إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 3 فبراير 2016

1732 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الحادي والعشرون بعد المئة الخط العربي الإعجام والحركات


1732

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
        
الفصل الحادي والعشرون بعد المئة

الخط العربي

الإعجام والحركات

ولا بد لي هنا من التعرض لناحيتين مهمتين من نواحي تطور الخطوط عند العرب، هما: الإعجام والحركات.

ويراد بالإعجام، تنقيط الحروف المرسومة بشكل متقارب أو بشكل واحد، لتمييزها بعضها عن بعض، وذلك لأن هذه الحروف مثل الباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، والدال والذال، والراء والزاء، والسين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والغين، والفاء والقاف، إذا كتبت من غير نقط صار من الصعب على الإنسان التمييز بينها لأنها تكتب بشكل واحد، فيلزم على القارئ عندئذ الرجوع إلى علمه في اللغة وسليقته في الفهم لإدراك المعنى، لأنها بشكل وبرسم واحد. فالباء والتاء والثاء بل وحرفا النون والياء أيضاً، إذا كتبت في الكلمة ولا سيما في الوسط، بغير نقط، صار من الصعب تمييز هذه الحروف بعضها عن بعض، وإدراك المعاني الصحيحة والمراد من الكتابة نتيجة لذلك. فللتغلب على هذه المشكلة أعجم علماء الخطوط بعض هذه الحروف، بوضع نقط فوقها أو تحتها لتمييزها بعضها عن بعض، وعرف هذا التنقيط بالإعجام.

وقد وقع الاعجام في الإسلام على رأي أكثر العلماء. بعمل أبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي وآخرون في قصص لا علاقة لذكره في هذا المكان. وهو مكان خصص لأقلام الجاهلية. أما بالنسبة إلى الجاهلية، فإننا لا نملك وثيقة معجمة. ونقش "حرّان اللجا " المكتوب بعربية شمالية مشوبة بالنبطية، خال من الاعجام أيضماً، وكذللك النقوش الأخرى المكتوبة. بالنبطية المتأثرة بالعربية الشمالية. ولهذا فإني لا أستطيع الادعاء بأن الإعجام كان معروفاً بالقلم العربي المكي الجاهلي ولا بغيره من الأقلام العربية الجاهلية.

غير أن هناك رواية تنسب لابن عباس، تزعم أن الثلاثة الذين هم من بولان من طيء ومن أهل الأنبار، لما وضعوا الحروف وضعوها مقطعة وموصولة، ثم وضع أحدهم وهو "عامر" الاعجام. أي إن العرب وضعوا الاعجام في الوقت الذي اخترعوا فيه قلمهم العربي، وجاء في كتاب النشر في القراءات العشر: "ثم إن الصحابة رضي الله عنهم، لما كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين..". وفي هذا الخبر دلالة على معرفة الصحابة بالنقط والشكل.

وهناك خبر يرفع سنده إلى "ابن مسعود"، يذكر أنه قال: "جوّدوا القرآن ليربو فيه صغيركم، ولا ينأى عنه كبيركم"، وقد شرح الزمخشري ذلك بقوله: "أراد تجريده من النقط والفواتح والعشور لئلا ينشأ نشءٌ فيرى أنها من القرآن". فيفهم من هذا الخبر أن التنقيط كان معروفاً، وأن "ابن مسعود" عرفه، وأنه رأى تجريد القرآن من النقط ليصرف الصغير همه في فهمه فهماً عميقاً وفي إدراكه إدراكاً صحيحاً عن دراسة، لأن تجريده يحمل الطالب على بذل الجهد في فهم غامضه ومشكله ومعناه فيرسخ فهمه في عقله، أما إذا كانت الحروف معجمة ومشكلة، فلا يجد الطالب ما يحمله على بذل الجهد وإجهاد نفسه لفهم القرآن. فتفتر همته عن فهمه، ولا يبذل نفسه بذلاً مرضياً في تعلم كتاب الله.

وخبر آخر يدل على وجود الإعجام عند العرب، رواه "سفيان بن عيينه"، يفيد إن "زيد بن ثابت" نقّط بعض الحروف.

وورد إن بعض الباحثين عن الكتابات الاسلامية القديمة عثروا على أثار للنقط في بعض الوثائق القديمة. فقد ذكر الدكتور "جروهمن "" انه وجد في وثيقة من وثائق البردي المدونة بالعربية واليونانية ويعود تأريخها إلى سنة "22" للهجرة حروفاً منقطة. وهذا التنقيط إن صح وثبت، فإنه يدل على وجود التنقيط في هذا العهد. كذلك ذكر "مايس" G. C. Miles انه وجد حروفاً منقوطة في كتابة عثر عليها قرب الطائف يعود عهدها إلى سنة "58" للهجرة. وإذا صح إن هذه النقط قديمة قدم الخط، فإن معنى هذا إن الكتابة على الحجر قد عرفت التنقيط أيضاً في هذا العهد وقبله، إذ لا يعقل أن تكون أول كتابة على الحجر استخدمت التنقيط.

ونسب بعض أهل الأخبار الاعجام إلى "أبي الأسود الدؤلي"، كما نسبوا إليه النقط. وهو وَهْم وقعوا فيه من عدم ادراكهم للعمل الذي قام به "أبو الأسود" فظنوا انه استعمل النقط في الحالين: في النقط الذي هو الشكل، وفي النقط الذي هو الإعجام. والذي عليه الجمهور إن الإعجام كان من عمل "نصر بن عاصم". فلما كثر الخطأ في قراءة القرآن بسبب عدم تمييزهم بين الحروف المتشابهة، وتفشي وباء الجهل بعدم التمييز في القراءة بين الحروف المتشاكلة "فزع الحجاج إلى كتابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الأحرف المتشابهة علامات تميزها بعضها من بعض، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك، فوضع النقط أفراداً وأزواجاً، وخالف بين أماكنها، بتوقيع بعضها فوق الحروف وبعضها تحت الحروف، فغبر الناس بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، فكان التصحيف مع استعمال النقط أيضاً يقع، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط بالإعجام.

وذكر إن "نصر بن عاصم" و "يحيى بن يعمر"، وكانا ممن أخذا العلم عن أبي الأسود الدؤلي نقطا للإعجام بنفس المداد الذي كان يكتب به الكلام، حتى لا يختلط بنقط استاذهما أبي الأسود، التي كانت بمداد يخالف المداد الذي كتب به الكلام. "وقد انتشرت تلك الطريقة وأضاف إليها الناس علامة التنوين فكانت نقطتين الواحدة فوق الأخرى، وزاد اهل المدينة التشديد فجعلوها قوسين يجعلان فوق المشدد المفتوح، وتحت المكسور، وعن يسار المضموم، ووضعوا نقطة الفتحة داخل القوس، والكسرة تحت حدبته والضمة على شماله، ثم استغنوا عن النقطة وقلبوا القوس مع الضمة والكسرة، وأبقوه على أصله مع الفتحة، وزاد أهل البصرة السكون فجعلوه جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه".

والمشكلة الثانية في العربية، هي مشكلة الحركات، أي كيفية النطق بحروف الكلمة وبأواخر الكلم ليظهر المعنى حسب موقع الكلم من الاعراب. والعربية من اللغات العالمية التي احتفظت بخاصية الاعراب بينما تركتها لغات أخرى كانت لغات معربة في الأصل. لأن اهمال الحركات فيها يؤدي إلى وقوع أخطاء كبيرة في فهم معنى الكلام، لذلك وجب التغلب على هذه المشكلة بوضع علامات تعبر عن الحركات.

وسبب وجود هذه المشكلة في العربية، هو أن أقلام العربية القديمة هي مثل الأقلام السامية الأخرى مؤلفة من حروف صامتة فقط، ولا توجد فيها حروف تمثل الحركات، تكتب في الكلمة. كما هو الحال في اليونانية وفي اللاتينية وفي الأبجديات الغربية الأخرى المشتقة منهما، فيقرأ الإنسان الكلمة قراءة صحيحة بغير خطأ لوجود حروف الحركات مع الحروف الصامتة، ويكتب كتابة صحيحة، لأنه حين يكتب الكلمة ويلفظها يكتبها بحروف صامتة وبحروف الحركات. ويذكر أهل الأخبار أن العرب كانوا يفهمون معنى الكتابة بحدة ذكائهم وبطبعهم وسليقتهم فلم يخطئوا في فهم المعنى، فلم يجدوا حاجة إلى الشكل، فلما جاء الإسلام،ودخل الأعاجم بكثرة فيه واختلطوا بالعرب واختلط العرب بهم، فشا اللحن في الكلام، وظهرت الحاجة إلى تقويم الألسنة فوضع أبو الأسود الدؤلي مبادئ النحو والشكل. أي علامات الحركات. وسلك الناس طريقته ووسع من جاء بعده جادة هذا العلم، حتى صار من أهم العلوم عند العرب.

وعلينا أن نفرّق بين التنقيط أي الإعجام عند العرب وبين التنقيط عند غيرهم من الشعوب السامية. فالتنقيط عند العرب هو لتوضيح الحرف. بمعنى تعيينه وتثبيته لتمييزه عن الحرف الاخر المشابه له. أما في اللغات السامية الأخرى، فقد استعمل التنقيط فيها للتعبير عن الحركات. فالحركات في بعض اللغات السامية يعبر عنها بنقاط توضع فوق الحرف أو تحته. كما استعملت الخطوط المستقيمة وما يشبه الضمة للتعبير عن الحركات عند بعض لغات أخرى. ولم يستعمل الاعجام أي تنقيط الحرف لتمييزه عن حرف آخر مشابه له إلا في القليل، وذلك بسبب أن الحروف عندها غير متشابهة كثيراً، ولذلك فلا يلتبس أمر قراءتها على أحد، فلم تظهر الحاجة فيها الى إزالة اللبس بالتنقيط، ومن هنا اختلف مبدأ التنقيط في العربية عن مبدأ التنقيط في اللغات السامية الأخرى.

والتنقيط في كلتا الحالتين اي في حالة استخدامه للتعبير عن الحركات، اي الشكل، أو في حالة استعماله للإعجام، أي لتمييز الحروف المتشابهة، هو عمل متأخر عن الكتابة عند العرب وعند غيرهم. وسبب ذلك إن الكتابة صنعة اختص بها رجال الدين والعلماء والمثقفون ثفافة عالية، وهم طبقة خاصة كانت فوق مستوى الجماهير، وكان من مصلحتهم حضرها بأنفسهم وبأولادهم وجعلها صنعة خاصة بهم جهد الامكان. وعدم السماح لغيرهم من سواد الناس بتعلمها وممارستها. بأن جعلوا لها ادباً وقواعد وشروطاً يجب أن تتوفر فيمن يمارس هذا الفن. جمعوها في "أدب الكاتب" أو "أدب الكتاب". وكان في جملة قواعد هذا الأدب تصعيب الصنعة وتعقيدها حتى لا يطرقها إلا الذكي الأريب. واتخاذ أقلام خاصة، يكون لكل قلم قواعده وأصوله في رسم الحروف، وإهمال التنقيط أو الشكل، لأن من مستلزمات الكاتب أن يكون فطناً يستنبط المعنى بذكائه بربط الكلمات بعضها ببعض. وهو ما يعجز عنه القارئ الكاتب الاعتيادي. فتجريد الكتابة من النقط والشكل امتحان يميز الكاتب العالم عن غيره ممن تعلم كيف يقرأ ويكتب وكفى حتى لقد وقر في ذهنهم إن من ينقط الكتابة ويشكلها ويرسلها إلى كاتب، فكأنما أراد بذلك إهانته ورميه بالجهل والغباء، اذ عنى بهذا التنقيط والتشكيل المرسل إليه لا يفهم المعنى إلا إذا نقطت له الكلمات، فكيف الحال اذن إذا كانت الرسالة ممن هو دون من أرسلت إليه في المنزلة والمكانة، ومن رجل من طبقة سوية إلى رجل أعلى طبقة منه. فكان من أدب الكتاب عندهم الترفع عن مستوى القراء الكاتبين، بترك النقط والشكل. كانوا يقولون: " كثرة النقط في الكتاب سوء ظن في المكتوب إليه". نظر "عبدالله بن طاهر" خط كتاب وقع اليه، فقال: "ما أحسنه لولا كثرة شونيزه أي نقطه".

غير إن الحاجات دفعت بالناس ولا سيما بذوي الأعمال منهم إلى التماس أيسر الطرق وابسطها في تدوين أمورهم. فاختزلوا الخطوط وبسطوها ودفعوا التعسير بالتيسير. وكان من التيسير، وضع علامات للحركات ونقط للإعجام. أما اليونان فصاغوا من الحركات حروفاً كتبوها جنباً إلى جنب مع الحروف الصامتة، فحلّوا بذلك أهم مشكلة من مشكلات الكتابة. وأما الشعوب السامية، فاتخذت التنقيط والعلامات فوق أو تحت الحرف أو في داخله لتميز بذلك حرفاً متشابهاً عن الحرف الذي يشابهه، أو لتعيين حركته. وأما الحبشية، التي أخذت قلمها من المسند، فاتبعت طريقة اليونان وتغلبت بذلك على المشكلتين وظهرت بذلك أقلام شعبية تنقط وتشكل، استعملها السواد، أما أرباب العلم من الكتاب، فقد أبوا كتابة الكتب المقدسة وكتب العلم والتراث بخطوط السواد، وأبوا إِلا الكتابة بالقلم القديم، والمحافظة على الضبط القديم، لأنه في نظرهم جزء من النصوص فلا يمكن اجراء أي تغيير عليها. أما ما سوى ذلك فدوّن بالأقلام الشعبية التي أوجدتها ضرورات التيسير وتطور الزمن.

وأغلب روايات اهل الأخبار أن الخط العربي الأول لم يكن مشكلاً. وأن الشكل إنما وجد في الإسلام. وكان موجده "أبو الأسود الدؤلي" المتوفى سنة "69" للهجرة، فاستعل النقط بدل الحركات، ثم أبدل "الخليل بن أحمد الفراهيدي"، النقط برموز أخرى هي الفتحة والكسرة والضمة. ويرى بعض الباحثين أن نقط "ابو الأسود الدؤلي"، هو على نحو النقط في الخط النسطوري السرياني، ويحتملون تعلمه قاعدة التنقيط منهم. وكان عندهم نقط كبيرة توضع فوق الحرف أو تحته لتعيين لفظه أو تعيين الكلمة الواقع هو فيها: اسم هي أم فعل أم حرف. مثل قولهم: كتب، فيمكن إن تكون اسماً جمع كتاب، أو فعلاً ماضياً معلوماً أو مجهولاً، وكان عندهم أيضاً نقط هي حركات وضعها يعقوب الرهاوي قبيل ذلك الزمن. وهي عبارة عن نقط كانت ترسم في حشو الحروف، ثم تحولت إلى نقط مزدوجة تنوب عن الحركات الثلاث، وما زالت عندهم إلى اليوم. فالظاهر أن أبا الأسود اقتبس هذه الحركات، ويؤيد ذلك انه لما أراد التنقيط أتوه بكاتب فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه ؛ وإذا ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فكان العرب بعد ذلك يستعملون هذه النقط، والغالب إن يكتبوها بلون غير لون الخط. وقد شاهدنا في دار الكتب المصرية مصحفاً كوفياً منقطاً على هذه الكيفية، وجدوه في جامع عمر وبجوار القاهرة، وهو من أقدم مصاحف العالم، ومكتوب على رقوق كبيرة بمداد أسود وفيه نقط حمراء اللون، فالنقطة فوق الحرف فتحة، وتحته كسرة، وبين يدي الحرف ضمة كما وصفها ابو الأسود.

ويرى بعض المستشرقين أن ضبط الكتابة العربية قد بدىء به قبل الإسلام. وذلك لأن عرب العراق وعرب بلاد الشام كانوا يكتبون بالسريانية، وقد عرفت السريانية مشكلة الشكل وعالجتها، فلا بد وأن يكون العرب الذين أخذوا قلمهم من السريانية أو النبطية المتأخرة قد وقفوا على المشكلتين فعالجوهما على نحو ما.

وأود إن أبين بهذه المناسبة إن تنقيط "ابو الأسود" للحروف لم يكن إعجاماً، بل كان شكلاً، اي ضبط حركة الحرف من حيث الضم أو الفتح او الكسر أو السكون حسب تكوين الحروف للكلمة. فهذا كان تنقيط "ابو الأسود الدؤلي " أما شكل الوقت الحاضر، فهو من اختراع "الخليل بن احمد الفراهيدي". ولذلك يجب علينا التفريق بين تنقيط "ابو الأسود"، وبين الاعجام الذي هو تنقيط الحروف المتشابهة لإزالة اللبس بينها، ثم التفريق بين شكل "ابو الأسود"، وبين شكل "الخليل بن أحمد" واضع الشكل المتبع الآن، لموت طريقة "ابو الأسود"، في الشكل، وتخصيص النقط بالاعجام، ومن هنا وقع البعض في لبس من أمر النقط والاعجام، فلم يفرقوا بينهما. والصحيح هو ما قلته من إن النقط هو الشكل في الأصل، فبهذا المعنى كان في أيام "الدؤلي" إلى أن قامت الحركات التي هي الضمة والفتحة والكسرة مقام نقط الدؤلي، فوجد الناس في الحركات سهولة مكنتهم من التفريق بين إعجام الحروف وتشكيلها، فخصصوا النقط بالإعجام والحركات بالشكل، وبذلك زال اللبس الذي إدى إلى وقوع أخطاء في فهم المراد من الإعجام ومن الشكل الذي هو الحركات.

والتنقيط من الأمور التي كان يراعيها العبرانيون منذ القدم في قراءة التوراة. فقد كانوا ينقطون بعض حروف الكلمات لتنبيه القارئ إلى أهمية الكلمة ولمكانتها المقدسة، وعرف هذا التنقيط ب Puncta extraodinaria عند رجال الدين، فقد نقطوا لفظة "عانقه" في الآية: "فبادر عيسو وِتلقاهّ وعانقه وألقى بنفسه على عنقه وقبّله وبكيا"، ونقطوا لفظة "فامحني"، من الآية: "والآن إن غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت"، ولفظة "يمحوها" في الاية: "فيكتب الكاهن هذه اللعنات في الكتاب ويمحوها بالماء المر"، وقد فعل ذلك في الأناجيل أيضاً، كما في لفظة "محا" الواردة في الاية: "ومحا الصك الذي كان علينا بموجب الأقضية الذي كان لهلاكنا وأخذه من الوسط وسمّره في الصليب". ثم زاد علماء التوراة وكتّابها زيادات أخرى في أصول التنقيط ووضع العلامات الخاصة على الحروف التي هي الإعجام، وصيّروها علماً خاصاً بالتوراة اشير إليه في "السوفيريم" وفي التلمود.

ونجد في "انجيل متى" اشارة الى التنقيط في الحروف، جاء: "الحق اقول لكم: انه إلى أن تزول السماء والأرض، لا تزول ياء أو نقطة واحدة من الناموس حتى يتم الكل". وفي هذه الآية إشارة إلى تدقيقاتهم في الكتابة،وتمييزهم بين حرف وآخر بالنقط.

وكان كتاّب الأناجيل والكتب المقدسة، إذا أضافوا كلاماً من عندهم على النص، أو فسروا لفظة من ألفاظه، كتبوه بخط ثخين عريض، ليتبين للقارى إن ما هو مدون ليس من صلب الكتاب المقدس، وانما هو إضافة لتفسير أو لشرح.

وأود أن أبين، إن موضوع النقط الذي هو الإعجام وموضوع الشكل من الموضوعات التي لم تدرس دراسة كافية علمية حتى الآن. وهما مما لا يمكن البت فيهما الان، إلا إذا عثر على كتابات جاهلية عربية وعلى كتابات تعود إلى أيام الرسول وما بعده، وإلا بعد نشر ما ألفه العلماء عن النقط والشكل. فقد ألف العلماء في ذلك كتباً، أشار إليها "ابن النديم"، فقال: "الكتب المؤلفة في النقط والشكل للقرآن: كتاب الخليل في النقط، كتاب محمد بن عيسى في النقط، كتاب اليزيدي في النقط، كتاب ابن الأنباري في النقط والشكل،كتاب أبي حاتم السجستاني في النقط والشكل بجداول ودارات، كتاب الدينوري في النقط و الشكل".

وهناك مؤلفات أخرى دونت في "لامات القران"، وفيَ هجاء المصاحف، وفي اختلاف المصاحف وأمثال ذلك، تفيدنا كلها في تكوين رأي عن تطور الخط العربي في أوليات أيامه ولا سيما في صدر الإسلام.

وقد سار الخط العربي الشمالي على نسق أغلبية الخطوط السامية مثل الخط النبطي والإرمي والعبرإني فاتجه من اليمين إلى اليسار. ونظراً لوجود حروف منفصلة وحروف متصلة فيه، دونت كتابة الكلمات فيه بالجمع بين النوعين من الحروف، وبذلك سهُل أمر الكتابة بهذا القلم، وصار على غرار القلم النبطي في السرعة. وللتمييز بين الكلمات، لم يستعمل الخطوط العمودية النازلة بين الكلمات للفصل بينها، على نحو ما كان في المسند، بل سار على طريقة النبط في وضع فراغ صغير مناسب بين كل كلمة وأخرى، دلالة على انفصالها بعضها عن بعض.

أما المسند، فقد اشتهر عند علماء العربية بأنه خط حمير، ولذلك قال له بعضهم "الخط الحميري"، و "القلم الحميري"، كما قال له المستشرقون فيما بعد. وهي تسمية مغلوطة على كل حال، لأن الحميريين لم يكونوا أول من أوجد هذا الخط، لقد سبقهم في استخدامه السبئيون والمعينيون وأقوام عربية اخرى، وقد عرفه بعض علماء العربية بقوله: "المسند: خط لحمير مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه ايام ملكهم فيما بينهم، قال ابو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن". وقد ذكر "ابن خلدون" أن حمير كانت تمنع من يريد إن يتعلم المسند إلا بإذنها.

والأبحاث التي قام بها الباحثون عن الخط العربي قبل الإسلام، لا تزال في مراحلها الأولى، ولا يمكن في نظري نضج هذه البحوث والوصول إلى نتائج علمية مرضية إلا إذا قام المتخصصون بالتنقيب تنقيباً علمياً في جزيرة العرب كلها، وهذا ما يستغرق بالطبع وقتاً طويلاً. ولا يستبعد أن يتوصل المنقبون إلى معرفة أبجديات واقلام قد تكون اقدم عهداً من هذه الأقلام التي تحدثت عنها، وقد يجدون أقلاماً اخرى جديدة تسمى بأسماء جديدة، قد تغير من هذه النظريات العلمية التي تلوكها ألسُنُ العلماء في هذا اليوم. فقد عثر على نصوص يظهر أنها بقلم ثمودي في موضع "ينبع النخل" الذي يبعد مسافة أربعين كيلومتراً عن "ينبع". كما وجدت كتابات بخطوط جاهلية وبخط عربي من صدر الإسلام في "جبل سلع" عند المدينة، وفي "وادي العقيق" الذي لا يبعد كثيراً عن المدينة. وكذلك في "وادي رانونا" الواقع جنوب المدينة على مسافة ثمانية كيلومترات، حيث وجدت نقوش صور حيوانات كذلك. وفي "الصويدرة"، و "بستان شهار"، وهو موضع يقع على مسافة كيلومترين جنوب الطائف، حيث يذكر من رآه انه وجد فيه كتابات تظهر وكأنها كتابات يونانية. ووجدت كتابات بعضها بدائية أو من شكل جديد في مواضع اخرى من الحجاز،قد تكون أقلاماً جديدة، كتبت بلهجات لا نعرف عنها اليوم شيئاً.

لقد كان من الشائع بين الباحثين إن المنطقة الواقعة فيما بين المدينة والطائف منطقة فقيرة بالكتابات، ولكن عثور بعض الباحثين على كتابات ثمودية وعلى كتابات أخرى وفي ضمنها كتابات قديمة تمثل أقدم أنواع الخط الذي دوّن به القرآن الكريم، قد مزّ ق حجب ذلك الشائع، وسوف يقف الباحثون ولا شك على كتابات أخرى جديدة في مواضع أخرى من الحجاز ولا سيما في المواضع الواقعة على طرق القوافل القديمة. وعندئذ سيزيد علمهم عن الأقلام العربية الجاهلية وعن علم الناس بلهجات العرب قبل الإسلام، ولا سيما بلهجات أهل الحجاز لما في ذلك من فائدة في الوقوف على اللغة التي نزل بها الوحي.

هذا - وأعود فأقول - إن من الخطأ مجاراة أهل الأخبار رأيهم في أن الكتابة العربية قد نقلت أول ما نقلت إلى مكة، ثم انتشرت منها إلى "يثرب" والى الأماكن الأخرى. إذ يروي أهل الأخبار أنفسهم أنه كان بيثرب قبل الإسلام رجال كانوا يقرأون ويكتبون بهذا القلم، ومنهم من كتب للرسول. وأما ما ذكروه من أن الرسول طلب من أسرى "بدر" ممن لم يكن يستطيع فداء نفسه، تعليم عشرة أطفال من أهل يثرب القراءة والكتابة في مقابل فكّ أسرهم، فليس فيه دليل على عدم وجود قارئين كاتبين بها، وإنما فعل النبي ذلك لتكثير الكتابة فيها، ولنشر التعليم بين المسلمين.

وقد أخطأ "ريجس بلاشير"في رأيه القائل: "لدينا مصادر أكثر قدماً، تدفعنا إلى الاعتقاد بأنها كانت كثيرة الاستعمال في الطائف بعكس انتشارها في المدينة الذي لقي صعوبات"، ثم قال في الملحوظة "5": "من الجائز أن يكون اليهود قد قاوموا انتشار الطريقة الكتابية العربية"، واستدل على الحالتين باستعانة الرسول بأسرى بدر لتعليم المسلمين القراءة والكتابة، لأن المصادر المحلية كانت غير كافية. ولا أعرف شيئاً عن المصادر القدَيمة التي ذكر أنها تشير إلى كثرة الكتابة بالطائف، عكس المدينة، لأنه لم يشر إليها، وإنما قال قولا عاماً،لم يؤيده بذكر أسم المورد الذي استقرى رأيه منه. ولعله قصد ما ورد في حديث تدوين القرآن من اجعلوا المملي من قريش، أو من هذيل، والكاتب من ثقيف، وهو حديث لا صلة له بقلة أو بكثرة انتشار الكتابة في مكان، ثم إنه يتناول مكة كذلك، كما يتناول المدينة، ونحن لو أحصينا عدد من كان يكتب من أهل يثرب من الصحافة لما وجدناه يقل عن عدد كتاب الطائف قبل الإسلام، بل هو فوقه بكثير، كما رأينا فيما سلف. أما قوله: من الجائز أن يكون اليهود قد قاوموا انتشار الكتابة في يثرب، فيخالفه ما ورد في الأخبار من أن احد يهود "بني ماسكة" كان يعلم أهل يثرب الكتابة، وتعلم أهل يثرب الكتابة بالعربية، لا يضر اليهود شيئاً، حتى يقاوموا تعلمها، بل ربما كان العكس هو الصحيح، -لأن في تعلمهم الكتابة والقراءة يجعلهم أقرب إلى التفكير والتأمل والاستقرار والميل إلى الهدوء والوقوف على الكتب من الجهلة الأميين، الذين تتحكم العواطف والعنجهيات في عقولهم، فتبعدهم عن حياة الهدوء والمسالمة.

ولم يصل إلى علمي إن أحداً من الباحثين قد تمكن حتى الآن من الحصول على كتابات في العربية الجنوبية مدونة بهذا القلم الذي نكتب به، ولكن هذا لا يمكن أن يكون دليلا على عدم استعمال أهل تلك البلاد له، فقد يجوز أن يكونوا قد استعملوه في أمورهم التجارية وفي مراسلاتهم وأعمالهم الأخرى، استعمال أهل مكة ويثرب له، إلا انه لم تبق منه بقية بسبب كونه قد كتب على الأدم والمواد الأخرى السريعة التلف، فلم تبق منه بقية، شأن كتابات أهل مكة ويثرب المكتوبة على هذه المواد. إذ لا يعقل عدم وصول هذا القلم إلى نجران والى صنعاء والى الأماكن التي وجدت النصرانية سبيلاً لها بينها، وقد كان النصارى يكتبون به، وهم من أهمالعناصر التي ادخلته الى جزيرة العرب.

ان القلم الذي دون به الوحي، والذي صار بفضله القلم الرسمي العربي ولعدد كبير من الشعوب الاسلامية، حمل في نفسه مثل اكثر الخطوط السامية وغيرها،نقاط ضعف، عولجت بعضها وتغلب عليها، كما في موضوع تشابه الحروف مثل الباء والتاء والثاء، حيث تغلب عليها بالتنقيط، وكما في كيفية التلفظ بالحركات، حيث عولج بوضع علامات لها فوق أو تحت الحروف، ومثل حرف "المد" والتنوين، وأمثال ذلك، مما جعل قارئ الكتاب يلاقي صعوبة كبيرة في قراءة الخط وفي فهم المراد منه، تجلت في المحاولات التي ظهرت في صدر الإسلام لإصلاح هذا الخلل، الذي ورد اليهم من نقلهم الخط نقلاّ،دون اجراء اصلاح عليه، ومع ذلك فلا تزال هناك مواطن ضعف فيه يجب التغلب عليها، تجدها مدونة في البحوث التي نقرأها بين الحين والحين في موضوع إصلاح الخط العربي، لا مجال لسردها ولسرد حججهاْ وأدلتها في هذا المكان.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق