إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1789 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والاربعون بعد المئة الشعر الشاعر


1789

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
  
الفصل السادس والاربعون بعد المئة

الشعر

الشاعر

والشاعر متعاطي الشعر ومحترفه ومن يقوله، أو يكثر القول منه. ذكر علماء اللغة أنه أنما سمي شاعراً، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم، أو لفطنته.

ومن هنا قال البعض ان الشعراء في الجاهلية كانوا أهل المعرفة، يعنون أنهم كانوا من اثقف أهل زمانهم، وأنهم كانوا على مستوى عال في الفكر والرأي وفي فهم الامور.

وجعلوا للشعراء مزايا، ومنحهم العلماء امتيازات خاصة، وقالو عنهم: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤشرون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فاما لحن في إعراب، أو أزالة كلمة عن نهج صواب، فليس لهم ذلك".

وفي كتب أهل الأخبار أخبار تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، وعلى تقدير الناس لمدارك الشعراء. جاء أن "الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها، فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله. قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ثم قلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من ان أسمع هذا الرجل ما يقول? فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وان كان قبيحاً تركته"، وجاء في خبر اخر، "ان الطكفيل لما قدم مكة، ذكر له ناس من قريش أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يختبر حاله فأتاه فأنشده شعره، فتلا النبي الاخلاص والمعوذتين فأسلم". وفي هذا الخبر ان صح دلالة على تقدير الناس لفطنة الشاعر ولسمو مداركه. وقد رأينا ما كتبه "هوذة بن علي" الحنفي، للرسول من انه شاعر قومه وسيدهم، ونجد في خبر "جلاس بن سويد" الصامت الانصاري، أن قومه اتوا عليه "فقالوا: إنك امرؤ شاعر..."، وفي هذه الاخبار وغيرها دلالة على ان الشعراء كانوا يرون أنفسهم فوق الناس في الفطنة والفهم، وأن الناس كانوا يرون هذا الرأي فيهم، لما يجدونه فيهم من فطنة وذكاء.

ولا يعني هذا ان الشعراء كانوا كلهم من أرقى الناس عقلاً، ومن افهم الناس ادراكاً، ومن اعلمهم بالأمور وابصرهم بالمعرفة، فبينهم ولا شك تفاوت في الادراك، وفي مجتمعهم من هو أرقى منهم عقلاً وأكثر منهم ادراكاً، وهم مع ذلك لا يقولون الشعر أو لا يمارسونه، مثل الحكام والكهنة وأصحاب الآراء. وانما الشعر، ملكة لا تكون إلا عند صاحب حس مرهف ولا تظهر الا في انسان ذكي فطن لبيب، يذل الالفاظ والابيات، لتنصاع لإرادته، فيخرجها أبياتاً وقصائد تعبر عن مشاعره ومداركه. فالشاعر من هنا من اذكى الناس، ومن أهل الإدراك والمعرفة.

والشعراء ككل البارزين من طبقات مختلفة تباينت في السويات، منهم من نبت من عائلة شريفة، ومنهم من نبت من عائلة أعرابية، ومنهم من نبغ من بيت فقير. وقد سمي أهل الاخبار شعراء بأسمائهم كانوا من اشراف قومهم، وسموا شعراء كانوا من اوساط أقوامهم، أو من النابتة. فالنبوغ لا يختص بجماعة دون جماعة، ولا بطبقة دون طبقة.

وشعر الشاعر دليل على عقليته ومقدار مداركه، ولهذا تباين واختلف، فنجد في شعر شعراء البادية الروح الاعرابية والخشونة تتجسم في المعاني وفي الالفاظ، ونجد في شعر الحضر اثر النفس الحضرية، ونرى في شعر الجوابين القاصدين للملوك، والذاهبين إلى الحضر والاعاجم، أثر اختلاطهم بهم في شعرهم، كما هو في شعر الاعشى.

والشعراء الجاهليون، هم من قبائل متعددة ذات لهجات وحروف في الكلام مختلفة، ولكننا نرى أن لغة شعرهم وطريقة نظمهم واحدة، لا فرق فيها بين قحطاني وعدناني، ولا بين شاعر من عرب العراق أو بلاد الشام وشاعر من أهل اليمن أو الحجاز أو نجد. ومعنى هذا ان الشعراء كانوا إذا نظموا شعراً، نظموه ببحور معروفة مقررة، وبلغة عالية، سمت فوق لهجات القبائل، على نحو ما نفعل في الزمن الحاضر من استعمال لغة عربية فصيحة هي لغة القرآن الكريم في النظم والنثر والاذاعة وما شابه ذلك من وسائل الايضاح والاعلان، ومن استعمال لهجات محلية في الحياة اليومية الاعتيادية في مثل البيت والسوق والتفاهم بين الناس.

ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يكونوا ينظمون الشعر بألسنتهم القبلية، ووفق وقاعد منطقهم، فقد ثبت من اقوال علماء الشعراء، ومن اخبار أهل الاخبار ان الجاهليينه كانوا ينظمون بلهجاتهم، وكان نظمهم مفهوماً عند غيرهم، وقد تحتاج الاذن إلى تأمل وتفكير، لإدراك كلمات ومعاني ذلك الشعر. قال "ابن هشام" في شرح الشواهد: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم بمقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الابيات". فالشاعر التميمي، ينظم بلهجته، والشاعر الاسدي ينظم بلهجة بني اسد قومه الذين ولد بينهم، والشاعر الثقفي ينظم بلهجة ثقيف، ولكنه إذا انشده في غير قومه، فهم وعرف معناه، وان احتيج إلى ترقيع أو تعديل في بعض الاحيان.

ودليل ما اقول: هو ما نجده في شعر الشواهد من اظطراب في القواعد، وخروج على اصول النحو والصرف، وورود ألفاظ في الشعر الجاهلي دعاها علماء اللغة غريبة أو وحشية، أو ألفاظ خاصة ذكروا انها وردت في شعر الشاعر، لأنها من ألفاظ قبيلته، التي انفردت بها دون سائر القبائل، ولو كان نظم الشعر بغير لغة القبائل، لما شاهدنا فيه هذه الخصائص اللسانية التي وجدها علماء اللغة في شعر بعض الشعراء، ولجاء الشعر كله بلا خصائص قبلية وبلا ألفاظ غريبة، أما وقد صقل العلماء الشعر وحسنوا في بعض الفاظه، ونقحوا منه ما نقحوه، فإن ذلك دليل في حد ذاته على ان الشعراء كانوا ينظمون الشعر بألسنتهم، وهي غير متباينة تبايناً كبيراً، فلما ظبطه العلماء، ودونوه، هذبوا ما شذ منه وفق القواعد التي تثبت في الإسلام. ففي الاخبار أن رواة الشعر، كانوا يجرون تغييراً في نصوص الشعر، لتحسين الشعر وتصليحه، فقد رووا أن "الاصمعي" رفع لفظة "زندية" من هذا البيت المنسوب إلى "امرئ القيس": رب رام من بني ثعـل  مخرج زنديه من ستره

فجعله كفيه، ورووا اجراء اصلاحات أخرى، أدخلها علماء اللغة على شعر امرئ القيس وغيره، اقتضتها قواعد الاعراب أو البلاغة والبيان.

ونجد في رسالة الغفران ملاحظة طريفة عن التغيير الذي كان يجريه "المعلمون" في نصوص الشعر، فقد تصور ان "امرئ القيس" قد سئل عن كيفية وجود "الزحاف" في شعره، ثم اجالب على لسانه بقوله: "فيقول امرؤ القيس: أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف: لك منهن صالحٍٍ

وأما المعلمون في الإسلام، فغيروه على حسب ما يريدون.

وورد ان رواة الشعر كانوا ينقحون حتى في شعر الشعراء الاسلاميين، وحجتهم في ذلك ان "الرواة قديماً تصلح من أشعار القدماء". وقد يقوم بذلك رواة الشاعر نفسه. وورد ان رواة الفرزدق كانوا "يعدلون ما انحرف من شعره" وان رواة جرير، فعلوا مثل فعلهم في إصلاح شعر صاحبهم.

والتصحيح المذكور، وان كان جزئياً، تناول الفاظاً في الأكثر، لكنه في الواقع تحريف وتزييف، وتغيير للنصوص وتبديل لها، حرمنا من الوقوف على قواعد اللهجات العربية عند الجاهليين، بسبب ان المعدلين المصححين، لم يشيروا في كثير من الاحايين إلى المواضع التي غيروا وأجروا التصحيح فيها، ولو فعلوا ذلك، لكان الأمر علينا سهلاً هيناً، إذ يكون في وسعنا إرجاع الأمور إلى نصابها والوقوف على النصوص، وإن كان علملهم هذا هو عمل مخالف للذمة وللحق، حتى في هذه الحالة، لأن من قواعد الأمانة وجوب المحافظة على الاصل.

وعندي ان اللغة التي نظم بها الشعر الجاهلي هي لغة الأعراب، وهي اصل اللغة العربية، ولغه أهل البوادي والقرى التي غذتها البادية بالسكان. ولهذا قال "الجاحظ": "ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابياً"، دلالة على ما ببلادية والبداوة من صلة به. ولهذا أيضاً جعل العلماء مقياس الشعر أن يكون عربياً بألفاظ نجدية، أي اعرابية خالصة، وهذه العربية كانت تمتد فتشمل لغة أعراب بادية الشام، بما في ذلك قرى الفرات العربية، التي جاء سكانها العرب من البادية. ولهذا ايضاً حفلوا بالشعر الصلب الصلد، المنظوم بألفاظ بدوية صميمة تمثل الغلظة والشدة والمتانة، ولم يميلوا إلى شعر شعراء أهل القرى، لأنه شعر سهل سلس، خال من صلابة البوادي ومن غلظة الشعر الاعرابي.

وشعراء الجاهلية بعد، إما شعراء ظهروا بين أهل الوبر، فهم شعراء أعراب يمثل شعرهم نفس البادية، وطبيعة البداوة وعقليتها، وإما شعر أهل المدر وهم الحضر، المستقرون، وسكان القرى. ولشعر شعرائهم طابع خاص يمثل الطبيعة الحضرية حسب درجاتها ومراتبها واختلاط أهلها بالاعاجم، أو انعزالهم في مستوطنات حضرية ظهرت في البادية. فمن سافر من شعرائهم واختلط بالاعاجم، وشاهد بلاد الشام والعراق، تأثر بما شاهده، فبان ذلك الاثر في شعره، كما يظهر ذلك في شعر الاعشى، وعدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت.

وطبيعي أن يكون بين الشعراء تنافس وتحاسد وتقديم وتأخير وتفضيل. وفي كتب الأدب أمثلة على منافرات ومناظرات جرت بين شعراء، لبيان رأيهم في شعر شعراء آخرين. وطبيعي أيضاً أن يكون بين شعراء الجاهلية كالذي وقع في كل زمان ومكان، شعراء فحول، وشعراء دونهم في المنزلة والدرجة وفي القدرة في الشعر.

وذكر أن الشعراء الجاهلية كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، ويتعارضون في قول الشعر، يومالطون. والممالطة: أن يقول رجل نصف بيت ليتمه الاخر، ويقال لذلك التمليط، وأن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيماً وهذا قسيماً، لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه، وهو نوع من التفاخر والتنافر والتعجيز وإظهار النفس بالتغلب على المنافس.

وللشعراء بعد منازل في قول الشعر، فمنهم الشاعر الفحل، الذي لا يبارى، ذكر أنهم كانوا لا يسمون الشاعر فحلاً، إلا إذا كانت له حكمة. ومنهم الشاعر الخنديد. والخنديد: الفحل، والشاعر المجيد المفلق، وتطلق اللفظة ايضاً على الخطيب البليغ المفوه المصقع وعلى العالم بأيام العرب وأشعارهم. وقيل: الشاعر الخنديد، هو الذي يجمع جودة شعره في رواية الجيد من شعر غيره. والمفلق، هو الذي لا رواية له، إلا أنه مجود كالخنديد في شعره، وقيل: هو الذي يأتي في شعره بالفلق، وهو العجب. ثم يليه الشاعر فقط، وعرفوا الشاعر، انه الذي لم ينعته علماء الشعر بنعت نمن هذه النعوت ومن كان فوق الردئ بدرجة. وأما الشعرور، فهو لا شئ، والشويعر، هو من كان دون الشاعر في الشعر. ويذكرون ان الشعراء أربعة. ذكروا في شعر، ينسبه بعضهم إلى الحطيئة، هو: الشعراء فأعلـمـن أربـعة  فشاعر لا يرتجى لمنفـعة

وشاعر ينشد وسط العمـعة  وشاعر اخر لا يجري معه

وشاعر يقال خمر في دعه

وقالوا: رابع الشعراء، ازدراء وتحقيراً: يا رابع الشعراء كيف هجوتني  وزعمت أني مفحم لا أنطـق

وقسم بعض العلماء الشعراء: ثلاث طبقات:شاعر وشويعر، وشعرور. وروا: أن امرأ القيس بن حجر أطلق لفظة "الشويعر" على "محمد بن حمران بن ابي حمران"، وهو ممن سمي محمداً في الجاهلية، وهو شاعر قديم، فقال فيه: أبلغا عني الشويعر أني  عمد عين نكبتهن حزيما

فسمي بهذا البيت الشويعر: قال "الجاحظ": "والشعراء أربع طبقات. فأولهم:الفحل الخنديد. الخنديد هو التام. قال الاصمعي: قال رؤبة: الفحولة هم الرواة. ودون الفحل الخنديد الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور. ولذلك الاول في هجاء بعض الشعراء: يا رابع الشعراء كيف هجوتني  وزعمت أني مفحم لا انطـق

فجعله سكيتاً مخلفاً ومسبوقاً مؤخراً.

وسمعت بعض العلماء يقول:طبقات الشعراء ثلاث: شاعر، وشويعر، وشعرور. قال: والشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك أمرؤ القيس بن حجير".

ويظهر من القول المنسوب إلى "رؤبة"، ان الشعراء الرواة، كانوا في نظره ارفع منزلة من بقية الشعراء، ولعل ذلك بسبب طول حفظهم للشعر، مما أكسبهم علماً وخبرة ومراناً به، فصارت صياغتهم له أعلى من صياغة الشعراء الذين لم يكونوا يحفظون شعر غيرهم من الشعراء، ولم يكن لهم علم بأسايب غيرهم من الشعراء. فبسبب الحفظ، طوعوا الشعر والكلم وركبوا ظهره بكل سهولة، حتى صار طوع أيديهم.

والتقسيم المذكور هو تقسيم اسلامي، كما ان تقسيمهم الشعراء إلى سبع طبقات هو تقسيم اسلامي كذلك. فقد قسموهم إلى اصحاب المعلقات، وأصحاب المجمهرات، واصحاب المنتقيات، واصحاب المذهبات، وأصحاب المرائي، وأصحاب المشوبات، وأصحاب الملحمات.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق