إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 4 فبراير 2016

1775 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الاربعون بعد المئة اللسان العربي العربية الشمالية والعربية الجنوبية


1775

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي     
     
الفصل الاربعون بعد المئة

اللسان العربي

العربية الشمالية والعربية الجنوبية

وقد اصطلح المستشرقون على رجع اللغات التي ظهرت في جزيرة العرب إلى أصلين: أصل شمالي يقال للغات التي تعود إليه: اللغات أو اللغة العربية الشمالية، وأصل جنوبي يقال للغات التي ترجع إليه:اللغات أو اللغة العربية الجنوبية.

وهذا التقسيم التقليدي للهجات العرب انما خطر ببال المستشرقين من النظرية العربية الإسلامية التي ترجع العرب إلى أصلين: اصل عدناني، وأصل قحطاني. ونظراً إلى عثورهم على كتابات عربية جنوبية تختلف في لغتها وفي خطها عن العربية القرآنية، رسخ في أذهانهم هذا التقسيم،وقسموا لغات العرب إلى مجموعتين.. لسهولة البحث حين النظر في اللغات واللهجات.

وبين العربيتن تباين واختلاف، ما في ذلك من شك. من ذلك إن الفعل في العربيات الجنوبية وليد المصدر، وان اداة التعريف فيها تكون في أواخر الكلم لا في أوائلها كما هو الحال في عربيتنا، وان حرف "الميم" هو أداة التنكير في العرببات الجنويية، إلى فروق أخرى، تحدثت عنها في الجزء السابع من كتابي القديم "تاًريخ العرب في الإسلام".

وإذا كنا لا نزال في جهل عن حقيقة اسم "عدنان"، الذي لم نعثر عليه حتى اليوم في نص من نصوص المسند، فإن في وسعنا التحدث عن "قحطان"، الذي سبق أن أشرت إلى أن أهل الأنساب أخذوةَ من التوراة. فهو اسم مهما قيل فيه، فقد أخذ من مصدر قديم يعود إلى ما قبل الميلاد. ثم انه أورد في النص العربي الجنوبي الذي وسم ب "Jamm 635ا" الذي دونه قائد الجيش "ابكرب احرس"" من آل ابل"، "أبكرب أحرس بن ابل"، أو "أبكرب أحرس" من ذلك لمناسبة عودته سالماً من حرب قاسها بأمر ملكه وسيده الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، اين الملك "علهان نهفان" ملك سباً وذو ريدان. وقد شمل القتال أرضاً واسعة، هي "أشعران"، أرض الأشعريين و "بحر"، والقبائل القاطنة حول مدينة "نجران"، ثم الأحباش الذين كانوا يحاربون معهم ويؤازرونهم في قتالهم ضد السبثيين، ثم سكان مدينة "قريتم" " قرية" الذين كانوا من "كاهل" "كهلم"، ثم في الصدامين اللذين وقعا مع "ربعت" "ربيعة" "ذ آل ئور"، "ربيعة" من "ذو آ ل ثور"، ملك "كدت" "كندة" وقحطان "قحطن"، وكذلك ضد "أبعل" أي سادة مدينة "قريتم.

ويفهم من النص إن "ربعت ذا الثورم"، هو اسم رجل، اسمه "ربيعة" من "آل ثور"، وكان كما يقول النص ملكأ على "كندة" و "قحطان". ويذكر أهل الأخبار، إن "كندة" اسم قبيلة وأبو حي من اليمن، وهم من نسل "ئور بن مرة بن أدد بن زيد"، وقيل "بنو مرتع بن ثور" أو "كندة بن ئور"، وقيل إن ثوراً هو مرتع، وكندة هو أبوه، إلى غير ذلك من آراء، تريك إن شيئاً من الواقع كان عند أهل الأخبار عن هذه القبيلة، في انهم لم يكونوا يعرفون شيثاً واضحاً عنه. وترى من هذا النص إن "آل ثور" اسم أسرة كانت تحكم قبيلتي "كدت" "كندة" و "قحطان"، وان رئيسها إذ ذاك هو "ربيعة" الذي لم يرد اسم والده. وقد جعل أهل الأخبار من "آل ثور" رجلاً جعلوه أباً لقبيلة كندة، ثم حاروا في نسبه. ويتبين من هذا النص إن "قحطان" كانوا في هذا العهد تحت حكم "ربيعة" الذي هو من "آل ثور".

وقد جعل "جامة" حكم "شعر أوتر" الذي سبق أن تحدثت عنه بتفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب في حوالى السنة "65" قبل الميلاد، وقد بنيت آراء بقية الباحثين في وقت حكمه، فنكون بذلك قد وقفنا على ام قحطان وكندهً في نص يعود عهده إلى حوالى القرن الأول قبل الميلاد. وقد كانتا مثل أهل "قرية" وأهل "نجران" في حرب مع السبئيين. وهذا النص هو أقدم نص عربي جنوبي وصل فيه اسم "قحطان" و "كدت" "كندة" الينا حتى الآن.

ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن لهجة "قحطان" و "كدت" "كندة"، و ذلك بسبب عدم وصول كتابات منهما الينا، ولكننا لا نستبعد احتمال كون لغتهما من مجموعة اللغات العربية الجنوبية، لأن مواطنهماكانت في العربية الجنوبية في هذا العهد، أما بطون "كندة" التي نزلت "نجداً" والتي ذهب بعضها إلى العراق، فنحن لا ندري إذا كانت لهجتهما قد تغيرت، فصارت عربية شمالية، بدليل نظم "امرئ القيس" الكندي وبقية شعراء الكندة الشعر بهذه العربية، أم أنها -كانت تتكلم بالعربيتين، إلا أن شعراءها كانوا ينظمون الشعر بالعربية المعهودة مجاراة للقبائل الشمالية التي كانت تجاورها والتي احتكت بها، وقد تكون هذه البطون قد هاجرت من العربية الجنوبية قبل الميلاد، فاًقامت بنجد، وتعربت من ثم بالعربية الشمالية، وقد تكون "كدت" قبيلة عربية جنوبية غير "كندة"، بقيت في اليمن إلى الإسلام، إذ ورد اسمها في نص "أبرهة" أيضاً، ونظراً الى التشابه فيما بين "كدت" "كدة" و "كندة" ربط النسابون بين الإثنين، وجعلوا نسب كندة "كدت". فتكون "كندة" بذلك من القبائل العربية الشمالية، و "كدت" من القبائل العربية الجنوبية، أقول هذه الآراء على سبيل الاحتمالات لأني من الأشخاص الذين يكرهون البت في الأمور العلمية لمجرد حدس أو ظن، ومن غير دليل علمي مقنع. والبت في مثل هذه الأمور لا يكون مقبولاً عندي إلا إذا استند على نص جاهلي، أو بدليل معقول مقبول، وحيث أننا لا نملكه الآن، فأترك هذه الاحتمالات إلى المستقبل عله يتمكن من العثور على نصوص جاهلية تكشف القناع عنها، وتأتي الينا بالجواب الواضح الصحيح.

ولكننا نجد في الوقت نفسه - وكما سبق إن ذكرت -إن هنالك لهجات عربية مثل الثمودية والصفوية، تستعمل "الهاء" أداة تعريف بدلاً من الألف واللام في عربيتنا، فيقال "هملك"، و "هدار" بمعنى "الملك" و "الدار". و ذلك كما في العبرانية، إذ تستعمل الهاء فيها أداة للتعريف، ويقوم "ذ" فيها مقام الاسم الموصول كما عند طيء في قديم الزمان، إلى خصائص أخرى تجعلها مجموعة أخرى لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية شمالية.

كما تبين من دراسة بعض الكتابات الجاهلية، مثل الكتابات التي عثرعليها في "القرية" وفي جبل "عبيد"، وفي شمال خشم كمدة إن لها خصائص انفردت بها عن المجموعتين، وقد وردت فيها أسماء كثيرة لم ترد في الكتابات العربية الجنوبية وفي عربية "ه"، مما يجعلها أهلاً لأن تكون موضع دراسة خاصة في المستقبل، لعلها تكون مجموعة لغوية جديدة قائمة بذاتها، أو حلقة مفقودة بين اللغات الجاهلية المندثرة.

ووجود مثل هذا التباين الذي اكتشف من الكتابات، هو الذي دفعني إلى التفكير في اعادة النظر في تقسيم اللغات العربية إلى مجموعتين،وعلى إلتفكيربتقسيمها إلى مجموعات ذات خصائص لغوية متشابهة،تستنبط بالدرجة الأولى من أداة التعريف التي هي المميز الوحيد الذي يميز بين لهجات الجاهليين.

ونلاحظ إن عربية ال "ن" "إن" مصطلحات غير موجودة في العربية الفصيحة السامية الأخرى، صعب على العلم إدراكها بسبب ذلك، فاكتفوا باستخلاص معناها من وضعها في الجمل، و ذلك بصورة تقريبية، كما نلاحظ إن الأسماء فيها، تختلف عن الأسماء المعروفة عند العرب الشماليين، إن الأسماء الواردة في كتابات المسند المتلخرة، تختلف بعض الاختلاف عن الأسماء الواردة في النصوص القديمة، فقد تغلبت لبساطة على الأسماء المتاًخرة، حتى صارت تشاكل أسماء العرب الشماليين المألوفة عند ظهور الإسلام، وقد لاحظ "الهمداني" هذه الظاهرة، فعبر عنها بفوله: "فربما نفل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة، فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل انه غير ذلك الاسم وهو هو. وخير ما يمكن ان نفعله في نظري لمعرفة المتكلمين بالعربية الفصحى، هوان نقوم بالبحث عن الخصائص النحوية والصرفية واللفظية التي يّميزها عن بقية العربيات، فإذا ضبطناها استطعنا تعيين من كان يتكلم بها، لما كنا لا نملك نصرصاًجاهلية مدونة بها، صار من الصعب علينا التوصل إلى نتائج علمية ايجابية مرضية، تحدد القبائل والأماكن التي تكلمت بها تحديداً صحيحاً مضبوطاً، غير ان المثل العريي يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإذا عسر علينا الحصول على نتائح كلية مقنعة، فلا باس من الرضا بالحصول على جزء أو بعض من نتائج قد تقدم لنا معرفة وعلماً - ونحن إذا سرنا وفق حكمة هذا المثل، ودرسنا خصائص هذه العريية، تجد أن من أولى ميزاتها استعمال "ال" أداة للتعريف، تدخلها على أول الأسماء النكرة، فتحليها إلى أسماء معرفة، بينما تجد العرييات الأخرى التي عثر على نصوص جاهلية مدوّ نة بها تستعمل أدوات تعريف أخرى، ولما كنا نعرف المواضع التي عثر فيها على هذه النصوص، صار في إمكاننا حصرها، وبذلك نستطيع التكهن عن المواضع التي كان يتكلم أهلها بالعربية التي تستعمل "ال" اداة التعريف، أي هذه العربية الفصحى. ولما كاتت العربية الجنويية قد استعملت ال "ن" "إن" أداة للتعريف، تلحقها في أواخر الاسماء المنكرة، وحيث أننا لم نتمكن حتى الان من الحصول على نص في هذه الأرضين استعمل "ال" أداة للتعريف فبأستطاعتنا القول: إن سكانها لم يدوّنوا بالعربية القرآنية، بل كان تدوينهم وكلامهم بالعربية الجنوبية التي كانت تضم جملة لهجات. ولما كان آخر نص عثر عليه مدوّ ن بالمسند، يعود تأريخه إلى سنة "554" للميلاد، صار في إمكاننا القول بأن العربية الجنوبية كانت وبقيت لساناً العرب الجنوبيين إلى ظهور الإسلام.

ونظراً لعثور الباحثين على كتابات مدوّ نة بالمسند، في "القرية" أو "قرية الفأو" وفي مواضع اخرى من "وادي الفاو"، وفي مواضع من "وادي الدواسر"، وفي مواضع تقع جنوبي خشم العرض، فإن في استطاعتنا القول إن أهل هذه الأرضين كانوا يكتبون بالمسند، ويتكلمون بلغات عربية جنوبية، اختلفت بعض الختلاف عن العربيات الجنوبية المستعملة في العربية الجنوبية. فهي إذن من المناطق التي لم يتكلم أهلها بالعربية القرآنية. ونظراً لما نجده من وجود بعض الاختلاف بين عربية هذه المنطقة وعربية العربية الجنوبية، فإننا نستطيع القول بانها تكون مرحلة وسطى بين العربيات الجنوببة والعربية القرآنية، وحيث أن كثيراً من هذه الكتابات لم يكتب لها النشر، ولوجود كتابات أخرى لم يتمكن الباحثون من نقشها أو تصويرها، فمن المحتمل في رأيي مجيء يوم قد يعز فيه على لهجات جديدة، قد تزيح الستار عن أسرار اللغات عند الجاهليين، وقد تكون مجموعات لغوية جديدة من مجموعات اللغات العربية عند أهل الجاهلية.

وقد عثر في العربية الشرقية على كتابات جاهلية مدوّ نة بالمسند هي وإن كانت قليلة، إلا أنها ذات أهمية كييرة بالنسبة للباحث في تأريخ تطور الكتابة عند العرب، وللباحث في اللهجات العربية الجاهلية. فقد ثبت منها أن أصحاب هذه الكتابات كانوا يتكلمون بلهجات غير بعيدة عن اللهجة العربية القرآنية، وان كتبوا بالمسند. ويلاحظ من النص الذي هو شاهد قبر رجل لسمه "ايليا بن عين ابن شصر أنه استعمل لفظة "ذ" بمعنى "من" وناًسف لأن هذه النصوص القليلة قصيرة، وفي أمور شخصية، قد خلت من أداة التعريف، لذلك لا نستطيع تثبيت لهجتها بصورة أكيدة.

واستناداً إلى النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، التي استعملت ال "ه" "ها" أداة للتعريف، نستطيع أن نقول إن أصحاب هذه اللهجات يكوّ نون مجموعة من اللغات قائمة بذاتها، تختلف عن العربية الجنوبية وعن العربية القرآنية. وهي تشارك العبرانية في استعمال الأداة المذكورة في التعريف،ولكنها تقارب عربية "ال" في استعمال المفردات.

وأما النبط، وهم عرب من العرب الشماليين، فقد استعملوا أداتين للتعريف، أداة هي حرف الألف المدود اللاحق بآخر الاسم، مثل "ملكا" بمعنى "الملك"، و "مسجدا"، بمعنى "المسجد"، وأداة أخرى، هي أداة "ال" التي نستعملها في عربيتنا. وفي استعمال النبط لأداتين للتمريف، دلالة على تأثرهم بالآراميين وبالعرب المتكلمين باللغة العربية القرآنية، أو العرب المستعملينء لأداة التعريف "ال" بتعبير أصح. والنبطية نفسها، لغة وسط، جمعت بين الآرامية والعربية، فبينما نجدها تستعمل الآرامية، إذا بها تخلط معها ألفاظاً وتراكيب عربية فصيحة. و ذلك بسبب اختلاط النبط بالاراميين وتأثرهم بثقافتهم، واحتكاكهم بالأعراب،وكونهم عرباً في الأصل. ومعنى هذا إن العرب الذين كانوا بجاورون النبط، وهم عرب البوادي كانوا من المتكلمين باًداة التعريف "ال"، سمة العر بية االفصيحة..

وأما النصوص المدونة بنبطية مشوبة بمصطلحات عربية، وأهمها نص "حرّ إن" التي يعود تاريخه إلى سنة "328" للميلاد، فإنه يفصح عن قوم عرب أو نبط لاستعمالهم "ال" أداة للتعريف في الألفاظ: "التج" يمعنى "التاج"، وفي "الأسدين"، بمعنى "أسد"، وفي "الشعوب". وأرجح كونهم عرباً، لاستعمالهم جملاّ عربية فصيحة بينة في هذا النص، مثل: "ملك العرب"، و "مدينة شمر"، و "نزل بنيه الشعوب"، و "فلم يبلغ ملك مبلغه"، فهذه جمل عربية، أصحابها عرب، وإن كتبوا بالنبطية وقد تفصح عن عربية أهل الحيرة في ذلك الوقت، لأن الملك المتوفى، وهو "امرؤ القيس"، هو من ملوك الحيرة، والنص المكتوب، هو شاخص قبره، فمن المعقول تصور أن الكتابة كتبت بلغة أهل الحيرة في ذلك العهد.

ويظهر من استعمال كتابة "زيد" التي يعود عهدها إلى،سنة. "512" للميلاد" لجملة" بسم الإلهَ"، أن صاحبها وان كتب بالنبطية، غير أنه كان من النبط المستعملين د "ال" أداة للتعريف. وأما الكتابة المعروفة بكتابة "حران"، فإنها أقرب هذه النصوص إلى العربية القرآنية. كما يتبين ذلك من نصها العربي، وهو: انا شرحيل بر ظلمو، بنيت ذا المرطول سنت 463، بعد مفسد خيبر بعم.

أي: "انا شرحيل" "شراحيل" بن ظلم، بنيت هذا المرطول سنة 463،  

بعد خراب "غزو" خبير بعام. ويفابل تاريخ هذا النص سنة "568"للميلاد.

وعربية هذا النص، عربية واضحة، ليس فيها ما يحاسب عليه بالقياس إلى عربيتنا، إلا جملة "بر ظلمو" المكتوبة على وفق القواعد النبطية. ويلاحظ أنها استعملت "ال" أداة للتعريف، ولاحظت قواعد النحو في جملة: "بنيت ذا المرطول" المستعملة في عربيتأ، مما يدلا على إن صاحبها كان يراعي الإعراب في لسانه " وأنه من قوم كانوا يراعون قواعد الإعزاب في كلامهم.

اذن فنحن أمام قوم عرب، نبط، لسانهم "عربي من مجموعة "ال"، أي من العريية المستخدمة ل "ال" أداة للتعربف، منازلهم أطراف بلاد الشام، وشواطىء الفرات العربية. واذا تذكرنا أن السريان كانوا على الحيرة "حبرتا دي طيابة"، وأنهم كانوا يطلقون لفظة "طيابة" في مرادف "عرب"، عرفنا إذن، أن أهلها كانوا من العرب، ولما كان نص "النمارة" قد كتب بنبطية متأثرة بعربية "ال"، نستطيع أن نقول إن عرب الحيرة كانوا من للمتكلمين بهذه العربية.

يتبين لنا مما تقدم، إن العرب الذين كانوا يفطنون الحيرة والأنبار، او عرب العراق بتعبير أصح، ثم عرب بلاد الشام، وعرب البوادي، جزيرة العرب باستثناء للواضع التي أمدتنا بالكتابات، كانوا يتكلمون بعربية "ال" اي العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودوَن بها الشعر الجاهلي. وهي عربية اساسية، جمعت شمل لغات ولهجات، على نحو ما وجدنا في العربية الجنوبية من اشتمالها على جملة لهجات، وما وجدناه في اللهجة العربية الشمالية الغربية، المستعملة ل "ه" "ها" اداة للتعريف.

فأهل نجد وبادية الشام، وعرب العراق وبلاد الشام والحجاز، كانوا هم المتكلمن بهذه العربية التي تعرّف النكرة باًداة التعريف "ال،، و ذلك قبل الإسلام، أما المواطن الأخرى، فلها لهجاتها الخاصة، وبينها لهجات تاثرت بخصائص مجموعة "ال". وقد غلب الإسلام هذه العربيةّ على اللهجات الأخرى، فصارت الأكثرية تتكلم بها، إلا في المواضع المنعزلة، التي بقيت شبه مستقلة، حيث احتفظت ببعض خصائص لهجاتها القديمة، كالذي نراه اليوم في مهرة وفي الشحر وفي مواضع أخرى من العربية الجنوبية التي تتكلم بلهجات لا نفهمها عنهم هي من بقايا ا اللهجات الجاهلية.

وللوقوف على خصائص اللهجات المكونة لعربية ال "ن" "إن"، أرى إن من الضروري وجوب ارسال بعثات علمية إلى العربية الجنويية لدراسة اللهجات المحلية، هي عديدة وتسجيلها على الأشرطة من افواه المتكلمين بها، ولدراسهّ قواعدها النحوية والصرفية وأصول نظم الشعر عند المتكلمين بها، وتفيدنا دراسة نظم الشعر - خاصة - عند العرب الجنوييين الحاليين فائدة كبيرة في الوقوف على أسس نظم الشعر عندهم ايام الجاهلية، وعلى الفروق الكائنة بين نظمهم قبل الإسلام، ونظم بقية العرب الجاهلين. ولا بد أيضاً من مقارنة نظمهم في الوقت الحاضر، بنظم الأعراب في المملكة العربية السعودية، للوقوف على الفروق بين النظمين، وستكون هذه الفروق هادياً لنا في الوقوف على الفروق التي كانت بين النظم عند شعراء الجاهلية في بلاد الشام والعراق ونجد والبحرين واليمامة والحجاز والعربية الجنوبية.

وسوف تساعدنا دراسة لهجات المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة التي كانت تعرف ب "ادوم" في التأريخ، وكذلك لهجات أعالي الحجاز في الوقت ا الحاضر، فائدة كبيرة في الوقوف على خصائص لهجة عربية ال "ه" "ها"، وفي استنباط قواعدها منها. فلا بد وأن تكون في اللهجة "البلقاوية"، وفي اللهجات المحلية الأخرى بقايا من تلك اللغة، مندجة مع عربية "ال" التي تغلبت على لسانهم منذ الفتح الإسلامي الذي بدأ لتلك البلاد عام "633" للميلاد، ولا بد من دراسة أصول نظمهم في لغاتهم الدارجة هذه للأهتداء بها على أصول النظم عندهم قبل الإسلام، وعلى المؤثرات التي أثرت على نظمهم في الوقت الحاضر، مع دراسة خصائص نظمهم وما يمتاز به عن أصول النظم عند بقية العرب في الوقت الحاضر أيضاً.

ولما كنا لا نملك نصوصاً جاهلية بعربية "ال" غير ما ذكرته من النصوص النبطية المشوبة بعربية "ال". ولما كانت هذه العربية ذات لهجات ولغات،عرفت اسماؤها وضبطت في الإسلام،وبينها فروق ومميزات، كما بينت ذلك في الملاحظات البسيطة السطحية التي جمعها عنها علماء العربية،ولما كنا لا نملك عن هذه اللهجات غير تلك الملاحظات التي أوجزتها في فصل: لغات العرب، فإن من اللازم ضم درّاسة ما سيقوم به علماؤنا في المستقبل عن اللهجات الحالية في مختلف أنحاء جزيرة العرب إلى دراسة العلماء المتقدمين، لتكمل احداهما الأخرى، وستتولد منهما ولا شك دراسة علمية قيمة، تفيدنا في الإهتداء إلى معرفة خصائص اللغات العربية قبل الإسلام.

لقد توصلت من دراسة ملاحظات أولئك العلماء، إلى إن هذه اللهجات لم تكن تختلف في كيفية النطق بالحروف، وفي القواعد الصرفية فقط، لكنها كانت تحتلف فيما بينها في القواعد النحوية أيضاً، مثل حذف الياء من الفعل المعتل بها إذا أكد بنون في لغة طيء وفزارة، ومثل "ذو" الطائية التي يلازم اعرابها بالواو في كل موضع، ومثل إعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباًوجراً، في لغة بلحرث، وخثعم، وكنانة، ومثل "هلَمَّ" في لغة أهل الحجاز التي تلزم حالة واحدة على اختلاف ما تسند إليه مفرداً أو مثنى أو جمعاً، مذكراً أو مؤنثاً، وتلزم في كل ذلك الفتح، بينما تتغير بحسب الإسناد في لغة نجد من بني تميم"، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها في فصل: لغات العرب، وهي لو جمعت في مكان واحد ودرست بعناية ودقة، دلت على أن الفروق بين هذه اللهجات في القواعد هي اًعمق بكثير مما يظن.

ومع وجود هذه الاختلافات والفررق، كان بإمكان المتكلمين بهذه اللغات الثانوية المتفرعة من المجموعات اللغوية، التفاهم فيما بينهم، كما يتفاهم العراقيون والمصريون وأهل المغرب بعضهم مع بعض مع تكلمهم بألسنة ذات لهجات مختلفة. فكان في استطاعة أهل نجد التفاهم مع عرب الحيرة، وفي استطاعة أهل مكة التفاهم مع أهل الحيرة، والعكس بالعكس، مع وجود صعوبات بالطبع في فهم النطق بالهجة، وفي إدراك مخارج بعض الحروف واختلاف القبائل في النطق بها، ووجود كلمات غريبة في لغة، قد لا توجد في لغة أخرى. إلا إن هذه الفروق لم تكن شديدة عميقة، بحيث جعلت فهم العرب بعضهم بعضاً أمراً صعباً، أو صيرت اللغات وكأنها لغات أعجمية، لا يفهم المتخاطبون بها احدهم الاخر. ودليل ذلك اننا نجد الوفود التي وفدت إلى المدينة، لمبايعة الرسول على الإسلام، تكلم الرسول وتتفاهم معه ومع أصحابه، وتخطب أو تنشد الشعر أمامه، وهو يفهمهم، وهم يفهمونه من دون صعوبة ولا كلفة كبيرة، لأن أمر هذه اللغات لم يكن على نحو ما تصوره بعضهم من التباين والاختلاف، والبعد بين الألسنة. اللهم إلا ما كان من أمر أهل العربية الجنوبية، فقد كانوا يرطنون، بدليل ما جاء في كتاب رسول الله إلى "عياش بن أبي ربيعة المخزومي" حين أرسله برسالة إلى أبناء "عبد كلال" الحميري، فقد قال له فيها: "وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا، فقل: ترجموا". وربما كان منهم من لا يفقه عربية المسلمين، الناطقين بعربية "ال"، فكان يترجم لهم بعض من لهم علم وفقه بالعربيات الجنوبية وبعربية القرآن.

وبدليل ثانٍ، هو أن المسلمين لما حاصروا القصر الأبيض من قصور الحيرة، سمعوا أهل القصر، يصرخون: "عليكم الخزازيف" ج "فقال ضرار: تنحوا لا ينالكم الرمي، حتى ننظر في الذي هتفوا به، فلم يلبث أن امتلا رأسُ القصر من رجال متعلقي المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف - وهي المداحي من الخزف"، فلم يفهم المسلمون معنى "الخزازيف" في بادىء الأمر لكنهم عرفوا أنهم يعنون شيئاً له صلة بالدفاع عن القصر، ثم عرفوه، بعد نزول سيل من "الخزف" عليهم. وكان أهل "الحيرة" ينطقون بالعربية، فلما قال خالد بن الوليد" لأصحاب عدي بن العيادي: "ويحكم ! ما أنتم ! أعرب ?  

فماتنقمون من العرب اوعجم ? فما تنقمون من الانصاف والعدل فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، قال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان الا بالعربية، فقال: صدقت"، وقد كانت لهم مدلرس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، ومنهم أخذ أهل مكة كتابتهم، كما يذكر ذلك أهل الأخبار. فنحن نجد أن العرب كانوا يتكلمون على مقتضى سجيتهم التي فطروا عليها، ومع ذلك فقد كانوا يتفاهمون ويدركون المعاني، ولو كانوا من قبائل متباعدة، ومن اماكن متنائيهَ. "قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الرواياته في بعض الأبيات".

ولما حاصر "خالد ابن الوليد" الأنبار، "تصايح عرب الأنبار يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبارشر". ولما اطمأن بالأنبار "وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعريية ويتعلمونها، فسئلهم: ما أنتم ? فقالوا: قوم من العرب. نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا". فاهل الأنبار مثل أهل الحيرة عرب، كانوا يتكلمون العربيه، وهي عربية فهمها خالدُ ومن كان معه من رجال قبائل ولو كانت عربيتهم عربية قريش، لما سكتوا من النص عليها،لما في ذلك من تقرب إلى قريش. قال الأزهري: "وجعل الله، عز- وجل القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عريياً، لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم عربياً، لأنه من صريح العرب، ولو أن قوماً من الأعراب الذين يسكنون البادية حضروا القرى العربية وغيرها، وتناموا معهم فيها، سموا عرباً ولم يسموَا أعرابا". "والعربية هي هذه اللغة". "والعرب هذا الجيل" أما أو سألتنىِ رأيي في هذه الخطب التي دوّ نها أهل السير والتواريخ والأخبار للوفود التي وفدت على الرسول لمبايعته، أو عن حديث الصحابة معه قبل الهجرة أو بعدها، فأقول لك بكل صراحة، إن هذه النصوص:.نصوص كلام الرسول مع الصحابة، ونصوص كلام الصحابة معه، هي نصوص وردت الينا بأفواه الرواة، كلامها كلامهم، وعباراتها عباراتهم، أما المعاني، اي المضامين، فهي التي أخذت بالرواية، وفي بعضها زيادات أو نقصان، ظهرت بسبب طبيعة الاعتماد على الذاكرة لا الكتابة والتدوين. فنحن اذن أمام نصوص، لا يمكن، أن نقول انها أصيلة، لأنها لم تؤخذ من محاضر جلسات، ولا من كتاّب كانوا يكتبون كل ما كان يقع ويحدث، وينقلون الكلام نقلاً أميناً صادقاً، كما ينقل الشريط المسجل للاصوات، أصوات المتكلمين، وانما رويت بعد الحادث بأمد، قد يكون قصيراً وقد يكون طويلاً، وبعضها أحاديث شخصية، ليست مهمهَ، وقد تكون من الموضوعات، ولا غرابة في ذلك فكتب التراجم والحديث والسير، مليئة بتكذيب كثير من هذه الأمور، التي افتعلت، إما من الرواة أنفسهم، وإما من آلهم، وإما عصبية، أو عن مذهب وعقيدة.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق