إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1781 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثاني والاربعون بعد المئة النثر


1781

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
       
الفصل الثاني والاربعون بعد المئة

النثر

النثرهو الكلام المرسل الذي لا يتقيد بالوزن والقافية، وهو الجزء المقابل للشعر، من أجزاء الكلام. وهو أقدر من الشعر على إظهار الأفكار وعلى التعبير عن الراي، وعلى الإفصاح عن علم ومعرفة، لكونه كلاماً مرسلا حراً لا يتقيد بقيود، خالياً من الوزن والقافية ومن المحافظة على القوالب، إلا انه دون الشعر في التاثر في النفوس وفي اللعب بالعواطف، لما في الشعر من سحر الوزن والقافية والإنشاد بانغام متباينة مؤثرة، لا سيما إذا ما اقترن بعزف على آلات طرب. ولوجود القافية والوزن في الشعر، ولكونه أبياتاً، سهل حفظه،وصار من الممكن خزنه في الذاكرة أمداً طويلاّ، وهن هنا امتاز على النثر، الذي لا يمكن حفظه بسهولة، ولا خزنه في الذاكرة، لعم وجود مقومات الخزن المذكورة فيه. والنثر الذي نقصده ونعنيه، هو النثر الذي يبحث عنه مؤرخ الآداب، لكونه قطعة فنية، تعبر عن عاطفة انسانية، وعن مظاهر الجمال والشوق والتأثر في النفوس، فيه صياغة وفن في حبك القول، وتفنن في طرق العرض، وإغراء في تنميق الكلم ودبج الكلمات، وحلاوة وطراوة وسحر وبيان، فهو كلام عال لا يشبه كلام العامة، ولا مما يتخاطب به الناس، ولا مما يتعامل به في التجارة والمكسب أو في الدوائر، وانما هو من قبيل كتب الأدب، ومن قبيل الأمثال والخطابة والمراسلات الأدبية وما شاكل ذلك من وجوه. ولهذا، نستبعد من هذا النثر، ما وصل الينا من نصوص جاهلية، لأنها كتبت في أغراض أخرى، كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات: من بيع وشراء، وتئبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة. وبين ايدينا خطب طويلة ومتوسطة وقصيرة، نسبها الرواة إلى خطباء جاهليين، زعموا أنهم كانوا في ايامهم آية في الفصاحة والبلاغة. والبيان، وأساطير وقصص زعم أهل الأخبار أنها أخبار صحيحة وروايات مروية،وأصول منافرات ومفاخرات ومعاتبات ومشاتمات، زعموا انها جرت في الجاهلية، وانتقلت اصولها بنصها وفصها وحروفها وكلمها من رواتها إلى الإسلاميين، فدو نت في كتبهم، كما رووا حكماً وأمثالاَ وأقوالا"، زعموا أنها لحكماء من أهل الجاهلية حفظها الناس حفظاً، ورووها رواية رجلاّ عن رجل، وجيلاَ عن جيل، حتى وصلت، مرحلة التدوين. وكل هذا المسجل الذي نتحدث عنه، هو من مدونات أهل الإسلام، ليس فيه من مدونات أهل الجاهلية أي شيء.

وبين هذا النثر، خطب منمقة مزوقة، نسبت إلى ملوك وسادات العرب البائدة، الذين بادوا قبل الإسلام بعهد طويل، ومات معهم أدبهم بالطبع، وخطب نسبت إلى التبابعة، وقد هلكوا أيضاً قبل الإسلام، وكلام نسب إلى أنبياء جاهليين، والى الجن أيضاً، رواه أهل الأخبار، دون أن يكلفوا أنفسم مشقة الإفصاح عن كيفية وصول تلك الخطب و ذلك الكلام اليهم، مع أنهم كرّروا القول بأن كلام بعضهم كان كلاماً آخر يخالف كلامنا، وأن عربيتهم لا تشاكل عربيتنا، فكيف نقلوها ودوّنوها إذن في الإسلام إن نثراً من هذا النوع هو نثر مصطنع بالطبع صنع على لسان أولئك الماضين، من غير شك ولا شبهة، فهو من هذه الناحية مكذوب مرفوض.

وأما النثر المنسوب إلى العرب الذين عاشوا قبيل الإسلام، أو أدركوا الإسلام، فالصحيح في " أقل من المصنوع، خاصة نصوص الخطب والحكم والمواعظ، والقصص والأيام، والوفادات والخطب الطويلة، لأن من المستحيل على الذاكرة، حفظ الكلام المنثور بالحروف والكلمات حفظ اشرطة التسجبل له أو للغناء أو الموسيقى، مهما وهب الله تلك الذاكزة من قوة في قدرة الأخذ والحفظ. ثم هي إذا حفظته اليوم، فلا بد وأن تتعثر به غداً، ثم يزداد تعثرها به بعد ذلك. هذا رسول الله يذكر "قس بن ساعدة الإيادي"، فيقول: "رحم الله قساً كأني أنظر إليه على جمل أورق، تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه"، وإذا راجعت نص خطبة "قس" في الموارد، تجد الرواة على اختلاف شديد فيما بينهم في ضبط نصها، وهذا حديث رسول الله التام، لي المروي بالنص، وبالطرق الصحيحة تراه يرد أحياناً بعبارات مختلفة مع اتحاد المعنى، مما يدل على أن رواته قدأجهدوا أنفسهم جهد طاقتهم في حفظه، لكنهم عجزوا عن حفظه حقظ الكتاب للمكتوب. خذ صيغ التشهدات في الصلاة مثلا، وهي قصيرة العبارة، لا طول فيها، تجد الصحابة والفقهاء يختلفون مع ذلك في ضبطها، فترى نص تشهد "ابن مسعود" يختلف بعض الاختلاف عن نص تشهد "ابن عباس"، وعن نص تشهد"عمر"، وعن نص تشهد "أبي سعيد الخدري"، وعن تشهد "جابر"، مع قول "ابن مسعود": "علمني رسول الله التشهد وكفيّ بكفّه، كما يعلمني السورة من القرآن"، وقول "أبي سعيد الخدري": "وكناّ لا نكتب إلا القرآن والتشهد"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، بل خذ القرآن، وهو كتاب الله المضبوط المدو"ن، الذي حفظه بعض الصحابة، وتلوه على الرسول، وحرصوا على المحافظة على نصه حرصهم على حياتهم، بل أشدّ منها، ودونوه ساعة الوحي، وأمام الرسول، ظهرت مع ذلك فيه قراء ات، بسبب اختلاف مدارك الصحابة في فهمه وفي حفظه، وبسبب اللهجات وعيوب الخط، فإذا كان هذا ما حدث في أيام الرسول وبعد وفاته بقليل، وقد وقع في أعز كلام بالنسبة للمسلمين، فهل يعقل بعد،التصديق بصحة النصوص المروية لخطب طويلة، زعم أنها قيلت في قصور كسرى، أو بحضرة ملوك الحيرة، أو الغساسنة، أو تبابعة اليمن، أو الكلام المروي عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط، وغيرهم وغيرهم ممن هلكوا وبادوا قبل الإسلام بزمن طويل.

ثم كيف نصدق بخطب زعم انها قيلت في الجاهلية، مثل خطبة "النعمان بن المنذر" أمام كسرى، أو خطب الوفد الذي أرسله هذا الملك إلى "كسرى" ليكلمه في أمر العرب، وهي خطب طويلة منمقة، على حين يذكر العلماء إن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم،وانما رويت بالمعنى". وسبب ذلك، انهم وجدوا إن من غير الممكن اثبات النص بالرواية من غير تبديل ولا تغيير قد يقع عليه، وخشية وقوع هذا الخطاً في كلام الرسول، وهو أعز كلام، وعليه ترتيب الأحكام في الحلال والحرام، جوّ زوا الرواية بالمعنى. ولهذا تركوا الاستشهاد بالحديث "على إثبات القواء- الكلية في لسان العرب"، ولو وثق العلماء من أن لفظ الحديث، هو لفظ الرسول حقاً "لجرى مجرى القرآن الكويم في إثبات القواعد الكلية. واتما كان ذلك لأمرين: أحدهما إن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم يقل بتلك الألفاظ جميعها، نحو ما روى من قوله: زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك من القرآن، خذها بما معك من القرآن، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فتعلم يقيناً انه صلى الله عنيه وسلم، لم يتلفظ بحميع هذه الألفاظ، بل لا يحزم بأنه قال بعضها، إذ محتمل انه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه إذ المعنى هو المطلوب،ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ. والضابط منهم من ضبط المعنى. وأما من ضبط اللفظ فبعيد جداً، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم اني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، انما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين انهم يروون بالمعنى وفي سنن الترمذي، عن مكحول عن وائلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سر أعلام النبلاء: إذا حدثتكم بالحديث على معناه فحسبكم.

لقد وجد الصحابة إن من الصعب عليهم حفظ كلام الرسول بالنص والحرف، وهم معه في كل وقت، يحدثهم ويحدثونه، فيشق عليهم ضبط كلامه، وهم لا يكتبونه ولا يكررونه عليه، وليس من الممكن أن يجلس رسول الله، ثم يطلب من أصحابه إعادة كل كلام كلمهم به، فسأله أحدهم: "يارسول الله ني اسمعع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفاً أو ينقص حرفاً. شال: لذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالاّ وأصبتم المعنى فلا بأس" وكان من الصحابة من يروي حديثه تاماً، ومنهم من ياتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصراً، وبعضهم يغاير بين اللفظيٍن ويراه واسعاً إذا لم يخالف المعنى. وروي عن "مكحول"، "قال دخلت أنا وأبو الأزهر على وائلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ليس فيه ولا تزيد ولا نسيان !فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئاً ? فقلنا: نعم وما نحن له بحافطي جداً. إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تالونه حفظاً، وانكم تزعمون انكم. تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى ألا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة? حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى.

وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة هكذا بغير إسناد، وانما جاء هذا من جهة حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون،ومن كتب منهم فإنما كان يُكتب لهم بعد السماع،وكان كثير منهم يروي بالمعنى فكثيراً ما يعبر عنه بلفظ من عنده فياتي قاصراً عن أداء المعنى بتمامه، وكثيراً ما يكون أدنى تغير له محيلاً له وموجباً لوقوع الإشكال فيه، وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى".

ولتجويزهم رواية الحديث بالمعنى، لم يحتج أئمة النحو المتقدمين من المصرين بشيء من الحديث في النحو، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب "ولولا تصريح العلماء براز النقل بالمعنى في الحديث، لكان الأولى في اثباته فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب. جرى على ذلك الواضعون الأولون لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، وا الخليل، وسيبويه من أئمة البصرة، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفة فعلوا ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول، إذ وثقوا بذلك لجرى مجرى. القرآن الكريم في اثبات القواعد الكلية. وإذا كان هذا موقف ذاكرة الصحابة من كتاب الله ومن حديث رسوله، فهل يعقل أن تكون حافظتهم أقوى وأشد حفظاً واكثر دقة في رواية كلام هو دون كلام الله وكلام رسوله، فنصدق قول من قال إن "سلمة بن غيلان" الثققي مئلاّ دخل في ناس من العرب على كسرى، فطرُح لهم مخاد عليها صورته، فوضعوها تحتهم، إلا سلمة بن غيلان فإنه وضعها على رأسه، فقال له: ما صنعت ? قال: ليس حق ما عليه صورة الملك أن يبتذل، وما اجد في جسدي عضواً لا أكرم ولا أرفع من رأسي فجعلتها فوقه. فقال له: ما أكلك ? فقال: الحنطة. فقال: هذا عقل الحنطة أو أن نصدق بكلام وفد "طي إلى "سواد بن قارب" الدوسي، وامتحانهم إياه، ثم جوابه المسجع على سجعهم، أو كلام الكاهنة "عفيراء" الحميرية،، أو كلام "ابنة الخس"، أو كلام "عبد المطلب"، وغره من سادات قريش مع تبابعة اليمن وحكامها الحبش، وهو كلام مضبوط بالحروف والكلمات، ترويه كتب أهل الأخبار على أنه كلام صحيح صادق، لم ينله تغيير ولا اعتراه تبديل، وكأنه قد سجل على شريط "تسجيل"، أو على اسطوانة، لم تلعب بها يد إنسا ن.

جاء في "لسان العرب": "قيل لسيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب،وبعثه الله رسولاَ وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه ا الخلة احدى آياته المعجزة، لأنه، صلى الله عليه وسلم، تلا عليهم كتاب الله منظوماً، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب، إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"، فإذا كان هذا شان الخطيب،  

وهو مرتجل الخطبة، وصاحبها لا يستطيع إعادة نصها، فكيف يكون حال السامع الذي يسمعها سماعاً ولا يكتبها على صحيفة، فهل يحوز اذن لنا التصديق بصحة نصوص هذه الخطب الجاهلية وما يروونه عن الجاهليين من أدب منثور !

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق