1655
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الواحد بعد المئة
تجارة مكة
السلع
والأدم والزبيب والصمغ والطيب والتبر والبرد اليمانية الثياب العدنية والأسلحة ومصنوعات الحديد والمعادن الأخرى، هي من أهم السلع الرئيسية التي تتكون منها تجاره قريش، وبعض هذه السلع مهم وغال ومطلوب. فكان تجار مكة يشترونه من معادنه ومواضعه، ويبيعونه في الأماكن التي تبحث عنها، وتربح من ذلك ربحاً كبيراً. وقد كانت "الأدم" على رأس الأموال التي تاجرت بها، حتى إن قريشاً كانت قد جعلتها على رأس الهدايا والألطاف التي كانت تهديها إلى الملوك والرؤساء وأكابر الناس. فلما ذهب "أبو سفيان" الى العراق،ووصل الى "كسرى" كَما يزعم أهل الأخبار، أهدى اليه أدماً وخيلاّ، فقبل "كَسرى بن هرمز" الخيل وردّ الأدم. ولما أرسلت "قريش" "عبد الله بن اًبي ربيعة" و "عمرو ابن العاص بن وائل" إلى النجاشي ومعهما هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، جمعت له أدماً كثيراٌ، ولم تترك من بطارقته بطريقاً إلا وله هدية، فكانت الأدم على رأس ألطاف مكة و هداياها.
ومن العطور التي كانت معروفة بمكة: "الذرور"، عطر يجاء به من الهند كالذريرة، وهو ما انتحت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط، وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه بذريرة.
وأغلى سلع قريش التي كانت تحملها لبيعها في اًسواق بلاد الشام، هي "الفضة". ولما أرسل الرسول "زيد بن حارثة" على عير لقريش كان فيها "أبو سفيان"، وكانت قد غيرت طريقها الذي يسلك إلى الشام، وسلكت طريق العراق، كانت مع "أبي سفيان" فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم، فالتقى بها "زيد بن حارثة" فأصاب العير، وبلغُ خمس الرسول من الغنيمة عشرون ألفاً، ومعنى هذا إن قيمة الغنائم، كانت مائة ألف. وقد ذكر في خبر هذه السرية ان الفضة كانت آنية كثيرة، وسكت خبر اخر عن نوع الفضة، وانما ذكر إن "أبا سفيان" كان يحمل معه فضة كثيرة.
والأسلحة من أهم مواد التجارة التي كان يتاجر بها التجار. فالسلاح أداة ضرورية جداً بالنسبة إلى الأعرابي، فبه يدافع عن نفسه، وهو لا ينام إلا وسلاحه الى جانبه، حتى إذا ما شعر بأقل حركة، نهض وهو بيده ليدافع به عن نفسه. والتاجر نفسه مع انه انسان مسالم لا يميل بطبيعة عمله إلى حمل السلاح والتقاتل كان مضطراً مع ذلك الى حمله معه والى إستخدام العبيد والأعوان للدفاع عن نفسه وعن أمواله. ولهذا كان يحرص على شرائه من أي مكان يجده فيه ليدافع به عن نفسه، كما كان يتاجر. به لأن الاتجار به من أربح الأعمال في السوق، لإقبال الناس عليه، فكان يشتريه من صناعه ومن أسواقه.، ليبيعه لمن يطلبه بسعر أعلى، فيربح بذلك كثيراً من الفرق بين السعرين.
وكان لأهل مكة خاصة حس مرهف نحو التجارة. كانوا إذا سمعوا أجراس عير، هرعوا نحوها يلتمسون خبرها. فلما أقبلت من الشام عير لدحية بن خليفة الكلبي، أو لعبد الرحمن بن عوف، تحمل زيتاً أو طعاماً، وكان رسول الله يخطب يوم الجمعة، والناس خلفه صفوفاً، فلما سمعوا بها، جعلوا يتسللون ويقومون إليها، خشية أن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلاً وامرأة. وكانوا إذا أقبلت العِير، استقبلوها بالطبل و المزامير والكبر وااتصفيق. فلما نظر رسول الله الى المصلين وقد انفضوا من حوله، عنفهم ووبخهم، ونزل في حقهم ما نزل في الآية من ترك البيع حالة صلاة الجمعة.
ويتبين من كتب الحديث إن الصحابة كانوا يتعاطون التجارة، ويتكسبون في الأسواق، وقد كانوا نشطين جداً في ذلك، وكان اهل مكة أكثر نشاطاً من أهل المدينة في هذا الباب، فلا يكاد بعضهم يصل المدينة مهاجراً من مكة حتى يسأل عن اسوق، ويبحث عن رزق، فذهب بعضهم الى سوق بني قينقاع، وهي من أسواق يهود، فنجحوا فيها وحصلوا على ربح ومال أعالوا به أنفسهم. وقد كان في جملة ما أجاب به أبو هريرة، و قد قيل فيه: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، وان المهاجرين والأنصار لا يحدثون عنه بمثل حديث أبي هريرة: "إن اخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق الأسواق، وكنت ألزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، واحفظ إذا نسوا، وكان يشغل اخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصُّفة أعي حين ينسون". فالأنصار كانوا أصحاب زرع وأموال، والمهاجرون كانوا أصحاب تجارات.
وكانوا إذا التهوا في السوق وانصرفوا في التجارة ونسوا أمورهم الأخرى، قالوا ألهانا الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى تجارة وبيع وشراء. وقد أدى انصراف بعض الصحابة الى السوق وتعلقهم بالتجارة إلى انفضاضهم أحياناً عن الرسول وهم حوله، فورد في الحديث: "بينما نحن نصلي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت من الشام عير تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا اثنا عشر رجلاً، فنزلت: )واذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً".
وكان "العباس بن عبد المطلب" من أغنياء قريش، ومن المقرضين للمال بفضل يأخذه من المدين يضعه على رأس ماله. وقد بقي على ماله وثرائه في الإسلام كذلك. وكان الرسول قد أبطل ربا العباس في أول ما أبطل من ربا في الإسلام. وكان العباس يتاجر كذلك، له محل يتاجر فيه، ويستقبل التجار الغرباء. وقد ذكر أن "عفيف الكنديَ" كان فيَ جملة من تاجر معه في الجاهلية، وقد جاء اليه ليبتاع منه بعض التجارة.
ولما آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين،آخى بين "عبد الرحمن بن عوف"، وهو من المهاجرين، وبين "سعد بن الربيع"، وهو من أكثر الأنصار مالاً، فقال "سعد بن الربيع": "أقاسمك مالي نصفين وأزوجك". قال "عبد الرحمن": بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوّني على السوق. فدلوه على سوق قينقاع، فغدا اليه، ثم تابع الغدوّ، فما لبث أن جمع مالاً من تعامله بالسوق وصار من المثرين.
وقد كان "عبد الرحمن" تاجراً بمكة قبل هجرته إلى يثرب، وصاحب مال. فلعل الرسول أراد من مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، أن يساعد المهاجرون الأنصار وأن يتعاونوا معاً، كما كان شأن عبد الرحمن وسعد بن الربيع، وهما من أصحاب الخبرة والتجربة في العمل، فيفيدوا بذلك الإسلام بما يحصلون عليه من مال.
وقدً ذكر أهل الأخبار، أن عبد الرحمن، تصدق على عهد رسول الله، بشطر ماله، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة. وذكروا أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة وأنه أوصى لكل من شهد بدراً بأربعمائة دينار، فكانوا مائة رجل. وذكروا أنه كان تاجراً مجدوداً في التجارة، وكسب مالاً كثيراً، وخلف ألف بعير وثلاثة الاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً فكان يدخل منه قوت أهله سنة. وذكروا أنه صالح امرأته التي طلقها في مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفاً، وقيل عن ربع الثمن من ميراثه. ورووا أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبداً. وأنه كان يقول: "قد خشيت أن يهلكني كثرة مالي. أنا أكثر قريش كلهم مالا"".
وكان "أبو بكر" تاجراً معروفاً بالتجارة بمكة قبل الإسلام. ولقد بعث النبي وعنده أربعون ألف درهم، ولما أسلم كان يعتق منها ويعول المسلمين، حتى قدم المدينة بخمسة آلاف.
وكان "طلحة بن عبيد الله بن عثمان" القرشي التيمي، من تجار.مكة، ولما قدم المدينة مهاجراً، أخذ يتاجر مع "الشام"، وذكر انه اشترى مالاً ب "بيسان"، وان غلته تبلغ اًلفاً وافياً كل يوم. والوافي في وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم الفرس التي تعرف بالبغلية. وقد ساهم في حرب الجمل، التي وقعت سنة ست وثلاثين.
والزبير من رعيل التجار كذلك، وكان تاجراَ مجدوداً في التجارة، كان له ألف مملوك يؤدون اليه الخراج، وله أرضون واسعة وأموال طائلة.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق