إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1768 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السادس والثلاثون بعد المئة العربية لسان آدم في الجنة المترادفات


1768

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
    
الفصل السادس والثلاثون بعد المئة

العربية لسان آدم في الجنة

المترادفات

وفي العربية الفاظ عديدة يراد بها معنى واحد، فللعسل "80" أسماً، وللاسد "350"، وقيل "500"، وقيل "670"، وللحيّة "200"، وقيل "505"، وللداهية "400"، وقيل أربعة آلاف، وللحجر "70"، وللكلب "70"، وللسيف "30"، وقيل "1055"، وللناقة "255"، وللبعير "1050"، وللشمس "52"، وللخمر "15 ا"، وقيل "250"، وللبئر "88"، وللماء "170" وغير ذلك، وخاصة ما يدخل في باب الصفة، وما يدخل في باب الميل الجنسي، فلا تكاد تتصفح مادة في معجم، حتى تصيب من مترادفاته لفظاً أو أكثر.

ويقال لهذه الألفاظ الني تدل على شيء واحد: "المترادفات". والمترادف أن تكون اسماء لشيء واحد، وهي مولدة ومشتقة من تراكيب الأشياء. وعرف بعض العلماء المترادف، بانه الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد. ولعلماء اللغة كلام في المترادفات. منهم من يقول بالمترادفات، وبأن الألفاط وإن اختلفت فإنها ترجع إلى معنى واحد، ومنهم من أنكر الترادف، وزعم إن كل ماُ يظن من المترادفات، فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات، وان في كل واحدة معنى منها معنى ليس في الأخرى. ومن قال بالترادف، نظر إلى إتحاد دلالتها على الذات، ومن يمنع نظر إلى اختصاص بعضها بمزيد معنى، فهي تشبه المترادفة في الذات والمتباينة في الصفات. وجعل بعضهم هذا شيئاً آخر، سماه المتكافئة.

والذين ينكرون الترادف، يقولون: إن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد إذا لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعاً من العبث تجل منه هذه اللغة. ويرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة، وان كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه. وهم يعتبرون المترادفات أسماءً تزيد معنى الصفة، ويختلفون بذلك عن غيرهم ممن أنكر الترادف وقالوا إن الموضوع للمعنى الأصلي اسماً واحداً والبافي صفات له لا أسماء، فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له، كالمهند، والصارم والعضب وغيرها ثم تنوسيت هذه الأحوال بالتدريج،وكادت تتجرد هذه الألفاط من تلك الفروق والأوصاف بالاستعمال، وغلبت عليها الإسمية.

ومذهب آخر يرى إثبات الترادف، لكنه يخصه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد. كما يقال أصلح الفاسد، ولمّ الشعث، ورتق الفتق، وشعًب الصدع، ونحوها. أما اطلاق الأسماء على المسمى الواحد، فيسمونه المتوارد: كالخمر، والعقار، والليث، و الأسد.

ومنهم من أثبت الترادف مطلقاً بدون قيد ولا اعتبار، ولا تقسيم ؛ وعليه أكثر اللغوين والنحاة.

ومن أهم اسباب الترادف في العربية، إن العرب كانوا قبائل لها لهجات والسنة مختلفة، فتباينت بتباين ألسنتها أسماء الأشياء. فالسكين لغة في المدية، والمدية لغة في السكين عند دوس. وفي حديث ابي هريرة: "والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ"، و ذلك حين قدم من دوس ولقي الرسول، وقد وقعت من يده السكين، فقال له: ناولني السكين، فلم يفهم ما المراد باللفط، فكرر له القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تريد? وأثار إليها فقيل له: نعم، فقال: أو تسمى عندكم السكين، والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ. فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصاً وان بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تخالف ما للقبيلة الأخرى، فقبيلة على الساحل واخرى في جبل، وثالثة في بادية، وقد تأخذ قبيلة اسماً من الأعاجم لشيء لم يعرف اسمه عندها فتعربه، فيكون اسماً له، وقد تأخذ قبيلة اسماً أو أسماء توجد في لسانها من لسان قبيلة أو ألسنة قبائل أخرى، فلما جمع علماء اللغة ألفاظ العرببة ودونوها، ولم يفطنوا إلى أصلها ولا إلى القبائل التي استعملتها، ولا إلى تأريخها، لعدم وجود هذا النحو من البحث عندهم في ذلك الوقت، فدونت على انها مترادفات، وهم في ذلك على صواب، ولكنهم كانوا على خطأ، من حيث انهم لم يدركوا انها كانت لغات قبائل، وان جمعهم للالفاظ، وإهمالهم الاشارة إلى أسماء القبائل المتكلمة بها، جعلها مترادفات بالمعنى الذي ذهبوا هم إليه، وبذلك اتسعت مادة مفردات المعجم العربي اتساعاً كبيراً، وهو في حقيقته حاصل جمع لهجات، أخذ من اختلاف الألسنة ومن مختلف اللهجات، فضم كله إلى معجم العربية، وظهر على انه مفردات هذه العربية، لعدم إفصاح علماء اللغة عن أصل كل مترادف وعن اللسان الذي نطق به في الغالب،فعمي الأمر علينا، وصرنا نعتبر هذه الألفاط التي تقصد مسمى واحداً من المترادفات.

ويرى بعض علماء اللغة أن من أسباب وقوع الترادف إن الصفات قد تتحول بتفشي الاستعمال وبكثرة ورودها على الألسنة فتنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العُرفية. وقد تضخمت كتب اللغة كثيراً يكلمات استعملها الشعراء وصفاً لأشياء، فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، فمثلا إذا أطلق شاعر كلمة الهَيصم على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر الهرّاس من الهرس، وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد. ولا يعدّ ثراء لغة بكثرة مفرداتها ومرادفاتها دليلاً على ثراء تلك اللغة، ولا امارة على تقدمها من الناحية العقلية، فإن اللغة تستمد مادتها من جميع محصولات اللغة الخاصة بالحرف، والمهن، وبالحياة الروحية، كما تستمدها من جميع لهجات القبائل، وما نجده من كثرة مفردات ومترادفات في العربية، لا يعود إلى كون هذه العربية لغة قبيلة واحدة، أو عرب من العرب، وإنما بسبب كونه حاصل جمع لغات، جمعه العلماء من ألسنة متعددة فدونوه، فظهر الشيء الواحد وقد يكون له عشرة أسماء أو أكثر من ذلك أو أقل حسب كثرة أو ندرة أستعماله بين العرب، فما كان مألوفاً عندهم، وكانوا في حاجة ماسة إليه، وكان استعمالهم له كثيراً، وفوائده بالنسبة لهم عديدة، كثرت مسمياته، بل مسميات أجزائه كما كثف عندهم صفاته، التي تتحول بمرور الزمن إلى أسماء، وهذا نجد في العربية كثرة من الأسماء والألفاظ، هي في الأصل صفات ونعوت لخصائص أشياء.

ومن أمثلة المترادفات في العربية: القمح، والُبر، والحنطة، قال علماء اللغة: القمح: البر، لغة شامية، وأهل الحجاز قد تكلموا بها، وقد تكرر ذكره في الحديث. وقيل لغة قبطية"، والبر بالضم الحنطة... قال المتنخل الهذلي: لادرّ دري إن أطعمت نازلكـم  قرف الحتى وعندي البر مكنوز

قال ابن دريد: "الُبر أفصح من قولهم الحنطة واحدته برُة"، "والحنطة بالكسر البُر الحب المعروف". وهي في الواقع ألفاط وردت في لغات، حين ضبطها علماء اللغة، فات عليهم انها لم تكن مستعملة في كل لغات العرب،وانما هي في لغات بعض منهم. فالقمح مثلاً، لفظة وردت في لغات عرب الشام والحجاز، لأنها من أصل آرامي، هو "قمحو"، وقد كان أهل الحجاز في الجاهلية يستوردون القمح من بلاد الشام، فابقوا التسمية الأرامية على حالها، بعد أن أجروا عليها بعض التعديل. وأما "الحنطة"، فنجد لها مقابلاً في العبرانية هو"Chittah" في العبرانية، مما يدل على إن اللفطة كانت مستعملة في العربية الغربية. وأما لفظة "برُ"، فهي من الألفاظ التي وردت في نص "أبرهة"، فهي لغه يمانية وحجازية، وقد نص علماء اللغة على ورودها في لغة أهل الحجاز، وربما أخذوها من أهل اليمن، الذين عرفوا بزراعتهم للبر قبل الإسلام. ووردت لفضة "برُ" بمعنى حنطة في النص الموسوم ب "Jamme 670" ورد فيه: "برم وشعرم عدى ارضهمو"، أي "حنطة وشعير في ارضهم" "حنطة وشعر من أرضهم".

ومما يكثر في هذه العربية "المشترك"، وحده: اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند اهل تلك اللغة. ولعلماء اللغة بحوث فيه، فمنهم من يؤيد وقوعه ومنهم من ينكر. ومن المشترك: العم، فالم أخو الأب، والعم: الجمع الكثير، ومشى، فمشى يمشي من المشي، ومشى إذا كثرت ماشيته، وللنوى مواضع، وللروبة والرؤبة معان، وللأرض معان، وللفظة الهلال معان، وللفظ العين معان كثيرة ومواضع عديدة، إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتب اللغة.

وفي العربية: الأضداد. وهو إن يكون للكلمة معنى، ثم يكون لها معنى آخر مضاد له. وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه، مثل جلل للكبير والصغير، وللعظيم وللحقير. ومثل الجون، للاسود والأبيض. والقوي، للقوي والضعيف، والرجاء للرغبة والخوف. والبسل للحلال وللحرام. والناهل للعطشان، والناهل، الذي قد شرب حتى روي. والسدفة في لغة تميم: الظلمة، والسدفة في لغة قيس: الضوء. واللمق: الكتابة في لغة بني عقيل، والمحو في سائر قيس. والجادي: السائل، والمعطي. والرس: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضاً. والشرى: رذال المال، وأيضاً خياره. إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها علماء العربية.

ولبعض علماء العربية قصة يضربونها مثلا على الأضداد، فيقولون: "خرج رجل من بني كلاب، أو من سائر بني عامر بن صعصعة، إلى ذي جدن، فأطلع على سطح، والملك عليه، فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثب أي اقعد. فقال: ليعلم الملك إني سامع مطيع، ثم وثب من السطح: فقالَ الملك: ما شأنه ? فقالوا له: أبيت اللعن !إن الوثب في كلام نزار القمر. فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم؛ من ظفر حمر. أي من أراد أن يقيم بظفار فليتكلم العربية. ورواها "السيوطي" في كتابه "المزهر" الذيَ أخذت منه القصة بهذا الشكل أيضاً: "وروي أن زيد بن عبدالله بن دارم، وفد على بعض ملوك حمير، فألفاه في مُتصيد له على جبل مشرف، فسلم عليه وانتسب له، فقال له الملك: ثِب، أي اجلس، وظن الرجل أنه أمر بالوثوب من الجبل، فقال: ستجدني أيها الملك مطواعاً ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ماشأنه. فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة.فقال: أما انه ليست عندنا عربيت، من دخل ظفارَ حمر. أي فليتعلم الحميرية"، وذكر أن "عامر ابن الطفيل" قدم على الرسول، فوثبه وسادة، والوثاب الفراش بلغة حمير.

وهم يسمون الملك إذا كان لا يغزو موثبان،يريدون أنه يطيل الجلوس ولايغزوا. ومن الأضداد ألفاظ قليلة، واضحة الضدية يطلقها الناس على الضد لاعتبارات لديهم، مثل اطلاق لفظة "البصير" على الأعمى، و "السليم" على اللديغ.

ولعلماء العربية بحوث وآراء في علة ظهور الأضداد. منهم من يرى إن الحرف إذا وقع على معنين متضادين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع، فمن ذلك الصريمُ، يقال لليل صريم، وللنهار صريم، لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل، فْأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع. وقال آخرون: إذا وقع الحرف على معننين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحيّ من العرب والمعنى الاخر لحي غيره، فلما سجل علماء اللغة مفردات الألفاظ لمً يسجلوا في الأكثر اسم القبيلة أو القبائل التي كانت تنطبق بها، فظن أن هذا التضاد هو مما وقع هذه العربية، وانما هو في الأكثر حاصل جمع لغات.

وقد أنكر ناس مذهب الأضداد، ومذهبهم إن الشيء لا يمكن إن يدل على الشيء وضده، وأن النقيضين لا يوضع لهما لفظ واحد، ومن هؤلاء:"أبومحمد عبدالله بن جعفر بن درستويه"، "توفي نيف وثلاثين وثلاثماثة"، وهو من علماء البصرة ومن المتعصبين لأهل البصرة، وهو صاحب مؤلف في الأضداد، ذكره "ابن النديم"، فهو ممن ذهب إلى انكار الأضداد، وأثبته آخرون قائلين: يجوز أن يوضع لهما لفظ واحد من قبيلتين، وان المشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدينْ. ومن المثبتين له: قطرب، وابن الأنباري، و "ابن فارس"، وغيرهم.

وقد ألف في الأضداد قوم من العلماء، منهم: أبو على محمد بن المستنير، ويقال أحمد بن محمد، ويقال الحسن بن محمد، المعروف بقطرب المتوفى سنة "206" للهجرة، فله كتاب في هذا الموضوع، يسمى: كتاب الأضداد، كما أن له كتاباً مهماّ في علل النحو، اسمه كتاب العلل في النحو، وله مؤلفات أخرى ذكرها "ابن النديم". ومنهم "الأصمعي"، و "التوزي"، وهو "أبو محمد عبدالله بن محمد بن هارون" المتوفى سنة " 240 ه"، و "ابن السكيت."، و "السجستاني"، وابن الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم المتوفى سنة "328 ه"، صاحب مؤلف في الأضداد دعاه "ابن النديم" كتاب الأضداد في الحو. وهو ممن اشتغل بجمع دواوين من أشعار العرب الفحول، وغيرهم.

وعد علماء اللغة القلب، والإدغام، والابدال من خصائص العربية التي امتازت بها على اللغات الأخرى. وهي أمور تحتاج إلى دراسة عميقة، لأن دراسة علماء اللغة لها، لم تنبعث عن دراسات علمية لبقية اللهجات، ثم انها ملاحظات سطحية أخذت من أشخاص، وليس من دراسة لقبيلة كلها، إذ كان ذلك إذاك أمراً غير ميسور ولا ممكن. ولو درسنا الأمور المذكورة، في انها حاصل لهجات، لا من تبديل شخص لحرف أو قلبه حرفاً أو ما شاكل ذلك، واتباع الناس بعد ذلك له.

ومما يلاحظ في هذه العربية هو كثرة ما فيها من جموع التكسير. وقد تجد فيها لفظة واحدة، وقد جمعت في عدة جموع، وهو دليل في نظري علما انه من بقايا اللهجات. فلما شرع العلماء بالتدوين،وراجعوا الشعر والأخبار،والأعراب، وجدوا أمامهم جموعاً لكلمة واحدة، فسجلوها دون أن يشيروا إلى الجهة التي أخذوا الجمع منه، والى قبيلة الأعرابي الذي نطق لهم به، فظن انها جموع هذه العربية، ولا يعقل أن تكون كل هذه الجموع حاصل لغة واحدة. وهي سماعية سمعت من أبناء القبائل فجمعت، وهي لم تخضع لذلك لأحكام القياس والقواعد المألوفة.

ومن هذا القبيل بعض الجموع الملحقة بجمع المذكر السالم، مثل: أرضون، وأهلون، وعالمون، وسنون، ومئون، وعضون، وعزون، فهذه من بقايا قواعد قديمة، ترجع إلى لهجات، حين شرع علماء اللغة في تدوينها لم يفطنوا إلى تدوين اسم اللسان الذي نطق بها.

وطبيعي أن تكون العربية فقيرة في الألفاط التي لا تدخل معانيها في ضمن حياة أهلها، كألفاط الترف التي ينعم بها المنغمسون في الحضارة، والألفاظ المستعملة في الحكومات وفي أنواع الدواوين والصناعات وما شاكل ذلك مما يكون عند اهل الحضر، ولا يألفه اهل الوبر، لعدم وجوده عندهم، ولكن العربية، إذا شعرت يالحاجة إليها، أو اضطرت إلى استعمالها، أخذ أهلها أسماءها ممن يعرفها، واستعملوها معربة أو بأصولها في لغتهم، ومن هنا كثر الدخيل في العربية في الإسلام.

وحيث أن للغة دلالة على طراز حياة الأمة وعلى مقدار درجة حياتها العقلية، نجد العربية غنية غنى مفرطاً فى الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل، يعرفون كل جزء منه، وقد وضعوا الفاظاً لكل عضو من أعضائه مهما دق فيه. وهم أغنياء فيما يتعلق بالصحراء وفي المطر، وفي كل شيء يتصل بحياتهم، فهي من هنا لغة تمثل عقلية المتكلمين بها، غلبت مصطلحات البداوة فيها على مصطلحات الحضارة، سنة كل أمة تكون حياتها على هذا النمط من المعيشة.

وليست اللغة العربية غنية بمفرداتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضاً، فمجموع التكسير وأحياناً الأفعال كثيرة كثرة زائدة عن الحاجة. وهي غنبة باشتقاقها وتصريف كلماتها، فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يشعرنا شعوراً تاماً بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء.

وليس غنى العربية بالمفردات بدليل حتمي على سعة هذه اللغة. وانما هوغنى نتج من حاصل لغات العرب ومن كثرة تعدد لهجاتهم. فلما كانت القبائل تتصل بعضها ببعض وتكوِّن مجموعات وكتل وأحلاف سياسية، للدفاع عن نفسها وللغزو، ولما كان الشعراء وسادات القبائل وغيرهم، يزورون غيرهم ويتنقلون من مكان إلى مكان، وقد يقيمون اقامة طويلة في مكان ما، يجاورون ويوالون، أشتبكت ألسنتهم، فأخذت واعطت، وزاد هذا الاشتباك حدة، تنافس المناذرة والغساسنة على الزعامة، وتدخل الروم والفرس والحبش في شؤون جزيرة العرب، ومجيء المبشرين النصارى إلى القبائل للتبشير بينها، واختلاط اليهود بالعرب، وهم أصحاب دين، واختلاط التجار الأعاجم بالعرب،في السواحل وفي البواطن، وسفر أهل القرى وسادات القبائل إلى الشام والعراق للتجارة وللزيارة وللترويح عن النفس، وامثال ذلك، فكان أن أوجد كل هذا المذكور وغيره وعياً وحساً وشعوراً بوجوب التكتل والتجمع وبأنهم من أمة واحدة، وبأن في حياتهم التي يحيونها من جميع نواحيها ما يحتاج إلى اصلاح وتغيير ونظر. وقد تجسد هذا ألوعي في لغاتهم التي تقاربت، وفي آراء الأحناف وأصحاب الرأي، وفي أقوال الحكمة ولا سيما المتألهين والمتعقلين منهم، وفي الشعر الجاهلي، ولا سيما في شعر أولئك الشعراء الذلن زاروا الحضر واتصلوا بأهل، الحضارة، وجالسوا أهل الديانات واطلعوا على مقالاتهم وآرائهم وكتبهم، فنجد فيه اثر الأخذ والتأثر، حتى في أستعمال الألفاط، إذ سمحوا لأنفسهم باستعمال الألفاط الأعجمية،كما في شعر الأعشى وأمية بن أبي الصلت، الذي أدخل ألفاظاً في شعره غير مألوفة عند العرب.

ثم جاء الإسلام، بكتاب سماوي، صار لسانه لسان المسلمين، فظهرت الحاجة إلى التدوين والبحث والتنقيب لشرح كتاب الله وحديث رسوله وتفسير أحكام الله. فكان حاصل ذلك علوم اللسان. من مفردات جمعت من القرآن ومن الحديث ومن الشعر ومن ألسنة العرب، ظبطت في كتب اللغة والمعاجم،وكوّنت بذلك هيكل العربية الفصيحة. وهو بناء عملاق لم يعمل من مادة واحدة، وانما من مواد أساسية عديدة، هي لهجات القرآن والشعر ولغات القبائل التي رجع علماء اللغة إلى افرادها واليها للأخذ منها، فهذا الغنى الملحوظ في مفردات العربية الفصحى، إذن هو غنى سببه كونه حاصل لغات قبائل، لا حاصل لغة واحدة أو لسان عربي معين.

وتولدت في الإسلام معان خاصة لألفاظ جاهلية غلبت عليها واختصت بها، والى معانها الجليلة قصد في الإسلام، كما ماتت ألفاظ جاهلية اماتها الإسلام، بسبب انها كانت تؤدي معاني خاصة بالنسبة لذلك الوقت، فقد روي إن النبى قلل: "لا تقولوا دعدع ولا لعلع، ولكن قولوا: اللهم ارقع وانفع. فلولا أن الكلمتين معنى مفهوماً عند القوم ما كرهما لي"، وروي انه نهى عن قول: "خبثت نفسي، و استأثر الله بفلان".

ومن الألفاظ الإسلامية: المؤمن، والمسلم، والكافر، و المنافق، ومخضرم، وصلاة، وصوم، وغير ذلك. ومن الألفاظ التي كانت فزالت بزوال معانيها: المرباع، والنشيطة، والفضول، و الإتاوة، و الحلوان، وأبيت اللعن، و النوافج، للإبل تساق في الصداق، وحجراً محجوراً، لمعنيين: الحرمان، إذا سئل الإنسان قال: حجراً محجوراً، والوجه الآخر الاستعاذة، وأنعم صباحاً، وأنعم مساء، وأنعم ظلاماً، وعموا صباحاً، وعموا ظلاماً، إذ حل السلام محلها م في الإسلام. وظهرت الحاجة في الوقت نفسه إلى وضع قواعد في نحو وصرف هذه اللغة، لصيانة اللسان من الخطأ، وليتعلم الأعاجم بها كيفية النطق بفصاحة وسلامة بهذا اللسان الجديد عليهم. فكان ما كان من وضع النحو مستعين ين بالأسس النحوية "الغراماطيقية"، التي كانت قد وجدت سبيلها إلى العراق من أصول قديمة، ثم بتتبع، كلام العرب وبالاستقراء، وقياس القواعد بعضها على بعض وبالتعليل، يعلون النحو و يعتبرون به كلام العرب، ثم لم يكتفوا بذلك كله، فأخذوا دروب البادية، للأخذ عن القبائل التي اشتهرت بالفصاحة و بالمحافظة على سلامة لسانها، وتلقوا الأعراب الذين يطرأون من البادية على الحضر، فأخذوا من هؤلاء ومن هؤلاء علماً كثيراً باللغة وبالشعر و بالغريب وبالنوادر ويكل ما يتصل بالعربية من أسباب حتى جمعوا ما جمعوه من تراث هذه اللغة الخالد في بطون الكتب

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق