إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 5 فبراير 2016

1803 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع والاربعون بعد المئة حد الشعر


1803

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
  
الفصل السابع والاربعون بعد المئة

حد الشعر

عرّف علماء العربية الشعر بقولهم: "الشعر: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعراً من حيث غلب الفقه على علم الشعر". وعرّف "الأزهري" الشعر بقوله: "الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم". وعرّفه "ابن خلدون" بقوله: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على اساليب العربية المخصوصة به". فهو يجعل التقفية والوزن من شروط الشعر، ويشترط أيضاً استقلال كل بيت منها بغرضه.

وعرف بأنه الكلام المقفى الموزون قصداً، والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزوناً إتفاقاً، فلا يسمى شعراً. وقد قصد بهذا التعريف الإسلامي، إخراج من قال الشعر إتفاقاً لا عن قصد واحتراف. بل عفواً وسجيّة. ولما جاء في القرآن الكريم، من رمي المشركين للرسول بأنه شاعر بقول الشعر، فنزل الوحي ينفي ذلك عنه. وحدد العلماء صفة الشاعر بأنه الذي يحترف الشعر ويقوله قصداً، حتى لا تنطبق هذه الصفة على من يقول سطراً بوزن اتفاقاً من غير قصد.

وقد عرفه بعضهم بقوله: "الشعر كلام موزون مقفى، دال على معنى، ويكون أكثر من بيت". وهو تعريف وضعه علماء الشعر في الإسلام، وهو لا ينطبق بالطبع على وصف الشعر عند الأعاجم من الآريين والساميين، لأن للشعر عند هذه الأمم مفاهيم أخرى، تختلف بأختلاف وجهة نظرها إلى الشعر. فقد يكون الشعر سجعاً عند الأمم الأخرى، وتعّد الأمثال عند بعض الشعوب في جملة أبواب الشعر، كما أنه لا يمكن أن ينطبق على الشعر الجاهلي القديم، إذ ليس في استطاعة أحد حق التحدث عن الشعر الجاهلي المتقدم على شعر أقدم من وصل اسمه إلينا من الشعراء الجاهليين، لعدم وجود نصوص مدوّنة أو مروية عن ذلك الشعر، وما دمنا لا نملك نصوصاً منه، فلا حق لنا اذن في التحدث عنه.

وعندي ان الشعر الجاهلي المروي والمدون في المؤلفات الإسلامية ببحوره المعروفة انما يمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور هذا الشعر، أي مرحلة الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، ولكننا لا نستطيع كما قلت سابقاً الزعم بأن الشعر الجاهلي الأقدم كان على نفس هذه البحور، أي انه كان متمسكاً بالوزن والقافية إذ من الجائز أن يكون قد كان على شاكلة الشعر القديم الذي نظمه الشعراء الساميون، من عدم تقيد بالقافية وبوزن الأبيات، كما نجد ذلك في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى وانما كانوا يراعون فيه النغم، بحيث يتغنى به، أو التأثير في العواطف، بمراعاة نسق الكلام المبني على البلاغة. ولهذا عدّ السجع نوعاً من أنواع الشعر، لأن في السجع من الوصف والعاطفة والحس ومعالجة الموضوع، ما يجعله شعراً، وفي بعضه نغم يجعله صالحاً لأن يتغنى به، وبين الغناء والشعر صلة ونسب. وقد جعل بعض العلماء الشعر وليداً من أولاد الغناء، لأن الشعوب القديمة كالبابليين، والمصريين، واليونان، والعبرانيين، كانت تقرن شعرها بالموسيقى، وعرف هذا الشعر بالإنشاد، وقد كان الإنشاد في المعابد، نوعاً من التراتيل الموجهة إلى الآلهة، كما كان يستخدم في الحروب. ولهذا رأى العلماء ان الموسيقى، أولدت الإنشاد، والإنشاد هو والد الشعر.

والشعر معروف عند كل شعوب العالم، معروف موجود حتى عند الشعوب البدائية، لأنه نوع من أنواع التعبير عن الحس. والإنسان مهما كانت ثقافته ومنزلته لابد له من التعبير عن إحساساته بمختلف الصور، وبشتى الوسائل، من كلام أو تدوين أو نقش أو صراخ أو غناء أو رمز، إلى غير ذلك من الأنواع، وفي جملتها الشعر. فهو لا يخص إذن شعباً معيناً، ولا جنساً خاصاً، إنما هو تعبير إنساني، يؤديه كل انسان، متى كانت عنده المواهب ووجد عنده الحس المرهف الذي يدفعه إلى اليف الشعر دفعاً، يؤديه على نحو ما يتأثر به إحساسه وذوقه، في أسلوب يختلف عن الكلام المعتاد المألوف، ولكنه ليس على نمط واحد عند جميع البشر، فقد يكون الشعر شعراً عند أمة، وهو ليس شعراً عند أمم أخرى، والمصطلح العربي الذي ذكرته للشعر، يختلف عن المصطلح المفهوم للشعر عند اليونان مثلاً أو عند الرومان أو عند البابليين، كما أن أبوابه وأنواعه قد تختلف بين أمة وأخرى.

فقد كان العبرانيون يحبون الشعر، حب العرب له، ويقولون له:"ه-ش"، أي الشعر وكانوا ينظمون أشعاراً رتلوها في مختلف المناسبات، في الأفراح وفي الأتراح في المدح وفي الهجاء، وفي الغزل وفي الوصف، وفي تمجيد الرب، وكانوا يستعينون بالشعر في القتال، ينشدونه في قتالهم ويجعلونه عوناً لهم في شحذ الهمم وفي تقوية العزائم للنصر، كما نرى ذلك في أسفار التوراة. ونجد ثلث التوراة شعراً، لا سيما في أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الانشاد. وفي مواضع من "التكوين" وكتب الأنبياء. ولكن شعرهم ليس وزناً وقافية، على نمط الشعر العربي، بل هو شعر من طراز آخر. هو شعر بالنسبة للعبرانيين، وهو ليس بشعر بالنسبة لمصطلحنا المحدد للشعر.

وقد بدأ الشعر بداية متحررة، فلم يكن الإنسان في بادئ أمره بالشعر يتقيد بالوزن والقافية، وإنما كان يميز بينه وبين النثر بالنغم الذي يجعله فيه، وبالنبرات التي يخرجها مخارج الغناء، ولهذا نجد المقطوعات الشعرية القديمة التي وصلت الينا مدوّنة في كتابات مختلف الشعوب لا تشبه الشعر المعروف، إذ فيه تحرر، وفيه اعتماد على الترنم والإنشاد وعلى فن الإلقاء، أما الاعتبارات الفنية المعروفة، فهي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلّوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد فنية في نظم الشعر. فلم تكن الأبيات الشعرية في الشعر القديم متساوية، ولم تكن هناك قوافي بالضرورة، حتى أنك لا تستطيع تمييز القطعة الشعرية عن غيرها، إلا بالإنشاد.

والشعر من أقدم الأحاسيس التي عبر بها الإنسان عن نفسه، فهو يعبر عن عواطفه وعن أحاسيسه، من سرور أو حزن، أو ألم، وعن اهتمامه بالأمور وعن تصوراته، وعن كل ما يدور في رأسه من أمور تسترعي حسه، فيشعر عندئذ بالترفيه عنه بإخراجه كلاماً فيه نغم "Rhythm"، أي إيقاع ووزن، وفيه توازن ونظام بين أجزائه، على غرار ما يفعله الراقص في رقصه، من اقران رقصه بحركات موزونة. وهو من العواطف المولودة في الإنسان. ولهذا تعدّ العواطف التي عبر بها الإنسان عن نفسه شعراً، وإن خرجت بغير بحور، وبدون وزن و لا قافية. ففي كلام "سارة": "وقالت سارة قد أنشأ الله لي فرحاً فكل من سمع يفرح لي، وقالت من كان يقول لإبراهيم إن سارة ستُرضع ابناً. فقد ولدت ابناً في شيخوخته"، وفي الآيات: "ثم أخذت مريم النبية أخت هارون الدفَّ في يدها وخرجت النساء كلهن وراءها بدفوف ورقص. فجاوبتهن مريم: سبّحوا الرب، لأنه قد تعظم بالمجد. الفرس وراكبه طرحهما في البحر"، وفي مباركة يعقوب أبنائه عند شعوره بدنو أجله، وفي كلام موسى حين قهر "فرعون"، معان شعرية، وتعد من أقدم أنواع الشعر السامي التصويري.

وذلك لأن الشعر السامي القديم، لم يكن يتقيد بالقافية "Rhyme"، ولا بالتفعيلات " "Feets أو بالمقاطع القصيرة "Short Syllables"، وإن حاول و لاسيما فيما بعد، أن يضع في كل شطر أو بيت عدداً من الكلمات أو المقاطع، يعادل ما يضعه في الشطر أو البيت الثاني منها، ليتولد من ذلك الوزن.

ويقسم الغربيون الشعر عادة إلى"Epic"، وهو شعر الملاحم، حيث يمتاز بطول قصائده وفخامة أسلوبه، وبقصصه الذي يدور حول أبطال الملحمة والأحداث التي تعرض لها هذا النوع من الشعر. وشعر يقال له ""Dramatic، وهو شعر مسرحي، أو تمثيلي. وشعر يقال له "Lyric"، وهو شعر غنائي. وشعر يقال له ""Didactic، وهو شعر تعليمي، أريد به التعليم ووعظ الإنسان. ونجد النوع الأول منه عند اليونان والرومان والهنود والفرس والألمان وهم من الشعوب الهندأوروبية، أي الشعوب الآرية.

ولا نجد من شعر الملاحم، ومن شعر "الدراما" في التوراة، ولكننا نجد ما يشبه "الدراما" "Semi Dramatic" في سفر أيوب. ويكثر الشعر "الغنائي" المعدّ للترتيل والترنيم Lyric فيه. ففي كلمات موسى على البحر الأحمر، التي تمثل غناء النصر ""Triumphal Odes، وفي غناء "دبوره""Deborah" ، وفي المزامير، أشعار غنائية معدة للترتيل.

وقد أشير إلى إنشاد الشعر جماعة في التوراة، فلما وصل العبرانيون إلى "البئر" التي قال الرب فيها لموسى اجمع الشعب حتى أعطيهم ماءً، "حينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد:اصعدي يا بئر تجاوبوا لها. بئر احتفرها الرؤساء، احتفرها أشراف الشعب بمخصرة عصيهم". وقد لازم الترنم الشعر منذ أوائل أيامه، ففي الترنم به تقوية له. وما النغم سوى "ايقاع" يجعله نوعاً من أنواع الغناء "نوطته" التفعيلات التي تكون بحوره في الأدب العربي. ولهذا نجد الشعر قد رافق الغناء بل هو نوع منه منذ نشأته.

ونجد القديس "نيلوس" ""Nilus" المتوفي حوالي سنة 430 م"، يصف غارة بدوية على دير سيناء وقعت سنة 410 م، وتحدث في أثناء حديثه عنها عن إنشاد الأعراب أناشيد بترانيم عندما كانوا يأخذون الماء، وهي ترانيم لم يشر القديس إلى نوعها، ولكني لا استبعد أن تكون من الرجز، الذي يقال في المناسبات، في استنباط الماء، وفي حفر الآبار، أو رفع الأثقال، أو في بناء، وأمثال ذلك مما لا يزال مألوفاً، ويشاهد حتى بين أهل القرى. وان كان بعضها ترانيم غير فنية ولا مصقولة، ولكنها ذات ايقاع على كل حال.

ومن هذا القبيل الأشعار التي أنشدها العرب في انتصارهم على الرومان سنة 372 م، والتي أشار اليها المؤرخ "سوزومن" في كتابه "تأريخ الكنيسة"، فقد ذكر أن العرب كانوا ينشدون الشعر في قتالهم هذا مع الرومان. والواقع أننا لا نكاد نقرأ خبر معركة إلا ونجد الشعر فيها في مقدمة الأسلحة التي تستخدم فيها، وقد يسبق السيف في الضرب، حيث يخرج الفارس وهو يرتجز رجزاً يشيد فيه بنفسه، وبقومه، مهوناً من أمر من سينازله ثم يقابله من يتبارى معه برجز آخر، يشيد فيه بنفسه، رداً على خصمه.

والشعر العبراني القديم نوعان: النوع المعدّ للترتيل، والنوع التعليمي. ومن النوع الأول المزامير، ومن النوع الثاني الأقسام الشعرية من كتب الأنبياء. والمزامير ""Psalms، هي من أفصح الأشعار الدينية في التوراة، وهي تعبر عن الحس الديني عند الإنسان، وعن شعور البشر تجاه خالقهم، وهي تمجيد وحمد له، واعتراف بضعف الإنسان تجاه خالقه، فهو يرتل فيها حمد الله والثناء عليه. أما الأمثال والجامعة، وبعض أقسام كتب الأنبياء، فهي وإن كانت دينية في الأصل، إلا انها وضعت لغايات تعليمية، لإرشاد الناس وتقديم النصح لهم.

ولا توجد القوافي والبحور في هذا الشعر، ومع ان بعض الأشعار العبرانية قد نظمت أحياناً على الحروف الابجدية، لكن أشطرها لم تتضمن عدداً مماثلاً من المقاطع، فيتولد منها الوزن، أي النغم. وانما نظمت على مقابلة الأفكار في الشطر الأول والثاني، أو في الشطرين الأولين والثالث. وقد يشرح فكر الشاعر على نوع مقابلة فكرين، إما لوجه المشابه بينهما، وإما لوجه المخالفة بينهما. ومن أمثلة أوجه المشابه: فمن هو الإنسان حتى تذكره  أو ابن آدم حتى تفتـقـده

وما جاء في المزمور التاسع عشر من قوله: السموات تحدث بمجد الله  والفلك يخبر بعمل يديه

يوم إلى يوم يذيع كلامـا  وليل إلى ليل يبدي علما

ومن أوجه المخالفة بينهما: لأن عـامـلـي الـشـر يقـطـعـون  والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض

وما جاء في الأمثال: الجواب اللين يصرف الغضب  والكلام الموجع يهيج السخط

لسان الحكماء يحسن المعرفة  وفم الجهال ينبـع حـمـاقة

وقد ذهب بعض العلماء إلى وجود "التفاعيل" ""Feetو "الوزن" ""Metre في الشعر العبراني، و ذهب بعض آخر إلى عدم وجود التفاعيل فيه، وذهب بعض إلى وجود القافية " Rhyme" والوزن ""Rhythm في الشعر العبراني. وهو شعر يختلف عن شعرنا المألوف، وهو وإن أمكن تقسيمه إلى أشطر و أبيات، إلا أن له خصائص يختلف بها عن الشعر العربي. فترى مثلاً ان الأبيات في القصيدة العبرانية غير متساوية، فقد يطول فيها بيت، وقد يقصر فيها بيت آخر. وقد ترتب الأبيات على ترتيب حروف الهجاء، كما في الأمثال وفي المزامير.

ومن أهم أبواب الشعر العبراني، باب يقال له: ""Parallellism في الانكليزية، أي التطابق. وهو انواع. وقد بحث فيه العلماء.

وقد يكون الشعر على صورة أفكار متسلسلة متتابعة، فتتقدم الفكرة تدريجياً، وتوضح الأبيات التالية السابقة مثل: نامـوس الـرب كـامـل يرد الـنـفـس  شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيماً

وصايا الرب مستقيمة تـفـرّح الـقـلـب  أمر الـرب طـاهـر ينـير الـعـينـين

خوف الرب نـقـي ثـابـت إلـى الأبـد  أحكـام الـرب حـق عـادلة كـلـهـا

أشهى من الذهـب و الابـريز الـكـثـير  وأحلى من العسل وقـطـر الـشـهـاد

ومن أنواع الشعر في التوراة، ما نقول له "ترادف المتطابقات" ""Synonymous Parallelism، وذلك أن تكون فكرة الشطرين مترادفة، وكذلك المصطلحات الواردة فيهما ن فترتبط فكرة الشطر الاول بالشطر الثاني من البيت مثل: "وقال لآمك لامرأته عادة وصلة: اسمعا قولي يا امرأتي لآمك واصغيا لكلامي. انني قتلت رجلاً لجرحي وفتى لشدخيط، فالشطر الأول هو "وقال لآمك ...الخ"، والشطر الثاني المتمم هو: "انني قتلت رجلاً لجرحي"، ومثل: "انقذ من السيف نفسي من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب لي". ومثل: كيف ألعن من لم يلعنه الـلـه  وكيف اشتم من لم يشتمه الرب

وما نقول له ب"تناقض المتطابقات"، أو "تضاد المتطابقات" ""Antithetic Parallelism". وذلك أن يكون الشطر الثاني مثل الشطر الأول في احتوائه على الحقيقة، أي الفكرة، ولكنه جاء بها بصورة أخرى، أي متضادة Contrast. فالشكل متطابق تماماً، وأحد جزئي الشطر مترادف، أما الجزءان الآخران، فمتعارضان. وأكثر ما يقع ذلك في المثل: الابن الحكيم يسـرّ أبـاه  والابن الجاهل حزن أمه

ونوع آخريقال له "الايقاع المتصاعد"، أو "الوزن الصاعد"، "Asending Rhythem" "Stair-like"، وهو شعر يرد في الشطر الثاني منه جزء مما ورد في الشطر الأول، أو مختصر الشطر الأول، ليضاف عليه شئ جديد. مثل: حتى يعبر شعـبـك يا يهـوة  حتى يعبر الشعب الذي اقتنيته

ونوع يقال له "المتطابقات المركبة" " Synthetic Parallelism" أو "Constructive" وذلك بأن يكون ما يرد في الشطر الثاني مخالفاً، أو على الاكثر لما ورد في الشطر الأول. على ان المتطابقات في الشطرين تكون موجودة. مثل: لا تجاوب الجاهل حسب حماقته  لئلا تـعـدلـــه أنـــت

جاوب الجاهل حسب حماقـتـه  لئلا يكون حكيماً في عيني نفسه

ومثل: ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارفعنها أيتها الأبواب الدهريرات فيدخل ملك المجد.

من هو هذا ملك المجد. رب الجنود هو ملك المجد. سِلاه.

ومن النوع المعروف ب "Progressive Parallelism" ، ما ورد في "أيوب" من قوله: "هناك يكف المنافقون عن الشغبِ وهناك يستريح المتعبون. الأسرى يطمئنون جميعاً، لا يسمعون صوت المسخر. الصغير كما الكبير، والعبد حرّ من سيده". وقد جاء الشطر الثاني بمعان ايضاحية جديدة، لها صة بما ورد في الشطر الأول من معنى ز ومن النوع الذي يقال له: "Climatic Parallelism"، ما ورد في "المزامير": "صوت الرب يولد الأيل، ويكشف الوعور وفي هيكله الكل قائل المجد. الرب بالطوفان جلس ويجلس الرب ملكاً إلى الابد. الرب يعطي عزاً لشعبه، الرب يبارك شعبه بالسلام"، قوله: صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال. صوت الرب مكسر الأرز ويكسر الرب أرز لبنان، ويمرحها مثل عجل سلم ارتفاع المعاني.

ويتكون ال "Parallellism" في العادة من بيتين، أو شطرين، فهو من نوع "دوبيت"، "Distich"، غير أنه يتكون أحياناً من ثلاثة أبيات"Tristichs"، ومن أربعة أبيات"Tetrastichs"، ومن خمسة أبيات "Pentastichs".

ولا يرد الشعر العبراني على صورة مقطوعات أو قصائد بالضرورة، ومع ذلك فقد ورد في بعض المزامير على شكل قصيدة مكوّنة من ثلاثة أقسام متساوية يربط بين أجزائها رابط، هو بيت مكرر "Recurring Verse". ونرى أن أحد المزامير قد تألف من ثلاث مقطوعات، كل قطعة منها بثلاثة أبيات، وفي نهاية كل مجموعة علامة "سلاه" "Selah". وقد تنتهي المجموعتان بعبارة تتكرر على نحو موصول في القصيدة أو أغنية Refrain"".

ونجدفي المزامير شعراً ورد منظوماً على ترتيب الأبجدية، فقد ورد مكوناً من اثنتين وعشرين قطعة، أي بعدد حروف الهجاء، تكونت كل قطعة منها من ثمانية أبيات "Verses"، وتبدأ كل قطعة بالحرف العددي. ونجد ان ال "Lamentation" قد رتب على الحروف، وهي مقاطع شعرية حزينة ومراثي "Eligies" تمثل شعر المراثي الأصيل "Threnody" في العبرانية. و يتوقف وزنها على بناء كل بيت. ولكن البيت فيها لا يشبه بيت الشعر في اللغة اللاتينية من نوع الأبيات تالكونة من ستة تفاعيل "Hexameter"، أو من الخماسي التفاعيل "Pentameter"، وانما يتكون من خمسة ألفاظ أو سبعة، مكونة ما يعادل احد عشر مقاطعاً "Syllables". يتكون كل بيت منها من شطرين غير متساويين أحدهما من ستة، والآخر من خمسة، أو من أربيعة و الآخر من ثلاثة، يفصل بينهما الاحساس والقواعد النحوية.

ونجد Sirach من أسفار "الأبوكريفا""Apocrypha"، وقد نظم على هيأة "دوبيت"Stichoi من حيث الوزن وعدد المقاطع. وهو من الشعر التعليمي: "Diadactic".

وقد قسم بعض العلماء الوارد في التوراة إلى أقسام: شعر يتمثل بما ورد منه في أسفار "أيوب""Job" وفي نشيد سليمان، ونوع يتمثل بما جاء في "المزامير" وهو شعر غنائي، أي يتغنى به، و قد ينشد على إيقاع "المزمار"، وهو يقال له "Lyric" في الإنكليزية، وشعر ثالث يتمثل في "الأمثال" و في أسفار الحكمة "Ecclesiaticus" التي هي في التهذيب وفي تعليم الإنسان "Didactic"، وفي الحكم الموجز المفيدة "Sententious". والنوع الاول هو شعر فني، و أما النوع الثاني فمختصر موجز، نظم لينشد، ولكل قسم طرق و بحور.

ولأجل إحلال الإيقاع أو النغم في الشعر، فقد يضطر أحياناً إلى مزج كلمتين قصيرتين، لتلفظ بهما ككلمة واحدة. كما يفعل ذلك لأسباب أخرى منها مراعاة "القافية" التي يقال لها "ميقف" "مقف""Maqqeph" في العبرانية. أما إذا كان العكس، وذلك بأن تكون الكلمة ثقيلة وطويلة، فقد تقرأ وكأنها ذات مقطعين، أو جزئين.

وإذا كان الشعر مؤلفاً من ابيات عديدة، تكون وحدة واحدة، فيطلق عليها "مقطوعة شعرية"Strophe" ". ولكن المراد بها في الغالب القطعة الكبيرة من الشعر، أي "القصيدة". واما الشعر القصير، المؤلف من بيتين، أي من "دوبيت"وهو يقال له "Couplet" أو "Distich" في الانكليزية، فأنه يكون الطابع الغالب على الشعر في هذه اللغة. يتكون من "Paralleism"، أي "موازنات" أو "متطابقات". وقد نظمت الاشطر والابيات، بحيث تتناسب فيما بينها في الالفاظ والجمل والمعاني. فيرد في الشطر الثاني جزء مما ورد في الشطر الاول بنصه أو بأختيار لفظة منه، لتذكير القارئ بالشطر المتقدم، فيتخرط مراد ذلك البيت.

ونجد في التوراة قطعاً عدها العلماء مقطعات شعرية، بينما هي خالية من النغم، أي الوزن، ونجد قطعاً ذات نغمة موسيقية، أ]ذات وزن، فهي من الشعر الصحيح، المقرون بنغم. والنوع الاول هو نثر "Prose" خالص، لكنه يمتاز عن النثر المألوف بأستعماله المجاز والاستعارة والكناية والتعابير الفنية والالفاظ المؤثرة في التعبير عن الرأي. فهو يعبر عن شعور عميق كامن في النفس بأسلوب أدبي رفيع لذلك عد من الشعر، مع انه نثر في الواقع.

ويتكون البيت من شطرين. ومن مقاطع "Stanaza" ومن "Strophe"، أي مقطوعة. ويتكون الشطر والبيت من مقاطع، أي من ألفاظ نظمت بعضها إلى بعض بحيث إذا ما قرئت بصوت مرتفع، فانها تقرأ بنغمه، و بموسيقى مؤثرة. و يقتضي ذلك تنظيم الألفاظ والمقاطع بشكل منسق ذي نغم، لتتولد منه موسيقية الشعر ز فللشعر ارتباط وثيق بالموسيقى والغناء. ونجد موسيقى الأشطر و الأبيات متناسبة ومن ايقاع واحد، أي من "بحر"واحد، وتحافظ القطعة الشعرية، على هذه الموسيقى، حتى لا يقع تنافر فيها، فتبدو متنافرة نابية على السمع فلا تعد شعراً من صميم الشعر.

ويدخل "الترنيم" في باب الشعر الذي يقرأ مع الموسيقى، وتعد "الأمثال" في جملة انواع الشعر. ونظراً لعدم وجود نصوص شعرية في العبرانية، و في اللغات السامية، مدوّنة بصورة واضحة تبين مقاطعها كيفية التغني أو النطق بها، ونظراً لجهلنا أصول الايقاع عند القدماء وطرق الغناء التي تغني بها، ليس من السهل علينا في الوقت الحاضر ابداء راي واضح عن الشعر عند قدماء الساميين، وفي جملتهم العرب بالطبع.

فنحن لا نعرف اليوم عن الشعر العربي القديم، الذي سبق الإسلام بعصور كثيرة، أي شئ. و ليس في النصوص الجاهلية التي وصلت الينا، نص فيه شعر أو تلميح عنه , وكل ما يقال عنه، وهو حدس وتخمين وظن وقياس قيس على ما نعرفه عن الشعر عند بقية الساميين، وما نعرفه عن ذلك الشعر هو بحد ذاته شئ قليل. وما لم يعثر على نصوص شعرية جاهلية، فإن من غير الممكن التحدث عنه ذي بال.

والشعر هو شعور وتعبير عن أحساسيس وخواطر قائله، واذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يتناسب مستواه من الرقي أو السذاجة مع مستوى الشاعر العقلي. ومعنى هذا انه بدأ ساذجاً بسيطاً، ثم نما وتطور بنمو وبتطور عقل قائله. وعلى هذا فشعر كل امة بدأ كما يبدأ كل مولود ساذجاً بسيطاً، ثم نما وتطور، وهو لا يزال يتطور ما دام العقل الانساني خاضعاً لسانة التطور، ومادام الإنسان حياً. ولد من هذا الكلام الاعتيادي المرسل المنثور، بأن ميز عنه بعض التمييز، ثم زادت هذه الميزات أو العلامات الفارقة، حتى صار صنواً للنثر، بحيث صار الكلام: نثراً ونظماً.

وقد أشير إلى "الشعراء" في العهد الجديد، أي في الانجيل. ورد في "أعمال الرسل" "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد. كما قال بعض شعرائكم أيضاً".

مما يدل على أهمية الشعراء في ذلك العهد.

والشعر أوقع أثراً على النفس من النثر، لما فيه من سحر النغم ومن جاذبية في الموسيقى، ومن توازن وتطابق في بنائه، ومن انسجام في تكوين أجزائه، بحيث إذا أسقط جزء من شطر بيت أو وضع جزء غريب في موضع الساقط، وهو ليس في وزنه اختل التوازن فيه أي النغم: ولهذا اقترن الشعر بالغناء ن لوجود النغم فيه، والنغم من أسس الغناء. فكان الشاعر يترنم بشعره ويتغنى به، ويقرأه بنغمة خاصة ليؤثر بذلك على سامعيه ن وقد يقرن ترنيمة هذا بتحريك رأسه أو يديه أو جسمه من شدة انفعاله وتأثره بشعوره، ليؤثر بذلك في السامعين فيشبه موقفه هذا موقف السحرة في الايام القديمة. ونظراُ لتغني اليونان والرومان عند تلاوتهم أشعارهم، قالوا: غنى شعراً، بمعنى نظمشعراُ، أو قالوا شعراً أو صنع شعراً. ونحن نقول في عربيتنا "أنشد الشعر، نريد: قال شعراً، وقرأ شعراً، وأنشد الشعر، قرأه، وأنشد بهم، أي هجاهم. "وفي الخبر أن السليطين قالوا لغسان هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا. وتناشدوا أنشد بعضهم بعضاً". و"النشيد رفع الصوت. قال أبو منصور: وإنما قيل للطالب ناشد لرفع صوته بالطلب، وكذلك المعرّف يرفع صوته بالتعريف يسمى منشداً. ومن هذا انشاد الشعر، إنما هو رفع الصوت". وفي هذا التفسير دلالة على أن الشعراء كانوا يرفعون صوتهم عند قولهم الشعر و يترنمون به، والترنيم و الترتيل و الإنشاد من ألوان الغناء. و لا استبعد كون قدماء الشعراء الجاهليين كانوا يترنمون في أشعارهم، أي انهم كانوا ينشدنوها انشادا?ً، بطريقة غنائية، قد تصاحب بآلة موسيقية، وربما كانوا يتغنون بالشعر أمام الأصنام، تمجيداً لها وتقرباً اليها، ومن هنا جاء مصطلح : "أنشد شعراً"ولا استبعد أن يكون هذا شأن العرب الجنوبيين في معابدهم، نظراً لما كان لهم من معابد ضخمة وطقوس دينية و تقرب إلى الاصنام.

ولا يستبعد احتمال ترنيم بعض الشعراء الجاهليين شعرهم على نغم آلة من الآت الطرب، على نحو ما يفعله اليوم بعض الشعراء الذين ينشدون أشعارهم بالعامية على "الرباب" "الربابة"، ينشدونه عند أبواب البيوت في الأعياد و في المناسبات، يستجدون به أصحاب البيت والناس الذين قد يجتمعون حولهم لسماع الغناء ز وقد يكون هؤلاء من ترسبات أولئك الشعراء الجاهليين.

وقد بدأ الشعر بداية أي شعر آخر، بدأ بداية بسيطة، بدأ جملاً مقفاة، الكلام فيه يوال بعضه بعضاً على روي واحد، أي سحعاً. أو كلاماً يشبهه، فيه نغم و ايقاع و تعبير عن إحساس. ثم تفنن فيه، و زيدت أنغامه، أي بحوره وأغلبها من الأنغام البسيطة السهلة، المتناسبة مع الحياة الأولية، ثم تقدم بتقدم الحياة، واتخذ صوراً متعددة تتناسب مع حياة الأمم وظروفها وعقالياتها، وماتت أوزان، وتولدت أوزان، وظهرت فيه أساليب عند امة، لم تعرف عند أمم أخرى، لاختلاف الحياة والاذواق والأجواء التي يولد فيها الإنسان.

والشعر الجاهلي الواصل الينا، إما أبيات، نسبت إلى شعراء، وقد لا تنسب، وإما جملة أبيات يقال لها "قطعة" " "Fragment، وإما "قصيدة" ""Ode وهي ما زاد عدد أبياتها على حدود القطعة التي رسمها لها علماء الشعر.

وقد لعب "السجع" دوراً هاماً في حياة الجاهليين، تكلم به الكهان بصورة خاصة، و لهذا اشتهر و عرف باسمهم فقيل: "سجع الكهان". و نطق به الخطباء، و قد تعمقوا فيه فاستعملوا أقصى ما ملكته بلاغتهم من أساليب التأثير على النفوس، لسحر عقول المستمعين لهم. فصار نوع من أنواع الكلام المقفى، ظاهرة القافية و الروي، و باطنه سحر معاني الشعر. فهو في الواقع شعر مقفى ينقصه الوزن ليكون شعراً تاماً. و"الروي"، حرف القافية، الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، ويلزم في كل بيت منها في موضع واحد. فلما أضيف اليه النغم، أي الوزن صار شعراً، له أوزان وبحور، على نغمها ينظم الشاعر شعره.

والسجع، وان ظهر في عربيتنا كلام مقفى خال من الوزن، إلا أنه في الواقع كلام موزون، روعي فيه، أن يكون الشطر الثاني من الجملة موازٍ أي مساوٍ للشطر الأول منها، بحيث يكون بوزنه وبقافيته. ومن هنا عد شعراً عند الأمم الاخرى لأنك إذا قرأت السجع الأصيل المعتنى به، أو السجع الذي استرسلت به السليقة، والخارج من قلب إنسان ذي حس مرهف، تجد فيه الميزان الصحيح والمقابلة التامة والمطابقة الصحيحة بين الأجزاء، كل كلمة فيه تقابل كلمة مثلها، وكل عيار فيه يقابله عيار في وزنه وثقله. وفي معانيه معان شعرية وسحر بيان، ثم إنك إذا قرأته بصوت مرتفع، وبحركات صوتية ذات ترنم، بنغم فيه حركات و سكنات، صار شعراً. ومن هنا رمت قريش الرسول بقول الشعر، وما علمناه الشعر وما ينبغي له. و)إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون(.

وما كانت قريش لترمي الرسول بقول الشعر، وتزعم ان القرآن شعر أو أن فيه شعراً، لو انها كانت تعتبر الشعر الكلام الموزون المقفى حسب و لا غير و لا تدخل التخيل فيه، أي المعنى الشعري. ومن هنا قال المفسرون: "لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. وأما من جهة التخيل، فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف على ان كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها". وهذا المذهب الذي ذهبت قريش فيه في تفسير الشعر، هو الذي حمل علماء التفسير على الاحتراس كثيراً في تفسير معنى الشعر وفي تحديده، وتحديد مفهوم الشاعر. فقالوا: "الشعر وهو الكلام المقفى الموزون قصداً. والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزوناً اتفاقاً، فلا يسمى شعراً، وما يجوز من الرجز، وهو نوع من الشعر عند الأكثر".

على أن علماء العربية لم يغفلوا أو لم يشاءوا أن يخفوا حقيقة واقعة، هي أن في القرآن آيات، إذا تأملت فيها وكأنها شعر منظوم، أو من قبيل الشعر المنثور. مثل سورة الانفطار: )إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفسُ ما قدمت و أخرت( والجواب على ذلك، ان ما نجده في القرآن من آيات تبدو وكأنها شعر موزون، هو من قبيل ما يقع في كلام الناس عفواً ومن غير تعمد من كلام، لو تأملت فيه وجدته كلاماً موزوناً، ولكن لم يقصد به أن يكون شعراً، والشعر لا يعدّ شعراً إلا إذا كان قد صدر عن تفكر وعمل خاطر، وإعمال رأي، ومن رجل اتخذ الشعر صنعة له.

وليس لدى أي أحد علم بكيفية تطور الشعر العربي من حالته البدائية إلى بلوغه درجة البحور. ولا يستطيع أحد اثبات أن هذه البحور التي ثبتها "الخليل" والأخفش، وحدداها، هي كل بحور الشعر الجاهلي، فربما وجدت بحور أخرى لم يصل خبرها إلى علم هذين العالمين أو غيرهما، ولا سيما في الشعر القبلي الذي لم يشتهر أمره، ولم يعرف إلا بين السواد، ومنه الشعر العامي، أي الشعبي، أو المحلي، المنظوم باللهجات الخاصة، إذ لا يعقل عدم وجود شعر شعبي في ذلك العهد، نظمه سواد الناس، على غرار الشعر العامي الذي يقال له الشعر النبطي في جزيرة العرب، فالشعر هو شعور على طبقة من الناس دون أخرى.

ونحن لا نملك في الوقت الحاضر تعريفاً علمياً للشعر، نستطيع أن نقول بجزم و بتأكيد انه من تحديد الجاهليين له. والتعريف المألوف له، هو كما ذكرت تعريف اسلامي محض. وقد رأينا كيف احترس علماء التفسير في تعريفه، فقيّدوه بكونه "الكلام المقفى الموزون قصداً" لإخراج ما وقع موزوناً من الكلام اتفاقاً من الشعر، وهو ما وقع في القرآن الكريم و في كلام الرسول، مما يدل على ان العرب في أيام الرسول كانوا أوسع إدراكاً لمفهوم الشعر من الاسلاميين، و انهم كانوا يدخلون فيه ما أخرجه من جاء بعدهم في الإسلام منه، بسبب فرية قريش على القرآن و الرسول. و بسبب هذه الفرية، وقع جدل فيما بين الاسلاميين في موضوع الرجز، هل هو شعر، أو هو باب خاص من أبواب الكلام لا يدخل في باب الشعر، لثبوت ورود الرجز على لسان الرسول ??!  

وقد أدرك العلماء ان هنالك فروقاً بين العرب و بين العجم في نظرتهم إلى الشعر قال طالجاحظ"في معرض كلامه على ميزات اللسان العربي و تفوقه على ألسنة الأعاجم: "والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسير. والدليل ان البديهة مقصور عليها، وان الارتجال والأقتضاب خاص فيها، وكيف صار النسيب في أشعارهم و بين الكلام الذي تسميه الروم و الفرس شعراً، وكيف صار النسيب في أشعارهم و في كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم و في ألحانهم إنما يقال على السنة نسائهم، وهذا لا يصاب في العرب إلا القليل اليسير، وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزوناً على موزون، والعجم تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزوناً على غير موزون". فهذا رأي "الجاحظ"في الشعر العربي و في الشعر عند الأعاجم.

وللشعر أوزان، هي بحوره. ضبطها "الخليل بن أحمد" الفراهيدي في الإسلام ثم من جاء بعده. استنبطت من الشعر المألوف الذي كان سائداً في أيامه، وضبطت باوزان هي "التفعيلات". بيد أننا لا نستطيع أن نقول إن الأوزان التي ضبطها الاسلاميون، تمثل جميع بحور الشعر الجاهلي، وأن علماء الشعر كانوا قد استعرضوا كل ذلك الشعر، وحصروه حصراً، و درسوه درساً، فوجوده لا يخرج خارج هذا الحصر، فلم يفتهم منه و لا بحر واحد. فقول مثل هذا لا يمكن أن يقال، وهل هنالك من دليل يؤيده و يسنده? وأنا لا استبعد احتمال عدم وقوف علماء الشعر على بحور أخرى، لم يصل علمها اليهم بسبب موتها قبل الإسلام، أو لقلة من كان ينظم بها، ألا لأنها كانت من الأشعار التي لم يصل علمها إلى علماء الشعر، لكونها من أشعار العرب الجنوبيين الذين كانوا يتكلمون باللهجات العربية الجنوبية، أو لكونها اشعار مناطق بعيدة لم يالف علماء اللغة و الشعر الذهاب اليها، أو لأنها من الشعر "العامي"، البعيد عن العربية المصطفاة، ولأسباب أخرى.

ونجد في خبر: "لهيب بن مالك" اللهبي، المعروف ب"لهب"، سجعاً و رجزاً، نستطيع أن نقول انه-إن صح- يمثل مرحلة من مراحل الشعر عند الجاهليين، تفيدنا دراستها فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الشعر الجاهلي. فقد ذكر انه سمع الكاهن "خطر بن مالك"، وكان من اعلم كهان "بني لهب"، يقول: عودوا إلى السحر  ائتوني بسـحـر

أخبركم الخـبـر  ألخير أم ضرر

أم لأمن أو حذر

وذكر انه سمع الكاهن يقول: أصابه أصابـه  خامره عقابـه

عاجله عذابـه  أحرقه شهابـه

زايله جـوابـه  يا ويله ما حاله

بلبله بلـبـلـه  عاوده خبالـه

فقطعت حبالـه  وغيرت أحواله

ثم أمسك طويلاً، وهو يقول: يا معشر بنـي قـحـطـان  أخبركم بالحـق والـبـيان

أقسمت بالكعبة و الأركـان  والبلد المؤمـن والـسـدان

قد منع السمع عتاة الجـان  بثاقب بكف ذي سلـطـان

من أجل مبعوث عظيم الشان  يبعث بالتنزيل و الـقـرآن

وبالهدى وفاصل الفرقان  تبطل به عبادة الأوثان

ثم قال خطر: أرى لقومي ما أرى لنفسي  أن يتبعوا خير نبي الإنـس

برهانه مثل شعاع الشمس

وهو كلام مصنوع، لكنه يفيدنا مع ذلك في الوقوف على نماذج من الشعر، روعي في صنعه محاكاة طريقة الكها في نظم الكلام. فهو يفيدنا من هنا في الوقوف على اسلوب من أساليب نظم الكهان في ايام الجاهلية، كما انه يفيدنا في دراسة موضوع صلة الكهانة و السحر بالشعر.

والشعر بعد، تعبير عن الخواطر والأحاسيس وخوالج النفوس، فلا يمكن أن تنحصر اغراضه في غرض واحد، لأن التعبير عن الحياة العامة للإنسان يحتاج إلى الوان كثيرة من ألوان التعبير الشعري، والشعر الجاهلي على كونه ضيقاً، لضيق أفق الحياة الجاهلية و بساطتها، فقد تنوعت فنونه، تنوعاً انبثق من صميم حياة الجاهليين، و أدى بذلك المعاني التي كانت تتطلبها حياتهم أداء يتناسب مع درجة عقليتهم و مستواهم المعاشي وأوضاعهم الاقتصادية و الاجتماعية. وقد استعرض الإسلاميون تلك الأغراض التي قيل الشعر فيها فحصرها "أبو تمام" وهو نفسه من مشاهير الشعراء في الإسلام في عشرة ابواب: هي الحماسة، والراثي، و الأدب، و التشبيب"النسيب"، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء. وجعلها غيره:الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، و الملح، وباب مفرد للسؤال والجواب. وحصرها "ابن رشيق" في النسيب والمديح والافتخار، والرثاء، والإقتضاء، والاستنجاز، والعتاب، والوعيد، والانذار، والهجاء والاعتذار.

وورد في "ديوان المعاني" ان "أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح، والهجاء، والوصف، والتشبيه، والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسماً سادساً وهو الإعتذار، فأحسن فيه".

وقد تعرض "أبو العباس ثعلب"، لهذه الأعراض فجعلها: الأمر و النهي و الإخبار، والاستفهام. وهذه الأغراض الأساسية للشعر تتفرع إلى المديح، والهجاء، والرثاء، والإعتذار، و الغزل، و التشبيه، والوصف. وجعل "أبو الهلال العسكري" أغراض الشعر: المديح، والهجاء، والفخر، والغزل، وجعلها: المديح، والهجاء، والرثاء، والغزل والوصف، في موضوع آخر.

ونلاحظ ان بعض هذه الأبواب مثل الفخر والمدح والهجاء، عامرة، وبعض منها فقيرة، حتى لا نكاد نجد فيها مما يخص الشعر القصصي Epique غير نزر يسير، وفي هذا القليل ما هو مشكوك في صحته. وأما الشعر الديني الخاص بالأصنام والاوثان، فلا نجد منه في الشعر الواصل الينا لا قطعة و لا قصيدة. ولا يعقل بالطبع ألا يكون للجاهليين شعر في هذا الباب، إذ كانوا يتوسلون ويلوذون بها ويتقربون اليها بالنذور، فلا يعقل ألا يكون لهم شعر في آلهتهم. ولا يعقل أيضاً قول من قال إن الجاهلي رجل مادي، لم يحفل بالدين ولا بالمعاني الروحية ولا بالآلهة، وهو من أبعد الناس عن الدين و التدين، لذا لم يحفل بها في شعره. فلو كان الجاهلي على هذا النحو المذكور من الابتعاد عن الدين والتدين، لما تقرب اليها بالنذور وبالقرابين وهو فقير محتاج، وبالحج، وهي عبادات لا يمكن أن ينكر وجودها عند الجاهليين أحد، لورود ذكرها في النصوص الجاهلية، وفي القرآن الكريم. والذي أراه ان سبب عدم وصول شئ من الشعر الديني الوثني الجاهلي الينا، لا يعود إلى تقصير الجاهليين في هذا الباب، بل إلى انصراف الرواة عنه، وامتناعهم من تدوينه بسبب الإسلام، لأنه من صميم ديانة أهل الجاهلية التي اجتثها الإسلام، إلا أن يكون ذلك الشعر من النوع الذي يتفق مع مبادئ الإسلام، أو لا يتعارض معها، فلم يجدوا غضاضة من روايته، ولذلك رووه.

وقد ذكر علماء الشعر "أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار و الدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب ويصرف اليه الوجوه". وذكر أن "امرأ القيس" "أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا-رغبة عن المنسبة-فتبعوا أثره، وهو أول من شبه الخيل بالعصا و اللقوة و السباع و الظباء و الطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف". وكان أول من بكى الديار.

والشاعر المجيد عندهم "من سلك هذه الاساليب، وعدّل بين هذه الاقسام فلم يجعل واحداًمنها أغلب على الشعر، و لم يطل فيمّل السامعين ن ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد". "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكي عند مُشيَّد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمارٍ أو بغل ويصفهما، لان المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منبت النرجس والآس و الورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح و الحنوة و العرارة".

وقد جعل علماء الشعر "النسيب" باباً من أبواب الشعر، ودعاه بعضهم "التشبيب"، وجعل بعضهم "الغزل" باباً من أبواب الشعر، بأن أدخل "النسيب"فيه. وطالما نجد الناس يخلطون بين الغزل والنسيب والتشبيب. والغزل في رأي بعض علماء اللغة اللهو مع النساء، وقيل محادثة النساء، وقيل: الغزل و النسيب هو مدح الاعضاء الظاهرة من المحبوب أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك، وذكر بعضهم ان الغزل و النسيب و التشبيب كلها بمعنى واحد، وقيل: إن النسيب و التشبيب، والغزل ثلاثتها متقاربة، ولهذا يعسر الفرق بينها حتى يظن إنها واحد. وذكر ان النسيب التغزل، وان قول الرجل نسب الشاعر بالمرأة، بمعنى شبب بها في الشعر، والنسيب في الشعر، هو التشبيب فيه، والتشبيب: ذكر أيام الشباب و اللهو والغزل، و يكون في ابتداء القصائد، وسمي ابتداؤهامطلقاً وإن لم يكن فيه ذكر الشباب. وقيل تشبيب الشعر ترقيق أوله بذكر النساء.

ولو دققنا النظر في معاني هذه المصطلحات، نجد أن هناك فرقاً بين الغزل وبين النسيب، والتشبيب في الأصل، غير أن الناس خلطوا بين معانيها، فلم يفرقوا بينها. فالنسيب مصطلح استعمل في الشعر للتعبير عن ذكر الديار و الأحبة في ابتداء القصيدة، فكأنه أخذ من النسب، حيث يقص الشاعر نسب أحبته ومكانهم، ومرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم و غير ذلك مما فصلوه وسموه التشبيب نفهو ليس بغزل إذن، فقول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل  بسقط اللوى بين الدخول فحومل

لا يعدّ غزلاً بالمعنى المفهوم من الغزل، وإنما هو تذكر فهو شئ آخر، يمثل عاطفة الحب نحو المرأة، وما يتعلق بها، وهو ما يقال له: Love Poem في الإنكليزية. وأما التشبيب، فهو تذكر ايام الصبا و الشباب، والغزل فيه لما فيه من المغازلة والمنادمة، ونظراً لما بين هذه الأمور من تداخل، تداخلت المعاني في الإسلام، وأخذت تعني معاني متقاربة، أو شيئاً واحداً.

وشعر الهجاءLampoon" "، هو من أهم أبواب الشعر المهمة عند الجاهليين. ويتناول هجاء الاشخاص وهجاء القبائل ز ونظراً لما كان يتركه الهجاء من اثر في النفوس، كان قوم الشاعر يروونه ويحفظونه للحط من شأن المهجو. ولهذا الاثر الخطير الذي كان يتركه الهجاء في المهجو من كسر في الاسم وتحطيم في المنزلة فسّر "كولدزيهير" لفظة "قافية" بمعنى "تحطيم القفى"، أي "تحطيم الجمجمة". وذهب إلى إن القافية، كانت بهذا المعنى في الأصل، ثم فسرها العلماء بعد ذلك تفسيرهم المالوف، وهو تفسير مخالف للأصل.

قال أهل الاخبار: "وليس في العرب قبيلة إلا و قد نيل منها، وهجيت، وعيرت، فحط الشعر بعضاً منهم بموافقة الحقيقة ن ومضى صفحاً عن الآخرين لما لم يوافق الحقيقة، ولا صادف موضع الرمية.

فمن الذين لم يُحك فيهم هجاء إلا قليلاً على كثرة ما قيل فيهم:تميم بن مرة، وبكر بن وائل، وأسد بن خزيمة، و نظرائهم من قبائل اليمن.

ومن الذين شُقوا بالهجاء ن ومزقوا كل ممزق-على تقدمهم في الشجاعة والفضل-أحياء من قيس:"نحو غنى وباهلة"، "ونحو محارب بن خصفة ابن قيس عيلان، وجسر بن محارب"، "ومن ولد طابخة بن الياس بن مضر:تيم وعُكل ابنا عبد مناة بن أدّن "وعدي بن عبد مناة"، كانوا قطيناً لحاجب بن زرارة، وأراد أن يستملكهم ملك رق بسجل من قبل المنذر، والحبطات". ولم تمدح قبيلة قط في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم.

وقد تعرض "الجاحظ" لهجاء الشعراء للأشراف، فقال: "وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال نحسده من الاشراف من يظن انه الاحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيباً وجده. فإن لم يجد عيباً وجد بعض ما إذا ذكره، وجد من يغلظ فيه ويحمله عنه. ولذلك هُجي حصن بن حذيفة، وهُجي زرارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة".

فالحس في نظر "الجاحظ" من جملةعوامل الهجاء. فالنباهة والشرف والظهور في المجتمع من العوامل التي تكون سبباً دافعاً إلى الهجاء، بسبب داء الحسد، ولهذا امن الخامل من هجاء الهجائين، وسلم من أن يضرب به المثل في قلة ونذالة وبخل، إذ ليس فيه ما يحمل الشاعر على النيل منه وعلى ما يغيظه، ولا يحسده حاسد، حتى يدفع الشاعر على التحرش به وهجائه. وقد هجيت قبائل بأقذع أنواع الهجاء مع ما لها من شرف وفضل ومكانة وخير عميم، بسبب حسد الحساد، وغيظ القبائل الضعيفة، أوالتي لا خير فيها منها، فتحرش شعراؤها بها، ودفع الحسد الهجائين إلى هجائها، على كونهم من غمار الناس ومن الخاملين في الحسب والنسب.

وقد هجيت الملوك، فتناولتهم ألسنة الهجائين، ولا سيما أولئك الملوك الذين رزقوا طبعاً حاداً، وعصباً حساساً متوتراً، مثل عمرو بن هند، والنعمان بن المنذر الذي نال اكبر نصيب من الهجاء. ومما قيل فيه: ملكُ يلاعب أمه وقطـينَـهُ  رخو المفاصل أيره كالمرود

وقد نسب قوله إلى "النابغة" الذبياني، ويمكن أن يكون قد صنعه غيره ودسه عليه حسداً له، للأيقاع به عند الملك ونسب اليه قوله: قبح اللـه ثـم ثـنـى بـلـعـن  وارث الصائغ الجبان الجهـولا

من يضر الأدنى ويعجز عن ضر  الأقاصي و من يخون الخلـيلاً

يجمع الجيش ذا الألوف و يغزو  ثم لا يرزأ الـعـدوّ فـتــيلا

وقيل ان قائل تلك الابيات هو:"عبد قيس بن خفاف"التميمي، قاله على لسانه للايقاع بينه وبين النعمان.

وللهجاء عند الجاهليين وقع شديد. ولقد بكى قوم من الأشراف من شدة هول الهجاء عليهم. ولما أمعنت قريش في هجاء الرسول والمسلمين نوجندت الشعراء للنيل من الإسلام ن أعد الرسول "حسان بن ثابت"، و "كعب بن مالك"، و "عبد الله بن رواحة" للرد عليهم، وقد قال الرسول لحسان: "اهجهم -أو هاجهم-وجبريل معك"، وقال:"إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النبل". "وكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام و المآثر ويذكران مثالبهم. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع نفكان قوله يومئذ أهون القول عليهم ز وكان قول حسان وكعب اشد القول عليهم. قلما أسلموا وفقهوا، كان أشد القول عليهم، قول عبد الله بن رواحة". وورد ان الرسول قال لحسان: "هيج الغظاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك اشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام" وفي هذا المعنى ورد في شعر "عبد قيس بن خفافط البرجمي: فاصبحتُ أعددت لـلـنـائبـا  ت عرضاً بريئاً وعضباً صقيلا

ووقع لسان كحـد الـسـنـان  ورمحاً طويل القناة عـسـولا

وفي هذا المعنى ورد أيضاً قول طرفة: بحسام سيفك أو لسانك والكلُم  الأصيل كأرغب الـكـلـم

وقول امرئ القيس الكندي: ولو عن نثاً غيره جاءني=وجُرح اللسان كجرح اليد وقول طرفة: رأيت القوافي يتّلجن موالجـاً  تضايق عنها ان تَوَلجها الإبَر

وعكس "الهجاء" هو الفخر والمدح ن وله اهمية عند العرب لا تقل عن أهمية الهجاء، لما له من مكانة في المجتمع. وقد لعب دوراً خطيراً في السياسة كذلك ن ولا يزال يلعب دوره هذا فيها إلى هذا اليوم. ولا يعني هذا المدح أن الشاعر كان صادق اللهجة في مدحه ن مخلصاً في مدحه لمن مدحه، انما المدح هو في مقابل إحسان أو طلب احسان في الغالب، فأذا قطع المحسن أحسانه عن الشاعر أو إذا حرض انسان الشاعر على من مدحه وأعطاه ليهجوه، هجاه وقد يهجوه بأقذه هجاء، ومن هنا كان الاشراف وأصحاب التستر، يبتعدون عن الشعراء، لا يريدون مدحهم ولا حمدهم، لأنهم لا يعلمون متى سنقلب الشعار عليهم، فيهجوهم بأشد هجاء، أو ينهش اعراضهم، لتقصيرهم في اعطائه المال. ومن هنا نعتوا بالتلون والكذب) والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر انهم في كل واد يهيمون. وانهم يقولون ما لا يفعلون(.

وسبب هذا التلون عامل اقتصادي، فقد كان الشاعر مثل غيره من الناس يتعيش بشعره، يبذله لمن يعطيه، ويحجبه عمن لا يعطيه، وإذا مدح أمل الإثابة، ليعيش عليها، وإن حرم منها، أو وجد أن شاعراً اخر نال من ممدوحه اكثر مما أعطاه غضب، وقلب مدحه ذماً. فيشتمه وينتقص من شأنه وان كان قد أغرق بالامس في مدحه له. وقد يثيره حساد الممدوح، بأن يعطوه أكثر مما اعطاه ممدوحه، فيغريه المال، ولا يجد عندئذ رادعاً أخلاقياً يمنعه من التهجم عليه ومن هجائه بأقبح هجاء، فالموضوع موضوع مال، ولو كان للشعراء ثراء وغنى أو سوق رائجة تباع وتقرب، ولكان حاله حال الشعراء الغربيين. يعتمدون على الرأي والفكرة والإبداع والفن، فبشتري الناس شعرهم للاستمتاع به، فما يهمهم لذلك مدح هذا أو ذاك.

ويرى "بروكلمن" أن "كثيراً ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضاً إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديماً في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكتانة شعراء المديح المحترفين في بعض الاحيان-منذ عهد النبي- إلى درك المتسولين بالغناء". وهو يجاري بذلك أهل الاخبار القائلين بأن الشعراء المتقدمين لم يكونوا يمدحون طمعاً في مغنم ومال، وإنما كانوا يمدحون عن رأي، وان أول من تسول بشعره الأعشى، فحط بعلمه هذا من قدر الشعراء، ثم أفراط الحطيئة في ذلك، حتى أهان نفسه، فصيروا المتقدمين من الشعراء ملائكة، ورموا الأعشى بخطيئة التسول، بأن جعلوه رأس المتسولين، وما الأعشى إلا بشر، وما المتقدمين عليه الا بشر مثله، فأن تسول الأعشى، فمن يثبت أنه كان اول من تسول، وإن خطيئة التسول لم تكن معروفة بين المتقدمين عليه.

والرثاء Elegy من سنن الجاهليين القديمة، يقال رثيت الميت رثياً ورثاء ورثاية ومرثية، وعددت محاسنه، أو نظمت فيه شعراً، والمراد به المدح. وهو من أبواب الشعر المهمة كذلك، لما كان لرثاء الميت من أهمية كبيرة عند أهل الجاهلية. وقد كانوا يوصون أهلهم بأن يقيموا "النياحة"عليهم، ليقال فيها ما يقال من الشعر في حقهم. ونجد في الشعر الجاهلي قصائد وأشعاراً في الرثاء. وقد نبغت النساء الراثيات في هذا الباب، واستبطن فيه أساليب بديعة لم ينتبه لها الفحول لما طبعن عليه من رقة الطباع وشدة الجزع في المصائب، وصدق الحس، ورقة العاطفة. وقد جمع الأب "لويس شيخو" مراثي الشاعرات الجاهليات، في كتاب، جمع فيه مراثي احدى وستين شاعرة عدا شعر الخنساء. والخنساء، هي من اشهر شاعرات الرثاء برثاء أخويها: صخر ومعاوية.

وشعر الرثاء وإن كان من واجب النائحات في الغالب، وقد بلغ الغاية في شعر "الخنساء"، إلا أنه كان من واجب الشعراء كذلك. فلكثير من الشعراء رثاء لآبائهم ولاخوانهم ولأقاربهم ولأصدقائهم ولذوي الفضل عليهم، وقد ترك "اةس بن حجر"جملة مراثي رائعة، وترك غيره قصائد في رثاء الملوك وسادات القبائل والاباء والاخوة، ويلاحظ أن رثاء الشعراء إنما كان في رثاء الأموات الرجال في الغالب، وذلك نابع عن طبيعة المجتمع، التي تمجد الرجل، ولا ترى ذكر النساء الحرائر إلا في المدح والفخر.

أما شعر التوجع والتألم "Elegies" و "Threnody"الذي نجده في كتاب "المراثي""Lamentations Book"، المنظوم في الكارثة التي أنزلها "بختنصر" في اليهود عام "586" قبل الميلاد، فلا نجد مثله في الشعر الجاهلي، إنما نجد أبياتاً في النكبات التي كانت تحل بالقبائل بسبب الغارات والغزوات، وأروعه ما جاء في رثاء قتلى بدر. وهو ذو طابع شخصي في أكثر الأحيان، إذ يدور حول انفعال الشاعر وتأثره لمصرع شخص كان يحبه أو يقدره. ويدخل ما وضع من شعر حول تخرب سد مأرب، وامثال ذلك في هذا الباب بالطبع.

وقد رثى بعض الشعراء أنفسهم حين شعروا بدنو اجلهم، ونجد في كتب الشعر والادب شعراً من هذا النوع، فكأن الشاعر أراد أن يفتتح به رثاء الراثيات والنائحات، ليكون لهن مقدمة ينسجن عليها شعرهن في رثائه.

وتعد "المراثي" من عيون الشعر والتراث الخالد عند الشعوب القديمة، ولا زال الناس يقيمون للرثاء وزناً كبيراً، لأنه تخليد وتقدير لشأن الميت. ونجد في الادب القديم مكانة كبيرة له فيه. لأنه تخليد وتقدير لشأن الميت. ونجد في الأدب القديم مكانة كبيرة له فيه. وفي التوراة وصف لرثاء الناس لمواتهم. وهو سجع أو رجز يناسب ظروف الميت وحاله ومكانته، يرنم بأنغام لا يختلف من حيث الوزن عن بقية الشعر، فهو يقال في كل البحور، والفرق بينه وبين غيره هو في المعنى، وفي غلبة التوجع والألم فيه على المعاني الاخرى.

ولم يصل الينا شعر جاهلي طويل، مؤلف من مئات أو آلاف من الابيات، مثل العشر القصصي الذي نجده عند الشعوب "الآري" في سرد حكايات الالهة والابطال والحروب ونحو ذلك، ومثل الشعر الغنائي "Lyrique"، ومثل الشعر التمثيلي "Dramatique"، الذي يستند على التمثيل والحوار والغناء، وشعر الجاهليين شعر قصير في الغالب، لا يتجاوز القصيدة فيه، وهي أطول قطعة من الشعر مائة بيت.

أما القصة الشعرية القصيرة، فنجدها في قصيدة الأعشى التي وصف فيها وفاء السموأل. ونجد في شعر "عدي بن زيد" قصصاً قصيرة عن أحداث تأريخية، أوردها في شعره على سبيل العظة والاعتبار، كما نجد في شعر "أمية بن أبي الصلت" قصصاً، أخذ بعضه من قصص أهل الكتاب، وأخذ بعض آخر منه من اساطير العرب القديمة. وكل هؤلاء هم ممن نستطيع أن نقول عنهم إنهم من الحضر، أو المتأثرين بعقلية أهل القرى والحضارة. ويمكن عد قصة الأعشى عن السموأل من هذا النوع المسمى "Ballad"في الانكليزية. ويرى "بروكلمن" أن "محاولة الاعشى إنشاء شعر القصة La Ballade واختراع أسلوب الملحمة، في إشادته بوفاء السموأل، فقد بقيت عملاً فذاً لم ينسج أحد على منواله".

ونجد في شعر للنابغة قصة "زرقاء اليمامة"، وقصة الحية، إذ يقول: تذكر أني يجعل الـلـه فـرصة  فيصبح مال ويقـتـل واتـره

فلما وقاها الله ضـربة فـأسـه  وللبر عين لا تغمض نـاظـره

فقالت:معاذ الله أعطيك إنـنـي  رأيتك غدراً يمينـك فـاجـره

أبي لي قبر لا يزال مقابـلـي  وضربة فأس فوق رأسي فاقره

والقصة: ان بلدة امتنعت على أهلها بسبب حية غلبت عليها، فخرج أخوان يريدانها، فوثبت على احدهما فقتلته، فتمكن لها أخوه في السلاح، فقالت: هل لك أن تؤمنني فأعطيك كل يوم ديناراً? فأجابها إلى ذلك حتى اثرى، ثم ذكر أخاه، فقال: كيف يهنئوني العيش بعد أخي? فأخذ فأساً وصار إلى حجرها، فتمكن لها، فمل خرجت ضربها على رأسها، فأثر فيه ولم يمعن، ثم طلب الدينار حين فاته قتلها! فقالت:إنه ما دام هذا القبر بفنائي وهذه الضربة برأسي فلست آمنك على نفسي!وكانت العرب تضرب أمثالاً على السنة الهوام.

وللحية قصص عند الشعوب القديمة، وقد صوروها بصور مختلفة، وأشير اليها في التوراة. وقد جعلت رمزاً للحيل، والإغراء والشر والغدر، ولأرجح ان واضع القصة التي نظمها شعراً على لسان النابغة، انما أخذها من أهل الكتاب.

ونجد ل"عمروا بن آلة بن الخنساء" شعراً حكى فيه قصة "سابور"، و"الحضر" منه: ألم ينبئك ولأنباء تـنـمـي  بما لاقت سراة بني العبيد

ومصرع ضيزن وبني أبيه  وأحلاس الكتائب من شريد

أتاهم بالفيول مـجـلـلات  وبالابطال سابور الجنـود

فهدم من أواسي الحضر صخراً  كأن ثـقـالة زبـر الـحـديد

وقد لعبت قصة فتح "سابور" "شابور"، دوراً خطيراً في قصص الجاهليين. فقد وردت في شعر "أبي داود"، الذي يقول: وأرى الموت قد تدلى من الحضر  على رب أهله الـسـاطـرون

صرعته الأيام من بعد ملك=ونعيم وجوهر مكنون ونجد "عدي بن زيد" العبادي، يذكر قصة الحضر في شعره، كذلك. ذكرها في القصيدة التي تنسب اليه ومطلعها: أرواح مودع أم بكور  فأنظر لأي ذاك تصير

ثم يذكر القصة، ويصف قصر الحضر، ثم يذكر قصصاً آخر اورده على سبيل العظة والاعتبار، قالها وهو في سجنه، للتأثير على النعمان لحمله على العفو عنه.

وذكر "عدي بن زيد" الحضر في شعر آخر ينسب اليه، منه: والحضر صابت عليه داهية  من فوقه أيد مناكـبـهـا

ربية لـم تـوق والـدهـا  لحينها إذ أضاع راقبـهـا

إذ غبقته صهباء صافية=والخمر وهل يهيم شاربها فكان حظ العروس إذ جشر=الصبح دماء تجري سبائبها وخرب الحضر واستبيح وقد=أحرق في خدرها مشاجبها وقد رود في هذه القصيدة: ما بعد صنعاء كان يعمـرهـا  ولاة ملك جزل مواهـبـهـا

رفعها من بني لدى قزع المزن  وتندى مسكاً مـحـاربـهـا

محفوفة بالجبـال دون عـرى  الكائد ما ترتقي غـواربـهـا

يأنس فيها صوت النـهـام إذا  جاوبها بالعشي قـاصـبـهـا

ساقت اليه الاسـبـاب جـنـد  بني الأحرار فرسانها مواكبها

وفوزت بالبـغـال تـوسـق  بالحتف وتسعى بها توالبـهـا

حتـى رآهـا الأقـوال مـن  طرف المنقل مخضرة كتائبها

وكان يوماً باقي الحديث=وزالت أمة ثابت مرتبها وبدل الفيح بـالـزرافة  والأيام جون جم عجائبها

بعد بني تبع نـخـاورة  قد اطمأنت بها مرازبها

والأعشى، ممن أدخل قصة الحضر في شعره أيضاً، تطرق في شعره إلى محاصرة المدينة، وكيفية عشق "نضيرة بنت الضيزن" لسابور حولين في الحضر، ثم إلى ما لاقته "نضيرة"من جزاء، بسب خيانتها لوالدها، وذلك بقوله: ألم ترَ الحضر إذ أهـلـه  بنعمي وهل خالد من نعم

أقام به شاهبور الجـنـو  د حولين تضرب فيه القدم

فلمـا دعـا ربـه دعـوة  أناب اليه فلـم ينـتـقـم

ونجد قصة "الغار"مسجلة في شعر. ومجمل القصة أن رجلاً من "بني ضبة" كان له في الجاهلية سبعة بنون، فخرجوا باكلب لهم ينتقصون، فأووا إلى غار فهوت عليهم صخرة لإاتت عليهم جميعاً، فلما استراث أبوهم أخبارهم أقتفى آثارهم حتى أتى إلى الغار فانقطع الأثر، فأيقن بالشر، فرجع وأنشأ يقول: أسبعة أطواد وسـبـعة أبـحـر  أسبعة آسـاد أسـبـعة أنـجـم

رزئتهم في ساعةٍ جـرّعـتـهـم  كؤوس المنايا تحت صخر مرضم

وتأتي أبيات بعدهم في وصف حزنه، ثم لم يلبث أن مات كمداً.

ويجب ان لاننسى شعر المعارك والحروب وهو شعر نستطيع أن نسميه شعر "الحماسة". فالعادة عند العرب أنهم ينشدون الشعر عند الغزو وفي أثنائه، وفي المعارك والحروب. فالمقاتل حين يندفع بين المحاربين ليقاتل خصمه، ينشد شعراً يفتخر فيه بنفسه وبعشيرته وبقبيلته، ويكون في الغالب من الرجز، لأنه شعر سهل مطاوع، يصلح لمثل هذه المواقف، في أخبار الأيام وفي الفتوح الإسلامية شعراً وافراً من شعر المعارك من الرجز ومن بحور الشعر الاخرى.

ومن أبواب الشعر عندهم: شعر الوصايا والحكم. فنجد بين الشعر المنسوب إلى الجاهليين شعراً فيه وصايا يوصي الشاعر بها ولده وأقاربه أو عشيرته بخلاصة ما حصل عليه ذلك الشاعر في حياته من تجارب. كما نجد بينه حكماً عرف بها بعض الشعراء مثل زهير بن أبي سلمى، والافوه الأودي وآخرون.

وقد تغنى الجاهليون بشعرهم، فكانوا ينشدونه بنغم خاص، قد يصحب بآلة موسيقية، وقد يشربون ويغنون، أو يسمعون مغنياً يغنيهم بشعر. فلما انتهى "خالد بن الوليد" إلى "سوى" وأهله من بهراء، وجد ناساً منهم يشربون خمراً لهم في جفنة قد أجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول: ألا عللاني قبل جيش أبي بكر  لعل منايانا قريب وما ندري

ونجد في الاخبار ان ملوك الحيرة والغساسنة والأثرياء كانوا يستمعون إلى الغناء وهو شعر ينشد على نغم، توقعه قينة على آلة من الآت الموسيقى، مثل الصنج والبربط، والدف، والمزهر، وآلات أخرى أخذت من الروم والفرس، وقد سبق أن تحدثت عن وجود قينتين بمكة كانتا لعبد الله بن جدعان، تغنيان له، واتخذ غيره من الموسرين والشعراء قياناً، يغنين لهم الأغاني، وأكثرهن من الموالي من روم وفرس.

والغناء كلام يجب أن يتماشى مع النغم، ولهذا ينظم نظماً يتناسب مع الإيقاع. ونجد عند اليونايين شعراً ينظم للغناء خاصة، يقال له "الشعر الغنائي" "Lyric"، وهو يختلف عن الشعر المألوف الذي لا يمكن أن يتغنى به دائماً لثقله، وعدم اتساقه مع الايقاع. ونجد في التوراة شعراً نظم خصيصاً للإنشاد وللتغني به، وهو يختلف في نظمه عن الشعر المألوف.

ولم يشر أهل الاخبار إلى وجود شعر من هذا النوع عند الجاهليين، وإن ذكروا ان الجاهليين كانوا يتغنون بالشعر، وكانت قيانهم يتغنين بشعر الشعراء. ومعنى هذا انهم كانوا يغنون ببحور الشعر المألوفة، لا بشعر غنائي خاص. ونجد في خبر "أُحد" ان "هنداً" قامت في النسوة اللواتي معها، وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضونهم، فقالت هند: إن تقبلوا نعانـق  ونفرش النمارق

أو تدربوا نفارق  فراق غير وامق

وتقول: ويها بني عبد الدار  ويها حماة الادبار

ضرباً بكل بتار

فهذا شعر، ينسجم التغني به مع الايقاع على الدفوف، ووزنه يناسب النغم، لكنه ليس من شعر الغناء الخالص، الذي يتناسب مع الالحان المبنية على ارتفاع وانخفاض الصوت، وعلى التغير في النبرات، وعلى الجر والمط، والقصر والجزم، وما شاكل ذلك من حركات يقتضيها إيقاع اشتراك جملة آلات دفعة مع الشعر الذي يتغنى به في وقت واحد، وربما اشترك في الغناء جملة مغنيين.

ويذكر أهل الاخبار أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب إلا "الحداء"و "النشيد" وكانوا يسمونه "الركبانية"، "واول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجع، ومن أهل المدينة سائب خاثر، وأول من صنع الهزج طويس"، وهو كلام قصد به أن الغناء العربي قبل الإسلام لم يكن كثير التنويع، وإنما كان مقصوراً على طرق معينة، ثم تطور في الإسلام بدخول الاعاجم فيه، وباحتكاك العرب بهم. فالشعر الجاهلي إنما كان يتغنى به بتلك الطرق المحدودة. ونحن لا نستطيع البت في هذا الموضوع، لأنه من اخبار أهل الاخبار، ولكن لا يعقل في نظري أن يقتصر غناء الحضر على هذه الانغام البدوية، وبينهم مغنون اعاجم وقيان استوردن من فارس والروم، وكن يحسن الغناء، ويتغنين بالشعر، فكان لعبد الله بن جدعان قينتان أعجميتان، تغنيان له ولضيوفه، وكان لغيره قيان، وقد ورد ان بعضهن كن يغنين بهجاء الرسول. ثم ان ملوك الحيرة كانوا على اتصال بغناء الفرس وغناء بني إرم والنبط، فلا يعقل الا يتاثروا بدروب غناء الاعجام، فدخلوها في غنائهم، ومنعوا في التغني بالشعر، والا يرز بينهم من يضع اشعارا تنسجم مع الحان الغناء.

وكان من غناء العرب "النصب"، وقد عرف به الاعراب، وهو غناء يشبه الحداء، الا انه ارق منه. وهو العقيرة. بقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب. فهو غناء يتغنى به بشعر على طريقة معلومة، اشتهرت بها العرب أهل البوادي.

وقد لعب الجمل خطيرا في الشعر الجاهلي، وكيف لا يستأثر بمكانة مهمة في الشعر الجاهلي، وهو مرافق الاعرابي، والحيوان الوحيد الذي رضي بمصاحبته ومرافقته في الصحارى الموحشة المتعبة، ولهذا نال حقه من المدح والثناء عليه، كما الهب مشاعر الاعرابي فجعله يصفه في شعره، وصفا كاد يحيط بجميع اجزاء جسمه، وحظيت الخيل بمكان مرموق أيضاً في مملكة الحيوان المذكورة في الشعر، فالفارس لا يكون فارساً إلا بفرسه، وكان يقدم فرسه على نفسه وأهله في الطعام، لأهمية الفرس في حياته، فلا عجب إذا ما أبدع الشاعر الجاهلي في وصف الفرس، وأشاد بذكر الخيل في شعره. وحظيت الحيوانات الوحشية مثل المها والظباء، والحمار الوحشي، والأسود، على مكانة في الشعر الجاهلي كذلك، لما لها من صلة بحياة العربي.

يقول "بروكلمن": "والقصيدة، المؤلفة على نظام دقيق، ينبغي استهلالها بالنسيب، والحنين إلى الحبيبة النائية، ذلك الحنين الذي يعتري الشاعر عند رؤية أطلالها الدائرة وهو راكب في القفار. ثم يتحول الشاعر في تخلص نموذجي من مواطن لوعته وذكرياته إلى وصف مسيره في المفاوزدون انقطاع، وهو وصف قد يخرج أحياناً إلى مجرد تعداد لأسماء ما يجتازه من أماكن. ثم يخلص من ذلك إلى وصف راحلته، فإذا هو عمد في هذا الوصف إلى تشبيه راحلته ببعض حيوان الوحش استطرد أحياناً إلى وصف هذا الحيوان وصفاً شاملاً. ثم لا يتجه الشاعر إلى التعبير عن حقيقة قصده إلا في آخر القصيدة.

هذا المنهج لابد أن يكون قد رسخ منذ زمن طويل. وقد ذكر امرؤ القيس سلفاً له في الشكوى والبكاء على الأطلال، يدعى: ابن خذام، وإن لم يستطع أدباء العصر العباسي تعيين هذا الشاعر. وتبع المتأخرون هذا المنهج ولم يكادوا يجسرون على تغييره".

وقد أكثر الشعراء من استعمال بعض الجمل في افتتاح شعرهم، مثل "بانت سعاد". ذكر أن "بندر الأصبهاني"كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها "بانت سعاد".

والشعر الجاهلي، شعر صلد متين، يميل إلى الرصانة والى استعمال اللفظ الرصين، الذي يغلب عليه طابع البداوة، وشعر هذا طابعه، لا يمكن أن يتحرر، وأن يعبر عن المعاني بحرية، إذ يكون الشاعر مقيداً بقيود الخضوع للعرف وللشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس، ولهذا لم يتمكن الشعراء من التطرق إلى مختلف المعاني والتصورات الإنسانية، وصار الطابع الغالب عليه هو الطابع اللغوي، فخشونة الشعر، وجزالته وغرابته، من مميزات هذا الشعر ومن محبباته إلى النفوس، وكلما كان الشعر غريباً وبألفاظ غريبة، نال التقدير والاستحسان، لقد عمل "الأصمعي" قطعة كبيرة من أشعار العرب، لكنها لم تنل الاستحسان ولم يرض عنها العلماء "لقلة غربتها واختصار روايتها". والشعر الذي ينال التقدير، هو الشعر الخشن، الذي روي بألفاظ نجدية، ولذلك لم يحفل العلماء بشعر عدي بن زيد، لأن فيه ليونة، والعلماء يبحثون عن الشعر الخشن، الذي على العالم أن يفكر فيه ويعمل رأيه فيه طويلاً، ويفكر ويغوص فيه حتى يجد معناه.

واشتهر بعض الشعر بشهرة عرف ونعت بها، مثل قصيدة: "سويد بن أبي كاهل"، واسمه "عطيف بن حارثة" اليشكري ويقال الوائلي، ويقال الغطفاني، التي عرفت ب"اليتيمة"، وهي قصيدة عينية. قيل عرفت بذلك لما اشتملت عليه من الأمثال. وهو من الشعراء المخضرمين. وعرفت القصيدة التي نظمها "خداش بن زهير"، في هشام والوليد ابنا "المغيرة" المخزوميان، وفي "عبد الله بن جدعان "بالمنصفة. وذلك لإنصافه خصومه في شعره. ومن المنصفات قول "المفضل" النُكري: كأن هزيزنا يوم التـقـينـا  هزيز أباءة فيهـا حـريق

وكم من سيد منّا ومنـهـم  بذي الطرفاء منطقه شهيق

لقد مر الشعر بمراحل، سنة كل شيء في هذه الدنيا. بدأ بدائياً لبداءة أصحابه، ثم تطور بتطور الناس، تطور من حيث معانيه وأفكاره، وتطور من حيث قوالبه وأشكاله، أي بحوره. واقتضى هذا التطور ومرور الزمن وتغير الإنسان، ظهور أوزان جديدة، أوجدها الشعراء هروباً من التقليد، وخروجاً على التقاليد، وابتداعاً من الشاعرية، لتقدم لعشاق الشعر لوناً جديداً من ألوان النظم، يمتاز على المعروف المألوف المتوارث، بنفس جديد، وبموسيقية حديثة تناسب الزمان والمكان، كما هو شأن الشعر عند كل أمة، فتعددت ألوانه وبحوره، حتى إذا كان الإسلام ضبطت ألوانه في بحور جمعها "علم العروض" المعروف.

أما أسماء أولئك المجددين في الشعر الجاهلي، فقضية لا يمكن البت بها، ولا إصدار حكم فيها. فنحن لا نعرف من أمر الشعر الجاهلي إلا هذا الذي يرويه أهل الأخبار عنه، وهو لا يستند -كما قلنا-إلى سند جاهلي مدون، ولا إلى كتاب من كتب أهل الجاهلية ولا إلى ديوان من دواوينهم، بل روي رواية وحكى حكاية، وأقام الاسلاميون على هذا المروي قواعد نظرياتهم في الشعر الجاهلي. ولم يرد في هذا المروي أي شيء عن كيفية ظهور بحور الشعر الجاهلي، ولا عمن جدد وأوجد هذه البحور. وليس لنا أي أمل في إمكان الحصول في المستقبل على علم جديد عن تطور ذلك الشعر وعن ابتكار رجاله الجاهليين فيه، ما دام سند علمنا هذا المورد القائم على الرواية القديمة. أما إذا عثر على نصوص مدفونة عربية جاهلية أو أعجمية فيها بحوث عن الكلام المنظوم عند العرب، فذلك شيء آخر بالطبع. ومثل هذه النصوص هي التي يكون في وسعها وحدها تقديم صورة علمية واضحة عن الشعر الجاهلي.

ومن رأي بعض أهل الأدب، "أن مُقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربعَ، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها ...ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق ...لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسبب، وضارباً فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الاصغاء اليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحرّ الهجير، وانضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.

فالشاعرُ المجيد من سلك هذه الأساليبَ، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل، فيمل السامعين، ولم يقطع النفوس ظمأ إلى المزيد".

وزعموا ان هذا كان نهج شعراء الجاهلية في نظم شعرهم، ونهج شعراء صدر الإسلام، حتى اختلط العرب بالعجم، وانتقل العرب من حياة إلى حياة، وظهر الشعراء الأعاجم الذين لم يتمكنوا من غسل أدمغتهم من المعاني الأعجمية، ومن التفكير الأعجمي، فنظموا الشعر بالعربية، ولكن بمعان أعجمية جديدة، وجاءوا ومن تأثر بالحضارة العربية الجديدة التي ظهرت في البلاد المفتوحة بآراء مستجدة، وظهر التجديد في الشعر العربي، وابتعد بذلك عن اسلوب الشعر الجاهلي.

ويتوقف طول الشعر وقصره على "نفس الشاعر"، أي على الظروف النفسية التي تحيط بالشاعر حين ينظم شعره، وبالمؤثرات التي أثرت عليه. وقد سئل "أبو عمرو بن العلاء"، "هل كانت العرب تطيل? قال: نعم ليسمع منها. قيل: هل كانت توجز ? قال: نعم ليحفظ عنها. ويستحب عندهم الإطالة عند الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب والإصلاح بين القبائل كما فعل زهير والحارث بن حلزة ومن شابههما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع والطوال للمواقف المشهورة".

وقد ذهب "غرونبام" إلى امكانية تقسيم الشعر الجاهلي إلى مدارس أدبية متميزة، جعلها ستة مدارس أو أتجاهات أو مذاهب بتعبير أصح. تضم الشعراء الذين ولدوا ما بين سنة 440 و 530 م على وجه التقريب. "وليس معنى هذا أنه ليس هنالك شعراء تتجافى طبيعتهم نفسها عن مثل هذا التقسيم وتشذّ عنه. فإن الشاعرين الصعلوكين الشهيرين تأبط شراً والشنفري، هما المثلان البارزان على مثل هذه المواهب الفردية. ولعل من أمتع الأمور، ما يتجلى في آثار تلك الفئة من الشعراء، الذين عاشوا في بلاط الحيرة، من مظاهر الحضارة الساسانية. فأبو دؤاد الايادي "حوالي 480-550 م"، والشاعر النصراني عديّ بن زيد "حوالي 545 -585 م"، يتجلى في شعرهما خليط من العقلية البدوية والتفكير الحضلاي. وطرفة "حوالي 535-538 م" وكذلك الأعشى، ينقلان إلى العراق سياقاً فنياً آخر لمدرسة أخرى ينتمي أعلامها إلى قبيلة قيس بن ثعلبة، من بنب بكر بن وائل، هذا وليس من شك في أن الأعشى هو أكبر مالك لأزمة اللغة بين شعراء الجاهلية، وان المشاهد البهجة في قصائده تنم عن تأثير الشعراء الساسانيين. ثم إن امرأ القيس بن حجر الأمير الكندي "حوالي 500-540 م"أشهر شعراء العرب الجاهليين وأبعدهم أثراً، كان نظير طرفة، صاحب احدى القصائد النموذجية المعروفة بالمعلقات. ومعاصره عبيد بن الأبرص يمثل قمة مدرسة أخرى من هذه المدارس.

وقبل أن يتجرم القرن السادس، كانت وحدة اللغة واتساق الاسلوب، قد قطعا مرحلة واسعة نحو التبلور. وقد تداخلت هذه المدارس عن طريق تجمع المفردات وتوارد الصور الشعرية، لكن هذا التطور لم يتسع فيشمل جماعات الشعراء التي عاشت إلى جانب التيار الرئيسي الذي جرى فيه الشعر العربي. وأهم مدارس هذا العصر المتأخر هي مدرسة الشعراء الهذليين التي برزت آثارها ما بين سنة 550-700 م. وكان من الموضوعات التي اختصت بها هذه الجماعة وصف النحل والعسل. ومثل هذه الأوصاف قد استتبعت ضرباً من الخصوبة في مشاهد الطبيعة لا سيما حيث ألحت بالشاعر الرغبة في جمع العسل البري.

ويشتمل ديوان الهذليين على قصائد كثيرة لأفراد ما نظموا الشعر ألا لماماً. و لا بد ههنا من التأكيد أنه كان إلى جانب الشعراء "المحترفين"، عدد عظيم من الشعراء "الهواة" والذين عمدوا، بين الفينة والفينة، إلى التعبير بالشعر عن عواطفهم ورغباتهم. وهذا يعلل لنا ما نجده دائماً من أبيات هي من حيث التأريخ وليدة عصر واحد، لكنها ليست كذلك من حيث درجة الاتقان. فشعر غير المحترفين يغلب أن يكون دون شعر المحترفين بنحو من جيل على أقل تقدير. ولما لم تكن هذه الظواهر قد أخذت حتى الآن بالاعتبار الكافي، فقد ساعد ذلك على استمرار الاعتقاد بجمود الشعر القديم في سياقه الموحد. وقد بقي في مؤخرة الركب-لكن ثقافياً لا فنياً- الرجز الذي هو أقرب إلى الأدب الشعبي. على أن الفاصل ما بين الرجز والقريض -وهو الشعر بالمعنى المعروف-قد ظلحاداً إلى عهد متأخر جداً".

وبعد، فهناك مسائل تتصل بتطور الشعر الجاهلي أرى ان من المستحيل حلها في الوقت الحاضر، لعدم وجود أدلة علمية مقبولة يمكن أن يركن اليها لحل ما عندنا من عقد مستعصية، مثل نشأة وتطور الشعر العربي، وكيف نشأت القصيدة، وعدد الأوزان والبحور العروضية التي سار عليها الجاهليون في وزن الشعر، والتزام القافية أو عدم التقيد بها في الشعر، ومتى نشأت القصيدة، ثم هل كانت لغة الشعر لغة واحدة، خاصة كما نراها في الشعر الجاهلي المدون، أم لم تكن، وانما كان الشعراء ينظمون بلهجاتهم من الوجهة اللفظية والنحوية والصرفية، ولكن علماء الشعر في الإسلام، هذّبوا تلك الأشعار حتى جعلوها بلهحة واحدة، هي اللهجة التي وصلت الينا، واذا كان هذا هو ما جرى، فما هي نسبة التحوير التي أوقعها العلماء على ذلك الشعر ?

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق