي المتفرع من الفينيقية على رأي المستشرق "هومل". وقد استعمل في تيماء وبين النبط الذين كانوا يقيمون في أعالي الحجاز وفي سينا. وقد عثر على كتابات دونت في مواضع مختلفة من الحجاز واليمن.

وسند القائلين بهذا الرأي ودليلهم هو عدد من الكتابات عثر عليها السياح، كتبت بلهجة غير بعيدة عن اللهجة العربية التي نزل بها القرآن، وبحروف مرتبطة، وبالقلم النبطي المتأخر الشبيه جداً بأقدم الخطوط العربية ولا سيما الكوفية منها.

ومن مميزاته ارتباط بعض حروفه ببعض وكتابة بعض الحروف في نهاية الكلمة بشكل يختلف عن رسم الحروف التي من نوعها المستعملة في أوائل الكلمة أو أواسطها.

ولهذه الكتابات على قلة عددها أهمية كبيرة لدى العلماء، لما لها من خصائص ومميزات لغوية تفيد في دراسة تطور اللهجات العربية، وفي دراسة تطور القلم العربي. وقد تكون مقدمة لعدد آخر من الكتابات المكتوبة بهذا الخط.

وأقدم هذه الكتابات الكتابة التي يقال لها كتابة "ام الجمال" الأولى ويعود تأريخها إلى سنة "250" أو "270" للميلاد. وقد وضعت شاهداً على قبر "فهر برسلي" "فهر بن سلي" مربي "جديمت" "جدمت" "جديمة" جذيمة ملك "تنوح" "تنوخ"، وعثر عليها في موضع يقال له "أم الجمال"، في جنوب حوران من أعمال شرق الأردن. ويعتقد "ليتمان"، إن تأريخ هذا النقش لا يبعد كثيراً عن تأريخ كتابة أخرى هي كتابة النمارة "ن م ر ت".

ونجد في هذه الكتابة حروفاً غير مرتبطة وحروفاً مرتبطة مشابهة لبعض حروف الخط الكوفي. وقد كتبت بالإرمية، ومع ذلك فإن لها أهمية لوجود أسماء عربية فيها، ولأن القبائل العربية الشمالية كانت تستعمل الإرمية في الكتابة.

وقد عثر الباحثون على كتابات معدودة سبقت هذه الكتابة، دُوّنت بالقلم النبطي أيضاً، هي كتابة عثر عليها في "وادي المكتب" في طور سيناء، يعود تأريخها إلى سنة "106" من سقوط "سلع"، المقابلة لسنة "210" للميلاد، وكتابة ثانية يعود تاريخها إلى سنة "126" من سقوط "سلع" إي سنة " 230 " للميلاد.

وقد وجدت في وادي فران بطور سيناء كذلك، وكتابة ثالثة هي من كتابات "طور سيناء" أيضاً، وقد أرخت بسنة "148" من سقوط "سلع" أي سنة "253" للميلاد، وكتابة رابعة عثر عليها في الحجر، وتأريخها سنة "162" من سقوط "سلع"، أي سنة "267" للميلاد.

ولكن هذه الكتابات بعيدة بعض البعد عن القلم العربي، وأما لغتها فنبطية، وفي نص "الحجر" "مدائن صالح"، وقد حوى كلمات كتبت بقلم ثمودي.

ولذلك فإن له ميزة من هذه الناحية على الكتابات الأخرى، ومنطقة الحجر من المناطق التي عثر فيها على عدد من كتابات قوم ثمود. ونظراً إلى أن نص "أم الجمال" أقرب إلى الخط العربي من الكتابات المذكورة التي سبقته، لذلك قدمته عليها.

وتلي كتابة أم الجمال الأولى في الزمن كتابة النمارة، وقد عثر عليها المستشرق الفرنسي "دوسو" M. Rene Dussaud في النمارة في الحرة الشرقية من جبل الدروز، و "النمارة" قصر صغير كان للروم. وجدها على قبر امرئ القيس الأول ابن عمرو ملك العرب المتوفى في يوم 7 بكسلول من سنة 223، المقابلة لسنة 328 للميلاد، وقد دونت سنة الوفاة، وهي سنة تأريخ الكتابة كذلك وفقاً لتقويم "بصرى" وهو التقويم الذي كان يستعمله عرب هذه الأطراف ونبطها. وتعدُّ هذه الكتابة أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الان مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن، وإِن كتبت بالقلم النبطي المتأخر وباسلوب متأثر بالإرمية.

وعثر على كتابة في خرائب "زبد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة "612" للميلاد "823" للتقويم السلوقي. والمهم عندنا هو النص العربي، ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فإن أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنيسة التي وضعت فيها الكتابة. وقد قرأ العالم "ليدزبارسكي" الكلمة الأولى منه "بسم"، أما الكلمة الثانية، فهي "الإلهَ" فأصبح مطلع النص: "بسم الإلَه"، فإذا كانت القراءة هذه صحيحة، تكون لكلمة "بسم الإلهَ" أهمية كبيرة في موضوع الفكرة الدينية. أما العالم "ليتمن" فقد قرأ الكلمة الأولى منه "بنصر"، فتكون فاتحة النص: "بنصر الإلَه".

وقد دوّن النص العربي على هذه الصورة:

 1 -..م الإلهَ سرحو بر امت منفو وهنى برمر القيس.

2 - وسرحو بر سعدو وسترو وشريحو بتميمى.

ومعناه: بسم الإله. سرحو بن أمت منفو، وهيء بن امرىء القيس، وسرحو بن سعدو، وستر "ستار" "ساتر" وشريح. أتّموا.

والنص العربي، ليس ترجمة للنص السرياني أو اليوناني، لذلك ذهب بعض الباحثين إلى احتمال كونه متأخراً بالنسبة إلى النصين المذكورين، أي انه كتب بعدهما. وهو يتناول تخليد عمل المذكورين في بناء الكنيسة.

وعثر المستشرقون في حرّان اللجا في المنطقة الشمالية من جبل الدروز على كتابة أخرى مدونة باليونانية والعربية قبل لها "نقش حَرّان"، وقد وضعت فوق باب كنيسة، وصاحبها "شرحيل بر ظلمو" "شراحيل بن ظالم" "شرحيل بن ظالم"، ويعود تأريخ الكتابة إلى عام "463" من "الأندقطية الأولى"، وتقابل سنة "568" للميلاد0 أما النص العربي، فقد أرخ بسنة "463" أيضاً، وأضيف إلى هذا التأريخ عبارة "بعد مفسد خيبر بعم" أي "بعام". ومعنى هذا إن حدثاً تأريخياً كان قد وقع في هذا التأريخ بسنة صار الناس هنالك يؤرخون به، فأرخ النص يه. ويرى "ليتمن" إن ذلك يعني وقوع غزو على خيبر ربما قام به أحد ملِوك غسان.

وهذا النص هو من أهم النصوص المتقدمة وأكثرها قيمة بالنسبة لمؤرخ اللغة العربية، لأنه نص دوّن بلهجة القرآن الكريم، باستثناء أثر سهل للنبطية برز عليه. ولأهميته هذه أدوّنه على نحو ما جاء في النص العربي: "انا شرحيل بر"بن" ظلمو بنيت ذا المرطول "سنت" سنة 463 بعد مفسد خيبر "بعم" "بعام". فأنت أمام نص عربي واضح، تفهمه من دون صعوبة ولا مشقة. على حين نجد النصوص الأخرى وقد كتبت بنبطية متأثرة بالعربية الشمالية بعض التأثر. ولهذا فإني أفرّق بين هذا النص وبين النصوص السابقة له، وأعدّه أول نص وصل الينا حتى هذا اليوم كتب بلهجة عربية القرآن الكريم.

وتعد الكتابة التي عثر عليها في موضع "أم الجمال" وقيل لها كتابة "أم الجمال الثانية" تفريقاً لها عن كتابة أم الجمال الأولى، أحدث ما عثر عليه من كتابات بهذا القلم الذي نتحدث عنه، وباللهجة النبطية المتأثرة بلهجة القرآن، أو باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن. وهي لا تحمل تأريخاً. غير أن من عالج أمرها من المستشرقين يرى أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد. ولغتها قريبة من اللغة العربية المعروفة، كما أنها متحررة من النبطية والإرمية إلى حد كبير.

وعثر في اليمن على بعض كتابات نبطية لعلها من آثار التجار النبط الذين كانوا يذهبون إلى اليمن بقصد التجارة، ولا سيما في القرنين الأولين للميلاد، أو من آثار تجار أهل الحجاز أو من أهل اليمن، كانوا قد تعلموا الكتابة بهذا القلم الذي أخذ ينتشر بعد الميلاد لأنه أسهل في الاستعمال من المسند الذي يحتاج إلى دقة في الرسم، والى بطء في الكتابة. ولوحظ أن إحدى هذه الكتابات كتبت بالقلم النبطي المتأخر الذي يشبه القلم الذي استعمل في نقش "فهر بن سلي".

ولكن العلماء لم يتمكنوا من العثور على عدد كاف من الكتابات المدونة بهذا القلم، تكفي لإصدار حكم علمي عن وقت دخول القلم النبطي المتأخر إلى الحجاز واليمن ومدى انتشاره بين الناس. ولما كان القلم النبطي المتأخر قد ظهر بعد الميلاد على رأي أكثر العلماء، يكون هذا الخط قد وصل الحجاز واليمن بعد الميلاد بالطبع بالاتصال التجاري والقوافل التي كانت تقوم برحلاتها بين اليمن وبلاد الشام، وبواسطة النصرانية التي وجدت لها سبيلاً إلى اليمن.

ويلاحظ أن الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي، الذي أخذ منه قلم مكة، هم من العرب النصارى في الغالب، فأهل الأنبار، والحيرة، وعين الشمس، ودومة الجندل، وبلاد الشام، كانوا من النصارى، فلا استبعد احتمال استعمال رجال الدين للقلم السرياني المتأخر، الذي كوّن القلم النبطي في كتابة العربية، لحاجتهم إلى الكتابة في تعليم أولاد النصارى الكتابة، وتثقيفهم ثقافة دينية، فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس، وربما نشروها في البحرين، أي في سواحل الخليج حيث كانت هنالك جاليات نصرانية، وفي الأماكن الأخرى من جزيرة العرب التي كانت النصرانية قد وجدت سبيلاً لها بينها، ولا استبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات مطمورة كتبت بهذا القلم.

وتفيدنا دراسة شكل خط هذه النصوص فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الخط العربي، فبين رسم هذه الخطوط وبين رسم أقدم الخطوط العربية الاسلامية تقارب كبير، يشير إلى اشتقاق القلم الذي دوّن به الوحي من هذا القلم، وهو القلم الذي كان يكتب به عرب العراق كذلك على ما أرى. وهو قلم وصل بين حروفه، وفصل في مواضع أخرى. وهو يختلف بذلك عن القلم المسند الذي استعمل حروفاً منفصلة فقط، ولم يعرف الحروف المتصلة، كما إن شكل حروفه بعيد جداً عن شكل حروف هذا القلم، وهو أسهل وأسرع في الكتابة على الكاتب من المسند.

ونرى في هذه الصورة التي تضم رسم الحروف في الخط النبطي المتأخر والقلم العربي القديم، تشابهاً كبيراً في الشكل، ينبئك بوجود نسب بين القلمين، وان القلم العربي القديم، قد تولد منه. ولا أستبعد إن يكون قلم أهل الحيرة هو هذا القلم نفسه، استعملوه في تدوين العربية. وقد رأينا إن النصوص القليلة المكتوبة بنبطية متأثرة بالعربية، قد كتبت بهذا القلم، وبينها نص "النمارة" الذي هو شاخص قبر "امرئ القيس" أحد ملوك الحيرة.

وإني لا أستبعد احتمال عثور المنقبين والباحثين في المستقبل على كتابات عربية قديمة تعود إلى الجاهلية الملاصقة للاسلام والى أيام الرسول بكثرة تمكن العلماء من وضع رأي واضح عن منشأ وتطور الخط العربي القرآني.

وقد استعملت جملة "الخط العربي القرآني"، لأن القرآن هو في الواقع صاحب الفضل على هذا الخط في تخليده وتثبيته لأمر الرسول بتدوين الوحي به، أي بهذا القلم العربي القديم الذي أتحدث عنه، الذي أخذه اهل مكة عن اهل "الحيرة"، أو عن "بشر بن عبد الملك" السكوني، من "دومة الجندل"على رواية أهل الأخبار. واني أرى إن للبحث عن الكتابات العربية القديمة في الحجاز وفي "دومة الجندل" و "الحيرة" و "الأنبار" و "عين التمر"، وفي القرى العربية الأخرى التي أقيمت على الفرات وفي بلاد الشام أهمية كبيرة بالنسبة لبحثنا في تأريخ نشوء وتطور الخط العربي القرآني، لأني اكره الطرق التي يأخذ بها بعض الباحثين من اللجوء إلى الحدس والظن في وضع آراء علمية قاطعة ومهمة، مثل الخط ومنشئه وتطوره وما شابه ذلك، لمجرد رأي ورد عند أهل الأخبار، أو ظن مال إليه عالم، وعندي إن آراءاً مثل هذه يجب ألا تقال إلا باستناد على دليل مادي ملموس، مثل أثر، أو مصدر تأريخي قديم محترم.

والصورة التي نراها في الصفحة المقابلة تمثل نماذج من القلمين: القلم النبطي المتأخر، والقلم العربي القديم، مأخوذة من مختلف الصور الأصلية التي عثر عليها العلماء في مختلف الأنحاء من العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب.

ويرى المستشرق "وايل" Weil أن الترتيب الذي يرد للحروف العربية على طريقة: "أبجد هوز حطي... الخ"، هو ترتيب أخذه العرب من النبط أو اليهود، وقد أخذه النبط والعبرانيون من القلم الإرمي. وتشير هذه الطريقة بكل جلاء إلى اشتقاق القلم العربي من القلم النبطي المتفرع عن الخط الإرمي. اما الترتيب الذي عند الكنعانين، فهو هذا الترتيب مع زيادة الأحرف التي اقتضى وجودها في طبيعة لغتهم. ويرى بعض العلماء أن العبرانيين أخذوا ترتيبهم هذا من الكنعانيين. ونجد هذا الترتيب عند الفينيقيين أيضاً، ولهذا يرى بعض الباحثين أن العبرانيين والآراميين أخذوا الكتابة من الفينيقيين، وأخذوا منهم استعمال الحروف للعدد أيضاً، على نحو ما نجده في العربية من استعمالها في حساب الجمل.

وقد وضع علماء العربية بعد "قرشت" التي يمثل حرف "التاء" فيها آخر حروف الأبجدية التي بلغ عدد حروفها اثنان وعشرون حرفاً، الحروف التي لم ترد في هذه الأبجدية، ولكنها ترد في العربية، ودعوها ب "الروادف". وضعوها بصورة ينفي عنها كل نشاز قد يظهر بين رسمها ورسم الحروف الأخرى، وذلك باعتمادهم على تكرار الحرف، وبذلك أولدوا الروادف المذكورة.

ويظهر من الروايات العربية القديمة أن كتاّب الجاهلية المتصلة بالإسلام وكتاب صدر الإسلام كانوا يسيرون في تعلم الكتابة على طريقة "أبجد هوز" أي على طريقة الآراميين والنبط والعبرانيين. وقد ورد في الأخبار أن الناس في أيام "عمر ابن الخطاب"، كانوا يتعلمون الكتابة على طريقة "أبجد هوز". قال "القلقشندي": "وقد جاء أنها كانت تُعلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويشهد لذلك قول الأعرابي في أبياته: أتيت مهاجرين فعَلَّموُنـي  ثلاثة أسطر متتابعـات

وخطّوا لي أبا جاد وقالوا:  تعلّم سعفصاً وقريشات"

والترتيب الذي يعمل به الآن في البلاد العربية من الابتداء بالألف ثم بالباء، فالتاء، فالثاء، فالجيم، فالحاء، فالخاء... هو ترتيب وضع في زمن "عبد الملك بن مروان"، عمل به "نصر بن عاصم"، و "يحيى بن يعمر" العدواني. وقصد به ضم كل حرف إلى ما يشبهه في الشكل، وقد ساّد هذا الترتيب ومشى. وجرى عليه اصحاب الصحاح ولسان العرب والقاموس، وتاج العروس،وأصحاب معاجم اللغة في هذا اليوم.

أما ما ورد في بعض الروايات من إن "أبا ذر الغفاري" سأل رسول الله عن الحروف، فقال له انها تسع وعشرون، وانها نزلت على ترتيب: "1 ب ت ث ج"، أي على الترتيب الذي نسير عليه فيَ الوقت الحاضر، وانه عجب من قول الرسول له انها تسع وعشرون، لأن حروف العربية هي ثمان وعشرون، ومن تأكيد الرسول له انها تسع وعشرون، نزلت كلها على آدم. فخبر غير صحيح ولا يُعوّ ل عليه، وهو موضوع، لما ذكرته من إن الترتيب المذكور انما ظهر في الإسلام.

هذا وإن مما يؤسف له كثيراً اننا لا نملك اليوم كتابة واحدة من الكتابات المدونة في أيام الرسول، ولا نملك أي نسخة من نسخ القرآن أو من صحفه المدونة في ايامه. فلا نملك اليوم نسخة حفصة للقرآن الكريم، ولا نسخة "عثمان ابن عفان" ولا النسخ التي دونت بأمره لتوزع على الأمصار، ولا أية نسخ أخرى من النسخ التي دوّنها الصحابة لأنفسهم. ولا نملك النسخ الأصلية للمراسلات التي كان يأمر الرسول بتدوينها لترسل إلى الملوك أو سادات القبائل والأمراء.

نعم يقال إن هناك نسخاً من المصاحف ترجع إلى ايام الخلفاء، وقد دوّن بعض منها بأقلام أجلةّ الصحابة، وان هناك بقية من رسائل الرسول وان هناك كتابات يرجع تأريخها إلى ايام الرسول، ولكن المتبحرين في العلم العارفين بكيفية تثبيت أعمار الوثائق لم يتمكنوا من البت في صحة هذه الدعاوى، ولم يقطعوا بصحة هذه الوثائق. لذلك فليس لنا أمام هذه الحجج التي أبديت عن هذه الآثار سوى التحفظ والتوقف عن ابداء رأي فيها، فلعل الأيام تهيئ للقادمين من بعدنا وثائق جديدة تعود الى الأيام التي نبحث فيها.

هذا وان من الممكن التثبت في الوقت الحاضر من صحة الوثائق المنسوبة إلى أيام الرسول أو أيام من جاء بعده، بعرضها على الفحوص المختبرية الحديثة، التي باستطاعتها تقدير أعمارها، وتثبيت أسنانها، ولكني لا أعلم إن أحداً عرض هذه الوثائق لمثل هذه الفحوص.

هذا وللمادة التي دونت عليها تلك الكتابات ولندرة الورق إذ داك ولغلاء ثمنه، ولعدم ادراك الناس في ذلك الوقت لأهمية حفظ الوثائق، ولتعرض تلك الوثائق إلى عوامل عديدة من عوامل التلف والبلى مثل الحريق والماء والأرضة وما شاكل ذلك، دخل ولا شك في اختفاء الخطوط القديمة التي دونت في الجاهلية المتصلة بالاسلام وفي صدر الإسلام، مما أضاع علينا فوائد كثيرة كنا سننتفع بها لو كنا نملك تلك الوثائق، ولكن من يدري فلعل الأيام ستعطف على الباحثين المساكين المتعطشين دوماً إلى الوقوف على أخبار الماضين، فتقدم لهم وثيقة أو جملة وثائق تكون خير هدية لهؤلاء، لا يوازيها في نظرهم اي ثمن من الأثمان التي تقاس بالورق وبالجنيهات أو الدولارات. ولكني أود أن أبين إن هذه الحقبة من الجاهلية المتصلة بالاسلام وكذلك أيام الرسول وأيام الخلفاء الراشدين هي حقبة شحيحة جداً بالكتابات، فما عثر عليه من الكتابات فيها محدود، مع انها من أهم الأزمنة بالنسبة لنا لأنها ذات صلة وعلاقة مباشرة بظهور الإسلام. وينطبق ما أقوله هنا على كتابات المسند كذلك وعلى الكتابات المدونة باللهجات الجاهلية الأخرى، ولجميعها اهمية كبيرة بالنسية للمؤرخ الذي يريد شرح تأريخ تلك الأيام التي ظهر فيها الإسلام. وفي جملة هذا التاريخ تأريخ تطور الخطوط العربية.

واذا كان ما ذكره الدكتور "م. حميد الله" عن الكتابات التي وجدها على الطرف الجنوبي لجبل سلع في المدينة المنورة، والتي يرى ان تأريخها يرجع إلى غزوة الخندق، ايَ إلى السنة الخامسة من الهجرة، صحيحاً من الوجهة العلمية، فإننا نكون أمام أقدم كتابات عثر عليها حتى الآن بعربية القرآن الكريم. وهي ستفيد الباحثين ولا شك في التعرف على تأريخ تطور الخط العربي، وعلى أساليبه. وربما يعثر الباحثون في المستقبل على كتابات قد تكون أقدم من هذه أو من أيامها، لأن البحث عن الكتابات والآثار بصورة منتظمة وعلمية لم يأخذ مجراه في الحجاز حتى الآن.

وأشار "عثمان رستم" Osman R. Rostem إلى وجود كتابات بخط كوفي وبخطوط عربية أخرى في جبل سلع وفي وادي العقيق وعند جبل أحد وفي مواضع أخرى في مؤلفه عن الكتابات المدونة على الصخور في الحجاز، لكنه لم يشر إلى تواريخ تلك الكتابات ولم ينشر صورها كلها هذا وقد أشار غيره إلى وجود هذه الكتابات. إلا أن أكثر ما كتب عن هذا الموضوع، لم يكتب بقلم أصحاب الاختصاص ولم يصور تصويراً جيداً أو يدرس دراسة علمية في مكان وجوده. ثم إن معظم الكتابات لا تزال مهملة غير مصورة ولا منقولة مستنسخة، لذلك فإن إبداء رأي علمي عن أصلها وتطورها غير ممكن في الوقت الحاضر. ولعل الحكومة السعودية ستهتم بهذه الناحية المهمة، فترسل إلى الباحثين العرب والمسلمين أو المستشرقين تستفتيهم في أمر هذه الكتابات. بعد أن تطلب من المتخصصين دراستها في مكانها وأخذ صور جيدة لها، وطبع نسخ بواسطة الجبس أو بوسائل أخرى لهذه الكتابات، ليكون من الممكن دراستها دراسة علمية.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق