إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1782 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثاني والاربعون بعد المئة النثر السجع


1782

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
       
الفصل الثاني والاربعون بعد المئة

النثر

السجع

وقد جعل "الجاحظي" كلام العرب أنماطاً، جعله "في الأشعار، والأسجاع، و ا لمزدوج، و المنثور".

والسجع في تعريف العلماء له: الكلام المقفى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد. وقيل: السجع أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي. وسجع يسجع سجعاً: نطق بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وقد ألفِ "الكهان" النطق بالسجع، حتى غلب على كلامهم، واختص بهم، كما اختص الشعر بالشعراء، فعرف لذلك ب "سجع الكهان". "ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، في جنين امرأة ضربتها الأخرى، فسقط ميتاً بغرة على عاقلة الضاربة، قال رحل منهم: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح، فاستهل. ومثل دمه يطل. قال صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الكهان. وفي رواية: اياكم وسجع الكهان. وفي الحديث انه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن السجع في الدعاء. قال الأزهري: انما كره السجع في الكلام والدعاء.لمشاكلة كلام الكهنة وسجعهم فيما يتكهنونه، فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل السجع، فهو مباح في الخطب والرسائل". وروي الحديث على هذه الصورة: ا اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت احداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله إن دية جنينها غُرّ ة، عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها. وورثها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، ففال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: انما هذا من اخوان الكهان، من اجل سجعه الذي سجع".

. قال الجاحظ في معرض كلامه على السجع وقول الرسول: أسجع كسجع الجاهلية. "وكان الذي كره الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون اليهم، وكانوا يدعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئياً من الجن، مثل حازي جهينة، ومثل شق وسطيح، وعُز"ى سلمة، وأشباههم: كانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول بعضهم: والأرض والسماء. والعُقاب الصقعاء، وافعة ببقعاء، قهد نفر المجد بني العُشراء، للمجد والسناء.وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة،والأقرع ابن حابس، ونفيل بن عبد العزى، كانوا يحكمون.، وينفرون بالأسجاع وكذلك ربيعة بن حذار. قالوا: فوقع النسُ في ذلك الدهرِ، لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة، زال التحربم. وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخُطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم. وقد كان الكهان حكاماً كذلك، يفصلون في الخصومات بين الناس. يأتي اليهم المتخاصمون، وبعد أن يؤكدوا لهم رضاهم وقناعتهم بحكمهم، يحكمون بينهم فيما يرونه، وينسب الناس إلى الكهان إدراك الغيب برئي ياًتي اليهم فيلقي لهم بما يراه ويعلمهم من المغيبات عما يسألون، ولذلك ورد: أن الكهانة هي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع، وورد: الكاهن القاضي بالغيب، وكل من ادل بشيء قبل وقوعه.

ويفهم من روايات أهل الأخبلر ومن كتب الحديث والموارد الأخرى، أن الكهانة كانت شائعة في الناس،فكانوا يقصدونهم في كل شيء لاستشارتهم وللاخذ برأيهم وللفصل في الخصومات والنزعات. وقد منعها الإسلام، حتى ورد في كتب الحديث: إن من أتى كاهناً او عرافاً فقد كفر.

ونجد في بطون الكتب أمثلة من سجع الكهان. وهو يستحق الدرس والبحث، لتحليل عناصره، وبيان صدقه من كذبه، وصحيحه من فاسده. وفي بعضه مثل ما نسب إلى "زبراء الكاهنة"، محاكاة لأسلوب السور القصيرة من القرآن الكريم. وهو مرحلة مهمة من مراحل تطور أسلوب الكلام عند العرب، وهو حري اذن بالدراسة وبالبحث.

وقد أشير إلى قول الكهان في القرآن الكريم في آية: "فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون"، و "انه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كإهن، قليلا ما تذكرون". فقد زعموا انه كاهن، وزعموا انه مجنون، فوبخوا لزعمهم هذا، وقيل لهم إن "محمداً ليس بكاهن فتقولوا هو من سجع الكهان". "وكانت قريش يدعون انهم أهل النهي والأحلام"، " فقال الله أم تأمرهم أحلامم بهذا أن يعبدوا أصناماً بكماً صماً، ويتركوا عبادة الله، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم"، فانزعجوا منه وقالوا عنه انه كاهن، وانه شاعر، وانه مجنون. وفي اتهامهم الرسول بانه كاهن، وبأن القرآن "هو من سجع الكهان"، دلالة على وجود السجع عند الجاهليبن، وانه كان من نمط الكلام الذي اختصوا به. فلا مجال اذن للشك في وجود السجع عندهم، وان كنا نشك في صحة نصوص السجع المنسوب اليهم ويذكر أهل الأخبار، أن "ضماداً" لما قدم مكة معتمر اً، "سمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون. فقال: لو اتيت هذا الرجل فداويته، فجاءه فقال له: يا محمد إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك. فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادأَ فقال: أعدها عليّ، فأعادها عليه، فقال: لم أسمع مثل هذًا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط". فالكنهة والسحرة والشعراء هم طبقة خاصة، كانوا يؤثرون في عواطف السامعين باستعمالهم أسلوباً خاصاً من الكلام، هو أسلوب السجع، بالنسبة إلى الكهنة والسحرة، والشعر بالنسبة الى الشعراء. أما الخطباء، فقد كانوا سجاعاً في الغالب، لكنهم كانوا يستعملون المرسل من النثر أيضاً بأساليبه المختلفة.

وقد ذكر "الجاحظ" أن "الكهان" كانوا "يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"، هذه "زبراء" تنذر "بني رئام"، عن أنباء ستقع، فتقول "واللوح الحافق والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدو ختلا، ويحرق أنياباً عُصلا، وإِن صخر الطود لينذر ثُكلا، لا تجدون معه معلا، فوافقت قوماً أشارى سكارى، فقالوا: ريح خجوج، بعيدة ما بين الفرُُ وج، أنت زبراق بالأبلق النتوج. فقالت زبراء: مهلاً يا بني الأعزة، والله إني لأشم ذفر الرجال تحت الحديد، فقال لها فتى منهم يقال له هُذيل بن منقذ: يا خذاقِ، والله ما تشمين إلا ذَفَر إبطيك، فانصرفت عنهم وارتاب قوم من ذويَ أسنانهم، فانصرف منهم أربعون رجلاٌ وبقي ثلاثون فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو داهن وبنو ناعم فقتلوهم أجمعين".

وهذا كاهن "بني أسد" "عوف بن ربيعة"، يأتيه " رئيه"، فيتكهن لقومه قائلاً: "يا عبادي قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاّب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخب، هذا دمه ينثعب، وهذا غداً أول من يسُلب، قالوا: من هو يا ربنا ? قال: .

لولا: أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم انه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكرُ حجر فهجموا على قبته "". وهذا "ختافر بن التوءم" الحصري الكاهن، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتياً، يأتيه "رئيه" بعد غيبة طويلة، فيقول: "خُنافر" فيجيبه: "شصار ?"، فقال: "اسمع أقل"، قال خنافر: قل اسمع، فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قال خنافر: أجل، ففال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتسخت النحلَ، ورجعت إلى حقائقها الملل، انك سجير موصول،والنصح لك مبذول، وإني آنست باًرض الشام، نفرا من آل العُذام"، حكاماً على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت بم تهيمنون، وإلام تعترون ? قالوا: خطابٌ كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع ياشصار،عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الاثار، تنج من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام ? فقالوا: فرقان بين الكفر والايمان، رسول من مضر، من أهل المدر، ابتعُث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجاً قد دَثرَ، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مضر ? قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشر، وان خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت اليلك ابادر، فجانب كل كافر، وشابع كل مؤمن طاهر، وإِلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من اًين أبغي هذا الدين ? قال: من ذات الإحرين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم املس عتي، فبت مذعوراً أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي، وآذنت أعبدي، واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقابها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميراً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلمني سوراً من القرإن، فمنّ الله عليّ بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة" وهكذا اسلم على حد قول أهل الأخبار والفضل يعود في ذلك إلى "رئيه" "شصار" الذي أسلم قبله، وهو من الجن، والجن مثل البشر، منذ ظهر الإسلام بين مسلم وكافر. ولما أسلم "خنافر"، قال شعراً يحمد الله فيه على ان من عليه بالإسلام، ويذكر "رئيه" "شصار" بالخير، إذ لولاه لكان في نار جهنم.

وأسندوا له قوله: ألم ترَ أن الـلـه عـاد بـفـضـلـه  وانقذ من لفح الجـحـيم خـنـافـرا

دعاني شصار للتي لو رفـضـتـهـا  لأصليت جمراً من لضى الهون جائرا

وهو خبر يرجع سنده إلى "ابن الكلبي". وقد ذكر في الأخبار المنثورة لابن دريد، وقد ذكر انه اسلم على يد معاذ بن جبل باليمن. لا أدري كيف حفظه "ابن الكلبي" ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يعد من المستحيلات.

وقد أمات الإسلام "الكهانة"، فقد اجتثها وحاربها، وحث على نبذ سجع الكهان و أساليب الكهان في الملبس، فكان منهم من قاوم، ثم انخذل، بدخول قومه في دين الله، فدخل معهم فيه. وفي كتب أهل الأخبار قصص على نمط قصة اسلام "خنافر"، وكلام دار بينهم وبين "رئيهم"، دوّ نه أهل الأخبار بالخروف والكلم، لم يتركوا منه حرفاً، وكأنهم كانوا كتاب ضبظ محضرجلسات أمروا بتدوين كل محضر ساعة وقوعه. وتجد أخبار الكهان، وما لاقوه من عنت من "رئيهم" حين أدركوا الإسلام، وما أخبروا به من قرب ظهور الرسول كأخبار العر اف اللهبى "العائف"، و "الغيطلة" الكاهنة، والكاهن "خطر" والكاهن "سواد بن قارب" الدوسي، و "ابن الهيبان"، والماًمور الحارثي، وغيرهم وغيرهم.

ولسجع الكهان، طريقة خاصة به، ميزته عن سجع غيرهم، فهو قصير الفقرات، يلتزم التقفية وتساوي الفواصل من كل فقرتين أو اكثر، يعمد إلى الألفاظ العامة المبهمة المعماة، والى تكوين الجمل الغامضة، ليمكن تأويلها تأويلات متعددة، وتفسيرها بتفاسير كئيرة، لا تلزم الكاهن، فيقع في حرج، كالذي يقعع لو تكلم بكلام واضح صريح. فيظهر في الجاهل الكاذب. أما السجع المنسوب إلى الخطباء، ففقره أطول، وكلمه أوضح، طويل النفس، متحرر نوعاً ما من قيود سجع الكهان بين الفقر تطابق في الطول، وفي فقره بيان مشرق، فواصله كفواصل الشعر من دون وزن. جهد صاحبه أن يجعل الفواصل واضحة صافية، ذات مقاطع مستقلة في الغالب بمعناها، وينتهي الكلام بانتهائها من غير التزام قافية، وقد يكون مرسلاً، خالصاً من تساوي الجمل والتزام القافية، فهو بين سجع وازدواج وترسل. وقد يكون مزدوجاً، فهو سجع خفيف مقبول.

وبالاضافة إلى السجع، واستعمال الألفاظ الغامضة المبهمة، والإيماءة والرموز والتكنية عن الأشياء، تهرباً من التصريح، وحذر افتضاح الأمر، كان الكاهن، يلحف في الأسئلة ويمعن في الاستفسار، حتى يستنبط من ذلك بفطنته وذكائه ما يريد السائل، فيعطيه جواباً مائعاً، شأن جواب السحرة والعرافين، كما كان يعمد إلى القسم بظواهر الطبيعة من كواكب ونجوم،وشمس وقمر،ورياح وعواصف وسحب، وليل ونهار، وشجر وحجر،وإمثال ذلك مما نجده في خطبهم وأقوالهم، وهو شيء يلفت النظر، ويبعث على التعجب من قسم القوم بهذه الأمور. ولكن المتتبع الدارس لعقائد القوم في الجاهلية، ولحياتهم الاجماعية لا يعجب من ذلك، كما لا يعجب من قسمهم بالخبز، والملح، واللبن، والقوس، والعصا، فإن لهذه الأمور وأمثالها معاني عميقة عند أهل الجاهلية، فقدت أكثريتها معانيها في الإسلام، بسبب ابطاله لتلك العقائد، وان بقي حشد منها في نفوس الناس إلى هذا اليوم، بسبب رسوخه في العقل والدم..

وفي القرآن قسم بالسماء، وبالعاديات، وبالتين والزيتون، وبغر ذلك، ذهب المفسرون في سبب القسم بها مذاهب، ففسروا وتأولوا، ولو فكروا إن هذا النوع من القسم، هو أسلوب من أساليب العرب في القسم قبل الإسلام، وأن القرآن انما نزل بلسان العرب، ولذلك اتبع طريقتهم في القسم، لأنه خاطبهم على قدر عقولهم وبلغتهم، عرفوا السبب، ولا زال الأعراب على سجيتهم القديمة في القسم بهذه الأشياء، يقسمون بها كما يقسم المتحضر باعز شيء عنده. والسجع في الواقع باب من أبواب الشعر، والمرحلة الأولى من مراحله، والبذرة التي أنبتت الشعر العربي. ويتكون من فقرات. واذا اخذنا الشعر البدائي الذي يكون المرحلة الأولى من الشعر، نرى انه لا يختلف اختلافاً كبيرأَ عن السجع. و "الكلام المسجع، هو ضرب من ضروب الشعر عند غير العرب. وقد طوّ ر الشعراء السجع، واوجدوا منه الشعر، واذا درسنا أول الشعر العبراني، أو أوليات الشعر عند الشعوب السامية، وعند الشعوب الارية، في انه نمط من أنماط هذا الكلام الذي نسميه "السجع". وهو لا زال يعد شعراً عند كثير من شعوب هذا اليوم.

والمزاوجة والازدواج بمعنى واحد.. وازدوج الكلام وتزاوج أشبه بعضه بعضاً في السجع أو الوزن، والازدواج لون من ألوان الإفصاح عن الشعور بأسلوب من أساليب الأدب المنثور، أخف على النفس من السجع.، وأسهل انقياداً لأنامل الكتاب منه. وهو على كل حال لون من ألوانه، خففت قيود قوافيه، حتى صار على هذا الشكل. ومن الازدواج قول أحد بني أسد يخاطب رجلا شيخاً مات ابن له: "اصبر أبا أمامة، فإنه فرط افترظه، وخير قدمته، وذخر أحرزته". فقال مجيباً له: "ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وُ عِدته، والله لئن لم أجزع النفس، لا افرح بالمزيد".

وقد تحدث "الجاحظ". في أثناءحديثه عن الشعوبية ومطاعتها على خطبا، العرب عن اساليب الجاهليين في الكلام في أمورهم الجليلة مثل المنافرة والمفاخرة، وعقد المعاقدة والمعاهدة وأمثال ذلك، ثم عن أخذهم المخصرة، عند مناقلة الكلام"فقال: "وبمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام" ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يُقفّ، وبالأرجاز عند المتح، وعندُ مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادة والمحاورة. وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي مقامات الصلح، وسل السخيمة، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تاًليف،ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذين عابوا من الاشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخذ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها، وافتنّت يومَ الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجموُع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكد شأن المحالفة، وحقق حُرمة المجاورة، وخطبهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذالعهد الموكّد واليمين الغموس، مثل قولهم ما سرى نجم وهبت ريح، وبل بحر صوفة، وخالفت جرة" درة". فنحن إذن أمام طرق من الكلام، كل طريق منها يؤدي إلى نوع من الكلام، يستخدم في حالة من الحالات، فمساجلة الخصوم، تكون بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لا يقفى، أي المرسل، أما في حالة الشدة والعمل، مثل المتح، أي الاستقاء من البئر، وفي حالات البناء ورقع الحجر، وفي القتال، فتستعمل الأرجاز، لتنشيط المهمة. واما السجع، فيستعمله الكهان، ويستخدم في المنافرة والمفاخرة، وأما المنثور، أي الكلام المرسل، الحالي من السجع والازدواج، فيستعمل في الحمالة، أي تحمل ديات قوم لا مال لهم، فيقوم غيرهم بتحمل مبلغ الدية، وفي مقامات الصلح، ودفن الأحقاد والصغائن، إلى غير ذلك من حالات. فالسجع، إذن غير النثر، وفي المزاوجة، وغير الرجز. وقد جعل "الجاحظ" الكلام المنثور: أسجاعاً، وازواجاً، ومنثوراً. فهذه في نظره أساليب النثر.

وأنا إذ أصف أسلوب النثر عند الجاهليين، لا أعتي اني أثق بصحة هذا النثر المنسوب اليهم، وأثبت صحة نصه، وانما أنا أصفه مستنداً في وصفي هذا على المدون المعمول عليهم، الوارد الينا في بطون الكتب، لأنه وإن كان في نظرنا مصنوعاً موضوعاً، لكنه صيغ على كل حال وفق أسلوب الجاهليين، وعلى نمط كلامهم، إذ لا يعقل أن يكون الرواة قد اخترعوا تلك الأنماط من الكلام اختراعاً، وأوجدوها من العدم ايجاداً، فهم إذ وضعوا على ألسنة أهل الألسنة من العرب، فإنما وضعوا عن تقليد ومحاكاة، وعلى نمط كلام سابق كان مألوفاً عند أهل الجاهلية الذين أدركوا الإسلام. ودليل ذلك أثره في خطب الخطباء الذين خطبوا أمام الرسول، وفي خطب الخطباء الذين، عاشوا في صدر الإسلام. فأنا حين أرفض النصوص، لا أزعم انه لم يكن لهم نثر، وان النثر انما ظهر وعرف في الإسلام، بل أقر انه قد كان لهم نثر، وكانت لهم خطب وكان لهم كلام، ولكن أقول إن هذه النصوص المتبتة المدوّ نة، هي نصوص لا يجوّ ز العقل أن تكون صحيحة أصيلة مضبوطة، لما قلته من عدم قدرة الذاكرة على المحافظة على أصالة النثر.

وأود أن أستثني الأمثال الجاهلية من هذا التعميم للذي عممته على نصوص النثر الجاهلي، فالأمثال بحكم ايجازها وكثرة انتشارها على الالسنة، ولكونها أداة تعليمية تحفظها الذاكرة، ولا نخطىء فيها كثيراً، حافظت لذلك على أصلها ونصها، ودليل ذلك اننا لا نزال نضرب الأمثال بها حتى اليوم، ثم إن منها ما قد ضرب به مثلاً في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي خطب ا الخلفاء الراشدين وكتبهم، ولهذا فنحن لا نبتعد عن العلم إن قلنا بصحتها من حيث النص والمعنى، أي من حيث الضبط بالكلم ومن حيث المحافظة على المعنى. أما بقبة النثر، فأنا على رأيي من عدم إمكان القول بصحة نصوصه،وإن كنت أبى افق على جواز بناء بعض النصوص على معان جاهلية، فيكون النص في هذه الحالات من وضع الروة، أما المضمون فجاهلي، تطور وتزوق حسب الأفواه التي روته ودبجته، بحيث ظهر على الصورة التي وصلت الينا وإذا كان الحال على هذا المنوال، فأين يا ترى نجد النثر ? وجوابي أنك لا تجد النثر الصحيح المنثور بهذه العربية البينة الفصيحة إلا في القرآن الكريم. فالقرأن الكريم، لكونه كتاب الله وقد دوءن ساعة نزوله، دو"نه كتبة عند نزول الوحي، وأخذه عتهم كتبة آخرون وحفظه الحفاظ، وقرأ الكثير منهم ما كتبه من آي أو ما حفظه منها ومن السور على الرسول، فأبد قراءتهم،وثبت كتابتهم، فهو لهذا الكتاب الوحيد المنزل بلسان عربي مبين. لا شبهة في ذلك ولا شك. أرشدنا إلى أساليب الجاهليين في فنون القول، بمخاطبته لهم بلسانهم وبطرق بيانهم، وبأسلوب محاججتهم، وضرب لهم الأمثال باًمثالهم، كي تكون جمرة مقبولة عندهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، بلسان عربي مبين، يفهمه كل العرب، ففيه إذن نجد نثر العرب، وإن كان هو أبلغ النثر، وفيه تجد حياة الجاهليين وعقليتهم.

وقد وصف "الجاحظ" أسلوب القرآن بقوله: "خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم الرهان، وتاليفه من أكبر الحجج".

ثم نجد هذا النثر في،الحديث، في الحديث النبوي، وفي الحديث موضوع وضعيف، إلا إن فيه ما لا يشك في صحته. وفيه ما روي بالمعنى، لتجويزهم الرواية عن الرسول بالمعنى، خشية الخطا في النص، والتقول عليه، ومن تقول على رسول الله متعمداً، تبوأ مقعده في النار، وقد روي الحديث رواية، أي مشافهة، غير إن من العلماء من ذكر إن "عبدالله بن عمرو بن العاص"، كان قد كتب حديث الرسول، و ذلك انه استاًفنه في أن يكتب حديثه فاًذن له. وروي عنه انه قال حفظت عنه ألف مَثَل، وروي عن "ابي هريرة" قوله: "ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب". ولكنا لم نسمع بما حل بالصحف التي دوّ ن بها "عبدالله" حديث الرسول، ولا أدري اذا كان ما روي عنه في المساند، مثل مسند "أحمد بن حنبل" قد نقل من تلك الصحيفة نقلا" أم رواية.

وهناك روايات تذكر إن "همام بن منبه"، أخذ عن "أبي هريرة"، حديث رسول الله، وكتب ما أخذه في صحيفة عرفت ب "الصحيفة الصحيحة" في مقابل "الصحيفة الصادقة" المنسوبة لعبدالله بن العاص، وتجد نقولاء منها في البخاري، وفي مسند " أحمد بن حنبل". وقد نشرت هذه الصحيفة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. وهذه الصحيفة، إن صح انها من وضع "همام بن منبه" وانها أصيلة، ذات أهمية كبيرة بالطبع، لأنها أقدم صحيفة نعرفها في الحديث بعد صحيفة "عبدالله بن عمرو بن العاص"، وان كانت دونها في المنزلة، لأنها أخذت عن لسان "أبي هريرة"، واخذ "عبدالته" حديثه من فم الرسول، ومن الجائز أن يكون حديث أبي هريرة بلسانه، أما حديث "عبدالله"، فربما كان بلسانه أيضاً، في انه كان ينقله من فم الرسول فيحفظه ثم يدونه، فهو اقرب إلى الصحة من صحيفة "همام". وربما كان "عبدالله"، قد دوّ ن حديثه بحضرة الرسول، فإن هذا الموضوع، لا زال مجهولاً، لم يبحث بحثاً علمياً صحيحاً، وهو ينتظر من الباحثن من يقوم بالبحث عنه.

ويظهر من أحاديث تنسب إلى الرسول مثل حديث: "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"، ومن أخبار تنسب إلى "أبي بكر" و "عمر" في النهي عن كتابة الحديث، مثل ما نسبوا إلى"عمر" من انه كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء من الحديث فليمحه، ومن انه أنشد الناس أن ياًتوه بصحف الحديث، فلما أتوه بها أمر بتخريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب ! ومثل ما نسب إلى "علي" من قوله: "اعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"، وأمثال ذلك مما نسب إلى الصحابة في النهي عن كتابة الحديث، وفي الحث على تحريق ماقد كان عندهم من صحف وكتب أو إمحائه، انه قد كان عند الصحابة صف فيها حديث رسول اذ كتبت في أيام الرسول وبعده، كانوا يراجعونها ويستعزون بها، وكان في بعضها ما يشك في صحته وفي صدوره من الرسول، ولخوف الرسول وصحابته من إن ياتي يوم تكون فيه تلك الصحف مرجعاً للناس مثل رجوعهم للقرآن، يتخذونها سنداً لهم، اتخاذ اليهود للمثناة، أي "المشنا"، أمروا بانلافها وبالنهي عن التدوين. والاكتفاء بالحديث مشافهة، وبنشره بالرواية. وهي طريقة غير مامونة أيضاً، فالتدوين أضمن منها وأسلم، ولكنها طربقة كانت متبعة في ذلك الحين، لأسباب لا أستطيع إن أتحدث عنها في هذا المكان، لأن الحديث عن تدوين حديث رسول الله وعن ورود النهي عن تدوينه يخرجنا عن الحدود المرسومة لهذا الكتاب. على كل فإن أخذ المحدثين بمبدا رواية حديث الرسول بالمعنى، كان هو السبب الذي حمل علماء النحو واللغة على عدم الاستشهاد به في شواهد القواعد واللغة، كما بينت ذلك في موضعع آخر من هذا الكتاب.

وفي رسائل الرسول وكتبه ووصاياه وخطبه وأوامره، وفي خطب الوفود التي كانت تفد عليه، وفي خطب الصحابة، أمثلة على طبيعة وأسلوب الخطب عند الجاهليين، ولا سيما القديم من تلك الخطب الذي ألقاه الخطباء أمام الرسول قبل دخولهم في الإسلام، فهو في الواقع استمرار لأسلوب الخطاب في الجاهلية، القي بالطريقة المالوفة عندهم التي تمثل التفكير الجاهلي، والعقلية الجاهلية أيام ظهور الإسلام. وإن كنت اشك في صحة كثير من الخطب والرسائل المنسوبة إلى الرسول ذلك لأننا إذا درسنا نصوص هذه الرسائل، نجد أصحاب السير والتواريخ يروونها بصور مختلفة، وفي اختلافهم هذا، د لالة على ان الرواة لم ينقلوها من أصل مكتوب،وإنما اخذوا النص بطريق المعنى والرواية، فوقع من ثم هذا الاختلاف. أضف إلى ذلك شل التزوير، فقد نص المؤرخون وأرباب السير على أن بعض أهل الكتاب وسادات القبائل والرجال، قدموا للخلفاء كتباً مزورة فيها إقرار قرار وإحقاق حق، للمطالبة بتنفيذ ما جاء فيها، وفي حديث: "من كذب على متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار"، وحديث آخر يشبهه هو: "إن الذي يكذب علطّ يبتي له بيتاً من النار"، وأحاديث أخرى من هذا القبيل، دلالة على وقوع الكذب على الرسول في حياته وبعد وفاته.

وقد ورد أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلىّ ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوُجه اليهم الخطاب كانوا يجهلون من ذلك اشياء كثيرة: حتى قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسمعه يخاطب وفد بتي نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره ?فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الإختلاف فطرياً في "العرب فلم يلتفتوا إليه".

فإذا كان الأمر من اختلاف لغات العرب على هذا النحو، واذا كان الصحابة ومنهم ا الخلفاء، وهم على ما هم عليه من فصاحة وبلاغة، لم يفهموا كلام الوفود، فهماً صحيحاً، حتى كان الرسول يفسر لهم ما كان يقوله للوفود، وما كانت الوفود تقوله له، فكيف نصدق بصحة نصوص خطبهم وكلامهم، وقد ألقيت بلهجاتهم الخاصة، ولم يكن هناك كتبة ولا مدونون، يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ومحاضر كلامه معهم، وما كان يقع بحضرته من نقاش وكلام ?.

وأنت إذا راجعت خطب الرسول التي خطها في "حجة الوداع" تجدها وقد رويت بصور مختلفة، وفي هذا الاختلإف دلالة بينة على انها لم تنقل من أصول مكتوبة، وانما أخذت من الأفواه، وإلا لما جاز عقلاً وقوعه أبداً. وسبب ذلك، أن الناس في ذلك الوقت، لم يكونوا قد تعودوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام اتخاذ كتاب لتدوين ما كان يقع لهم من أحداث، ولم يكن عندهم مراسلون يرافقون الملوك والحكام وسادة القبائل والوفود، لوصف مواكب الملوك ومشاهدهم وحروبهم، وخطبهم ومفاوضاتهم مع سادات القبائل. وكذلك كان الحال في الإسلام، بل ولا رواة لهم ذاكرة قوية، لحفظ أحاديث المجالس والأحداث، واذاعتها بين الناس، لأن العناية بحفظ الأحداث والتواريخ وتخليدها تقتضي وجود وعي باًهميهَّّ تدوين التأريخ، ولم يكن هذا الوعي معروفاً آنذاك. ولهذا جائت أخبار الحوادث عن طريق شهود عيان رووا ما شاهدوه لأصحابهم، كما يروي أي إنسان ما قديقع له من أمور لأصدقائه،وهؤلاء قصوا تلك المرويات على أصحابهم وعلى من جاء بعدهم بلغتهم، وبهذه الطربقة وصلت الأخبار إلى المدونين عندما بدئ بالتدوين.وليس من المعقول بالطبع محافظة الذاكرة على النصوص الأصلية للخطب وللكلام، ولقول الراوي الأول للاحداث. وليس من المعقول أيضا" وصولها سالمة تقية من كل تغيير أو تبديل أو تحريف، ولا سيما في الأمور العاطفية التي تضرب على أوتار العصبية. ولهذه الأسباب وغيرها فنحن لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة هذه الأخبار المروية من الأفواه، لما محتمل أن يكون قد وقع فيها من زيف أو من تحريف عن عمد أو من غير عمد. ولو كانت الذاكرة تعي كل كلام وتحفظ كل حديث بالحرف والكلمة، لما اجاز العلماء رواية حديث الرسول بالمعنى، إذ كان من الصعب حفظه بالحرف. ولا أظن أن أحداً يقول إن حفظ أخبار الجاهلية ونصوص كلام رجالها،أهم عند العرب من حفظ حديث الرسو ل وأنا أشك في صحة أكثر ما نسب إلى "مسيلمة" من كلام وقرآن. وهو "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، المكنى ب "أبي ثمامة"، والمنعوت بين المسلمين ب "الكذاب". واسمه الصحيح "مسلمة"، وقد صغر في الإسلام، ازدراء بشأنه. فقد روي انه صنع قرآناً مضاهاة للقرآن، غير انهم لم يتحدثوا بشيء عن قرآنه. واذا صح ما ذكره أهل الأخبار من انه ادعى الوحي بمكهَ أو باليمامة قبل الإسلام، وانه نزّ ل على نفسه آيات زعم انها تنزيل من الرحمان، فيكون قد باشر بتأليف قرآنه قبل الوحي.

وذكر إن في حقه نزلت الاية: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال أوحي إلى ولم يوح إليه بشيء. ومن قال سانزل مثل ما أنزل الله". فقد ذكر علماء التفسير إن عبارة: لا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه بشيء"، نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به. ومن قال: ساًنزل مثل ما أنزل الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي صرح،أخي بتي عامر بن لؤي، ءكان يكتب، للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي: عزيز حكيم، فيكتب: غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حول، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام م، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب،فيقول: نعم سواء". وكَان من حديث "سيلمة" إن قريشاً قالت للرسول: "بلغنا افه ايما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له الرحمان، وإنا والله ما نؤمن بالرحمان ابداً"، وذكر أهل الأخبار إن قريشاً "حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك، انما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"، لأنهم كانوا قد سمعوا بدعوته إلى عبادة الرحمان، قبل نزول الوحي على الرسول. وورد "انهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن ? هو كاهن اليمامة !". وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضاً فيه: رحمان اليمامة.

وأنا لا أستبعد احتمال مجيئه إلى مكة قبل الإسلام. فقد ذكر انه تزوج "كبشة" "كيسة بئت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"، وهي من مكة، فلا يعقل عدم مجيئه. إلى مكة وإقامته بها بعض الوقت، ومجيئه إليها بين الحين والحين. ومن هنا كان لأهل مكة علم بدعوة مسيلمة إلى عبادة "الرحمان": وقد زعم أنه "كان يقول: أنا شريك محمد في النبوة، وجبريل عليه السلام ينزل عليّ كما ينزل عليه، وكان.رجَآل بن عنفوة من رائشي نبله، والحاطبين في حبَله، والساعين في نصرته، وكان مسيلمة يقول: يا بني حنيفة، ما جعل الله قريشاً بأحق بالنيوة منكم، وبلادكم أوسع من بلادهم، وسوادكم أكثر من سوادهم، وجبريل ينزل على صاحبكم مثل ما يزل على صاحبهم. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد الناس يتذاكرونه وما ييلغهم عنه من قوله وقول بني حنيفة فيه، فقام يوماً خطيباً، فقال بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد، فإن هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه كذاب في ثلاثين كذاباً قبل الدجال، فسماه المسلمون مسيلمة الكذاب، وأظهروا شتمه وغيه و تصغيره، وهو باليمامة يركب الصعب والذلول في تقوية أمره ويعتضد برجال بن عنفوة، وهو ينصره ويذب عنّه ويصدق أكاذيبه، ويقرأ أقاويله التي منها: والشمس وضحاها، في ضوئها ومنجلاها. والليل إذا عداها، يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها وأطفأ نورها فمحاها".

. "ومنها: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحبُلى، فأخرج منها نسمة تسعى من بين أحشاء ومعى، فمنهم من يموت ويدس في الئرى، ومنهم من يعيش ويبقى إلى أحل ومنتهى، والله يعلم السرّ وأفى، ولا تخفى عليه الآخرة و الأولى ومنها: اذكروا نعمة الله عليكم واشكروها؛ إذ جعل لكم الشمس سراجاً، والغيث ثجاجاً، وجعل لكم كباشاً ونعاجاً، وفضة وزجاجاً، وذهباً وديباجاً، ومن نعمته علكم ان أخرج لكم من الأرض رماناً، وعنباً، وريحاناً، وحنطة و زؤا ناً. " وكان أبو بكر إذا قرع سمعه هذه الترهات يقول: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من إله" "وكان رجال بن عنفوة صاحب مسيلمة قدم المدينة مراراً، وقرأ القرآن وأظهر الايمان، وأسرّ الكفر. ويروى إن للنبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في "أصحابه إذ سمع وطئاً من خلفه، فقال: هذا وطء رجل من أهل النار، فإذا هو رجّال بن عنفوة. فلما قدم وفد حنيفة على اي صلى الله عليه وسلم - وفيهم مسيلمة إلا انه لم يلقه - وأظهروا الإسلام وأرادوا ألانصراف، أمر لهم عليه الصلاة والسلام بجوائز كعادته في الوفود، وقال: هل بقي منكم أحد ? قالوا: لا، إلا رجل منا يحفظ رحالنا - يعنون مسيلمة - فقال صلى الله عليه وسلم: ليس بشرَكم مكاناً. فلما رجع الوفد إلى مسيلمة وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم:.قد سمعتم قول محمد في ": ليس بشركم مكاناً، وقد أشركني في الأمر بعده، فعليكم به. ولما انصرفوا إلى اليمامة أعلن مسيلمة النبوة، وادعى الشركة، وفتن أهل اليمامة، وانقسموا بين مصدّ ق ومكذب، وراضٍ وساخط، وكتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كتاباً قال فيه: إلى النبي محمد رسول الله من مسيلمة رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً قوم يعتدون ولا يعدلون. وختم الكتاب وأنفذه مع رسولين، فلما قرىء الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهما: ما.تقولان ? قالا: نقول ما قال أبو ثمامة، فقال: أما والله لولا إن الرسل لا يقتلون لقتلتكما.

واملي في الجواب: من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ولما صدر الرسولان إلى مسيلمة الكذاب افتعل كتاباً يذكر فيه انه جعل له الأمر من بعده، فصدّقه أكثر بتي حنيفة.

وبلغ من تبركهم به انهم كانوا يسألونه أن يدعو لمريضهم،ويبارك لمولودهم، وجاءه قوم بمولود لهم فمسح رأسه فقرع. وجاءه رجل يساله إن يدعو لمولود له بطول العمر، فمات من يومه.

وكان ثمامة بن أثال الحنفي يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يوماً لأصحابه: إن محمداً لا نبي معه ولا بعده، كما إن الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته. ثم قال: أين قول مسلمة: يا ضفدع نقي نقي، كم تنقين ! لا الماء تكدرين، ولا الشرب تمنعين،من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: حم. تنزيل الكتآب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. فقالوا: أوقح بمن يقول مثل ذلك مع مثل هذا.

وقد روي قول "مسيلمة" في الضفدع على هذا النحو: "يا ضفدع بنت ضفدعين: نقي ما تنقين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين". وروي أن وفد اليمامة لما قدم على "أبي بكر" بعد مقتل مسيلمة، "قال لهم: ما كان صاحبكم يقول ? فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولن. فقالوا: يا ضفدع نفي كم تنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين... في كلام من هذا كثير. فقآل أبو بكر ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج من إل " ولا بر، فاين ذهب بكم"?، أو آنه قال: "هذاكلام ما اتى من عند آل، أي من عند الله. وهو في الأسماء الأعجمية إيل، مثل إسرافيل، وجبريل، وميكائيل، وإسرائيل، واسماعيل". وقيل الإل: الربوبية، والأصل الجيد والمعدن الصحيح، أي لم يجىء من الأصل الذي جاء منه القرآن. ويجوز أن يكون بمعنى النسب والقرابة، من قوله تعالى: "لا يرقبون في مؤمن إلاّّ ولا ذمة". وقول حسان: لعمرك إن إلك من قـريش  كإلء السقب من رأل النعام

وقد ذكر "الطبري" في مقدمة تفسيره، أن القرآن لما نزل على الرسول، "أقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعأشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه غير قادر عليه، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستوراً ومن عيَ لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالحابزات خبزاً، والثاردات. ثرداً، واللاقمات لقماً... ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة". والطري وإن لم يصرح باسم قائل هذه الحماقات، لكنه قصد به مسيلمة من غير شك اما أن تلك الآيات آيات قالها "مسيلمة" حقأ، فتلك قضية لا يمكن إثباتها، فلما قتل، وضع أصحابه عليه أموراً كثيرة، قد يكون في جملتها هذه الآيات أما قرآنه الذي قيل إنه وضعه يضاهي به القرآن، فقد هلك بهلاكه، ولم أجد أحداً ذكر أنه وقف عليه، ونقل منه، ولعله كان كلاماً. لم يسجل في حياة مسيلمة، وإنما كان محفوظاً في صدر صاحبه وفي صدور أتباعه، ودخل من دخل من أصحابه في الإسلام طمس أثر ذلك القرآن.

وقد دون "الرافعي" الآيات التي أخذتها من تفسير الطبري، على هذه الصورة: "والمُبذرات ز رَعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقَماً، إهالة وسمناً... لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر،ريفكم فامنعوه، والمُعتر فآووه، والباغي فناوئوه"..

ونسب "الرافعي" له قوله "والشاء وألوانها، واعجها السود والبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، انه لعجبَ محض، وقد حرم المذق فما لكم لا تمجعون.

وقوله: "الفيلُ ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". وروي انه "جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا"، أو انه قال: "ألم ترَ إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى". روي انه قال هذه الآيات لسجاح لما اراد الدخول بها، فقالت:"، وماذا أيضاً ? قال: أوحى إلي: إن الله خلق النساء أفراجأ، وجعل الرجال لهن ازواجاً، فنولج فيهن قُسعاً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً انتاجاً. قالت أشهد انك نبي، قال: هل لك إن أتزوجك فآ كل بقومي وبقومك العرب ! قالت: نعم، قال: ألا قوفسا إلى الـنـيك  فقدُ هبي لك المضجع

وإن شئتِ فقي البـيت  وإن شئت ففي المخدع

وإن شئت سلقـنـاك  وإن شئت على أربع

وإن شئت بثـلـثـيهَ  وإن شئت به أجمع

قالت: بل به اجمع.،قال بذلك اوحى إليّ فأقامت عنده ئلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا: ما عندك ? قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئاً ? قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: ما لك ? قالت أصدقني صداقاً، قال: من مؤذنك ? قالت: شبث بن ربعى الريآحي، قال: علي به، فجاء، فقال: ناد في أصحابك إن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الاخرة وصلاة الفجر". وأما "سيف" فذكر انه صالحها "على أن يحمل إليها النصف من غلا"ت اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لها بذلك، وقال: خلفي على السلف من يجمعه لك، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة.

وذكر أن "سجاح" لما دخلت قبة "مسيلمة"، "قالت له: اخبرني بما ياًتيك به جبريل ? فقال لها: اسمعي هذه السورة: انكن معشر النساء خلقن أمواجاً، وجعل الرجال لكن أزواجاً، يولجن فيكن إيلاجاً، لا ترون فيه فتوراً ولا إعوجاجاً، ثم يخرجونه منكن إخراجاً، فقالت له: صدقت، والله إنك لنبي مرسل"، وهي قصة أخذت من موارد سابقة، مثل الطبري، غير أنها غيرت فيها بعض التغبير، تنتهي بأنه رفع عن قومها صلاهّ العشاء والصبح لأجل المهر. - وزعم أن "من قرآن مسيلمة التي يزعم أنه نزل عليه، لعنة الله عليه: والنازعات نزعاً، والزارعات زرعاً، والحاصات حصداً،، والذاريات ذرواً، فالطاحنات طحناً، والنازلأت نزلاً، فالجامعات جمعاً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، فالاكلات أكلاً، والماضغات مضغاً، فالبالعات بلعاً".

وقد اتخذ قتل "مسيلمهّ" فخراً، فادعى قتله بنو عامر بن لؤي، وادعى بعض الخزرج قتله، وادعى "بنو النجار" قتله، وادعى "حبشي" قاتل حمزة قتله، وكان "معاوية يدعي قتله" ويدعي ذلك له "بنو أمية". وذكر أن "عبد الملك بن مروان" قفىّ لمعاوية بقتل مسيلمةْ، وهو قضاء سياسي لا أصل له بالطبع.

ويظهر إن بتي حنيفة بقوا على تعلقهم بمسيلمة، حتى بعد مقتله وذهاب امره.

ففي خبر ينسب إلى "ابن معيز" السعدي انه مر على مسجد بني حنيفة، فسمعهم يذكرون "مسيلمة"، ويزعمون انه نبي، فأتى "ابن مسعود" فاًخبره، فبعث اليهم الشرط، فجاموا بهم فاستتابوا فخلي عنهم، وقدم "ابن النواحة" فضرب عنقه. هذا، ويدل تعلق "بتي حنيفة" وغيرهم من عرب اليمامة بمسيلمهَ، واستماتتهم في الدفاع عنه، وتذكرهم له حتى بعد هلاكه، على انه كان شخصية موثرة قوية، سحرت أتباعها، حتى انقادوا له هذا الانقياد. وقد نص "ابن حجر" على قتل "ابن مسعود" لابن النواحة، إلا انه لم يذكر إن ذلك كان بسبب اعتقاده بنبوة "مسيلمة"، وانما ذكر انه "كان قد اسلم ثم ارتد فاستتابه عبدالله بن مسعود، فلم يتب فقتله على كفره وردته". امم "ابن النواحة" "عبادة بن الحارث" احد بني عامر بن حنيفة.

ويروى إن "الألخل" الضبعي، قال في مسيلمة: لهفاً عليك أبا ثـمـامة  لهفاًعلىُ ركني شمامه

كم آية لـك فـيهـــمُ  كالبرق يلمع في غمامه

وكان "الضبعي" شاعراً، زعم انه ادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة، ولنا عجزها، وقد ضرب عنقه "عمر بن هبيرة"، ومن شعره: لنا شطر هذا الأمر قسمهّ عادل  متى جعل الله الرسالة ترتبـا

اي راتبة في واحد، وسئل "الأحنف بن قيمس" رأيه في مسيلمة، فقالا: "ماهو بنبي صادق ولا بمتنبىء حاذق.

وانا لا استبعد ما نسب إلى "مسيلمة" من دعوى نزول الوحي عليه، وتسمية ذلك الوحي "قرآناً" أو كتاباً أو سفراً، أو شيئاً آخر، ولكني استبعد صحة هذه الايات التي نسبتها الكتب إليه، وأرى أن أكثرها ورد بطريق آحاد، فلما نقلها الخلف عن السلف، وكثر ورودها في الكتب ظهرت وكأنها أخبار متواترة، وصارت في حكم ما أجمع عليه. وقد رويت بعض الآيات مئل:آية الضفدع، بصور متعددة مختلفة، مع أفها أشهر وأعرف آية أو آيات نسبت إليه، فما بالك بالآيات الأخرى، ثم إننا نجد الرواة يناقضون أنفسهم كثيراً فيما نسبوه إليه، وبعضه مما لا يعقل صدوره من مسيلمة، مثل شعره الذي قاله لسجاح، حين أراد الدخول بها. وهل يعقل أن يقول إنسان يدعي النبوة مثل هذا الكلام الفاحش أمام الناس، ليدون ويسجل عليه! وقد ذكر "ابن النديم" إن لابن الكلبي مؤلفاً خاصاً ألفه في مسيلمة دعاه: "كتاب مسيلمة الكذاب، لم يصل الينا، وله كتاب آخر في بني حنيفة اسمه: "كتاب أيام بني حنيفة"، وهم قوم مسيلمة، وكتاب دعاه: "كتاب أيام قيس بن ثعلبة".

وزعم أن من كلام "طليحة" الأسدي الذي قاله لأصحابه: والحمام واليمام، والصرد والصو ام، قد صمن قبلكم بأعوام، "ليبغن ملكنا العراق والشام". وروى "الطبري" سجعاً من سجع "سجاح"، وكانت نصرانية راسخة في النصرانية، قد علمت من علم تغلب، هو قولها لأتباعها: "عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة"، فلما جاءت مع قومها اليمامة، قال لها مسيلمة: لا لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: لا يرد النصف إلامن حنف، فاحمل المنصف إلى خيل تراها كالسهف. فقال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذطمع، ولا زال اًمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ضمن وحشة خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحباكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجاّر، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم و الأمطار.

وقال أيضاً: لمّا رأيت وجوههم حسُنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تاًتون، ولا الخمر تتشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون يوماً، وتكلفون يوماً، فسبحان الله !إذا جاءت الحياة تحيون، والى ملك السماء ترقون ! فلو انها حبة خردلة، لقام عليها شهيد بعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور وكان مما شرع لهم مسيلمة إن من أصاب ولداً واحداً عقباً لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد، حتى يصيب ابنأَ ثم يمسك، فكان قد حرّم النساء على من له ولد ذكر و بلاغة الكلام معروفة عند الجاهليين، فقد كانوا ينعتون المتكلم الجيد بالبليغ، وفي القرآن الكريم: "وقل لهم في أنفسم قولاَ بليغاً". والبليغ الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره ونهاية مرامه. سأل "معاوية" "صحار بن عياش" العبدي"، ما البلاغة ? فقال: لا تخطىء ولا تبطىء. أو أنه قال له: ما البلاغة ? قال: الإبحاز. قال: ما الايجاز ? قال: أن لا تبطىء ولا تخطىء وكان قد دهش من فصاحته وبلاغته،-فقال له: ما هذه البلاغة فيكم ? قال: شيء يختلج في صدورنا فنقذفة كما يقذف البحر بزبده.

وقد ميز "الطبري" وغيره من العلماء بين الخطباء وبين الفصحاء والبلغاء، فالخطباء هم من جماعة صناع الكلام، وصناعتهم صناعة الخطب، وذكر بعدهم "البلغاء"، صناع البلاغة، ثم "الشعر" والفصاحة، فجعل للشعر في مقابل الفصاحة، ثم السجع والكهانة، وقال: " كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم وفصيح"، فالخطيب هو الذي يخطب باسم الوفد أو القوم، وله لذلك عندهم مقام جليل، لأنه عقل من يتكلم باسمهم ولسانهم، والبليغ من يتحدث ويتكلم في المجالس والأندية، بكلام بليغ رصين، والفصيح من يفصح ويعرب بلسانه، ونجدهم يقولون أحياناً خطيب فصيح، وشاعر فصيح، فالفصاحة صفة تلحق بالمتكلم ناثراً كان أو كان شاعراً.

وللبيان عند العرب مقام كبير. وقد أشاد القرآن بالبيان، فقال: "الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان" فجعل الببان في جملة ما علمه الله الإنسان. ونعت القرآن بانه نزل "بلسان عربي مبين"، ووصف القرآن بقوله: "طس،تلك آيات القرآن وكتاب مبين". وينسب إلى الرسول قوله: "إن من البيان لسحرا". وورد في المثل: "جرح ا السان كجرح اليد. هو في شعر امرىء القيس". يضرب في تاثير الوقيعة، وفي أئر القول في فعل الناس، وروي أن ذوي الفهم والعلم من قريش تاثروا ببلاغة القرآن وفصاحته، فروي أن "الوليد بن المغرة"، وكان من بلغاء قريش وفصائحهم ومن علمائهم بالشعر، لما دخل على "أبي بكر" يساًله عن القرآن "فلما أخره خرج على قريش، فقلل: يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا جهني من الجنون"، أُ انه قال لما سمع القرآن: "والله لقد نظرت فما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر وان له الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وانه ليعلو وما يعلى،وما أشك أنه سحر"، أو أنه قال: "سمعت قولاً حطواً أخضر مثمراً، يأخذ بالقلوب. فقالوا: هو شعر. فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضت على الشعراء شَعرهم ! نابغة وفلان وفلان. قالوا: فهو كاهن. فقال: لا والله ما هو بكاهن قد عرضت علي الكهانة. قالوا: فهذ سحر الأولين اكتتبه. قال: لا أدري إن كان شيثاً فعسى هو إذا سحر يؤثر"، أو أنه قال أشياء اخرى من هذا القبيل، اتفقت في المعنى والمقصد، واختلفت في العبارات، كما روي أن قوماً من قريش ومن غيرهم، أسلموا بتاًثر بيان القرآن عليهم، فقد روي إن "عمر بن الخطاب" أسلم على ما يقال حين سمع القرآن. روي عنه انه قال: "خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن. فقلت هذا والله شاعر، كما قالت قريش. فقرأ: انه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر، قليلاً ما تؤمنون. فقلت كاهن. قال: ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون حتى ختم السورة. قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع". وهي رواية تخالف ما جاء في خبر اسلامه، من انه كان قد خرج يريد قتل الرسول، فتلقاه "نعيم بن عبدالله" النخام، وكان من المسلمين، فقال له: أين تريد يا عمر ? فقال له: "اريد محمداً هذا الصابىء الذي فرّ ق أمر قريش وسفه احلامها، وعاب دينها وسب آلهتها، فاقنله"، فقال له "نعيم":،"أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال: وأي أهل بيتي ? قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فا طمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه فعليك بهما"، فرجع عمر عامداً إلى اخته وختنه وعندهما "خباب بن الأرت" معه صحيفة فيها "طه" يقرئهما اياها، فلما سمعوا حس، عمر، أخذت "فاطمة" الصحيفة. فلما دخل "عمر"، قال: ما هذه الهينمة التي سمعت ? قالا: ما سمعت شيئا، ثم قال لأخته اعطني هذه الصحيفة التي سمعتم تقرأونها أنظر ما هذا الذي جاءبه محمد. فأبت أخته اعطاءها. إلا أن يغتسل، فاغتسل عمر، فأعطته الصحيفة وفيها "طه" فقرأها وتأثر بها فأسلم.

ورووا أن "سويد بن الصامت"، صاحب صحيفة لقمان، كان ممن أعجب بالقرآن، ورووا أن "جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل"، وكان من أكابر قريش ومن علماء النسب، قدم على النبيّ، فسمعه يقرأ "الطور"، فأثرت القراءة فيه، وقد أسلم فيما بعد، بين الحديبية والفتح، وقيل في الفتح. والفصاحة في معنى البلاغة، فهي مرادف لها في الاستعمال. والفصيح هو البين في اللسان والبلاغة، ولسان فصيح، أي طلق. وقد اشتهر "قس بن ساعدة الايادي" في الفصاحة حتى ضرب به المثل فيها، فقبل: أفصح من قس، وأنطق من قس، وأبين من قس، أي أفصح، وأبلغ من قس. وقد ذكره "الأعشى" بقو له: وأبلع من قسّ وأجرأ من الذي بذي  الغيل من خفان أصبـح خـادرا

كما ذكزه الحطيئة بفوله: وأبون من قس وأمضى إذا مضى  من الريح إذ مسّ النفوس نكالهاْ

ونسبوا إلى "قس" قوله ينصح ولده: "إنّ المعا تكفيه البقلة. وترويه المدقة، ومن عيرك شيثاً ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك عَدَل عليلك من فوقك،وإذا تنهيَنتَ عن شيء فانْهَ نفسك، ولاتجع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج إليه، وإذا ادخرت فلا يكونن كنزك إلا فعلك. وكن عف العيلة،مشترك الغنى، تسد قومك. ولا تشاورن مشغولاَ وإن كان حازماً، ولا جائعاً، وإن كان فهما"، ولا مذعوراً وإن كان ناصحاً ولا تضعنّ في عنقك طوقاً لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك. وإذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعن أحداً دينك وإن قربت قرابته، فإنك افا فعلت ذاك لم تزل وجلاً، وكان المستودعَ بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبداً ما بقيت. وإن جنى عليك كنت أولى بذلك، وان وَ فى كان الممدوح دونك". وقد اشتهرت "إياد" بالفصاحة والبيان، وبقدرة في اللسان. وقد ظهر منهم جملة خطباء. واشهرت "بنو أسد" بالخطابهَ كذلك، قال "يونس بن حبيب ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو.

والان، وبعد أن انتهينا من الكلام على النثر، نفول هل كان للجاهليين أدب منثور ? أي مدونات من الأدب المنثور. لقد ذهب البعض إلى انه لو كان للجاهليين أدب منثور مدون، لعدّ عجيباً اختفاء آثاره هذا الاختفاء الكلي، حتى من أحاديث العرب المنقولة. والواقع إن من غير الممكن في الوقت الحاضر البت علمياً في هذا الموضوع، لأننا لا نملك أدلة علمية، لنستنبط منها أحكاماً تؤيد أو تنفي وجود التدوين في الجاهلية. أما مسالة عدم ورود نصوص أدبية منثورة الينا، أو عدم ورود إشارات إلى وجودها في الجاهلية، فإنها أمور لا يمكن أن تكون حجة على اثبات عدم وجود التدوين عند الجاهليين، اذ لا يجوز انها كانت، ولكنها تلفت، بسبب كونها كانت مكتوبة على مواد سريعة التلف، فهلكت، كما هلكت مدونات صدر الإسلام، حيث لم يصل من أصولها إلا النزر اليسير، وهو نزر يشك في أصالته وصحته.

وذهب بعض إلى وجود أدب منثور، إذ لا يعقل وجود أدب منظوم، ثم لا يكون للعرب أدب منثور. ويتجلى طراز هذا الأدب في الأمثلة والحكم المنسوبة إلى الجاهلييبن. أما مؤلفات وكتب، وصحف مدونة فلم يصل منها الينا أي شيء. ولكن ذلك لا ينفي عدم وجودها عند أهل الجاهلية، وقد تحدثت عن موضوع التدوين عند الجاهليين في موضع آخر من هذا الكتاب.

وللجاحظ رأي في كلام العرب، فهو يرى أن "كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكاًنه إلهام، وليست هناك معاناة ه ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام "فتاًتيه المعاني أرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده"، عل حين يكون كلام العجم "عن طول فكرة وعن اجتهاد راي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتبُ". وقد حصر اصناف البلاغة عند العرب بالقصيد والرجز، وهما من الشعر، وبالمنثور، وهو الكلام المرسل، وبالأسجاع، وبالمزدوج وما لا يزدوج من الكلام.

أما موضوع وجود ترجمات جاهلية عربية للتوراة والانجيل والكتب الشرعية الأخرى المعتبرة عند اهل الكتاب، فموضوع لم يتفق عليه الباحثون حتى الآن. نعم ورد في الأخبار أن الأحناف كانوا قد وقفوا على كتب الله،وقرأوها بالعبرانية وبالسريانية، وانهم كتبوا بهما وبالعربية، ولكن هذه الأخبار غامضة غير واضحة، يجب أخذها بحذر، كما ورد أن بعض الرقيق من أهل الكتاب ممن كان بمكة كان يقرأ كتاب الله، وكانت قريش ترى رسول الله يمرّ عليه وبحلس عنده ويستمع إليه، فقالت إنما يتعلم "محمد" منه، ولكن " الأخبار الواردة عن هذا الموضوع لا تشير إلى أن هذا الذي زعم أنه كان يعلم الرسول، كان قد دون ترجمة كتب الله، أو تفاسيرها بالعربية، وأن الناس قد وقفوا عليها.

وأما ما ورد من أمر "عمرو بن سعد بن أبي وقاص" "عمرو بر سد ير أبي وقاص" المذكور في تاريخ "ميخائيل السوري" "المتوفى سنة 1169 المهيلاد" البطريق "البطريارك يوحنا" بطريق اليعاقبة، ترجمة "الانجيل" من السريانية إلى العربية ثم ما جاء من وقوع خلاف بين "عمرو" ويين "البطريارك" بشان الترجمهَ، ثم من استعانة "البطريارك" بعد ذلك برجال من "تنوخ"، و "عاقولا"، و "طيء"، كانوا يتقنون العربية والسريانية للقيام بالترجمة. ولترجمه التوراة، مع رجل يهودي، فإنه خبر غير مؤكد، وقد شك فيه بعض الباحثين، وربما وضع للطعن في "البطريارك"، وضعه خصومه عليه.

ولم تأت جهود "بومشتارك" وتلامذته بنتائج مؤكدة مقبولة عن اثبات وجود كتب للصلاة بالعربية، ترجمت من االسريانية إليها قبل الإسلام، ومن المحتمل أن رجال الدين كانوا يعطون نصارى العرب في الجاهلية بالعربية، أما نصوص الصلاة، فكانوا يلقونها عليهم بالسريانية. وربما كان الحال على هذا المنوال. بالنسبة إلى رجال الدين المتنقلين مع الأعراب، فقد كانوا يتنقلون معهم، يعلمونهم ويرشدونهم بالعربية، ولكنهم لم يكونوا قد ترجموا كتب الصلوات ترجمة مدونة بلغتهم. وقد ورد إن رجال الدين كانوا يحملون "الدفة" معهم، حيث تحل القبائل، لترتيل الصلوات على المذابح المتنقلة، فعل ذلك رجال الدين مع "بني ثعلب" وقبائل من اليمن وغيرها. وينطبق ما اقوله على العرب الجنوييين أيضاً، فلم يعثرحتى الان على دليل يثبت وجود ترجمات بعربيات جنوبية للتوراة أو الإنجيل أو الكتب الدينية الأخرى. ولكن هنلك أخباراً يذكرها أهل الأخبار تشير إلى وجود مثل هذه الترجمات، غير اننا لا نتمكن من التسليم بها، لما فيها من عناصر تدعو إلى الشك في أمرها وعدم إمكان الأخذ بها في الوقت الحاضر.

وقد ورد إن عرب بلاد الشام من لخم وجذام وغسان وقضاعة وتظب وكلب وغيرهم، "وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية"، وقصُد بالعبرانية السريانية، ولهذا لم ياخذ علماء اللغة عنهم. غير انهم لم يشيروا إلى ما كانوا يقراون، ويظهر انهم قصدوا بذلك الصلوات والكتب المقدسة، يقواًونها عليهم بالسريانية وربما ترجموا ما قرأوه عليهم إلى العربية.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق