إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1771 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة لغة القرآن


1771

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
     
الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة

 لغة القرآن

 ولتشخيص لغة القرآن صلة كبيرة في تعيين وتثبيت المراد من العربية الفصيحة أي العربية المبينة. ولهذا فأنا
ضطر إلى التعرض لها، وإن كان الموضوع بحثنا إسلامياً، فأقول نزل القرآن منجماً )بلسان عربي مبين(.ولكن العرب كانوا ولا زالوا يتكلمون بلهجات، فبأي لهجة من لهجاتها نزل القرآن الكريم ? لقد تطرق "الطبري" في مقدمة تفسيره إلى هذا الموضوع بعد أن تعرض لرأي من زعم أن في القرآن كلاماً أعجمياً، وأن فيه من كل لسان شيئاً، فقال: "قال أبو جعفر: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر إجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب وبلغتها. فنقول الآن:إذا كان ذلك صحيحاً في الدلالة عليه، فبأي ألسن العرب أنزل? أبالسن جميعها أم بألسن بعضها ? إذ كانت العرب وإن جمع جميعها اسم انهم عرب، فهم مختلفو الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربياً، وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملاً خصوصاً وعموماً، لم يكن السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلاّ ببيان من جعل إليه بيان القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه،صلى الله عليه وسلم، بما حدثنا خلاد بن اسلم، قال: حدثنا أنس بن عياض عن ابي حازم عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أنزل القرآن على سبعة احرف، فالمراء في القرآن كفرٌ، ثلاث مرات، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه.

واستمر الطبري بعد ذلك في تعداد الطرق التي ورد فيها هذا الحديث: حديث "أنزل القرآن على سبعة احرف"، ورواية بعض الأخبار الواردة في حدوث اختلاف بين الصحابة في حفظ بعض الآيات وقراءتها. ثم خلص بعد هذا السرد إلى نتيجة، هي أن القرآن "نزل بالسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي بين أظهرهم هي بعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها"، فلم يجزم بتعيين اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" حديث معروف مشهور، يرد في كتب التفسير وفي كتب المصاحف والقراءات. ورد بطرق متعددة، وبأوجه مختلفة. وهذه الطرق والأوجه، إن اختلفت في سرد متن الحديث وفي ضبط عباراته، قد اتفقت في الفكرة، وخلاصتها نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف. ويقصدون بالحرف وجهاً من أوجه الالسنة، أي لهجة من اللهجات.

أما رجال سند هذا الحديث، فعديدون، وفي حال بعضهم كابن الكلبي وأبي صالح مغمز. وهم جميعاً يرجعون سندهم إلى جماعة من الصحابة، هم نهاية سلسلة السند، قالوا: إنهم سمعوا الحديث من الرسول، ويعنون بهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنساً، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ارقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو ين العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وابا بكرة، وأبا جهم، وأبا سعيد الخدري، وأبا طلحة الأنصاري، وأبا هريرة، وأبا أيوب، وجملتهم واحد وعشرون صحابياً على بعض الروايات.

وورد في الحديث، حديث آخر يرجع سنده إلى "ابن عباس" فيه تأييد له، نصه أن رسول الله قال: "اقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم ازل استزيده ويزيدني حتىّ انتهى إلى سبعة أحرف"، وحديث اخر، نصه: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف،فرددتُ إليه: أن هو"ن على أمتي، فارسل اليَ: ان اقرأ على حرفين، فرددت إليه: ان هون على أمتي، فأرسل الي أن اقرأه على سبعهَ أحرف"، وحديث ثالث نصه:" إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقر القرآن على حرف، فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف"، "في حديث أبي بكرة عنه: فنظرت إلى ميكائيل فسكت. فعلمت أنه قد انتهت العدة". وهناك أحاديث أخرى بهذا المعنى.

ونجد في كتب التفسير والحديث والأخبار احاديث وأقوالا تشير إلى ان بعض الصحابة كانوا يقرئون قراءات متباينةُ كانوا يتعززون بقرائهم ويتمسكون بها، ومنهم من كان يقرأها على الرسول فلم يعترض عليها، بل روى أنه قال: "اقرأوا كما علمتم"، وروي أنه "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه ُسلم، فقال له: اقراني عبدالله بن مسعود سورة اقرانيها زيد واقرأنيها ابي بن كعب، فاختلفت قرائتهم، فبقراءة أيهم اخذ ? قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعلي إلى جنبه،قال علي: ليقرأ كل إنسان بما علم كل حسن جميل" ورووا على لسان عمر بن الخطاب قوله: "سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقُرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت اساوره في الصلاة، فتصبرت حنى سلم. فلما سلم، لبيته بردائه، فقلت: من اقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها ? قال: اقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم. فقلت: كذبت، فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤهاَ. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان قال: فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن انزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منها" وكالذي ذكروه من ان رجلا قرأ عند "عمر" فغير عليه، "فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه سلم، فلم يغيرّ علي"، فاختصما عند النبى. صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله الم تقرئني آية كذا وكذا ? قال: بلى، فوقع في صدر عمر شيء. فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك في وجهه. فضرب صدره. وقال: أبعد شيطاناً ! قالها ثلاثاً. ثم قال: يا عمر: ان القرآن كله صواب" ما لم تجعل رحمة عذاباً، أو عذاباً رحمة".

وروي "ان رجلين اختصما في أية من القرآن وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارءا إلى ابي " فخالف ابي فتقارأوا إلى النبي صلى اللهُ عليه سلم، فقال: يا نبي الله اختلفنا في آية من قرآن وكلنا يزعم أنك أقرأته فقال لأحدهما: اقرا، قال:فقرأ، فقال: أصبت. وقال للاخر: اقرأ، فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: أصبت. وقال لأبي: اقرأ، خالفهما، فقال: أصبت. قال أبي فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دخل في من امر الجاهلية. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم. قال: ففضتُ عرقاً، وكأني أنظر إلى الله فَرقاً،وقال: إنه أتاني آت من ربي، فقال: إن ربك يأًمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: رب، خفف عن أمتي. قال: ثم جاء ? فقال: إِن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلتُ: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد.فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة" فقال إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة الخ".

ورُوي عن زيد بن وهب، قال: أتيت ابن مسعود استقرئه آيةة من كتاب الله، فأقرأنيها كذا وكذا فقلت: إن عمر أقرأني كذا وكذا خلاف ما قرأها عبدالله. قال فبكى حتى رأيت دموعه خلال الحس، ثم قال: إقرأها كما أقرأك عمر، فوالله لهي أبين من طريق السيلحين.

وأورد العلماء أحاديث اخرى بهذا المعنى، تظهر كلها وقوع اختلاف بين الصحابة في قراءة القرآن، وعلم الرسول به، وتجويزه لهم القراءة بقراءتهم كل إنسان بما علم.

وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الأحرف وما اريد منها على أقوال. جمعها القرطبي على خمسة وثلاثين قولا،، وجعلها "السيوطي" علىنحو أربعين قولا، تحدث هو وغيره عنها، والحديث عنها في هذا الكتاب يخرجنا من حدود بحثنا المرسومة، وهو التأريخ الجاهلي، لنذلك فسوف لا أتكلم في هذا المكان ألا عن الأقوال التي عينت تلك الأحرف ونصت على أسمائها بالنصُ والتعيين، فأقول: قد رأينا الأحاديث المذكورة والأخبار المروية، وهي عامة، لم تنص على كون المراد من الأحرف السبعة حرفا معيناً، ولساناً خاصاً من ألسنة العرب، غير أننا نجد أخباراً، نصت على تلك الأحرف وعينتها وشخصتها، إذا تتبعنا سندها ورجالها نجدها تنتهي ب "ابن عباس". واكثر القائلين بها هم من علماء العربية مثل "أبو عبيد" و "أبو عمرو بن العلاء" وثعلب، والأزهري، وسند هذه الأخبار "الكلبي" عن "أبي صالح" عن "ابن عباس"، أو عن "قتادة" عن ابن عباس، وأمثال ذلك من طرق، فقد ورد عن "ابن عباس" قوله: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال أبوعبيد: ُالعجز، هم بنو سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية،وثقيف، هؤلاء كلهم من هوازن. يقال لهم: عليا هوازن. ولهنا قال ابو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم، يعني بني دارم، "واخرج ابو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خزاعة. قال: وكيف ذلك ? قال: لأن الدار واحدة، يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم".

"وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهذيل وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر". وذكر بعض آخر أنه نزلّ بلغة قريش، وهذيل، وثقيف، هوازن، وكنانة، وتميم، واليمن وسعد بن يكر، هم من عليا هوازن. معنى هذا أنه نزل بلغات عدنانية ولغات قحطانية، أي بجميع ألسن العرب.

وقد تعرض "الطبري" للاقوال المذكورة، فقال "وروى جميع ذلك عن ابن عباس، وليست للرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك ان الذي روي عنه ان خمسة منها من لسان العجز من هوازن: الكلبي عن أبي صالح، وان الذي روي عنه ان اللسانين اللآخرين لسان قريشُ وخزاعة: قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه"، وقد ضعف "ابن الكلبى"، ورفض علماء الفقه والحديث الأخذ عنه. وضعف "ابو صالح" كذلك واتهم بالكذب: "قال ابن معين: إذا روى عنه الكلبى فليس بشيء".

وأما "قتادة"، فذكر "الطبري" عنه أنه لم يلق "ابن عباس"، ولم يسمع منه فحديثه عن ابن عباس إذن مما لا يجوز الأخذ به. فروايته: "نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة"، رواية لا يعتمد عليها لهذا السبب. ولقتادة رواية أخرى بهذا المعنى نسبها إلى "أبي الاسود الدؤلي"، زعم أنه قال: "نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لُؤي". وقد علق "خالد ابن سلمة" على هذا الكلام فقال: "ألا تعجب من هذا الأعمى يزعم إن القرآن نزل بلسان الكعبين ?وانما نزل بلسان قريش" - قال مخاطباً به "سعد بن ابراهيم"، وقد رمي قتادة بالتدليس.   

وينتهي سند هذا الحديث: "أنزل القرآن على سبعهّ احرف" إلى "ابي هريرة" وقد كثر القول عن أبي هريرة، وأكثر "أبو هريرة" الحديث عن رسول الله، حتى قال الناس أكثر أبو هريرة الحديث عن رسول الله، وكان يقول لهم:" اني كنت امرءاً مسكيناً، اصحب رسوله الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان الأنصار يشغلهم القيام على اموالهم"، وذكر ان مسند" تقي بن مخلد، احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلافُ و ثلثمائة حديث وكسر"، وقد يكون بعض ما اسند إليه مما اكثر عليه، اكثره عليه من جاء بعده، ثم إن علينا نقد حديثه، فليس هو بمشرع ولا معصوم، حتى نقبل منه كل ما روي عنه بل روي ان "عمر بن الخطاب" قال له:" أكثرت يا ابا هريرة من الرواية، واحر بك أن تكون كاذباً على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله فإنه ينفيه إلى بلاده.

وقد اخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بارض دوس".

وهناك رأي ثالث يقول انه نزل بلغة مضر، لقول "عمر": نزل القرآن بلغة مضر وعين بعضهُم - فيما حكاه - ابن عبد البر السبع من مضر، أنهم هذيل، وكنانة، وقيس، وضبه، وتميم الرباب، واسد بن خزيمة،وقريش، فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات". وذكر أن "عمر" لما أراد "أن يكتب الإمام، أقعد له نفرا منّ أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر".ولما كانت القّبائل المذكورة من مجموعة "مضر"، تكون لغة القرآن، وفقاً لهذا الرأي لغة مضر، لا لغة قريش، وروي عن "عبد الله بن مسعود"، أنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر.

وعندنا أخبار أخرى تفيد أن القرآن إنما أنزل بلغة قريش. من ذلك ما روي من قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، او غلمان ثقيف". وفسروا ذلك بأنه يعني أن القرآن إنما نزل بلغة قريش. وما روي من قول "عثمان" للرهط القرشيين الذين أوكل اليهم جمع القرآن وكتابته: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا"، وما روي عنه أيضاً، من أنه لما استفتى في اختلاف "زيد" مع الرهط في كتابة التابوت أيكتبونه بالتاء أو الهاء، وقال الثلاثة القرشيون إنما هو التابوت، وقال زيد انما هو التابوه، قال: "اكتبوه بلغة قريش، فان القرآن نزل بلغتهم"، وما روي.عنه أيضاً من قوله الرهط الذين أمرهم بكتابة القرآن: "إذا اختلفتم انتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا".

واستنكر "ابن قتيبة" قول من قال ان القرآن نزل بلغات اخرى، فقال:"لم ينزل القرآن إلاّ بلغة قريش"، واحتج بالآية: ) وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه(. واحتج آخرون بقول "عمر" لعبدالله بن مسعود: "إن القرآن لم يزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش".

ُروي في "البخاري"، أن القرآن نزل بلسان قريش والعرب. وقريش خلاصة العرب. " وذكر بعض العلماء انه نزل بلغة الحجازيين إلا قليلا، فإنه نزل بلغة التميمين كالإدغام في: ومن يشاق الله، وفي: ومن يرتد منكم عن حينه ؛ فإن ادغام المجزوم لغة تميم،ولهذا قل، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر".

وذكر بعض العلماء "ان في القرآن من أربعين لغة عربية وهي: قريش، هذيل، وكنانة، وخثعم، و الخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وكندة، و تميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وانمار، و غسان، ومذحج، وخزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعامر ابن صعصعة، واوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبلي، وعذرة، وهوازن، والنمر، و اليمامة.

وذكروا أن مما وقع في القرآن من غير العربية: الفرس، والروم، والنبط، و الحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط.

وقال بعض العلماء: "انزل القرآن اولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح العرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعلاء على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الإنتقال عن لغته إلى لغة اخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد".

وذهب "الباقلاني" إلى أن "معنى قول عثمان إنه نزل بلسان قريش، أي معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريشا كله، قال الله تعالى)قرآناً عربياً(، ولم يقل قرشياً، قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا" واحداً يعني حجازها ويمنها، وكذا قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر، قال: لأن لغة غير قريش موجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات فأن قريش لا تهمز، وقال ابن عطية: قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى فاطر السماوات والأرض، حتى سمعت اعرابياً يقول لبئر ابتدأ حفرها: أنا فطرتها".

وسند القائلين: إن القرآن نزل بلسان قريش، كون الرسول من مكة،ومكة موطن قريش، فلا بد من نزول كتاب الله بلسانهم، ليكون حجة عليهم واعجازاً لفصحائهم، دليل ذلك قوله تعالى: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(، فعلى هذا تكون لغة القرآن لغة قريش، ولما جاء في الأخبارالتي رويت عن "عمر" و "عثمان" من أنه نزل بلسان قريش.

ومن حججهم أيضاً ما رووه من قوله "ابي عبيد الله" من قوله "أجمع علماؤنا بكلام العربُ الرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وايامهم ومحالهم ان قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغةّ. و ذلك أن الله - جل ثناؤه - اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشاً قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في امورهم.وكانت قريش تعلَمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله،لانهم الصريح من ولد اسماعيل عليه السلام، ولم تشبهم شائبة" ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه، لهم وتشريفاً، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم واشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك افصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي نسمعه من أسد وقيس".

وروي عن "قتادة" قوله: "كانت قريش تجتبي، أي تختار، أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتهم لغتهم، فنزلّ القرآن بها".

ثم إنها كانت بعيدة عن الأعاجم، فصان بعدها عنهم لسانها عن الفساد، وحفظها من التأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية.

ولكننا نجد خبراً يذكر أن "عثمان" قال للرهط الذين أمرهم بجمع القرآن وكتابته: "اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف"، وليست هذيل ولا ثقيف من قريش. وتجد خبراً اخر يذكر أنه كانت غمغمة في لغة قريش، والغمغمة من اللغات الرديئة التي أخذها علماء اللغة على اللغات العربية الأخرىَْ، فكيف تتفق الغمغمة مع ما ذكروه من صفاء و نقاء وسهولة وبيان لغة قريش ثم نجد خبراً يذكر أن الخليفة "أبو بكر"، لما هم " بجمع القرآن، بعد إلحاح "عمر" عليه بذلك، "أجلس خمسة وعشرين رجلا من قريش، وخمسين رجلا من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح"، ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش، لما اختار هذا العدد الكثير من الأنصار، وهم من غير قريش،ومن منافسي مكة في الجاهلية والإسلام، إن صح هذا الخبر، الذي اشك في صحته.

ثم نجد خبراً آخر يناقض الخبر المتقدم،يقول: "لما كُتبت المصاحف عُرضت على عثمان، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها ؛ فإن العرب ستغيرها أو قال ستعربها بالسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف". وهو خبر أشك في صحته، وللعلماء فيه آراء.

وأما ما قالوه من اختلاف "زيد" مع النفر القرشين الذين أشركوا معه في جمع القرآن من "كتابة "التابوت" بالتاء أو بالهاء، وكان من رأيه كتابتها "التابوه"، ومن رأي "عثمان" "التابوت"، فقد ذكر العلماء أن "التابوه" لغة في التابوت أنصارية. واللفظة هي من المعربات،أخذها الأنصار من العبرانية، فهي عندهم "ت ب ه" "ط ب ه" Teba Tebh بمعنى صندوقْ. وقد كتبت في القرآن بالتاء. وقد وردت اللفظة في سورة "طه"، وهي مكية، ووردت في سورة البقرة وهي مدنية..

واقرب الأقوال المذكورة إلى المنطق، هو قول من قال إنه نزل بلسان عربي وكفى فاسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا" واحداً، يعني حجازها ويمنها وكل مكان آخر من جزيرة العرب، ثم ما بالنا نفسر ونؤول، ونلف وندور في. تفسير: "أنزل القرآن على سبعة احرف"، وهو حديث، روي بروايات تحتاج إلى نقد، وفيها ضعف، وأخبار ضعيفة، لا تقف على قدميها، ثم نترك كتاب الله القائل: )نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين(، و )هذا لسان عربي مبين( و )إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون(، و )كذلك أنزلناه حكماً عربياً(، و )كذلك انزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد(، و )قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون(، و )كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون(، و )كذلك اوحينا إليك قرآناً عربيا(، و )إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، ) وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا(، ولم يقل قرشيا، ولو نزل بلغة قريش لما سكت اللَه تعالى عن ذلك، لما في التنويه بلسانهم إى كان افصح السنة العرب من حجة على العرب في فصاحته وبيانه وكونه معجزة بالنسبة لقريش، افصح الناس وألسنهم، وليس بكلام العرب عامة الذين هم على حدّ قول أهل الأخبار دون قريش في اللغة والكلام.

وما آية: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(، إلا دليلاً وحجة على نزول القرآن بلسان العرًب، لا بلسان قريش، أو بلسان قبيلة معينة، أو قبائل خاصة. فالآية تقول: ) ما أرسلنا إلى أمة من الأمم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولاّ إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليه ولغتهم، ليبين لهم يقول: ليفهمهم ما أرسله الله اليهم من أمره ونهيه وليثبت حجة الله عليهم ثم التوفيق والخذلان بيد الله". ولما كان النبي عربياً، وقد نعت في القرآن أنه "النبي الأمي"، الذي أرسله الله إلى الأميين، "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم"، والأميون هم العرب، العرب كلهم، ولما كان الله قد أرسله إلى قومه العرب، وجب إن يكون الوحي بلسانهم المفهوم بينهم، بلسان طائفة منهم، يؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم نفسه من أنه نزل يلسان عربي مبين. "قال الأزهري: وجعل الله، عز وجل، القرآن المنزل على ألنبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربياً، لأنه نسبه إلى العرب الذين انزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها، العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربياً لأنه من صريح العرب". وقال "ابن خلدون": "أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى اساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه".. وقال "الطبري" في تفسيره للاية: )انا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون(، "يقول تعالى ذكره: انا أنزلنا هذا الكتاب المبين قرآناً عربياً على العرب، لأن لسانهم وكلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه. وذلك قوله عز وجل ) لعلكم تعقلون(.

"قال ابن أبي داود في المصاحف: حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا ابي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان اشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن. ونعت انه كان أحد أشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة" وفي هذه الامارة دلالة على أن لهجة الرسول، لم تكن لهجة عامة قريش، وإنما كانت بالعربية التي نزل بها القرآن، ولهذا نص على أن لهجة "سعيد" كانت مشابهة للهجة الرسول، وكان من أفصح رجال قريش، ولو كانت عربية القرآن عربية قريش، لما كان هنالك معنى لقولهم: إن عربية القرآن اقيمت على لسان سعيد، لأنه كان أشبهبم لهجة برسول الله، إذ لو كانت عربية القرآن عربية قريش، لنص عليها، ثم لكان في وسع أي رجل كاتب من قريش، تدوينه، لفصاحة قريش، ولكن سعيدا كان من فصحاء قريش، لأنه كان يتكلم بعربية فصيحة، هي العربية التي نزل بها القرآن، والتي عرف فصحاء قريش فصاحتها، فاعرفوا لذلك بنزوله بافصح لغة وأبين بيان.

وقد ذهب "نولدكه" إلى أن القول بنزول القرآن بلسان قريش، إنما ظهر في العصر الأموي، لاظهار عصبيته منها على الأنصار، ونظراً لكون القرآن كتاب الله فلادعاء نزوله بلغة قريش أهمية كبيرة بالنسبة لهم، ولتأييد سياستهم المناهضة للأنصار والقحطانيين.

ويلفت حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" النظر إليه لاحقاً، فقد حصر القراءات في "سبعة أحرف". والأحرف الألسنة، مع أن العلماء يذكرون أن في القرآن من كل لغة، وأن فيه خمسين لغة. فإذا كان فيه هذا العدد أو نحوه، فما بال هذا الحديث يحصرها في سبعة فقط لا تزيد ولا تنقص وهي أحرف ثبتها العلماء ونصوا على أسمائها نصاً. هل أخذوا هذا الحديث من "السبع المثاني" في القرآن. الكريم، من قوله: )ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم(. أو أخذوه من عدد سبعة الذي يرد في مواضع عديدة من القرآن الكريم ? مثل سبع سماوات، وسبع سنابل، وسبع سنبلات، وسبع بقرات، وسبع سنين، وسبع شداد، والسماوات السبع، وسبع لبيال، وسبعاً شداداً، وسبعة أبواب، وسبعة أبحر، والعدد سبعة هو عد الأيام التي أتم الله فيها الخلق كله، وعدد أيام الاسبوع، ونحو ذلك. والعدد سبعة عدد لعب دوراً خطيراً عند الشعوب القديمة، فالأرض سبع طبقات، والسموات سبع طباق، وأنغام الموسيقى سبعة، والعدد سبعة عدد مقدس، لعب دوراً في الرياضيات القديمة وفي نظريات "فيثاغورس"، وعيون الشعر الجاهلي هي سبعة، هي القصائد السبع الطوال، أو المعلقات السبع، فهل اقتصر الحديث على هذا العدد لسبب من هذه الأسباب أو ما شابها من أسباب ?.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن العدد سبعة لا يمثل، حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ "السبعة" يطلق على إرادة الكثرة في الاحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئتين، ولا يراد العدد المعين. ويرده ما في كتب الحديث والأخبار من النص على العدد سبعة بصورة لا تقبل الشك في أن المراد منه ضيق العدد وانحصاره، ثم تعيين هذه الكتب اللهجات السبع بالأسماء، وقد ألف "الصعفدي" كتاباً في عدد السبعة، سماه "عين النبع على طرد السبع" قال فيه إن السبعة جمعت العدد كله، وهذا العدد يمثل الكمال، فأنا لا استبعد ان يكون هذا الحديث قد جاء من هذه الفكرة.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق