إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1772 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة لغة القرآن القراءات السبع


1772

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
     
الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة

 لغة القرآن

القراءات السبع

ومن الأحرف السبعة ظهرت نظرية القراءات السبع، القراءات المعتبرة المعتمدة عند القراء، وهي ترجع إلى أئمة ارتبطت القراءات بأسمائهم، وعليها يقتصر في القراءات وهي نتيجة تطور سابق لقرّاء سبقوا هؤلاء الأئمة الذين اعتمد عليهم في القراءات، وعلى قراءاتهم يقرأ من يستحق لقب "مقرئ" أو "قارئ"، وإن كَانت هنالك روايات تزيد بعض الزيادات على هذه المقراءات.

ولأجل تكوين فكرة علمية صحيحة عن هذه الأخبار وعن درجة سعة هذا  

الاختلاف ومقدارها وما يجب أن يقال فيها، لا بد من نقد كل ما ورد في هذا الباب من حديث وروايات، وغربلته غربلة دقيقة. وتكون أول هذه الغربلة في نظري بنقد سلسلة رجال السند، أي الرواة، لمعرفة الروابط التي كانت تربط بينهم وصلة بعضهم ببعض وملاقاتهم، وما قيل وورد فيهم، إذ نسبت احاديث إلى أشخاص قيل انهم رووها عن أناس ثقات، ثبت من النقد أن بعض رجال السند لم يلتقوا في حياتهم بمن حدثوا عنهم كما في حديث قتادة عن ابن عباس، أو أنهم رووا ما رووه تسرعاً وبدون سند أو إجازة لمجرد سماعهم برواية أولئك الأشخاص لتلك الروايات.

ثم إن هذا النقد لا يكفي وحده، بل لا بد من نقد متن الحديث من حيث لغته وأسلوبه ومضمونه وروحه، ومن حيث انطباق بعض الروايات على جوهر القرآن الكريم وما عرف عن الرسول. فبهذا النقد للمتن، نتمكن من الحكم على إمكان صدور الحديث عن الرسول أو عدمه.

وبعد كلّ ما تقَدم، علينا حصر أمثلة الاختلاف التي ذكرها العلماء، وضبط كل ما ورد في الأخبار من هذا القبيل، لنتمكن من الحكم على مقدار ما اختلف فيه وسعته ودرجة موافقته لما جاء في ذلك الحديث وفي تلك الأخبار، ثم دراسة، هذه الكلمات التي قيل انها تمثل لهجات قبائل وانها حرف من هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، لقد لخص "ابن قتيبة" الأحرف السبعة بالأوجه التي يقع بها التغاير: فأولها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: ولا يضار كاتب - بفتح -الراء وضها.

وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل بعَدَ وباعد، يلفظ الطلب والماضي.

وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل: نُنشزها وننُشرها بالراء المهملة.

رابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل طلح منضود وطلع منضود.

خامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل:وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت.

وسادسها: ما يتغير بالزيادة والنقصان، مثلاً: وما خلق الذكر والأنثى، والذكر والأنثى، بنقص لفظ ما خلق.

سابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى، مثل: كالعهن المنقوش، وكالصوف المنفوش.

وأجمل "ابن الجزري." الأوجه السبعة ب: 1 - و ذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو: البخل بأربعة أوجه، ويحسب بوجهين.

2 - أو بتغير في المعنى فقط فى: فتلقى آدمُ من ربه كلماتٍ، برفع آدم ونصب لفظ كلمات وبالعكس.

3 - واما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: تبلو، وتتلو.

4 - وعكس ذلك، نحو بصطة وبسطة، ونحو الصراط والسراط.

5 - أو بتغيرهما نحو فامضوا، فاسعوا.

6 - وإما في التقديم والتأخير، نحو فيقتلون، ويقتلون، بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتّين،وبضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى.

7 - أو في الزيادة والنقصان.

وقد أوجز "أبو الفضل" الرازي" الحروف السبعة في: 1 - اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث.

مثل: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، قرئ هكذا جمعاً، وقرىء لأمانتهم بالإفراد.

2 - اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر، مثل: فقالوا: ربنَّا باعد بين أسفارنا، قرئ هكذا بنصب لفظ ربنا على أنه منادى، وبلفظ باعد فعل أمر، وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء، وقرىء هكذا: ربئا بعدَّ يرفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعَد، فعلاً ماضياً مضعف العين جملته خبر.

3 - اختلاف وجوه الإعراب، مثل: ولا يضار كاتب ولا شهيد. قرىء بفتح الراء وضمها، فالفتح على أن لا ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي إدغام المثلين. أما الضمّ فعلى أن لا نافية، فالفعل مرفوع بعدها.

4 - الاختلاف بالنقص والزيادة. مثل: وما خلق الذكرَ والأنثى، قرىَء بهذا اللفظ، قرئ أيضاً والذكرَِ والأنثى، بنقص كلمة ما خلق.

5 - الاختلاف بالتقديم والتاخير. مثل: وجاءت سكرة الموت بالحق، وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت.

6 - الاختلاف يالإبدال، مثل: وانظر إلى العظام كيف ننشزها، بالزاي، وقرئ ننشرها بالراء. ومثل: وطلح منضود، بالحاء، وقرىء طلع بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضاً بين الاسم والفعل.

7 - اختلاف اللغات، أي اللهجات، كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإظهار: والإدغام ونحو ذلك.

ونحن إذا تعمقنا في درس مواضع الاختلاف، وهي أهم ما يتصل بلهجة القرآن الكريم، وسجلناها تسجيلا دقيقاً شاملاً، تجد أنها ليست في الواقع اختلافاً في أمور جوهرية تتعلق بالوحي ذاته، وإنما هي في الغالب مسائل ظهرت بعد نزول الوحي من خاصية القلم الذي دون به القرآن الكريم. فرسم اكثر حروف هذا القلم متشابه، والمميز،بين الحروف إلمتشابهة هو النقط، وقد ظهر النقط بعد نزول الوحي بامد كما يقوله العلماء، ثم إنّ هذا القلم كان خالياً في بادئ امره من الحركات، وخلوّ الكلم من الحركات محدث مشكلات عديدة في الظبط من حيث اخراج الكلمة، أي كيفية النطق بها، فمن حيث مواقع الكلم من الإعراب.

كل هذه الأمور وأمور أخرى تعرض لها العلماء، أحدثت في الغالب القسم الأعظم مما يعد اختلافاً في القراءات.

ويعود القسم الباقي من مواضع الاختلاف إلى سبب أراه لا يتعلق أيضاً يمتن النص، وإنما هو، كما يتبين من الإمعان في دراسته ومن تحليل الآيات المختلف فيها، زيادات وتعليقات من ذهن الحفّاظ والكتاب على ما أتصور،لعدم وضوح المعنى لديهم، لعلها كانت تفسيراً أو شرحاً لبعض الكلم دوّنت مع الأصل، فظنت فيما بعد من الأصل. واثبات التفسير مع المتن، جائزعلى بعض الروايات. ويعود قسم آخر منه إلى استعمال كلمات قد تكون مخالفة لكلمة من حيث شكلها، ولكنها متفقة معها في معناها، والى استعمال كلمات متباينة في الشكل وفي المعنى. وهذا القسم هو، ولا شك، أهم اقسام الاختلاف، واليه يجب أن توجه الدراسة.

هذه الأمور المذكورة، تحصر جميع ما ورد من اختلاف في كلمات أو آيات من القرآن الكريم. أما ما ذكره العلماء من الأوجه التفسيرية للحديث: حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومن جعلها خمسة وثلاثين وجهاً أو سبعة أوجه أو أقل من ذلك أو أكثر، فإنها تفاسير متأخرة، وأوجه نظر قيلت لإيجاد مخارج مسوّغة لتفسير هذا الحديث.

ويصعب في هذا الموضع ذكر امثلة لهذه الأمور، فهي عديدة كثيرة، ذكرت في كتب المصاحف وفي كتب التفسير، وأورد شواهد منها "كولدتزهير" في كتابه عن "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن"،يمكن الاطلاع عليها في الصورة العربية له المطبوعة بمصر. فمن أمثلة الاختلاف الحادث من الخط "تستكبرون" بالباء الموحدة و "تستكثرون" بالثاء المثلثة في الآية: )ونادى أصحاب الأعرافِ رجالاً يعرفونهم بسيماهم، قالوا: ما أغنى عنكم جَمعُكم. ما كنتم تستكبرون(. و "بشراً" أو "نشراً." في الاية: )وهو الذي يُرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته(. وكلمة "إياه" في الاية: )وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا عن مَوعِدة وعَدَها إياه(، إِذ وردت أيضاً "اباه" بالباء الموحدة. وأمثال ذلك مما كان سببه النقط.

وبعد ملاحظة ما تقدم، وحصر كل ما ورد في المصاحف وما قرأه القراء من قراءات، تجد أن ما يختص منه باللهجات وباللغات قليل يمكن تعيينه،ومعظمه مترادفات في مثل: أرشدنا واهدنا، والعهن والصوف، وزقية وصيحة، وهلم وتعال وأقبل، وعجل وأسرعْ، والظالم والفاجر، وعتى وحتى، وأمثال ذلك. وهذه الأمثلة هي كلمات مختلفة لفظاً، ولكنها في معنى واحد. وهي كما ترى مفردات لا دخل لها في قواعد اللهجات.

وأما الاختلاف في الاظهار، والإدغام، والإشمام،لا والتفخيم، والترقيق،والمد، و القصر، و الإمالة، و الفتح، والتحقيق، و التسهيل، والابدال. فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً، وليس هو من قبيل الإختلاف المؤثر في قواعد اللهجة، إنما هو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج حروف الكلمات، فلا يصح أن يعد فارقاً كبيراً يمكن أن يكون حداً يفصل بين اللهجات، بحيث يصيرها لغة من اللغات،ثم إن بعضه يعود إلى الخط، وبعضه إلى التجويد، أي طريقة التلاوة والأداء.

وللحكم على أصل المترادفات، تجب مراجعة سلسلة السند للوصول إلى صحة تسلسل الأخبار من جهة، والى معرفة راوي الخبر والقبيلة التي هو منها لمعرفة القراءة التي قرأها، وهل هي من لهجة قبيلته، أم هي مجرد كلمة من اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم نفسها، تلقاها القارىء على الشكل الذي رواها في قراءته.

لقد أشار العلماء إلى أمثلة من كلمات غير قرشية وردت في القرآن الكريم، ذكروا أنها من لهجات أخرى، ومنها: الأرائك، ولا وزرَ، و"حور"، وأمثال ذلك رجع بعضهم أصولها إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، كما أشاروا إلى وجود كلمات معربة أْخذت من لغات أعجمية مثل الرومية، والفارسية،، والنبطية، والحبشية، السريانية، والعبرانية وأمثال ذلك، وألفوا فى ذلك كتباً، منها: كتاب لأبي عبيد القاسم ين سلام الهروي المتوفى سنة "223ه" "838 م"، واسمه: "رسالة في ما ورد في القرآن من لغات القبائل"، وكتاب لغات القرآن، لأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة "214 ه" "829م"، وغيرهما. ولكن بحوث هؤلاء العلماء انحصرت في دراسة المفردات، أي الكلمات، لا غير ثم إن الذين تناولوها لم يكن لهم علم بأكثر اللغات التي رجعوا أصولها إليها، ولا سيما اللغات الأعجمية مثل الرومية، والسريانية، والنبطية، والحبشية.

غير إن من الجائز أن يكون هؤلاء قد سمعوا عنها من الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام ولكن طريقة السماع هذه لا تكفي لإعطاء حكم على أصل لغة، بل لا بد من وجود علم ومعرفة بقواعد تلك اللغة وتاريخها وتطورها، والإحاطة بالعلاقات التاريخية بين العرب وغيرهم قبل الإسلام لمعرفة كيفية دخول تلك الكلمات إلى العرب، وإيجاد وجه صحيح للمقارنة بين اللغتين، وهذا ما لم يحدث في تلك الأيام، ولمّا كانت قراءة عبد الله بن مسعود من القراءات المشهورة المعروفة، وكان عبد الله بن مسعود من قبيلة هذُيل، وجب علينا البحث في لهجة هذيل لمعرفة خصائصها ومميزاتها وما انفردت به عن غيرها من اللهجات. وهذيل من القبائل التي عرفت بجودة لهجتها، في تدوين القرآن الكريم. ولذلك رأى الخليفة عثمان أن يكون المملي من هذيل والكاتب من ثقيف، وقد ذكرت لهجتها في جملة اللهجات التي نص عليها في الحديث المذكور على نحو ما أشرت اليه، كما أخرجت عدداً من الشعراء جمع بعض العلماء أشعارهم في ديوان، وقد طبع في القاهرة ديوان شعراء هذيل. ويفيدنا شعر هؤلاء الشعراء بالطبع في الوقوف على لهجة هذه القبيلة. ولكن هذا الشعر هو مثل شعر سائر الشعراء الجاهليين الاخرين مصقول مهذب، هذّب على وفق قواعد اللغة العربية التي ضبطت في الإسلام، ثم هو مضبوط برواية رواة هم في الأغلب من غير هذيل ولهذا قلما تجد في شعر هؤلاء الشعراء وغيرهمً ما يختلف عن قواعد اللهجة العربية، حتى أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن ندعي إن هذا الشعر هو بلهجة هذيل وقد حرمنا العقلُ الوقوف على لهجات القبائل التي أخرجت أولئك الشعراء ومعرفة موثراتها في شعر أولئك الشعراء.

ومن أهم الأمثلة التي أوردها العلماء في قراءة "ابن عباس" مما له علاقة باللهجات، قراءته كلمة "حتى" "عتى" في الآية: )ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنه حتى حين". وقد ذكر المفسرون وعلماء اللغة أن هذه القراءة هي بلهجة هذيلْ، وأن "عتى" هي "حتى" عند هذه القبيلة ذلك لأن هذه القبيلة تستعمل حرف العين بدلاً من الطاء في لهجتها. ولم يشر العلماء إلى موضع أخرى استعمل "ابن مسعود" فيها كلمة "عتى" في موضع "حتى" الواردة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما اننا لم نجد في كتب اللغة المتقدمة إشارة إلى استبدال هذيل حرف العين بحرف الحاء. ونظرية "فحفحة" هذيل، رأي متأخر لم يقرن بأدلة وامثلة، فهو رأي لا يمكن الأخذ به. وأظن أن هذه القراءة المنسوبة إلى "ابن مسعود"، هي من القراءات المتولدة من حدوث اشتباه في القراءة، من جراء عدم حصول التمييز بين "العين" و"الحاء" في "حتى". ووقوع الاشتباه بين الحرفين في ابتداء الكلمات، أمر ليس بصعب، وإلا فَلمَ انفرد ابن مسعود في هذا الموضع فقط، باستعمال "عتى"، ولم يستعملها في المواضع الأخرى وهي كثيرة في القرآن الكريم.

نعم، لقد ورد في روايات إن ابن مسعود قرا "نحم" بدلاً من "نعم" في القرآن الكريم، وأنه قرأ "بحثرَ" عوضاً عن "بعثر". وهذه الروايات تناقض الروايات السابقة التي تزعم أنه قرا "عتى" في موضع "حتى" في الآية المذكورة،إذ نجده في هذه الروايات يقرأ "العين" حاءاً، اي عكس تلك القراءة المنسوبة اليه. ثم إنّ المفسرين وعلماء القراءات، لم يشيروا إلى قراءات أخرى له من هذا النوع قلب فيها حرف العين حاء مع تعدّد ورود حرف العين في القرآن الكريم.

وهناك روايات تفيد أن أسداًَ وتميماً استعملوا حرف الحاء في موضع العين في بعض الحالات، فقالوا: "مَحهُم." بدلاً "معهُم" و "أأحهد" في موضع " أأعهد". ولكنها لم تشر إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل. وهذان المثالان لا يكفيان بالطبع لإعطاء حكم في هذا الإبدال عند القبيلتين، ولكن هنالك رواية متأخرة لا نعرف مرجعها تفيد أن هذا الإبدال واقع في لهجة سعد بن بكر، وهي قبيلة تقع مواطنها في شمالي المدينة. ولكن ما صلة ابن مسعود بهذه القبيلة وهو من هذيل? هل نفترض أنه أخذ قراءته تلك من أفواه رجال هذه القبيلة ? إذا أخذنا بهذا الظنّ، وجب علينا اثبات ذلك بدليل، وذكر أسماء الصحابة الذين أخذ ابن مسعود منهم قراءته. ويجب حينئذ رجَعُ تلك القراءة إلى أولئلك الصحابة لا إلى ابن مسعود. والواقع أننا لا نستطيع أبداً الاتيان بدليلٍ ما يثبت استعمال هذيل حرف العين في كلامها في موضع الحاء وبالعكس.

ورأيي أن ما نسب إلى ابن مسعود في هذه القراءة أو القراءات الثلاث، سببه وهمٌ وقع فيه مَنْ نسب تلك القراءة إليه، وهو ناتج من كتابة المصحف المنسوب إليه. وإلا، فلا يعقل أن يقتصر ابن مسعود على هذه القراءة أو القراءات التي هي ليست من لهجة أهل مكة ولا أهل يثرب ولا هذيل، ثم يترك سائر المواضع، ولا يعقل كذلك تلفظ الرسول بهذه اللهجة الشاذة التي لا نعرف من كان يستعملها على وجه ثابت، وقد دل القرآن بأفصح اللهجات.

والى أمثال هذه القراءات الشاذة، التي يجب نقدها وتمحيصها بعناية، استند "كارل فولرس" في نظريته القائلة بحدوث تغيير في نص القرآن الكريم. وهي نظرية لم يُقرّها عليه بعض كبار المستشرقين. ولو فحصت ودققت، لتبين أنها بنيت على روايات لا تثبت أمام التمحيص، أخذها لمجرد ورودها في الكتب. ولكن ليس كل ما يرد في الكتب بأمر مسلم به.

وقد بحث العلماء في اللغات التي وقعت في القرآن بغير لغة قريش، وفي جملتها لغة حمير، ورجحت إلى بحوثهم، فوجدت أن ما نسب إلى الحميرية من كلمات، لا يحمل طابع الحميرية، وليس من لغة العرب الجنوبيين بشيء. وقل مثل ذلك عن لغة "جرهم"، فقد دونوا الفاظا زعموا أنها وردت بلغة "جرهم"، ونحن نعلم من أقوال أهل الأخبار أنفسهم أن "جرهماً" كانوا من الشعوب العربية البائدة التي هلكت قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ماتت لغتهم معهم بالطبع، فكيف يمكن للعلماء من تشخيص هذه الألفاظ ومن أرجاعها إلى جرهم وقد وجدت أيضاً إن ما ذكروه من أمثلة اخرى على لغات القبائل الي وردت ألسنتها في القرآن هو من هذا القبيل، ولا سيما القبائل الهالكة مثل "مدين"، فالعلماء الذين شخصوا تلك اللهجات التي زعموا أنها وردت في القرآن، يذكرون أن بعض أصحاب هذه اللهجات هم من العرب البائدة، فهم ممن ماتوا وبادوا، وماتت لغتهم بموتهم، فما يذكرونه من الفاظ لغاتهم الواردة في القرآن، هو مما لا أصل له إذن. ثم إنهم نسبوا ألفاظاً إلى "حمير"، وجدنا أنها ليست حميرية أبداً، أضف إلى ذلك أنهم لم يدرسوا العربيات الجاهلية دراسة علمية، ولم يكن لهم علم بها، ولهذا فما ثبتوه ودوَنوه عن اللغات العربية في القرآن، لا يمكن الأخذ يه، لأنه لا يستند على علم بالموضوع، ولا على دراسات لتلك اللهجات.

ومن أمثلة ما ذكروه على أنه من لسان "حمير"، الأرائك، ولا وزر، بمعنى لا جبل، وحور، ولهو، بمعنى المرأة، ولا تفشلا، وعثر، وسفاهة، وزيلنا، مرجواً، وإمام وغير ذلك، وذكروا أن "باءوا"، وشقاق، وخيراً وكدأب، وأراذلنا، ولفيفاً، وغير ذلك من لغة جرهم، وهي كلها من تخرصات من نسبها إلى جرهم، لما قالوه أنفسهم من هلاك جرهم قبل الإسلام بزمان طويل، فمن أبلغهم اذن أن هذه الألفاظ من الفاظ جرهم، ولم نزلت في القرآن، وقد نزل الوحي للأحياء وليس للاموات!.

وقد ذهب البعض مذهباً بعيداً في اللغات الواردة في القرآن، فذهب إلى أن "غساق"، بمعنى المنتن بلسان الترك، وهو بالطخارية، وأن "سيدها" زوجها بلسان القبط، وأن "الأرائك" بالحبشية، وأن "سبحى" بلسان الحبشة، وأن "الجبت" الشيطان بلغة الحبش، وان "حرم" بمعنى وجب بالحبشية، وأن "سكر"، بمعنى الحل بلغة الأحباش، وأن "سينين" بمعنى الحسن بلسان الحبشة، وأن "شطر"حبشية، وان "العرم" حبشيهّ، وأن قنطار بلسان اهل إفريقية، إلى غير ذلك من ألفاظ.

ونجد رواية تذكر ان الصحابة لما تشاوروا في أمر تسمية القرآن، ما يسمونه ? "فقال بعضهم: سموه السفر، وقال "ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه، فقال رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على ان يسموه المصحف".، فجعلوا الفظة حبشية.

ولو درسنا الألفاظ المعربة المذكورة، في لن العلماء قد أخطأوا في تشخيصها وخلطوا في الغالب بين أصولها، بسبب أنهم لم يكونوا محسنون اللغات الأعجمية، ما عدا الفارسية، وأنهم لم يراجعوا أهل العلم والتخصص في اللغات الأعجمية، من رجال الدين من أهل الكتاب، لو المتبحرين بالأدب من الروم والسريان، بل اكتفوا بمراجعة اياً كان ممن كانوا يعرفونهم من نصارى ويهود، وحيث أنه لم يكن لدى هؤلاء علم المتبحرين في الدين والأدب، جاءت أجوبتهم فجّة أو مغلوطة، ودونت على هذه الصورة.

ونظراً لعدم وقوف العلماء على اللغات العربية الجنوبية، جلوا ألفاظاً عربية واردة في القرآن مثل "العرم" لفظة حبشية، مع أنها لفظة عربية جنوبية، مدونة في النصوص، وجعلوا ألفاظاً أخرى من هذا القبيل، من الألفاظ المعربة عن لغات أعجمية.

وقد اتخذ بعض العلماء حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف دليلا على نزول القرآن بلغة قريش، فقد قالوا: إن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن واقعة كلها في لغة قريش، ذلك أن قريشاً كان قد داوروا بينهم لغات العرب جميعاً وتداولوها، وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسعها، وأيامها ووقائعها، وحجها وعمرتها، ثم استعملوه وأذاعوه، بعد أن هذبوه وصقلوه. وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة، وكان هذا سبباً من أسباب انتهاء الزعًامة اليهم، واجتماع أوزاع العرب عليهم، ومن هنا شاءت الحكمة أن يطلع عليهم القرآن من هذا الأفق، وأن يطل عليهم من سماء قريش.

وهو استنتاج غير مقنع، لما أورده العلماء أنفسهم من أقوال وتفسر للحديث المذكور، ولما أوردوه من أن الصحابة من قريش، كان يشكل عليهم اللفظ من القرآن مثل "أبا" فيسألون عنه، لأنه لم يكن من لغة قريش. فقد ذكروا أن "عمر"، قرأ "عبس وتولى" حتى أتى على هذه الآية: وفاكهة وأبَّا، فقال: قد علمنا الفاكهة فما الأب. ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاّب إن هذا ذو التكلف. وذهب البعض إلى أن المراد من اللفظة ما أنبتت الأرض للانعام، وذكر بعض العلماء أنها بلغة الحبش. وذكروا اشياء أخرى من هذا القبيل، تعارض قبول هذا الاستنتاج.

والذي أراه أن نص القرآن يعارض حديث الأحرف السبعة، ففيه: "بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ"، وفيه: "قل: ما يكون لي أن أبدّلهَ من تلقاء نفسي، إن اتبع إلا ما يوحى اليّ، اني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" وفيه "إنا نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون". فليس للرسول أن يغير أو يبدل ما نزل به الوحي عليه، ثم إنه كان لا ينتهي من الوحي، حتى يأمر من يكون عنده بتدوينه بلسانه حال نزوله عليه، وإذا لم يكن هناك كاتب أمر من يستدعي له كاتباً ليدونه، فكيف يتفق ذلك مع هذا الحديث، ومع الأمثلة التي ذكروها في القراءات ? ورد أن الرسول علم "البراء بن عازب" دُعاء فيه: "ونبيك الذي أرسلت"، فلما اراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله قال: "ورسولك الاي أرسلت"، فلم يوافقه النبي على ذلك، بل قال له: "لا، ونبيك الذي ارسلت". وهكذا نهاه أن يضع لفظة رسول، موضع لفظة نبيّ، مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو رسول ونبي معاً، فكيف كان يجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم، وكيف نقبل هذه الرواية التي تذكر أن "عبد الله بن مسعود" أقرأ رجلا كلمة "الفاجر" بدلاً من كلمة الأثيم في الآية: إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، مع ورود المنع عن تغير أي حرف من حروف القرآن، وهل يعقل قيام "ابن مسعود" بذلك، وسكوت الصحابة عن عمله، لو صحّ أنه فعل ذلك.

ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش وحدها، فلمَ كان الصحابة من قريش مثل "أبو بكر" و "عمر" وغيرهما، يتحرون في تفسر ألفاظ وردت فيه، أو يلجأون إلى الشعر يستعينون به في تفسير القرآ ن، والشعر هو شعر العرب، لا شعر قريش وحدها، قال "ابن عباس" "إن الشعر ديوان العرب"،وكان إذا سئل عن عربية القرآن أنشد الشعر، و قال: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن انشد فيه شعرا ً".

قال "ابن قتيبة": "العرب لا تستوي.في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض، والدليل عليه قول الله عزً وجلّ: وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم... ويدل عليه قول بعضهم: يا رسول اذ: انك لتأتينا بالكلام من كلام العرب ما نعرفه، ونحن العرب حقاً. فقال: إن ربي علمني فتعلمت".


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق