إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1761 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة الاشهر الحرم


1761

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
       
الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة

الاشهر الحرم

قسّم الجاهليون شهور السنة إلى قسمين: أشهر اعتيادية هي ثمانية شهور. وأشهر أربعة حرم مقدسة خصت بآلهتهم، لا يجوز فيها قتال ولا بغي ولا انتهاك لحرمات. وكانوا يقاتلون في الشهور الثمانية يغزون بعضهم بعضاً، ويغيرون بعضهم على بعض. ثم يتوقفون عن القتال في الشهر الحرم الباقية.

والأشهر الحرم هي أربعة: ثلاث متواليات سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر منفرد هو شهر "رجب". فهي ثلث السنة اذن. وكان الجاهليون يعظمونها، ولا يستبيحون القتال فيها، حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه، استعظاماً لحرمة هذه الأشهر التى هي هدنة تستريح فيها القبائل فتنصرف الى الكيل والامتيار والذهاب إلى الأسواق وهي آمنة مستقرة لا تخشى اعتداءً ولا هجوماً مفاجئاً. وتحريم هذه الأشهر ضرورة من الضرورات استوجبتها طبيعة الحياة في البادية، فأهل البادية بما هم فيه من فقر وضنك عيش، يتنافسون فيما بينهم ويتقاتلون على الكلأ والماء وعلى أخذ حق المرور من القوافل وعلى الغزو والغارات يعيشون. وحياة عاصفة هذا شأنها لا بد لها من فترة تستريح فيها، وتمتار فيها، وتصفيّ فيها حسابها بدفع أثمان الديات بهدوء وبتسوية المشكلات بالمساومة والمفاوضة، وتلك الفترة هي الأشهر الحرم.

هذا ما يذكره ويرويه العلماء عن الشهور بصورة عامة. ويجب حمل كلامهم هذا على قريش ومن والاها، وعلى القبائل التي كان للعلماء اتصال بها وعلم بأخبارها أما القبائل البعيدة عنهم، والقبائل التي لم يتصلوا بها اتصالاً وثيقاً، فنحن لا نستطيع أن ندخلهم في هذا الكلام فنقول انهم كانوا يحرمون أشهراً ويحرمون أخرى، لعدم وجود دليل لدينا يثبت ذلك، وسنبقى على رأينا هذا حتى يظهر لنا دليل يؤيده أو ينفيه.

والمذكورون قوم يحرمون إذن شهوراً ويحلوّن أخرى، لا يقاتلون ولا يغزون في شهور، حرمة وتقديساً لها، إلا عن ضرورة ولجاجة، ويقاتلون ويغزون في الأشهر الأخرى المتبقية من السنة، فيقصرون نشاطهم في الغزو وفي الأخذ بالثأر على أشهر الحل فقط.

قال "الطبري" في تفسيره الآية: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد(: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم، وهي الأربعة التي عددت لك، يعني عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيعاً الأول، وعشراً من شهر ربيع الآخر، وقال قائلو هذه المقالة: قيل لهذه الأشهر الحرم، لأن اللّه عز وجل حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعرض لهم إلا بسبيل خير". وقال "النيسابوري" في تفسيرها: "واختلفوا في الأشهر الأربعة، فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، والمراد: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرماً على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدة من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان.

ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة". فدخل صفر وربيع الأول وربيع الآخر في الأشهر الحرم،حسب هذه الروايات.. مع. أنها ليست من الأشهر الحرم المقررة المعروفة عند الجاهليين. وقد رأيت تعليل ذلك في تفصير "النيسابوري" لها، وهو فعل عامل النسيء.

ولما وصل "الطبري" إلى الآية: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، يوم خلق السموات والأرض. منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم(، قال: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً. منها أربعة حرم متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وهو قول عامة أهل التأويل، وقال "النيسابوري": " منها أربعة حرم: ثلاثة سرد، أي مسرودة: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد هو رجب". وورد في خطبة الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهراً. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان". فهذه هي الشهور الحرم. أما ما تقدم، فقد كانت محرمة بموجب ما كان قد وقع عليها بفعل النسيء.فقد كانت العرب قد نسأت النسيء، فكانوا يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة.

وعرف المحرمون للاشهر الحرم ب "المحرمين"، وب "البسل" أيضاً. ذكر إن من معاني "البسل": الحرام والشجاعة، وهي معاني نجدها في لفظتي "حمس" و "حرم". وذكر علماء اللغة، أن "البسل ثمانية أشهر حرم كانت لقوم لهم صيت. وذكر انهم من غطفان وقيس. يقال لهم: الهبا آت"، وذكر أن البسل: "بني عامر بن لؤي"، أو "عوف بن لؤي"، أو "مرة بن عوف بن لوى". وكانوا يحرمون ثمانية أشهر من السنة. وقد امتنعت بعض القبائل من الاغارة عليهم في هذه الأشهر. فالبسل اذن جماعة تعظم ثمانية أشهر من السنة، وتحرمها فلا تقاتل فيها. فهم يختلفون اذن عن "المحرمين" من قريش ومن دان بدينهم في انهم يحرمون ثمانية أشهر من أشهر السنة ويحلون الأربعة الباقية، أي على العكس منهم، يفعلون ذلك تعمقاً وتشديداً.

والبسل كما يتبين من تفسير علماء اللغة لها: الحرام. ولهذا قالوا: الإبسال: التحريم. ومن ذلك قيل للأشهر الحرم "البسل". وهي الأشهر الثمانية التي حرمها قوم من "غطفان" و "قيس". وبهذا المعنى وردت في قول الأعشى: أجارتكم بسل علينا محرم  وجارتنا حلّ لكم وحليلها

وذكر أنها تعني الحرام وأيضاً الحلال. وهي من الأضداد فنحن اذن امام طائفتين من العرب المحرمين للشهور. طائفة إقتصرت على تحريم أربعة أشهر من السنة، جعلتها أشهراً حرماً. وطائفة جعلت عدة الشهور الحرم ثمانية، وعدة الشهور الحل أربعة، وهم أقل عدداً من الطائفة الأولى.

ولكننا نجد طائفة أخرى من الجاهليين، استهترت في بحرمة كل الأشهر، فلم تحرم أي شهر من شهور السنة، ولم تعترف لها بقدسيته، وساوت بين جميع أشهر السنة، بأن أحلتها كلها، فعرفوا بالمحلين وهم عكس "المحرمين". فقد نص أهل الأخبار على وجود قوم من العرب هم: خثعم وطيء، ذكروا أنهم كانوا يستحلون الأشهر الحرم فيقاتلون فيها، ولا يقدسونها ولا يرعون للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة. و ذكر بعظهم أن أحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب كانوا على مذهب هؤلاء. فهم لا يفرقون بين الأشهر،،لا يميزون بينها، وهي كلها في نظرهم سواء. فلا يؤمنون بوجود أشهر حرم مقدسة، ولا بوجود أشهر حل، بل الأشهر عندهم كلها حلال. ولا يمتنعون من القتال في أي يوم أو شهر من السنة. فهم اذن على نقيض "المحرمين" للاشهر المعظمين للحرم وللاشهر الحرم، قوم لا عهد لهم ولا ذمة بالنسبة إلى شهور السنة.

والظاهر إن "المحلين" كانوا يتحارشون بالمحرمين وبغيرهم في الأشهر الحرم، ولما كان من شرع "المحرمين" الامتناع عن القتال في تلك الأشهر، فللدفاع عن النفس أباح النسأة لمقلديهم المحرمين مقاتلة المحلّين إذا تعرضوا لهم. إذ جاء: "كان الذين ينسأون الشهور أيام الموسم يقولون: حزمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين. فكانت العرب تستحل دماءهم في هذه الشهور".

وجاء: "وإني قد أحللتُ دماء المحلين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا اعرضوا لكم".

ويجب أن نضيف على هؤلاء طائفة من العرب من ذي البانة والصعاليك وأصحاب التطاول، وأمثالهم ممن كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للأشهر الحرام قدراً.

فكانوا يغيرون في هذه إلأشهر ويحلون القتال فيها وفي كل وقت، كما كانوا لا يؤمنون على الحرم. فإذا وجدوا فرصة مرقوا في الحرم وأخذوا ما يقع في أيديهم دون استحياء ولا مبالاة بحرام وحلال، نظراً لما هم فيه من جوع وفاقة وحاجة، دفعتهم إلى الكفر بكل قانون وعقيدة وعرف.

ويجب أن نضيف إلى المحلين العرب الذين لم يكونوا على دين أهل الشرك، مثل النصارى واليهود، فقد كانت النصرانية قد وجدت سبيلها بين تغلب، وشيبان، وعبد القيس، وقضاعة، و غسان، وسليح، والعباد، و تنوخ، و عاملة، ولخم، وجُذام. وكثير من بلحارث بن كعب، وبعض طيء وتميم. فهؤلاء لم يكونوا على شرك، لذلك لم يراعوا حرمة تلك الأشهر، ولم يحجوا إلى محجات المشركين، وإنما كانوا يتقربون إلى قبور شهداء الكنيسة والى أضرحة القديسين، ولهم أعيادهم الخاصة بهم لا يقاتلون فيها إلا دفاعاً عن نفس، ولم يقم اليهود كذلك لتلك الأشهر المقدسة حرمة، إذ كان السبت، يوم راحة بالنسبة لهم، لا يحل فيه قتال، وكذلك كانت أعيادهم أيام حرمة، لا يجيزون فيها قتال، أي مهاجمة أحد، إلا إذا هوجموا، فيحل عندئذ لهم القتال دفاعاً عن نفس، ولما وقعت المناوشات بينهم وبين المسلمين كانوا يتجنبون فيها القتال أيام السبت و الأعياد.

وذكر أن قريشاً، كانت لا تتاجر إلا من ورد إليها في مكة في الأشهر الحرم.

لا تبرح دارها ولا تتجاوز حرمها. و ذلك لتحمسها في دينها والحب لحرمها. وكانت تخاف على تجارتها من لصوص الطرق وصعاليك الأعراب وطلاب الطلائب وذؤبان العرب، لأنهم كانوا يرون للشهور الحرم حرمة، ولا للشهر الحرم قدراً، ولا للحرم حرمة، فأعطت الإيلاف، والفت القبائل، وقاومت بذلك المحلين. وقد قسّم "المرزوقي" العرب إلى ثلاثة أهواء بالنسبة إلى أشهر الحج. منهم المحلوّن، الذين كانوا يستحلون الكعبة والأشهر الحرم ويسرقون ويقتلون في "الحرم"، ومنهم من يحرم الشهور الحرم، ومنهم "أهل هوى" على شرع "صلصل". وهو "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف" من بني عمرو بن تميم". وهو الذي أحلّ للعرب قتال المحلين في الأشهر الحرم. وكان من حكام العرب ومفتوهم وممن اجتمع له الموسم. والقضاء في عكاظ.

والمحرمون هم: الحمس والحلة. أما "المحلون"، فالقبائل التي لم تحترم حرمة الكعبة ولا الاشهر الحرم، اي أولئك الذين اًباح النسأة دمهم، وجوّزوا قتالهم في الأشهر الحرم. وأما اولئك الدين كانوا على شرع "صلصل"، فلا ندري مذهبهم وهواهم، فلم يتحدث "المرزوقي" عنهم. وقد كان "صلصل" ممن اجتمع له الموسم وقضاء عكاظ من بني تميم. ولم يذكر "ابن حبيب" الأمور التي أوجدها وأحدثها، حتى كون له طائفة خاصة لها رأي في الحرم و في الأشهر الحرم.

وتجويز مقاتلة "المحلين" في الأشهر الحرم، هو دفاع عن النفس، وضرورة واجبة. لذلك نص عليه النسأة في أمرهم السنوي الذي يعينون فيه "النسيء" في الموسم، ليقف الناس على موعد الأشهر الحرم ومكانها من السنة في السنة المقبلة. إذ لا يعقل بالنسبة للمحرمين الامتناع من قتال مقاتل في الأشهر المذكورة، لأنها أشهر حرم مقدسة. وإلا عرّضوا أنفسهم واهلهم وأموالهم إلى التهلكة، خاصة وان المقاتلين هم من أهل عقيدة مخالفة لعقيدتهم تمام المخالفة، فشرعة الدفاع عن النفس أباحت لهم حق قتال المحلين.

ويلاحظ إن شهري ذي القعدة وذي الحجة هما الشهران الأخيران من السنة، يليهما في الحرمة الشهر الأول من السنة الجديدة وهو المحرم، فهذه الأشهر الثلاثة هي في الواقع زمن واحد متصل. أما "رجب"، فهو الشهر الوحيد المنفرد بالحرمة. ولذلك عرف ب "رجب الفرد"، و "بالفرد". وقد علل أهل الأخبار سبب ذلك بقولهم: "وانما كانت الأشهر المحرمة: أربعة. ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً، وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال. وحرم شهر ذي الحجة، لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك. وحرم بعده شهراً آخر، وهو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره، ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً".

ولكن تعليل أهل الأخبار لحرمة "رجب" التعليل المذكور لا يتناسب مع تعليلهم لحرمة الأشهر الثلاثة المحرمة، فإذا كانوا قد حرموا ذا القعدة والمحرم بسبب الاستعداد للحج، وبسبب العودة منه إلى ديارهم كما زعموا، فإن تحريم "رجب" بسبب مجيء العرب فيه من أقصى جزيرة العرب للعمرة فيه، يستوجب أيضاً اعطاء المعتمرين مدة مناسبة قبله وبعده للاعتمار فيه، حتى يضمنوا ذهابهم إلى مكة وعودتهم منها بأمان، فالسفر سفر واحد لا يتغير من حيث الطول أو القصر في موسم الحج أو في موسم العمرة، لأن المسافات لا تتبدل بتبدل الطقوس الدينية، ولو عللنا سبب اطالة تحريم الأشهر الثلاثة بسبب الحج ووجود الأسواق، اي لعوامل اقتصادية ومنافع مادية، جاز قبول هذا التعليل، ولكن لِمَ لم يفعلوا هذا الفعل بالنسبة لرجب، الذي تحتاج العمرة فيه إلى مدة أطول من الشهر للوصول في خلالها من أقصى مكان في جزيرة العرب الى مكة، والعودة منها إلى مواطنهم، إذ لا يعقل أبداً بلوغ مكة والعودة اليها سالمين ألى مواطنهم في العربية الجنوبية أو الخليج أو العراق في خلال شهر واحد، بل هو في نظري زعم من مزاعم أهل الأخبار. وما كان الحج إلى مكة إلا من القبائل القريبة منها، وإنما صار الحج إليها عاماً ومن كل مكان في الإسلام وبفضله وحده. وعندي أن شهر رجب، كان شهراً مقدساً محرماً، تعتر فيه العتائر، عند قبائل مضر وقبائل ربيعة، وهما حلفان في الأصل، وقد تناول قبائل مجاورة، ثم انفصل، فصار ربيعة ومضر. وفي هذا الشهر كانوا يتقربون إلى "الله" بالعتائر، ومنهم من يعتمر، فيبقى بمكة ما يشاء، ولم تكن العمرة على شاكلة الحج من حيث العدد والكثرة، بل كانت قاصرة على المتمكنين الذين لهم عهود ومواثيق. مع أهل مكة وغيرها من سادات قبائل مضر وربيعة، فلا خوف على أمثال هؤلاء من الرجوع إلى وطنهم في أي وقت شاؤوا، إذ لا يطمع فيهم طامع بسبب ما كانوا يحملونه من تجارة، كالذي كان يفعله التجار الذين يذهبون إلى الاتجار بالأسواق وفي جملتها. سوق مكة في موسم الحج الذي هو تجارة وحج، لأنهم كانوا من عامة القبائل ومعهم تجارة، فكان من الضروري تطويل الموسم ليكون أمناً لهم يحميهم من الأذى إلى عودتهم إلى مواطنهم.

وفي هذه الأشهر الحرم تعقد الأسواق مثل سوق عكاظ وذي المجاز وذي المجنة ودومة الجندل وغيرها، فيقصدها الناس من مواضع بعيدة،وتكتظ أرضها بجموع غفيرة لم تكن تقصدها في غير هذه "المواسم".

وقد عرف شهر "ذو القعدة" بهذا الاسم، لأن الناس - كما يقول علماء اللغة - كانوا يقعدون فيه عن الأسفار والغزو والميرة وطلب الكلأ ويحجون في ذي الحجة. وهو تفسير أخذ من ظاهر التسمية، ودليل ذلك قولهم: "لقعودهم فيه عن القتال والترحال". فالقعود فيه عن القتال جائز بالنسبة للمحرمين، ولكن قعودهم عن الترحال خطأ، إذ كانوا على العكس يتهيأون فيه للاسفار الى الاتجار والحج، فهو شهر ترحال لا شهر قعود وجلوس.

وأما "ذو الحجة"، فقد عرف بذلك لايقاعهم الحج فيه. وقد رأينا إن في نصوص المسند اسم شهر عرف ب "ذ حجتن"، أي "ذي الحجة"، وب "ذ محجتن"، أي "ذي المحجة"، مما يدل على أن له صلة بالحج.

ولم تعين نصوص المسند موسم حج العرب الجنوبيين، ولم تذكر اسم محجتهم، ولكننا نستطيع أن نقول انها كانت إلى محجات آلهتهم المعروفة المنصوص عليها في نصوصهم، وهي غير آلهة أهل مكة من غير ذلك.

وقد ذكر بعض علماء اللغة أن العرب كانت تسمي شهر رجب "رجب الأصم" و "المحرم"، وذكر بعض آخر أن المحرم لم يكن يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام، فقد كان الجاهليون يسمونه صفراً. ولذلك كان في تقويمهم صفران، كما كان عندهم شهران باسم ربيع الأول وربيع الاخر، وشهران باسم جمادى الاول وجمادى الآخرة. وصفر الأول هو المحرم في عرفنا، وصفر الآخر هو صفر في اصطلاحنا اليوم. وقد كان الجاهليون يؤخرون المحرم إلى صفر في تحريمه، فيكون شهراً حراماً.

ويظهر أن لدخول "ال" أداة التعريف على "المحرم" أهمية في تثبيت هذا الشهر، فإن للفظة "محرم" دلالة دينية، يراد بها كل شهر من الأشهر الحرم.

فكل شهر من هذه الشهور الحرم هي محرم وحرام، ومن ضمنها "المحرم".

وقد دخلت "ال" علي هذه اللفظة لتخصيصها وجعلها علمية خاصة بهذا الشهر.

وإلا دخلت على الشهور الأخرى العلمية، مثل رجب وشعبان ورمضان وصفر، فلا يقال فيها الرجب والشعبان والرمضان والصفر، بل يقال قدم شهر رجب. وقدم شعبان وشهر رمضان وصفر. وهذا يفسر قول "ابن كثير: "وعندي أنه سُمي بذلك، تأكيداً لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عاماً وتحرمه عاماً" أي انه كان قلقاً متنقلاً، ولم يكن ثابتاً، ثم ثبت في الإسلام.

وقد ورد في كتب الحديث أن قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء، كما كان اليهود يصومون ذلك اليوم. ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم. وان الرسول حين قدم المدينة وجد اليهود يصومونه. وأن الرسول كان يصومه في الجاهلية أيضاً. ولما قدم المدينة، كان يصومه، وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان، ترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه. وورد "أن قريشاً كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه، ولكن انما كانوا يعدون بالأهلة، فكان عندهم عاش المحرم. فلما قدم المدينة، وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليوم الذي نجىّ اللّه فيه موسى وقومه من فرعون".

وذكر أيضاً: إن رسول الله، كان يتحرى يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه، ومن شاء تركه، وبقي هو يصومه تطوعاً، فقيل له: "يا رسول الله انه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله". ويرجع حديث صيام قريش يوم عاشوراء إلى "عائشة"، وقد رواه عنها "عروة بن الزبير بن العوّام". فقد روى انها "قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه. فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان، ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه". ويروى أيضاً عن معاوية، فقد ورد عن "حميد بن عبد الرحمن ابن عوف انه سمع معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، يوم عاشوراء، علم حج على المنبر.، يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم ? سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر".

وقد حاول شراح حديث "عائشة" إيجاد مخرج له، فقالوا في شرح: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية"، "يحتمل أنهم افتدوا في صيامه بشرع سالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه". وقد وضع بعضهم بعد "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يصومه" جملة "في الجاهلية". وحاولوا ايجاد مخرج آخر لحديث "معاوية"، بقولهم: "والظاهر أن معاوية قاله لما سمع من يوجبه أو يحرمه، أو يكرهه، فأراد إعلامهم بنفي الثلاثة، فاستدعاؤه لهم تنبيهاً لهم على الحكم أو استعانة بما عندهم على ما عنده وقالوا: "إن معاوية من مسلمة الفتح، فإن كان سمع هذا بعد اسلامه، فإنما يكون سمعه سنة تسع أو عشر، فيكون ذلك بعد نسخه بإيجاب رمضان، ويكون المعنى لم يفرض بعد ايجاب رمضان، جمعاً بينه وبين الأدلة الصريحة في وجوبه، وان كان سمعه قبله فيجوز كونه قبل افتراضه". ثم ذكروا بعد هذين الحديثين، حديثا يناقضهما تماماً، وهو أن النبى حين قدم المدينة فرأى اليهود تصوم، فقال: ما هذا الصوم، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجىّ الله بني اسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال النبي: فأنا أحق بموسى منكم فصامه، وأمر بصيامه". وهو حديث للعلماء عليه كلام.

وحديث معاوية لا يدل على صوم قريش ليوم عاشوراء في الجاهلية، وقد استدل به "ابن الجوزي" على أن صوم عاشوراء لم يكن واجباً، ولا يفهم منه أبداً أن قريشاً كانوا يصومونه قبل الإسلام. ولو كان معروفاً لما شفي أمره عليه وعلى غيرة من قريش، وحديث "عائشة" حديث مفرد، ويجوز أن يكون قد وضع على لسانها، ولا يعقل انفرادها به وعلمها وحدها بصيام قريش في ذلك اليوم، وخفاء أمره على غيرها من الرجال والنساء ممن عاش معظم حياته في الجاهلية.

ويوم "عاشوراء" هو يوم "ع ش و ر" Ashura "عشور" "عشورا" عند العبرانيين، ويقع في اليوم العاشر من شهر "تشرى". وهو يوم خاص بيهود. وأنا أشك في صحة رواية أهل الأخبار القائلة إن قريشاً كانوا يصومونه في الجاهلية، إذ ما هي صلة قريش الوثنيين الذين لم يكونوا من أهل الكتاب بصيام يوم هو من صميم أحكام ديانة يهود. ومما يؤيد رأيي، هو إن أهل الأخبار أنفسهم يذكرون إن الرسول "حين قدم المدينة، رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم، فأخبروه انه اليوم الذي غرّق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم، فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فُرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه". فلو كان الصيام معروفاً عند قريش، لما سأل الرسول يهود يثرب عن صومهم صيام عاشوراء، وما جاء من قوله: "نحن أحق بموسى منهم، فصام، وأمر الناس بصومه" إلى إن فرض رمضان، فرفع عنهم صومه، وجعلهم أحراراً إن شاءوا صاموه وإن شاءوا أفطروا، أي صار تطوعاً، وهو حديث يشك فيه العلماء كذلك. وهذه الرواية تناقض تماماً رواية صيام قريش يوم عاشوراء. ثم اننا لا نجد في القرآن ولا في الحديث - غير حديث عائشة - ما يشير إلى وجود ذلك الصوم بمكة قبل الهجرة، ولو كان معروفاً لما سكت عنه. ويرجع بعض المستشرقين دعوى صيام قريش لذلك اليوم إلى محاولة ارجاع الأصول الإسلامية إلى الحنيفية القديمة والى قدماء العرب ثم إلى ابراهيم، فصيروا قريشاً تصوم عاشوراء لارجاع الصيام إلى أصل قديم.

ولا يعقل وجود الصيام عند المشركين، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وانما كان الصيام معروفاً عند الاحناف لاتصالهم بهم، وتأثرهم بكتبهم وبما كان عندهم منه أحكام، ومن ذلك ترهبهم وزهدهم، وقد كان الرهبان يكثرون من الصوم والاعتكاف.

وأنا لا استبعد أن لفظة "محرم" هي نعت لهذا الشهر لا اسماً له، عرف بها لكونه شهراً حراماً. تقع عليه الحرمة، ومن حرمته أن الجاهليين كانوا يبتدئون سنتهم به. فالمحرم، هو أول شهر من شهور السنة في حسابهم، ولابتدائهم به، فقد تكون له حرمة خاصة عندهم.

وقد نسب أهل الأخبار شهر رجب إلى مضر، فقالوا رجب مضر، وقد أشير إلى ذلك في الحديث ايضاً، مما يدل على أن هذا الشهر هو شهر مضر خاصة. وقد ذكر العلماء أنه إنما عرف بذلك لأنهم كانوا لشد تعظيماً له من غيرهم، وكأنهم اختصوا به. وذكروا أيضاً أنهم كانوا يرجبون فيه، فيقدمون الرجبية، وتعرف عندهم بالعتيرة، وهي ذبيحة تنحر في هذا الشهر. ويقال عن أيامه هذه أيام ترجيب وتعتير.

ويذكر علماء الأخبار أن تأكيد الرسول على "رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" في خطبة حجة الوداع، هو أن ربيعة كانت تحرم في رمضان وتسميه رجباً، فعرف من ثم ب "رجب ربيعة"، فوصفه يكونه بين جمادى و شعبان تأكيد على أنه غير رجب ربيعة المذكور. الذي هو بين شعبان وشوّال. وهو رمضان اليوم. فرجب إذا عند الجاهليين رجبان: رجب مضر ورجب ربيعة، وبين الطائفتين اختلاف في مسائل أخرى كذلك.

ومما يؤيد إن شهر "رجب" كان شهر مضر المحرم عندهم بصورة خاصة، ما ورد في أقوال علماء التفسير من إن "الشهر الحرام" الوارد في الآية )يا أيها الذين آمنوا لا تحلوّا شعائر الله ولا الشهر الحرام، ولا الهدي ولا القلائد(، هو شهر "رجب"، وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال. وما ورد في الآية: )يسألونك عن الشهر الحرام. قتال فيه ?(، واجماع علماء التفسير والأخبار على انه شهر "رجب"، وان الاية نزلت في امر قتل "ابن الحضرمي" في آخر يوم من جمادى الآخرة، وأول ليلة أو يوم من رجب. وقد كان المسلمون يهابونه ويعظمونه، وكان النبي يحرم القتال في الشهر الحرام، حتى نزلت الآية في حق القتال فيه وفي بقية الشهور. وقد ذهب المفسرون أيضاً إلى إن "الشهر الحرام"، هو كل شهر حرام من هذه الأشهر الأربعة، وان الآية لا يراد بها التخصيص، وان ما ذكر من انه شهر رجب، فلأجل وقوع الحادث المذكور فيه.

وعرف "رجب" ب "منصل الألّ" والألة والألال في الجاهلية. أي مخرج الاسنة من أماكنها. كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام ابطالاً للقتال فيه، وقطعاً لأسباب الفتن برمته، فلما كان سبباً لذلك سمي به، اعظاماً له، فلا يغزون ولا يغير بعضهم على بعض. وعرف أيضاً ب "منزع الأسنة" للسبب المذكور.

ومن دلائل حرمة شهر "رجب" ومكانته العظيمة عند أهل الجاهلية، تقديمهم العتائر فيه والاضاحي التي عرفت عندهم ب "الرجبية"، ووقوع اكثر المناسبات الدينية فيه. وقد نعت هذا الشهر ب "الاصم"، فقيل له "رجب الاصم"، لعدم سماع استغاثة أو قعقعة سلاح فيه، لان العرب كانت لا تقرع فيه الاسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه، فلا يهيجه، تعظيما له. وعرف ب "رجب الفرد" وب "الفرد"، لانفراده وحده من بين الاشهر الحرم الاخرى.

ويرى "ولهوزن"، استناداً إلى بعض الموارد اليونانية وغيرها إن العرب كانوا يحرمون شهراً واحداً منفرداً، هو "رجب الفرد"، وهو من شهور الربيع، وشهرين آخرين متصلين يقعان في القيظ، أي في أوج الصيف. أما الشهر الثالث الذي ألحق بالشهرين، فصارت به ثلاثة اشهر حرم متسلسلة متداخلة، فقد حرم في عهد متأخر لا يبعد كثيراً عن الإسلام، وهو المحرم.

ويلاحظ إن الموارد الإسلامية قد وضعت بعض الأحداث المهمة في شهر محرم مثل صوم يوم عاشوراء، ومثل اختبار القدس قبلة للمسلمين، فقد ذكروا إن ذلك كان في اليوم السادس عشر من المحرم، ومثل ذكرهم إن وصول حملة الفيل إلى مكة كان في اليوم السابع عشر منه، وان ابتداء السنة الهجرية، كان في اول المحرم، مع اننا لو دققنا ذلك تدقيقاً عميقاً، وجدنا إن أكثر هذا المروي لم يثبت وقوعه في هذا الشهر.

ونجد في كتب الحديث والأخبار ما يفيد بأن الجاهليين كانوا يعظمون شهري شعبان ورمضان تعظيماً يكاد يضاهي تعظيمهم للاشهر الحرم. وسبب ذلك في نظري، هو بفعل النسيء في الشهرين، وتلاعبهم بالأشهر وتسميتهم لها تسميات كيفية، ووقوع ذلك التلاعب على الشهرين المذكورين دون بقية الشهور. وقد يكون بسبب أن العرب كانوا يقدسون الشهرين ويحرمونهما أيضاً، وأن قريشاً كانت تحترمهما أيضاً، ومن هنا فضل شعبان ورمضان على بقية الأشهر الثمانية مع انهما من الأشهر الاعتيادية على حسب رواية أهل الأخبار. ولم يدخلوهما في جملة الأشهر الحرم. ونجد للشهرين حرمة كبيرة في الإسلام.

وقد كان عرب العراق وبادية الشام يتجنون أيضاً مثل عرب الحجاز القتال في أشهر معينة، لأنها أشهر مقدسة حرم عندهم، كما يفهم ذلك من مؤلفات الروم والسريان. فقد أشار المؤرخ "افيفانوس" Epiphsnius إلى وجود شهر عند العرب، قال إن العرب تحتفل فيه، وهو عندهم شهر مقدس، ويقع في شهر تشرين الثاني، ويريد به شهر "ذي الحجة" على ما يظن. وقد دعي ب "حجتّ" في بعض الموارد اليهودية. كما ذكر "بروكوبيوس" Procopius أن عرب المناذرة لم يكونوا ليحاربوا في شهورهم المقدسة، وقال إنهم كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرماً لآلهتهم لا يغزون فيها ولا يقاتلون بعضهم بعضاً، ويقعان في تموز وآب، وذكر "فوتيوس" أن العرب يحجون إلى معبدهم مرتين في السنة: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، و ذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، و ذلك. لمدة شهرين.

وفي هذه الإشارات معلومات قيمة، تشير إلى وجود الاشهر الحرم عند العرب الشماليين. ويفهم منها أن الاشهر الحرم كانت ثابتة لا تتغير، فلا يقع حجهم مرة في شتاء ومرة في صيف، وأخرى في ربيع، ومرة في خريف. فحجهم ثابت، وأشهرهم ثابتة. ومما يؤسف له أن أولئك المؤرخين لم يشيروا إلى أسماء المواضع التي كانوا يحجون إليها.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق