إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 5 فبراير 2016

1802 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والاربعون بعد المئة الشعر شيطان الشاعر


1802

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
  
الفصل السادس والاربعون بعد المئة

الشعر

شيطان الشاعر

ولابد لي هنا من أشير إلى ما كان يعتقده الجاهليون من أن الشعراء كانوا يستلهمون وحيهم بالشعر من "شيطان"، كنّوا عنه ب"شيطان الشاعر". فقالوا: "لكل شاعر شيطان". وهم يعبرون بذلك عن الحس الذي يصيب كل انسان حساس شاعر عندما يهز مشاعره وإحساسه شيء ما يؤثر عليه فيستولي على عقله وشعوره ويستهويه، ولا يتركه يستقر ويهجع حتى يعبر عن شعوره هذا الذي سيطر عليه وملكه، بشعر يأتيه وكأنه وحي ينزل عليه تنزيلاً، وعندئذ فقط يستقر ويهجع، بعد أن يكون قد نسب هذا الشعور المرهف الذي ألمّ به إلى وحي "شياطين الشعر".

وكان الكهناء، يقولون في الجاهلية:إن الشياطين كانت تأتيهم، فهم مثل الشعراء يعتقدون بأن وحياً يوحى اليهم بما يقولونه للناس، يتجلى لهم على صورة "رئي"، الرئي يقول سجعاً، والشيطان ينظم شعراً.

وقد بلغ من اعتقاد بعضهم بوجود "شياطين الشاعر" أن رووا قصصاً تذكر كيف أن "شياطين الشعر" كانوا يعلمون الشعراء قول الشعر حين ينحبس الشعر عنهم وحين تقف قريحتهم حتى ليصعب على الشاعر أن ينظم بيتاً واحداً، حتى إذا حار في أمره، استجار بشيطانه وتوسل اليه لإنقاذه من محنته، فيرق شيطانه عليه، ويلقي عليه الشعر إلقاء فيأتي على لسان الشاعر وكأنه سيل متدفق. ولاعتقاد الشعراء هذا بوجود قرين لهم من الشياطين، أو من الجن، سموا شياطينهم بأسماء، فكان اسم شيطان الأعشى "مسحلاً"، وقيل تابعه وجنيّه الذي كان يوحي اليه بالشعر. كما أشار هو اليه في شعره:  

دعوت خليلي مسحلاً، ودعوا له  جهنام، جدعاً للهجين المذمّـم

وللأعشى أشعار أخرى ذكر فيها فضل شيطانه عليه في قول الشعر. من ذلك قوله: وما كنت ذا قولٍ ولكن حسبتنـي  إذا مسحل يبري لي القول أنطق

خليلان فيما بيننـا مـن مـودةٍ  شريكان جنيّ وإنـس مـوفـق

وجنيّه هو الذي حباه بموهبة الشعر، وبفيض الخواطر، ينظمه كلاماً محبوكاً، فهو يشكره ويفديه بنفسه: حباني أخي الجنيّ نفسي فداؤه  بأفيح جيّاش العشيّات مرجـم

واسم هاجس الأعشى وشيطانه "مسحل بن أوثاثة"، وكان هو الذي يلقي الشعر على لسان الأعشى. وقد رآه "الأعشى"ودخل خباءه وهو من شَعر، وكان الأعشى في أول أرض اليمن يريد الذهاب إلى "قيس بن معدي كرب "بحضرموت. فضل طريقه، فأبصر هذا الخباء، فذهب اليه، وسأله الشيخ أن ينشده شعراً، فكان إذا تلا عليه مطلع القصيدة أوقفه، واستدعى جارية من جواريه لتتلو عليه بقية القصيدة، حتى سقط في يدي الأعشى وتحير، وأغشته رعدة، فلما رأى الشيخ ما حل به، قال: "ليفرج روعك أبا بصير، انا هاجسك مسحل بن أوثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر". ثم ودعه وأرشده الطريق.

وكان للأعشى شيطان، اسمه "جهنّام"، وهو تابعة، أي شيطانة أنثى. وكان لقب "عمرو بن قطن" من "بني سعد بن قيس بن ثعلبة"، وكان يهاجي الأعشى، وقال فيه الأعشى: دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له  جهنام جدعاً للهجين المذلـل

وقيل إن "جهنام" كان شيطان الأعشى الأول، ثم أتخذ الأعشى مسحلاً بعده.

وزعم ان "امرئ القيس" كانت له قصائد ومطارحات مع "عمرو الجني" وان اسم شيطان "امرئ القيس" هو "لافظ بن لاحظ". وان اسم شيطان "عبيد بن الأبرص" هو "هبيد"، وهو اسم شيطان "بشير بن أبي خازم ?" "بشر بن أبي خازم"كذلك. وان اسم شيطان "النابغة" الذبياني، هو "هاذر بن ماهر". وان اسم شيطان "المخبل" السعدي، هو "عمرو".

وقد بقي هذا الاعتقاد في شياطين الشعراء إلى الإسلام، فكان الشيطان الذي يلقي الشعر إلى "جرير"، هو "ابليس الأباليس"، وكان اسم شيطان الفرزدق "عمرو"، واسم شيطان بشار بن برد "شنقناق". وكان جني "حسان" وصاحبه الذي يوحي اليه الشعر من "بني شيصبان"، "وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقّنها إياه، وتعينها عليه، وتدعي أن لكل فحل منهم شيطاناً يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود"، وورد أن "الفرزدق" كان يرى أن للشعر شيطانين، يدعى أحدهما "الهوبر" والآخر "الهوجل"، فمن انفرد به "الهوبر" جادّ شعره وصح كلامه، ومن أنفرد به "الهوجل" فسد شعره.

وقد زعم "أبو النجم" أن شيطانه الذي يوحيّ اليه الشعر شيطان ذكر، أما شياطين بقية الشعراء فأناث: إني وكلّ شاعر من البشـر  شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

فما يراني شاعر إلا استَتـر  فعِلَ نجوم الليل عاين القمر

وقال آخر: إنّي وإن كنتُ صغير السـنّ  وكان في العين نبّو عـنـي

فإن شيطاني أمـيرُ الـجـنّ  يذهبُ بي في الشعر كلّ فن

وروي ان السعلاة لقيت "حسان بن ثابت" في بعض طرقات المدينة، وهو غلام قبل أن يقول الشعر، فبركت على صدره، وقالت أنت الذي يرجو قومك أن تكون شاعرهم ? قال: نعم. قالت: فأنشدني ثلاثة أبيات على روي واحد وإلا قتلتك، فقال: إذا ما ترعرع فينـا الـغـلام  فما أن يقال لـه مـن هـوه

إذا لم يسد قـبـل شـد الازار  فذلك فـينـا الـذي لاهـوه

ولي صاحب من بني الشيصبان  فحيناً أقـول وحـينـاً هـوه

فخلت سبيله. فهذه الأبيات هي على زعم أهل الأخبار أول شعر حسان. قالها بوحي من شيطانه: "الشيصبان".

وليس هذا الشيطان الذي تصوره الجاهليون، يلهم الشعراء وحيهم ويلقي اليهم الشعر إلقاء بقذفه في قلوبهم، ليخرج على السنتهم، هو من وحي الجاهليين ومن تخيلاتهم وتخرصاتهم وحدهم، بل هو شيء معروف عند غيرهم أيضاً. فقد تصور اليونان أن للشعر آلهة تقذف الشعر في نفوس الشعراء، فينطلق على ألسنتهم. والرئي الذي يوحي إلى "الكاهن" علمه بالكهانة، هو ضرب من هذه الشياطين التي تخيلوها للشعراء، فبفضل "الرئي" يقول الكاهن سجعه لمن يطلب منه أن يتكهن عن أمر سأله عنه، وهو يجيب السائل بما يلقيه رئيه عليه. يلقيه سجعاً، أما شيطان الشاعر، فيلقيه على شاعره شعراً، ومن هنا وقع الفرق بين قول الشاعر وبين قول الكاهن.

وكانوا يسمون الشعراء "كلاب الحي"، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم: وقد هرّت كلاب الحيّ منّا  وشذبنا قتادة من يلـينـا

وأما "كلاب الجن"، فشعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق