1686
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثامن بعد المئة
أصحاب المال
وصاحب المال عند أهل الجاهلية، من له تجارة وجمع منها مالاً، أو من له زرع ونخيل، جاء اليه بربح طيب، أو من له إبل، والإبل هي "المال" عند العرب، ومقياس ثراء الإنسان، لأنهم لا يعرفون مالاً غيرها، أو من له حرفة رائجة، وذلك بين أهل المدن والقرى، حيث يستطيع صاحبها الحصول منها على ربح طيب إذا عرف كيف يستغل مواهبه في اختيار حرفته وفي تشغيل الأيدي العاملة لزيادة الانتاج.
وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال جاهليين ومخضرمين كان يملك كل واحد منهم عشرات الألوف من الدراهم، أي النقود، عدا الإبل والمزارع والأملاك. من هؤلاء: "عبد الله بن جدعان". ويظهر انه كان واسع الثراء، لم يبلغ أحد مبلغه في كثرة ماله بمكة، حتى ذكر انه كان يأكل بصحاف من ذهب، ويشرب بآنية من فضة، وبكؤوس من البلور، وانه كان قد املك قياناً ليغنين له. وللجرادتين، وهما قينتان من قيانه،شهرة واسعة في كتب الأدب، تغنيان له ولمن يحضر مجلس شرابه ليلاً، وكان بيته داراً للضيفان.
وكان استعمال الأغنياء لآنية من الفضة والذهب في أكلهم وشربهم معروفاً بمكة. وقد كان ذلك يترك أثراً في نفوس الفقراء الذين لا يملكون قوتاً لهم. ولهذا السبب نهي عن استعمالها في الإسلام، ونهي أيضاً عن استعمال ثياب الحرير. وقد كانت ثياب الحرير والملابس المقصبة بالذهب، وحلل الديباج من ألبسة الأغنياء، الذين كانوا يعتنون بملابسهم وينفقون في شرائها مالاٌ، وهي تستورد من الخارج من اليمن ومن بلاد الشام والعراق.
ويفهم من القرآن الكريم أن بين الجاهليين من كان يكتنز الذهب والفضة، ولا يعطي مما جمعه للفقراء والمحوجين شيئاً. وقد بشر هؤلاء بعذاب أليم، لاكتنازهم المال وعدم إخراج شيء منه من حق مفروض عليهم، لينفق في موضعه ومكانه الذي وضعه الله له. وأشار إلى أناس حبب إليهم جمع القناطيرالمقنطرة من الذهب والفضة ، وكان أغنياؤهم يعيشون عيشة مترفة، يحتسون الماء بآنية من ذهب، حتى قيل لأحدهم "حاسي الذهب" و "شارب الذهب".
ويستخدمون الأثاث الفاخر، والمذهبات، وهي الأشياء المطلية بالذهب، والبرذ المذهبة والملابس المذهبة، والحلي المصوغة من الذهب، على حين يعيش بعضهم عيشة كفاف، وبعض منهم عيشة فقير معدم.
وقد عرف "عثمان بن عمرو بن كعب"، و هو من "بني تيم بن مرة" ب "شارب الذهب"، لغناه وكثرة ماله، حتى كان يشرب بآنية من ذهب، وقد عدّ في أجواد قريش.
ويظهر من سورة )تبت يدا أبي لهب وتب.ما أغنى عنه ماله وماكسب( أن "أبا لهب" كان رجلاً ثرياً كسب مالاً وذرية ذكوراً. وهو عم من أعمام النبي، واسمه "عبد العُزى"، وكان يرى نفسه لكثرة ماله وولده، أنه من رجال قريش وسادتهم، فلا يليق به اتباع ابن أخيه، وهو أصغر منه سناً وأقل منه مالاً. يقال إنه قال للنبي: "ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك ? قال: كما يعطى المسلمون ! فقال: مالي عليهم فضل ! قال: وأي شيء تبتغي: قال: تباً لهذا من دين. تباً أن أكون أنا وهؤلاء سواء".
وقد تحدثت عن "أبي سفيان" في مواضع من هذا الكتاب، وكان تاجراً يجهّز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحياناً بنفسه. وقد عهدت اليه قريش بقيادة قوافلها إلى الشام، وبسبب قيادته قافلتها إلى الشام وقعت معركة بدر. ويظهر انه كان يدفع أمواله إلى كبار تجار قريش ممن كانوا يتاجرون مع الشام والعراق، للاتجار بها، فإذا عادوا يصيب من أرباحها.
ويتبين من خبر وقوع ابنه "عمرو" أسيراً يوم بدر، ومن امتناعه من تخليصه من أسره بتقديم فدية عنه، ومن قوله لمن ألح عليه بإفدائه: "أيجمع عليّ دمي ومالي ! قتلوا حنظلة وأفدي عمرأَ، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم"، انه كان شحيحاً، حمله شحه على تفضيل المال على ابنه. حتى حمله شحه هذا على مخالفة دين قريش،وعرفهم في عهدها ألا تعترض لأحد حاجاً أو معتمراً إلا بخير.
فلما جاء "سعد بن النعمان بن أكال"، وكان شيخاً مسلماً كبيراً الى مكة معتمرأَ، عدا عليه "أبو سفيان"، فحبسه بمكة بابنه "عمرو"، مما حمل الرسول على فك أسر ابنه ب "سعد بن النعمان بن أكال".
وكان يتاجر بالفضة وبالأدم ، والأدم من تجارة قريش المهمة. ويظهر انه كان يشتري الأدم من الطائف ومن اليمن، ثم ينقله إلى بلاد الشام. وقد أشير إلى أدم قريش، وهو أديم عرف في الأسواق بجودته وبنفاسته.
وكان "العباس بن عبد المطلب" من أثرياء قريش..كانت له ثروة واسعة من نقود ومن ذهب وفضة. وقد استغل ماله بالتجارة وبإقراضه بالربا، قيل عنه إنه "كان ذا مال كثير متفرّق في قومه". كان يقرضهم ويسلفهم ويشاركهم في تجارتهم. و لما انتهى إلى المدينة قال الرسول له: "يا عبّاس افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عروة ابن عمرو بن جحدم ، أخا بني الحارث بن فهر، فإنك ذو مال. فقال: يا رسول الله ؛ إني كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقاً فالله يجزيك به. فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافدِ نفسك - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب - فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: لا ؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجلّ منك، قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند ام الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد. ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا ! قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابني أخيه وحليفه". وكان ذلك عند وقوعه في الأسر ببدر.
وكانت أم العباس غنية على ما يظهر، ذكر انه ضاع وهو صغير، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك. وكان له مال في الطائف، فإذا كان الموسم جيء اليه بالزبيب لينتبذه للحجاج، فقد كان المتولي لأمر السقاية بمكة. وذكر انه كان يملك "مكوكاً"، مصوغاً من فضة مموهاً بالذهب يشرب به.
وقد نجح بعضهم في الزراعة نجاحاً باهراً، وأظهر مقدرة في إحياء الأرض الموات. ومن هؤلاء: "عبد الله بن عامر بن كريز". وكان صغيراً في أيام النبي، وولي "البصرة" فيَ أيام "عثمان". وكان ابن خال "عثمان". وله "النباج" الذي يقال له نباج ابن عامر، وله "الجحفة"، وله بستان اين عامر بنخلة على ليلة من مكة، وله أرضون أخرى، تمكن من معالجتها ومن إظهار الماء فيها، حتى جمع ثروة طائلة من الزراعة.
ونجح "عبد الله بن عمرو بن العاص" في الزراعة أيضاً، فقد كان له مال بالطائف على ثلاثة أميال من "وج"، هو كرم فاخر موصوف، " كان يعرش على ألف ألف خشبة شراء كل خشبة درهم". وقد كان يحصل منه على أكوام كبيرة من الزبيب.
وعرف " آل مخزوم" بالثراء في الجاهلية وفي الإسلام. مرّ "عثمان بن عفان " بمجلس لبني مخزوم، فسلم عليهم، ثم قال: "إنه ليعجبني ما أرى من جمالكم ونعمة الله عليكم". لا وزعموا أن قوماً قعدوا يذكرون الأغنياء من قريش، فقال أحدهم: "المغيرة بن عبد الرحمن". فقال له القوم: "وهل لمغيرة من مال ?" فقال الرجل: أليس له أربع بنات وأربع أخوات ? وكان المغيرة يقول: لا أزوج كفؤأَ إلا بألف دينار ! فكان إذا خطب اليه الكفؤ، قال له: قد علمت قولي ? فيقول له الخاطب: قد علمتُ وقد أحضرت المالَ ? فيزوجه ويقبض المال منه ؛ ثم يقول له: أختم عليه بخاتمك، فإذا أدخل زوجته، بعدما يجهزها بما يصلحها، ويخدمه خادمين، ويدخل بيتها نفقة سنة دفع إليها صداقها مختومأَ بخاتم زوجها، ثم يقول لها: هذا مالك، وما جهزناك به صلة مناّ لكِ". وهي قصة مهما قيل فيها فإنها تشير إلى ثراء وغنى آل مخزوم.
وعكرمة بن أبي جهل من أغنياء قريش كذلك، ولما ندب "أبو بكر" الناس لغزو الروم، خرج معهم غازياً، فبصر "أبو بكر" بخباء عظيم، حوله ترابط ثمانية أفراس ورماح وعدة ظاهرة، فجاء اليه، فإذا خباء "عكرمة"، فعرض أبو بكر عليه المعونة، فقال: "أنا غني عنها، معي ألفا دينار، فاصرف معونتك إلى غيري".
وكان "الحكم بن ابي العاص بن أمية بن عبد شمس" من تجار مكة، وكان يخرج بتجارته إلى الخارج، فيذهب إلى الحيرة، للاتجار بسوقها. ومرّ "الحكم" بحاتم الطائي فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصل إلى "الحيرة" فأجاره ونحر له وأوصله الى الحيرة.
ومن أغنياء الطائف "مسعود بن معتب الثققي"، قيل انه كان له مال عظيم. وانه أحد من قيل فيه انه المراد من الآية: )على رجل من القريتين عظيم(. وكانت له مزارع بها أشجار كروم وفواكه، وله عبيد، وقصر ضخم.
ومن رجال الطائف الأغنياء "مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي"، كان غنياً يرابي بماله. ولإخوته ربا عند "بني المغيرة بن عبد الله"، فلما أسلموا طالبوهم، فقالوا: ما نعطي الربا في الإسلام، واختصموا إلى "عتاب بن أسيد"، فكتب به إلى النبي، فنزلت: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين".
ولا توجد لدينا قوائم بمقدار ما كان يملكه الأغنياء في الجاهلية من مال، وأقصد بالمال هنا: النقود، من دنانير ودراهم، لعدم وصول موارد مدوّنة فيها مثل هذه القوائم، إلا أن الموارد الإسلامية قد تطرقت إلى ذكر ما قدمه بعض من أسلم من النقود في سبيل الله،وبعض ما قدمه المشركون من أجل الدفاع عن مصالحهم، كما أشارت إلى أمور أخرى وردت فيها أعداد وأرقام، قد ترسم لنا صورة عن أموال بعض الأغنياء عند ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السير والتواريخ مثلاً أن الرسول استسلف من "عبد الله بن أبي ربيعة" أربعين ألف درهم، فأعطاه. واستقرض من "صفوان بن أمية" خمسين ألف درهم فأقرضه. واستقرض من "حويطب بن عبد العُزى" أربعين ألف درهم. فكانت ثلاثين ومائة ألف " قسمها بين أهل الضعف، فأصاب الرجل خمسين درهماً وأقل وأكثر، وبعث من ذلك إلى بني جذيمة.
وورد أن "المطلب بن أبي وداعة"، فدى أباه يوم بدر بأربعة آلاف درهم. وهو مبلغ يمكن أن يتحدث عماّ كان لدى آل "أبي وداعة" من مال. واستعان الأغنياء بخزنة يخزنون لهم أموالهم، ويكتبون لهم حساباتهم، فكانً ل "طلحة بن عبيد الله" خازن، يحفظ له ماله، ويشرف على أملاكه ونخله وزروعه. والخازن، هو الذي يحافظ على المال وخزنه، والخزانة مكان الخزن. وقد كانت الخزائن معروفة عند الجاهليين، وقد أشير إليها في مواضع من القران الكريم. وكان "بلال المؤذن" خازناً لأبي بكر، ثم صار خازناً للرسول، لما أعتقه "أبو بكر"، يقوم بحفظ ما يأتي إلى الرسول من بيت المال، ويعطي منه من يأمره باعطائه منه.
واتخذوا لهم محاسبين يحسبون لهم حسابهم، وتجار لهم قوافل ولهم شركات مساهمة، يساهم فيها كل من أراد من اهل مكة، كان لا بد لهم من استخدام المحاسبين، لحساب رؤوس أموالهم ومصاريفهم وتقدير أرباحهم وخسائرهم.
وقد "استعمل الرسول رجلاً من الأسد على صدقات "بني سليم"، يدعى "ابن اللتيبة"، فلما جاء حاسبه، فقد صح إن رسول الله حاسب. وبكتاب الحساب تحفظ الأموال". وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال آخرين عينّهم الرسول لأخذ صدقات المسلمين ومحاسبتهم عليها.
وقد استغل أهل مكة "الطائف"، فكانت لقريش أموال بها يأتونها من مكة فيصلحونها، فلما فتحت مكة وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها، حتى اذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين. وصارت الطائف مخلافاً من مخاليف مكة. وممن كان له مال بالطائف "العباس بن عبد المطلب"، كانت له بها أرض، بها كروم، فكان الزبيب يحمل منها فينبذ في السقاية للحجاج.
والتجارة من أهم موارد الثراء عند الجاهليين، وقد كان أكثر أغنياء مكة تجاراً. وأهم ما يمتاز به ثراء التاجر عن ثراء غيره من الأغنياء، هو أن ثراءه ثراء نقود، وتعامله بالدنانير والدراهم في الغالب، وأن ما يبيعه ويشتريه هو من منتوج ومحصول غيره، فهو وسيط، يكسب ربحه من البيع والشراء، اي من فرق السعر الذي يكون بين سعر شرائه وسعر بيعه، وقد يخسر بالطبع.. أما ثراء الأغنياء المزارعين، فمن بيع حاصلهم، ويزيد كسبهم كلما ارتفع سعر البيع، فتزيد به ثروتهم وتتوسع أرضهم. وأما ثراء سادة القبائل،فمن المال، أي الإبل، ومن الجباية والتعامل مع التجار ومن الجهود الشخصية التي يبذلونها في الحصول على المال، مثل حفر الآبار واستنباط الماء في الأرض الموات وغير ذلك.
ومن وسائل الثراء العثور على "الرِّكاز"، دفين أهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلى، والمال العادىّ يوجد مدفوناً. و " الركزة" واحدة الركاز، القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها، وقطع عظام مثل الجلاميد من الذهب والفضة تخرج من الأرض أو من المعدن. وأدخل بعض العلماء المعادن في الركاز. وخصص أهل الحجاز الركاز بالمال المدفون خاصة مما كنزه بنو آدم قبل الإسلام، وأما لمعادن ، فليست بركاز. وعرف الركاز ب " السيوب". وذكر أن السيوب المعادن وذكر أنها عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن ، أي تتكون فيه وتظهر، سميت سيوباً لانسيابها في الأرض. وذكر أنها المال المدفون في الجاهلية او المعدن. وقد وردت اللفظة في كتاب الرسول ل "وائل بن حجر" 0 إذ ورد " وفي السيوب الخمس".
وقد اعتبر الجاهليون " الركاز"،مالا" يأخذه من يعثرعليه، ونصيبا حلالاً، حكمه حكم اللقطة التي لا صاحب لها، أما الإسلام ت فقد فرض الخُمس في الركاز. وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه. فما استخرج من الركاز ، فلمستخرجه أربعة أخماس ولبيت المال الخمس.
ونجد السور المكيهٌ الأولى من سور القرآن، تصور أغنياء قريش، أناساً متغطرسين غلاظ الأكباد يرون أنفسهم فوق الناس، لغناهم ولمكانتهم بسبب ذلك في قولهم، وكان ضعف حال الرسول بالنسبة لهم، وصغر سنه من أهم العوامل التي دفعت أولئك الساده على مقاومته ومقاومة ما جاء به،خاصة في دعوته انصاف الفقير وإخراج حق الله المكَتوب للفقراء من أموالهم صدقة وزكاة،تزكية لأموالهم، وإسعافاً لفقرائهم، قال أبو لهب للرسول: "ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك ? قال: كما يعطى المسلمون ! فقال: ما لي عليهم من فضل. قال: وأي شيء تبتغي ? قال: تباً لهذا من دين، تباً أن أكون أنا وهؤلاء سواء".
ويصورهم القرآن الكريم قوماً ألهاهم التكاثر والتفاخر، تفاخروا بأموالهم وبوجاهتهم في قومهم، بل تفاخروا حتى بمن توفي منهم من سادتهم. لا يرحمون فقيراً، ولا يعطفون على يتيم، بل كانوا يأكلون أموال اليتامى، ويقهرونهم، ولا يعطونهم حقوقهم ، إذا جاءهم سائل انتهروه، وطردوه طرداً قبيحاً، واذا طلب محروم منهم عونأَ أبعدوه عنهم. واذا وزن بائعهم أنقص في الميزان، واذا كال قصر في الكيل: )ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم(.
ونجد هذه الصور البشعة المعبرة عن جشع بعض الأغنياء في كَتب السير والحديث والأخبار أيضا، اذ صورت بعضها بعضهم وقد اعتدى على أموال رجل غريب جاء يتاجر بمكة، فتلقاه تاجر من تجارها، عامله على سلعة له، ثم بايعه، فلما قبضها ماطله الثمن،ثم أكله. هذا "أبو جهل" ابتاع إبلاّ لرجل من "اراش" "اراشة" بمكة، فمطله بأثمانها، فأقبل "الاراشي" حتى وقف على ناد من قريش، ورسول الله في ناحية من المسجد جالس. فقال: يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام، فإني رجل غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي. فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس، يشيرون إلى رسول الله، وهم يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة، اذهب اليه فإنه يؤديك عليه. فذهب به إلى أبي جهل، وأخذ منه حقه، وأعاده عليه. وهذا رجل من "زبيد" قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه "العاصي بن وائل"، وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف، فأبوا أن يعينوه على "العاصي بن وائل" وزبروه. فلما رأى الزبيدي الشرّ أوفى على أبي قبيس وقريش في أنديتهم، فصاح بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعـتـه ببطن مكة نائي الدار والنفـر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت كرامـتـه ولا حرام لثوب الفاجر الغـدر
فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى اليه حقه. وعرف حلفهم هذا بحلف الفضول، ثم مشوا إلى "العاصي بن وائل"، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها اليه. فكان حلف الفضول نتيجة لما كان يقع بمكة من اعتداء على حقوق وأموال الغرباء والمستضعفين من الناس.
وذكر إن منهم من كان يأكل أجر العامل الأجير، ومنهم من كان يشتط على عبده، فيشغله في أشغال صعبة، ثم يطلب منه أجره، وقد يستقل أجره فيضربه ليحمله على إن يشتغل له أكثر من شغله، ليجيء اليه بمال زائد.ومنهم من كان يحمل إماءه على البغاء ليأخذ أجرهن، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم. وكما أشرت إلى ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب. ومنهم من كان لا يبالي للحصول على المال بسلوك أي سبيل يؤدي اليه.
وهي صورة تعارض ما نقرأه في أخبار أهل الأخبار عن تعاطف أغنياء مكة مع فقرائهم، وعن اخراجهم جزءاً من أموالهم لمساعدة البائس والفقير والصعلوك والغريب، حتى صار الفقير عندهم كالكافي وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء إلى غير ذلك من نعوت وأوصاف ، وكما جاء في شعر ينسب إلى "مطرود بن كعب الخزاعي". وما ذكروه عن الذادة الذين أخذوا على أنفسهم الذود عن الضعيف و المظلوم.
ونجد أناساً بين الأعراب كانوا يشعرون بما كان يعانيه الفقراء من شدة الفقر، ومن شدة ما أصاب بعضهم من إملاق، ومن اضطرار بعضهم إلى وأد بناته من شدة الفقر، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم، وهذا مما حمل بعض أصحاب القلوب الرحيمة الشفيقة على ودى البنات، وحمل مؤونتهن وبذل الرعاية لهن حتى يكبرن فيتزوجن. وقد ذكر إن من هؤلاء الذين وهبوا الشعور بالمسؤولية الإنسانية وبالشفقة والرحمة والحنان: "صعصعة بن ناجية بن عقال"، فقد أحيا الموءودات فبعث الرسول وعنده مائة جارية وأربع جوار أخذهن من آبائهن لئلا يوأدن.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق