إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1787 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والاربعون بعد المئة الشعر


1787

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
  
الفصل السادس والاربعون بعد المئة

الشعر

الشعر والحكم والكهانة والخطابة وأضرابها، هي أهم المظاهر التي تحدد لنا العقلية الجاهلية، وتعطينا فكرة عامة عن العقل الجاهلي.

أما الشعر الجاهلي، فلم يصل الينا من الجاهلية مدوناً قط، وانما وصل الينا مدوناً في الإسلام. وأقصد اننا لم نعثر حتى الآن على أي شئ منه مكتوباً بقلم جاهلي أو محفوراً على نص جاهلي. وكل ما نحفظه ونعرفه من ذلك الشعر، هو مما وصل الينا بنقول الاسلاميين.

وللعلماء، من اسلاميين قدامى ومحدثين، ومن مستشرقين، آراء في هذا الشعر. منهم من يبالغ في اليقين، فيرى ان كل ما وصل الينا منه صحيح، ومنهم من يبالغ في الشك، فيرى ان أكثر ما وصل هو شعر منتحل فاسد موضوع، وضع لأغراض عديدة يذكرونها: دينية وسياسية وجنسية وغير ذلك، ومنهم من يتوسط فيرى أن فيه الصحيح وفيه الفاسد المدسوس، وان من الخير البحث فيه من نواح متعددة ودرسه دراسة علمية حديثة ونقده نقداً علمياً لتمييز صحيحه من فاسده، ولكل فريق حجج وأدلة مدونة، وكتب افردوها، فيها رأيهم وحججهم، اليها استحسن رجوع من يريد الوقوف على تلك الاراء.

ومن الكتب المؤلفة في الأدب الجاهلي، واشتهرت خاصة بين ادباء العربية بنقد الشعر الجاهلي وبتوجيه الشك إلى صحة أكثره، فأثارت لذلك ضجة كبيرة كتاب الفه الدكتور طه حسين في العربية بعنوان:"في الادب العربي". وقد رد عليه أدباء عديدون في مصر وغيرها من البلاد العربية الاخرى. وقد أوضح الدكتور في كتابه العوامل التي حملته عيى تكوين رأيه المذكور في الادب الجاهلي.

وليس مرجع هذا الاختلاف هو في حقيقة وجود شعر جاهلي اصلاً، أو فيعدم وجوده. فوجود شعر للجاهليين، حقيقة لا يشك فيها ابداً، لأن الجاهليين هم مثل سائر الناس، لهم حس ولهم شعور، وما دام الحس موجوداً، فلال بد ان يظهر على شكل شعر أو نثر. وانما الاختلاف هو في هذا الشعر المروي لنا، والمدون في بطون الكتب. هل هو جاهلي حقاً، أو هو منحول فاسد محمول على الجاهليين? أو وسط بين بين، وفي كمية الصحيح منه?، بالنسبة إلى مقدار الفاسد منه? هذا موضع الاختلاف بين العلماء.

وقد وصف القديس "نيلوس" المتوفي حوالي السنة 430 للميلاد غارة بدوية على دير سيناء، وقعت سنة 410م، وتحدث عن تغني الاعراب بأشعارهم وهم يستقون الماء. كما أشار المؤرخ "سوزيموس" إلى تغني العرب بأشعارهم وذلك في المعارك التي وقعت بينهم وبين الروم في حوالي سنة "440م"، وهي اغان نشبه الاشعار التي كان يتغنى بها الاعراب في حروبهم وغزواتهم، مثل يوم ذي قار، والمعارك التي وقعت في فتوح العراق والشام. ولا زال الاعراب يترنمون بالشعر عند غزوهم بعضهم بعضاً، لأن الشعر عندهم سلاح مهم من اسلحة القتال.

ثم ان شعر المخضرمين، هو في حد ذاته دليل على وجوةد شعر سابق جاهلي، فشعر مثل هذا لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة من غير شعر سابق ومن غير شعراء ماضين مهدوا الجادة لمن جاء بعدهم ووضعوا لهم البحور المعروفة، وقد وجدها المخضرمون، فنظموا عليها.

وفي القرآن الكريم سورة تسمى "سورة الشعراء"، وهي تدل على كثرة الشعراء، وعلى تأثر الناس الناس بهم، وعلى تأثير شعرهم في النفوس وتلاعبه بأفئدة الجاهلين. وتجاسر بعض الكفار على الرسول، فوصفوه بأنه شاعر. ووصفه بهذه الصفة دليل على ما كان للشعر من اثر في نفوس القوم. وقد ورد في الحديث: ان الرسول قال: "إن من البيان لسحراً، وان من الشعر لحكماً"، أو ان من الشعر لحكمة. وفي الأخبار انه كان يرفع أناساً ويذل آخرين، وان من الناس من كان يشتري ألسنة الشعراء. وورد في الحديث، ان الرسول ذكر الشعر فقال: "إن من الشعر لحكمة، فأذا ألبس عليكم شئ من القرآن فالتمسوه في الشعر، فأنه عربي". ووردت عنه احاديث أخرى في حق الشعر.

وورد في خبر آخر ان "العلاء بن الحضرمي"، لما وفد على رسول الله، قال له الرسول: أتقرأ شيئاً من القرآن?فقرأ سورة عبس، ثم زاد فيها من عنده: وهو الذي اخرج من الحبلى نسمة تسعى بين شراسيف وحشى، فقال رسول الله كف فإن السورة كافية، ثم قال: أتقوا شيئاً من الشعر? فأنشده: وحي ذوي الاضغان تسب قلوبهـم  تحيتك الادنى فقد يدبغ الـنـعـل

فأن دحسوا بالكره فأعف تكـرمـاً  وإن اخنسوا عنك الحجديث فلا تسل

فإن الذي يؤذيك منه استماعه=وإن الذي قالوا وراءك لم يقل فقال النبي: إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكماً.

وورد ان الرسول كان يسأل الصحابة أن يسمعوه شعراً، سأل مرة "الشريد ابن سويد" الثقفي أن ينشده شيئاً من شعر أمية بن ابي الصلت، فأنشده مائة بيت، فقال الرسول:كاد امية بن ابي الصلت أن يسلم، أو ان كاد ليسلم. وكان الرسول يقول: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل، أو ان أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شئ ما خلا الله باطل.

وورد أنه استشهد ببيت شعر لطرافة بن العبد، هو: ستبدي لك الايام ما كنت جاهلاً  ويأتيك بالاخبار من لم تـزود

وورد انه جلس في مجلس من الخرزج، فأستنشدهم شعر: "قيس بن الخطيم"، فأنشدوه بعض شعره. وللرواة أخبار عديدة تشير إلى سماع الرسول الشعر والى وقوفه عليه وعلمه به، وأنه كان يكلف الصحابة بأن ينشدوه من شعر الشعراء، وذكر أنه نهى من رواية رثاء "امية بن ابي الصلت" قتلى قريش في معركة بدر، لما فيها من رثاء لمشركين ومن تحريض على الإسلام. وورود أن الشاعر "العباس بن مرداس"، شهد مع النبي حنيناً على فرسه "العبيد"، فأعطاه النبي أربع قلايص، فقال: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

وكانت نهاباً تلافيتها  بكرى عـلـى الـمـهـر فـي الأجـرع

فقال الرسول: اقطعوا عنا لسانه=ولسانه هو شعره وروي عن "عمر" قوله: "نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته فيستزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم، مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الابية، وعز الانفة، وسلطان القدرة".

وقديماً قال ابن عباس: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله، فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب". وقيل إنه -أي ابن عباس - ما فسر آية من كتاب الله، إلا نزع فيها بيتاً من الشعر. وروي أن غيره كان يحفظ شيئاً وافراً من الشعر، الشعر المروي عن أناس عاشوا قبل الإسلام وأناس أدركوا الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه ويتطارحونه ويحفظونه لصلته بكل فرد منهم. ففيه أخبار القبائل وأيام العرب وما قيل فيهم من مدح أو ذم، والحق أننا بفضل هذا الشعر حصلنا على كثير من هذا القصص المنسوب إلى أهل الجاهلية، وبفضله عرفنا أخبار الشعراء والقبائل والأيام والحروب، فهو كما قلت في الجزء الأول من هذا الكتاب مورد مهم رئيسي يرد منه المؤرخ في تدوينه تأريخ العرب قبل الإسلام.

ونحن لا نكاد نقرأ قصة من قصص "أيام العرب"، إلا نجد فيها شعراً، ينسب إلى بطل من الأبطال الذين ساهموا فيها، أو من شاعر يذكر قومه أو خصوم قومه أو خصومه بالأيام التي أنتصر فيها على خصومهم. وقد ساعد هذا الشعر على تثبيت تلك الأيام في ذاكرة رواتها، حتى وصلت إلى أيام التدوين فدونت، على نحو ما نقرأها في هذا اليوم.

ثم ان كتب الأدب بأنواعها مملوءة بأخبار المساجلات والمطارحات التي وقعت بين الشعراء قبيل الإسلام وفي أيام الرسول والخلفاء. وقد رويت فيها أشعار وقصائد لشعراء جاهليين، ولشعراء مخضرمين. وقد تحدث معظم المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والاسلام عن ذكرياتهم في الجاهلية، ورورا ما نظموه فيها من أشعار وما وعوه من المناسبات التي نظموا فيها. ثم ان هذه الكتب مملوءة أيضاً بأخبار مجالس سمر تناولت الحوادث والأيام والشعر والشعراء، وفيها نقد ومفاضلات لما ذكر في تلك المجالس من من شعر. وقد روي: ان الرسول كان يجالس أصحابه ويتحدث معهم ويصغي اليهم، ويستمع إلى ما يروونه وما يتذاكرونه من الشعر، وروي: ان الحطيئة، وهو شاعر معروف، كان يتذاكر الشعراء ويحفظ أشعارهم.

وقيل للحسن البصري: "أكان أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يمزحون ? قال: نعم ويقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه. والقريض الشعر". وروي أن أصحاب رسول الله، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، وأن رسول الله كان يجالسهم في المسجد، وهم يتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم. وعن "أبي سلمة": "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متحزقين و لا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون".

وقد ذُكر أن من الأعاجم من تعلم الشعر العربي ورواه وعشقه، فزعم "أبن الكلبي" مثلاً أن "خُرَّخسرة"، وهو ابن "المروزان"، كان قد تعرب، أعجبته العربية فتعلمها وروى الشعر، وكان والياً على اليمن في عهد "كسرى"، ثم بلغ "كسرى"تعربه، وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان.

وللشعر أثر خطير في نفوس العرب، كان يهز عواطفهم هزاً، ويفعل فيهم فعل السحر، فلا عجب إذا ما قرن "رؤبة" الشعر بالسحر، وجعله مثله في التأثير لتلك العلة: لقد خشيتُ أن تكون ساحراً  رواية مَرَّا ومَرّا شاعـرا

قال "الجاحظ": "وكان الشعر أرفع قدراً من الخطيب، وهم اليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر.

وقد بقي أثر الشعر هذا في نفوس الناس حتى بعد زوال الجاهلية ودخول الناس في الإسلام. فكان مدح الشاعر لقوم، من المآثر والمفاخر، وكان ذمه مما يشين ويسيء إلى المهجو. فلما هجا "جرير" "بني نمير" بقوله: فغض الطرف انك من نميرٍ  فلا كعباً بلغت و لا كلابـاً

أخذ بنو نمير ينتسبون إلى "عامر بن صعصعة"، ويتجاوزون أباهم نميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر "نمير" وفراراً مما وسم به من الفضيحة والوصمة. مع انهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومدّ صوته وقال: من بني نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب. وكان أحدهم إذا رأى نميرياً وأراد نبزه والإساءة اليه قال له: غمض وإلا جاءك ما تكره، وهو انشاد هذا البيت. وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل ? قال: من بني عامر ! قال الجاحظ: "وفي نمير شرف كثير. وهل أهلك عنزة، وجرماً، وعُكلاً، وسلولَ، وباهلة، وغنياً، إلا الهجاء ?! وهذه قبائل فيها فضلُ كثيرُ وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتاب، وعبّاد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر: رأيت الحُمر من شر المطايا  كما الحبطات شر بني تميم

وقد هُجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا. وكان "حذف" الفزاري قد أطعم جُردان الحمار، فقتل الذي أطعمه. وقال: طاح مرمقه، فذهبت مثلاً. ففزارة تعير بذلك إلى اليوم. قال الشاعر: إنّ بني فـزارة بـن ذبـيان  قد سبقوا الناس بأكل الجُردان

وقال آخر: أصيحانـية عُـلّـت بُـزد  أحب اليك أم أير الحمار ?

وبين الشعر والسحر صلة، حتى ذهب بعض الباحثين في الشعر إلى أن الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السحرة في التأثير في مشاعر الناس، إذ كانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثراً خطيراً في نفس سامعه. ولهذا عدوّا السحرة في جملة أوائل من كان ينظم الشعر من القدماء، كما ذهب بعض الباحثين إلى أن الشعراء كانوا "أهل المعرفة" والفهم، لما كان لهم من ذكاء وصفاء ذهن في فهم تجارب الحياة، وفي نظم خلاصة تلك التجارب على شكل علم أو حكم تفيد في التهذيب وفي التوجيه وفي وعظ الناس، ولهذا كان لهم رأي في السياسة في السلم وفي الحرب.

وفي كتب الأدب والأخبار أمثلة كثيرة عن أثرالشعر في القبائل وفي الأشخاص من مدح وذمّ، يرينا كيف كان العرب يتأثرون به، وكيف كان يلعب دوراً خطيراً في حياتهم، والعرب قوم عاطفيون، تلعب العاطفة دوراً خطيراً في حياتهم، وما الشعر إلا نتيجة لهذا الطبع المتوارث في العربي. وقد كان أثر الشعر في المغازي وفي الحروب أثر السيف في الخصوم، يحرض المقاتلين على الاستبسال في القتال. ولما وقعت الوقائع بين المسلمين والفرس، لعب الشعر والنثر دوراً خطيراً فيها، ففي يوم "أرماث" مثلاً، أرسل سعد إلى قادة الكلام، من رجال النثر والشعر، يدعوهم إلى استخدام سلاحهم في هذه المعارك، فكان ممن حضر عنده: "طليحة"، و"قيس بن هبيرة" الأسدي، و"حذيفة"، و"غالب"، و"عمرو بن معد يكرب"، و"ابن الهذيل" الأسدي، و"عاصم بن عمرو"، و"ربيع بن البلاد" السعدي، و"ربعي بن عامر" وهم من الخطباء، و"الشماخ"، و"الحطيئة"، "أوس بن مغراء"، و"عبدة بن الطيب " وأمثالهم، وهم من الشعراء، فلما تجمعوا، قال لهم "سعد": "قوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروا وحرضوهم على القتال". فالشعر سلاح ماضٍ عند العرب، مثل الأسلحة الأخرى وربما كان أمضى منها أثراً في نفوسهم لما كان يفعله فيهم، وكذلك النثر من أثر في النفوس يحملهم على الإقدام وعدم التهيب من الموت.

ونحن لا نعرف حرباً أو غزواً وقع للعرب، ثم لم يقترن خبره بشعر أو بأبيات منه، فقد كان المحاربون، يحاربون خصومهم بألسنتهم وبسيوفهم وبسهامهم ورماحهم في الوقت نفسه، وقد رأينا أنه قد كان للشعر الفضل الأكبر في كثير من الأحايين في حفظ أخبار الحروب وبقاء ذكرها إلى هذا اليوم. ونستطيع القول بأن قسطاً كبيراً من الشعر الجاهلي، هو من شعر القتال. ولذلك نستطيع جعله صنفاً قائماً بذاته نسميه شعر القتال والحروب.

ومن هذا الأثر الذي كان يعرفه الشعراء حق المعرفة، كانوا يستعلون ويترفعون به عن غيرهم، كتب "هوذة بن عليّ" الحنفي، إلى النبي يجيبه على رسالته التي أرسلها اليه: "ما أحسن ما تدعو اليه واجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والهرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك"، فهو شاعر قومه وخطيبهم، وله مكانة فيب العرب، فهو يرى ان مايميز عن غيره بميزات تمنح له، وكان الشعراء يمنّون على قومهم بأنهم ألسنتهم المخرسة الناطقة المهاجمة المدافعة، فهم من الطبقة المثقفة الممتازة التي حظيت بالتقدير ونالت الاحترام، بسبب قدرة اللسان، وأثر الشعر في الناس.

و لا زال الشاعر ينال مكانة محترمة عند أهل الحضر وعند أهل الوبر، فهو لسان القبيلة حتى اليوم، يدافع عنها، ويهجو أعداءها، ويرّد على شعراءها، ويشيد بفعال قومه. وللهجاء عندهم مكانة، إلا انها أخذت تتزلزل عن مكانها، بفعل التحضر الذي أخذ يغزو البوادي، وتغير العقلية، وعدم الاهتمام بالقيل والقال، مما أثر على مكانة الشعر والشاعر أيضاً، فلم يعد الناس يخشون لسان الشاعر، كما كانوا يخشونه أيام الجاهلية، يوم كانوا يسترضون الأعشى والحطيئة، خوفاً من لسانيهما السليطين.

ويطلق على الشعر الذي قيل قبل الإسلام: الشعر الجاهلي، لأنه قيل في الجاهلية التي شرحنا معناها في الجزء الأول من هذا الأول من هذا الكتاب، وأصحابه كلهم ممن عاشوا وماتوا قبل الإسلام. أما الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، فهم الشعراء المخضرمون لأنه أدركوا عهدين، فعاشوا ردحاً من عمرهم في الجاهلية، وقضوا البقية الباقية من حياتهم في الإسلام.

واذا قلنا الشعر الجاهلي، أو شعر الجاهليين، فلا نريد أو يريد أحد منا الغض من شأنه، أو الحط من قدره، فإننا على العكس، نجد علماء الشعر والأدب، يرفعون من قدره، ويرون انه الأوج الذي بلغه العرب في الشعر، و لاسيما الشعر المختار منه مثل المعلقات، فقد بلغ القمة في نظرهم، وقد بلغ من تقدير بعضهم للشعر الجاهلي، انهم كانوا "أحياناً يذهبون بعيداً في تدقيقهم إلى حد التهوين من قيمة شاعر لا يمكن إنكار تفوقه، لمجرد أن ولادته كانت بعد ظهور الإسلام".

وروي أن عمر قال: "الشعر علم قومٍ لم يكن لهم علمُ أعلم منه" وأنه كتب إلى "أبي موسى الأشعري": "مُر مَنٌ قِبلَك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب". ولقد قال الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها، وعلى أن الشعر يُفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب اليه، والممدوح به". وقال العسكري: "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت اليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحداث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم.

والواقع ان هذا الشعر الجاهلي قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية فائدة لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشهر من الوجهة التأريخية على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أموراً مهمة من أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر.

ولكن كثيراً من هذا التراث الذي أريد تخليد عمل العرب به قد ضاع، قبل الإسلام، بسبب عدم تدوينه وتخليده في كتاب واعتماد الناس في روايته على الحافظة وحدها، والحافظة لا تحفظ المحفوظ لأمد طويل، فضاع منه ما ضاع، ووصل بعض منه بصورة يرتاب منها، وآفة كل ذلك هو الموض الذي يصيب الذاكرة: مرض النسيان. "قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري ؛ فالكتاب أحب إليّ من الحفظ. لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى و لا يبدل كلاماً بكلام".

والشعراء الجاهليون كثيرون، ونجد في كتب اللغة والمعاجم، أسماء شعراء، لم يرد لهم خبر في موارد أخرى، ذكروا لمناسبة الاستشهاد بشعرهم، ونجد في كتب السير والرجال أسماء رجال لهم شعر، لم يرد اسمهم في كتب الشعر. قال "ابن قتيبة": "والشعراء بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والاسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفذ عمره في التنقير عنهم ؛ واستفرغ مجهوده في البحث و السؤال. ولا أحسب أحداً من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر الا عرفه، ولا قصيدة الا رواها".

و أنت إذا قرأت بعض الكتب مثل كتاب: "الاشتقاق"، و"المحبر"، وكتب المجالس والأمالي والشواهد، تجد أمامك أسماء عدد كثير من الشعراء الجاهليين، لم يرد اسمهم في كتب الشعر الجاهلي، ولم يحفل بهم علماء الشعر مع انهم كانوا في أيامهم من الشعراء المعروفين، وقد نص على انهم كانوا من الشعراء.

ولا أجد في كلام قدماء العلماء القائل ان الذي وصل الينا من أمر الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، هو قليل جداً من كثير جداً من كثير جداً، وأن الذي فات عن علم العلماء من أمر الشعراء الجاهليين أكثر بكثير مما بقي، أية مبالغة أو تهويل، لأننا نجد في الموارد التي تتحدث عن الصحابة أو عن الأخبار، أسماء رجال كانوا شعراء، لا نجد لها وجوداً في كتب الشعر، ثم ان علماء الشعر أنفسهم يعترفون في كتبهم ودفاترهم، انهم لم يدونوا من أسماء الشعراء الا من اشتهر أمره و عرف بغزارة شعره، أما من كان دون هؤلاء، فأنهم لم يتحرشوا بهم، اذ لو تعرضوا بهم لاحتاجوا إلى تدوين كتب ضخمة في الشعر و الشعراء. اضف إلى ذلك موت ذكر كثير من الشعراء، بسبب عدم وجود التدوين قبل أيام التدوين و عجز الذاكرة عن المحافظة على أسماء الشعراء و على شعرهم إلى أمد طويل. ثم ان الشعر سليقة عند العرب، وبديهة، وقلما نقرأ اسم رجل من أهل الجاهلية، الا وقد نسب له أهل الأخبار البيت أو البيتين، أو أكثر من ذلك من الشعر.

ونحن لا نذكر هنا من الشعراء الا من نبه منهم، وترك أثراً في الأدب العربي إلى يومنا هذا.

وقد جرت العادة بأن يدرس الشعر الجاهلي على أسلوب الجادة القديمة، بالاعتماد على الروايات المدّونة عنه في الموارد الاسلامية القديمة، وهي روايات لاقت رواجاً كبيراً بين المعنيين في الشعر الجاهلي، حتى صارت في درجة القضايا البديهية المسلم بصحتها، مع أنها في الواقع أخبار آحاد، وردت في كتب اسلامية قديمة نقلها عنها المؤلفون المتأخرون عن المؤلفين القدماء. مع أن الصحيح هو في وجوب درس الشعر الجاهلي، على ضوء شعر المخضرمين والشعراء الاسلاميين الذين عاشوا في صدر الإسلام، وعلى ضوء الدراسات المعروفة عن الشعر عند الساميين، مثل شعر السريان الذي يأخذ أيضاً بالوزن والقافية وله مصطلحات قديمة في الشعر تعود إلى ما قبل الإسلام، ثم الشعر العبراني والشعر البابلي وشعر بقية الساميين.

وفي دراسة شعر القبائل الحاضرة المنزوية في جزيرة العرب، فائدة كبيرة في تشخيص الشعر الجاهلي، لأنها-ولا سيما القبائل القابعة في العربية الجنوبية- لا زالت تنظم الشعر متاثرة بالقوالب القديمة وببحور جاهلية لم يحفل بها "الخليل" أو أنه لم يقف عليها، ففات أمرها على العلماء، وعدت من الشعر العامي المبتذل. الذي لا يليق بالعالم المتزن أن يحفل به. وقد تفيدنا دراسة شعر القبائل العربية ن الناطقة بلهجات بعيدة عن عربيتنا بعض البعد، فائدة كبيرة في الحكم على طبيعة ونوع الشعر عند العرب الجنوبيين قبل الإسلام، فألسنة هذه القبائل هي من وحي الألسنة العربية الجنوبية الجاهلية، و نظم الشعر بها بأسلوب خاص وببحور متميزة، هو دليل قاطع على وجود الشعر عند العرب الجنوبيين، وهو شعر لا نعرف اليوم من أمره أي شئ، لعدم وصول نماذج مدّونة منه الينا حتى الآن، ولعدم اهتمام العلماء القدامى به، لاختلافه عن عربية القرآن الكريم، وفي الشعر اليماني القديم الذي نجد نماذج منه في المؤلفات اليمانية، مثل مؤلفات "الهمداني"، فائدة في تشخيص الشعر اليماني الجاهلي، وان كان هذا الشعر قد صيغ وفقاً للشعر العربي القرآني، بفعل دخول أهل العربية الجنوبية في الإسلام، و أخذهم بلغة القرآن الكريم. و لا استبعد احتمال ترك علماء الشعر و اللغة كثيراً من الشعر الجاهلي، لأنه شعر لم ينظم وفق عربية القرآن الكريم أو وفق البحور "الكلاسيكية" المعروفة التي اعتبرت الصور الرغفيعة لبحور الشعر العربي الصحيح، نبذوه لأنه كان في أعينهم من الشعر العامي المبتذل الذي لا يليق بالعالم المدقق توجيه عنايته اليه، على نحو ما فعلوه بالنسبة إلى اللهجات العربية الأخرى التي كانت تختلف عن العربية المألوفة التي أخذوها من أفواه القبائل التي اعتبروا لسانها هو اللسان العربي الفصيح، و أما ما سواها فألسنة رديئة لا يؤخذ بها و لا يحتج بما ورد فيها من نثر أو نظم.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق