إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 1 فبراير 2016

1654 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الواحد بعد المئة تجارة مكة


1654

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
    
الفصل الواحد بعد المئة

تجارة مكة

وكان أهل مكة من أبرع التجار ومن أنشطهم في العربية الغربية عند ظهور الإسلام، وقد أشير إلى تجارتهم في القرآن الكريم. وسبق إن تحدثت عن تجارتهم في أثناء كلامي على مجمل الحالة السياسية لجزيرة العرب عند ظهور الإسلام.

وقد استفاد أهل مكة، ولا شك، من الوضع السيئ الذي طرأ على اليمن بدخول الحبش إليها: ومن تردي الأوضاع السياسية فيها والاضطرابات المستمرة التي وقعت بتصادم الوطنيين والغزاة الأحباش. فانحسر كل نفوذ سياسي أو عسكري كان لحكومات اليمن في الحجاز أو على بعض القبائل، ووجدت قريش نفسها حرّة مستقلة وفي وضع يمكّنها من استغلال مواهبها في التجارة، فقامت بمهمة الوسيط، تنقل تجارة أهل اليمن والعربية الجنوبية إلى أسواق فلسطين، وتنقل تجارة بلاد الشام وحوض البحر المتوسط إلى الحجاز ونجد واليمن، وبذلك حصلت على أرباح طائلة عظيمة، جعلتها من أغنى العرب عند ظهور الإسلام، وصيرّت مكة مركزاً خطيراً من مراكز الثروة والمال في جزيرة العرب في ذلك الحين.

وقد وصف أهل الأخبار أهل مكة بترفعهم عن البخل والشح،فقال "الجاحظ" وهو يصفهم: "ومن العجب إن كسبهم لما قلّ من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعتريهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطى الملوك، وقروا الأضياف،ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت. فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد والداخل والراكب، واطعموا بدل الحيس الفالوذج". فمورد الكسب الأول عند العرب في الجاهلية هو الغزو على رأي أهل الأخبار، وقد ترفعت قريش عنه، وصرفت نفسها إلى التجارة. ومن طبع التجار البخل ومسك اليد، أما قريش، فخالفتهم في البخل، ووصلت الشعراء وقرت الأضياف. ونسب "الجاحظ" سبب تركهم الغزو إلى كونهم أهل حمس ديانين،فقال: "وكانوا ديانين،ولذلك تركوا الغزو، لما فيه من الغصب والغشم واستحلال الأموال والفروج من العرب". ويعتقد "الجاحظ"، بأن للدين أثراً كبيراً على سلوك الإنسان وعلى كره الحرب، إذ تراه يقول: "ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأهم، وذلك أنا قد علمنا إن الروم قبل التدين بالنصرانية كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالاً فلما صارت لا تدين بالقتل والقتال و القود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفاً، ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة وسرت في لحومهم ودمائهم، فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبين إلى أن صاروا مغلوبين". فالنصرانية قد أثرت على الروم حتى جعلتهم يكرهون الحروب، وصاروا مغلوبين بعدما كانوا غالبين. ثم جاء بدليل آخر على إثبات رأيه في إن الدين ينقص من شهوة الحرب، هو إن "التغزغز" من الترك، نقصت عندهم الشجاعة وذهبت عنهم الشهامة بعد إن دانوا بالزندقة. فالدين اذن مخفف من شهوة الحرب مرد من التعطش إلى القتال، لكنه على رأيه أيضاً، يحول المتدينين إلى أسود في المعارك، فقريش التي تركت الغزو بتة، كانوا مع طول ترك الغزو، إذا غزوا، غزوا كالأسود مع الرأي الأصيل والبصيرة النافذة، والخوارج على اختلافهم من أحرار وعبيد وموالي يقاتلون قتال الباسل المستميت مع اختلاف أنسابهم وبلداتهم، و" في هذا دليل على إن الذي سوّى بينهم التدين بالقتال"، وان استبسال قريش والخوارج وغيرهم من المتدينين "انما هو بسبب الديانة " ووحدة العقيدة وعامل الدفاع عنها والجهاد في سبيلها.

وقد نسب "الجاحظ" ميل قريش إلى التجارة واشتغالهم بها إلى تحمسهم في دينهم وتشددهم في الدين، فقال: "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتلامس والتشديد في الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب،فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم والى النجاشي بالحبشة والى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء".

فتحمس قريش في دينهم، حملهم على ترك الغزو، وترك الغزو حملهم على التكسب بالتجارة، فاتجار قريش في مكة وضربهم في الآفاق، هو بسبب البحث عن رزق يعوضهم عن رزق الغزو، الذي أبعده الدين عن قلوبهم، فكان ما كان من أمر تجارتهم. هذا هو رأي الجاحظ في السبب الذي حمل قريشاً على الانصراف إلى التجارة.

وفي القران: )ربنا إني أسكنت من قريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون(. فمكة بلد بواد قفر غير ذي زرع ولا ماء، ليس لأهلها ما لسكان الأرياف والقرى التي تملك المياه والأنهار من ثمرات النبات والأشجار، فصارت الطائف مصيفاً لهم، ومورداً يمدهم بثمر النبات والأشجار، واستغل أهلها فقر واديهم،وموقع مدينتهم الذي تمر به القوافل، وشجعوا من كان يسكن حولهم على الحج إلى معبدهم وعلى قصده أيام السنة وموسم الحج،فاستفادوا من الحجاج. وجعلوا الموسم سوقاً يتعاطون فيه البيع والشراء،فربحوا وصار لهم مال استثمروه وشغلوه، في سوق مكة وفي الأسواق الأخرى، وتعاملوا مع الأعراب، وعقدوا الإيلاف مع ساداتهم ومع الفرس والروم والحبش، فصاروا يخرجون إلى خارج مكة بأمان بفضل العقود والعهود التي عقدوها مع سادات الأعراب، وهي أهم في نظري من أي عقد آخر عقدوه مع حكام العراق وبلاد الشام أو اليمن، إذ كان في استطاعة الأعراب نهب قوافل مكة وسلب أموالها، وهي ذاهبة أو آيبة محملة، فلا يستطيع أهل مكة فعل شيء، ولا تبقى أية فائدة عندئذ لعقود الإيلاف المعقودة مع الحكّام المذكورين. وقد علم سادة مكة ذلك، فتعاقدوا مع سادات الأعراب، و أدو لهم نصيباً من الربح، وبذلك أمنوا جانب أعرابهم، فكانوا إذا تحرش بهم متحرش، أدّبه سادة قبيلته،واستعادوا منه ما أخذه من نهب وسلب.

وقوم هم أهل قرار، لهم بيت مقدس، ولهم تجارة، لا يفكرون في غزو، ولا يرتاحون من وجود أهل شغب وفتن بينهم. فالغزو سواء أكان منهم أو كان عليهم مضرّ بهم. ولا يعود عليهم بفائدة، بل هو يبعد القاصدين لهم عنهم، وفي ابتعادهم عنهم خسارة، ثم هو يعرقل تجارتهم ويحول دون اتجارهم، والتجارة مورد رزقهم وعليها معاشهم. وقريش من المستقرين، ومن التجار، ولهم معبد، فكان من صالحهم اشاعة الأمن والابتعاد عن التشاحن. وفض كل خلاف يقع فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين غيرهم بالتي هي أحسن، وجرّ الناس اليهم، والعمل على اكتساب صداقة أهل الحضر وأهل الوبر أيضاً، وعلى إنصاف الغريب الذي قد لا يجد له مجيراً من بيت أهل، مكة فيظلم، وعلى تقديم الرفادة للحجاج الضعفاء،وإسقائهم الزبيب المنبوذ بالماء في أيام الحج، وعلى شراء الألسنة، ألسنة الشعراء خاصة، لما كان لها من أثر في النفوس.

وللمنافع المادية التي كانوا يحصلون عليها من تآلفهم مع القبائل، حرصوا على ألا يؤذي أحد منهم أحداً من الغرباء،. فيثير قوم الغريب عليهم، لا سيما إذا كان ذلك الغريب من قبيلة تمر تجارة قريش بها. فلما عذب أهل "مكة" "أبا ذر الغفاري"،أقبل "العباس" عليهم، وقال: "ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام ?. فأنقذه منهم". فزهد قريش وعدم ميلهم إلى الاعتداء على الغرباء، لم يكن كما رأى "الجاحظ عن "تحمس" وعن دين، وإنما كان عن طمع في المال وفي الكسب وفي الحصول على كسب من تجارة تمر بطرق يجب أن تكون آمنة بالنسبة لها أمينة، ولا يكون ذلك الأمان ممكناً،إلا بتأليف قلوب سادات القبائل، والحرص على منع أهل مكة من الاعتداء على الغرباء.

بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إن كان صعلوكاً أو خليعاً أو مستهتراً بالعرف والأخلاق، أو قاتلاّ غادراً، أملاً في الاستفادة منهم، وفي عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون أموالهم لبيعها في الأسواق البعيدة، ولاستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من الأعداء والأعراب، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء عديد من أمثال هؤلاء، كانوا قد لجأوا إلى مكة وأقاموا بها واستقروا وعاشوا بها مجاورين لسادتها، آمنين على حياتهم لأنهم في جوار سيد من قريش.

وفيَ القرآن الكريم آيات تدل على وجود مستوى راق في مكة، وفي أماكن أخرى للتجارة والاقتصاد،وتدل على تنسيق وعمل منظم بين التجار. وقد وردت فيه إشارات إلى "رؤوس الأموال"، وهي الأموال الخالصة التي تشغّل في التجارة والتي تعطي أيضاً المحتاجين إليها لتربو ولتعطي صاحبها الربا، كما وردت فيه إشارات إلى البيع والشراء والقروض والرهون والشركات والتكاتب والتعامل التجاري وأمثال ذلك. وكل ذلك قد نظّم وهذّب وفقاً لقواعد الإسلام وصار أساساً لنظم التجارة والمال في الإسلام. ولهذا تستدعي دراسة النظم الاقتصادية والتجارة في الإسلام الرجوع إلى السناد، وسنادها هو نظمها وقواعدها قبل الإسلام.

ويظهر من كتب التفسير والسير إن أهل مكة كانوا يسهمون في رؤوس أموال قوافلهم التي يبعثون بها إلى بلاد الشام واليمن،وفي الأعمال التجارية الأخرى.

يسهم أفراد أسرة تجارية واحدة او جملة أسر، بل معظم أفراد مكة الأحرار في تلك القوافل، كل بحسب نصيبه لينعموا بالأرياح. وقد ساعدت هذه الشركة على إعانة أصحاب السهام وعلى مساعدة أهل مكة في رفع مستواهم المعاشي. وإذا كنا لا نملك موارد تتحدث عن أنظمة تلك الشركة أو الشركات وقوانينها، وعن كيفية توزيع الأرباح بين المساهمين، وعن أنواع تلك الشركات وأصول حساباتها ووكلائها في الخارج، فمن الميسور إن نظفر بقدر كبير من جذورها وأصولها في فصول الشركات والقضايا المتعلقة بتنظيم التجارة في الإسلام في كتب التفسير والحديث والفقه خاصة، ففي هذه الفصول إشارات كثيرة إلى شؤون التجارة والاقتصاد عند الجاهليين.

ويظهر مما ذكره أهل الأخبار وأوردوه عن قوافل مكة، أن مال القافلة، لم يكن مال رجل واحد ؛ أو أسرة معينة، بل كان يخص تجاراً من أسر مختلفة،وأفراداً وجد عندهم المال، أو اقترضوه من غيرهم فرموه في رأس مال القافلة أملاً في ربح كبير.فقد ذكروا أن قافلة قريش التي كانت في خفارة "أبي سفيان" والتي أثارت معركة "بدر"، كان رأس مالها مختلطاً، ساهم فيه كل متمكن من أهل مكة. حتى "لم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعداً إلا بعث به في العير".

ويظهر من سورة "قريش" أن قريشاً كانت ترحل رحلتين في السنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشام. وهما رحلتان تجاريتان،تشتري فيها وتبيع، وتربح منها ربحاً صيرها في وضع مالي حسن. وقد صارت مكة لذلك العهد مركزاً مالياً خطيراً في الحجاز، وسوقاً لتبادل السلع. ولم تكن قريش تستورد التجارة لتخزنها في مكة، أو لتصرفها في أسواق مكة وحدها،فمكة وحدها بلدة صغيرة لا تستوعب أسواقها هذه التجارة، بل كانت تستوردها من الشمال والجنوب، لتصرف ما يمكن بيعه في أسواق مكة وهو القليل،ولتصدر وهو الغالب ما استوردته من الجنوب إلى الشمال،أعني بلاد الشام،ولتصدر ما استوردته من بلاد الشام،الى اليمن ومنها إلى بقية العربية الجنوبية والسواحل الافريقية المقابلة، فتربح من هذه الصفقات ربحاً حسناً.

وتروي كتب أهل الأخبار أن قريشاً كانوا لا يخرجون عيراً فيرحلون إلا من "دار الندوة". فكأنها كانت منطلق التجار والتجارة. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك لكونها ندوة مكة ودار الرأي والحكم في هذه المدينة ومجلس أهل المال فيها.

وكذلك كان يفعل أهل المدن المتاجرة،تتحرك قوافلهم من ساحة مجالسها ليشاهدوا الناس، وإذا عادت أناخت في هذه الساحات أيضاً، ليراها أهل البلد، فتكون لهم فرحة تشبه أفراح العيد.

والرحلتان المذكورتان، هما من قوافل قريش الكبيرة التي كانت القافلة الواحدة منها تتألف من أكثر من ألف بعير، والتي يساهم فيهما كل من شاء ممن له مال من أهل مكة، ويريد الاتجار به، تشترك فيهما الأسر المعروفة بالغنى والتجارة من قريش ويساهم معها من له مال في ذلك الوقت، رجاء الربح والكسب. وقد كانت قافلة "أبو سفيان" التي أهاجت وقعة بدر من قبائل قريش كلها، وأخصها "بطون كعب بن لؤي". ليس فيها من "بني عامر"، إلا ما كان من "بني مالك بن حِسل"،ولذلك عرفت نفرة قريش إلى "بدر" ب "نفرة بني كعب بن لؤي".

وكانت قافلة "أبو سفيان" المذكورة، قد تاجرت ببلاد الشام وهمّت بالعودة إلى مكة، فلما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلاّ من الشام، بألف بعير، محملة بأموال عظيمة، ندب المسلمين اليه، وقال. هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها،فانتدب الناس، وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار، فبلغه خبر استنفار الرسول أصحابه، فأرسل "ضمضم بن عمرو" الغفاري إلى مكة، وأمره إن ياتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم إن محمداً قد عرض لها في أصحابه. فخرج إليها، فلما بلغها، وقف على بعيره ببطن الوادي، وقد جدع بعيره وحول رحله، وشق قميصه، ثم صرخ: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى إن تدركوها، الغوث، الغوث. فتجهز الناس سراعاً،وساروا حتى بلغوا "بدراً"، وكان "أبو سفيان"، قد غير طريقه حين سمع خبر خروج رسول الله بأصحابه، فساحل بقافلته وترك بدراً يساراً، وانطلق حتى أسرع فبلغ مكة، وكانت قريش قد نزلت "الجحفة"،فكتب إليها: انكم انما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا. وأمر بعض رؤساء قريش على ورود "بدر"، وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام. وفيه ماء، وعلى الإقامة ثلاثاً، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب وبمسيرهم وبجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبداً بعدها. ومضوا إلى بدر، فوقعت معركة بدر.

وما كان إصرار رؤساء قريش على المسير الى المسلمين لملاقاتهم في الطريق،اسلوباً من أسلوب التجار في الحفاظ على السمعة وفي الظهور بمظهر القوي المتمكن حتى لا يطمع بهم الطامعون ويتجاسرون عليهم. فكان خروجهم هذا نوعاً من التحدي ومظهراً من مظاهر اظهار القوة، لتخويف الغير، لعلمهم بقوتهم، فكأنهم أرادوا انزال ضربة بمن خرج مع الرسول لملاقاة القافلة، معتمدين على عددهم وقوتهم، حتى يتهيب المسلمون في المستقبل من التحرش بقوافلهم،وليكون ذلك درساً لهم. ولعلهم كانوا لا يريدون في الواقع الاشتباك مع المسلمين في قتال،وانما كانوا أرادوا مجرد تخويفهم واظهار أنفسهم مظهر القوي العزيز المهاب،كما يظهر ذلك من قول أهل الأخبار من أنهم كانوا أرادوا الاقامة ببدر ثلاثة ايام، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب وبمسيرهم وبجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبداً بعدها.

ولكن أبت الأقدار إلا إن يقع الاصطدام فوقع على نحو ما هو مذكور. وكانت "بصرى" سوق قريش في رحلتهم إلى بلاد الشام،عندما تقف قوافلهم وتحط رواحلهم، فيشترون ويبيعون ويمكثون حتى ينتهوا من تجارتهم ثم يعودون الى مكة. وكان منهم من يصل الى "غزة" ويتاجر في أسواقها، حيث تبيع أسواقها منتوجات حوض البحر المتوسط وما يرد إليها من "أوروبة" من تجارة. ويبيع التجار العرب فيها ما يحملونه من بلاد العرب من سلع مستطرفة مطلوبة في أسواق البحر المتوسط. وبها مات "هاشم بن عبد مناف" جد النبيّ، حين كان توجه للشأم بالتجارة، فأدركته منيته فمات بغزة وبها قبره، فقيل غزة هاشم.

والأدم، هي في رأس قائمة السلع التي كان يحملها أهل مكة إلى بلاد الشام، وكانوا يجمعونه من اليمن ومن الطائف ويحملونه إلى بلاد الشام والعراق. ومنه ما كان معمولاً مصقولاً معتنى به، زخرف بالذهب، لذلك عرف ب "المذاهب".

و "المذاهب" الجلود المذهبة. وهي من أرقى الجلود وأغلاها،يشتريها الأغنياء لاستعمالها في الأشياء الغالية الثمينة.

وتعّد اليمن من أهم الأماكن المصدرة لجلود البقر في جزيرة العرب، وقد كانت تحمل إلى مكة وإلى مواضع أخرى لبيعها في أسواقها منها البصرة في الإسلام،حيث كان التجار يحملون جلود البقر من اليمن إليها. واشتهرت أيضاً بعطورها لجودتها. روي أن "عبد الله بن أبي ربيعة" كان يبعث بعطر اليمن من اليمن إلى أمه "أسماء بنت مخربة"، أم "أبي جهل"، فكانت تبيعه إلى الأعطية،وكانت تضع العطور في قوارير، وتزنها، فتبيع نقداً أو ديناً. فإذا باعت ديناً كتبت مقدار الدين في كتاب. ولعل شهرة مكة بعطورها، إنما جاءتها من العطور المستوردة التي تأتي إليها من اليمن ومن أماكن أخرى.

وكان الزيت على رأس السلع التي كان يشتريها أهل مكة وتجار يثرب من بلاد الشام لصفائه ولنقاوته وجودته، وكان "دحية بن خليفة الكلبي" يتجر مع بلاد الشام بالزيت والطعام، وصادف رجوعه من الشام وقت صلاة الجمعة،والرسول يخطب، فلما سمع المصلون خلف الرسول صوت أجراس القافلة جعلوا يتسللون إليها، خشية إن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلاٌ وامرأة. فوبخهم الله بالآية )وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة،والله خير الرازقين(.

وقد عرف الزيت المستورد من الشام بالزيت الركابي،لأنه كان يحمل على الإبل من الشام.

ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شاكلة رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق.وإنما أشاروا الى تجار منهم كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهاب قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشام أو اليمن. ولم يشر القرآن الكريم أيضاً إلى رحلة جماعية الى العراق او الى موضع آخر. مما يدل على أن قريشاً كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشام في الصيف، والى اليمن في الشتاء فقط. أما رحلاتهم الأخرى، فلم تكن كبيرة ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحها لهم: لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم، فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة.

فقد رووا إن "أبا سفيان" كان يذهب بنفسه إلى العراق للاتجار، يحمل معه حاصلات اليمن والحجاز، ويعود بحاصلات العراق وبما يحتاج اليه أهل الحجاز واليمن من بضاعة. بل ذكروا انه كان يفد على "كسرى"،يحمل اليه الهدايا تقرباً اليه. ذهب اليه مرة، ومعه خيل وأدم، فقبل "كسرى بن هرمز" الخيل وردّ الأدم وأعطاه هدايا وألطافاً. وكان من مصلحة كسرى التقرب إلى أهل مكة، فقد كانوا تجاراً، وكانوا على طريق مهم وفي مركز خطير من الناحية السياسية والتجارية، كما كان نفسه يتاجر مع العرب ويتبايع معهم، لذلك كان من مصلحته مجاملة أهل مكة والاتصال بهم.. وذكر انه قد كانت له صلات برؤساء وتجار الحيرة، وبملوكها أيضاً، يحمل اليهم الهدايا، ويأخذ منهم ألطافهم، ثم يعود بما يجده في أسواق الحيرة من تجارات. قدم مرة على عمرو بن هند، أو النعمان بن المنذر، فوجد عنده "مسافر بن عمرو بن أمية القرشي"، وكان قد ترك مكة ونزل الحيرة، وهو في قبة من أدم حمراء، أمر الملك بضربها له، إكراماً له، وكان الملك إذا فعل ذلك برجل، عرف قدره ومكانته، فالتقى ب "مسافر".

وكان أبو سفيان - كما يقول أهل الأخبار - تاجراً يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحياناً بنفسه، وكانت اليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحبسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس. وكان صديقاً للعباس،ونديمه في الجاهلية.

وكان "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وهو من رجال قريش جمالاً وجوداً وشعراً، ومن فتيانها، ممن يتاجرون مع العراق، ويربح من تجارته هذه ربحاً طيباً، وكان هلاكه بالعراق. فقد كان قد خرج في تجارة إلى الحيرة، فهاك بها عند "النعمان بن المنذر"، ورثاه "أبو طالب".

وكان "عبد الله بن جدعان" من أثرياء مكة ومن تجارها. ذكر أنه تاجر مع الحيرة. ويظهر مما ذكره أهل الأخبار عنه، أنه كان ثرياً جداً، وربما عدّ أثرى قريش في أيامه، واليه تنسب قصة ادخال "الفالوذج" الى أهل مكة، حيث يذكرون أنه تعلمها من أهل العراق، وجاء ومعه طبّاخ خاص ليطبخ له طبيخ الحيرة وأهل فارس.

وكان "العاص بن واثل هاشم" السهمي من تجار مكة، الذين رحلوا بتجارتهم إلى خارج مكة. وكان من أشراف قريش. وقد مات بالأبواء.

ولعله كان خارجاً في تجارة له فمات هناك. ومن ولده "عمرو بن العاص". وقد أسلم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة معاً. وكان تاجراً كذلك. ويذكر "ابن كثير" أن "عمرو بن العاص" وفد على "مسيلمة"، و ذلك بعد ما بعث رسول الله وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة ? فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي ? فقال: )والعصر إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر(. ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو ? فقال: يا وبر يا وبر، وانما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو ? فقال له عمرو، والله انك لتعلم أني أعلم انك تكذب. والرواية موضوعة، فسورة "العصر" من السور المكية ورقمها "27" حسب ترتيب نزول السور بمكة على رأي العلماء، أي قبل الهجرة، وقبل إسلام "عمرو" بزمن، وقبل مجيء "مسيلمة" إلى المدينة مع وفد حنيفة، وبعد مجيئه إليها بدأت دعوته بمعارضة الرسول. ثم إن جملة: "ماذا أنزل صاحبكم في هذه المدة ?"، جملة تشعر إن "عمرو بن العاص " كان مسلماً إذ ذاك، بينما كان هو من المشركين في ذلك العهد. ثم إن ما نسب إلى "مسيلمة" من آيات، وضع على وزن آيات القرآن ومحاكاة لها، وليس في: "يا وبر يا وبر الخ" أي شيء يضاهي: "والعصر" في النسق أو في المعنى، وعندي أن الخبر من الأخبار الموضوعة. وقد يكون "عمرو بن العاص" قد زار اليمامة، فهذا شيء غير مستبعد. فقد كان تاجراً وكان تجار مكة يسافرون إلى اليمامة والى غيرها للاتجار، أما أنه ذهب خاصة لزيارة "مسيلمة" ومكالمته على نحو ما يرد في الخبر، فأسلوب يدل على وجود الصنعة فيه أكثر مما يدل على الصحة وصدق الرواية.

وقد عرف أهل الحيرة بنشاطهم في الأسواق وباتجارهم مع أسواق جزيرة العرب وغيرها، حتى قيل: "إنك لا ترى بلداً في الأرض ليس فيه حيري".وقد كانت الحيرة نفسها سوقاً مقصودة، تشتري وتبيع، يأتيها التجار من مختلف الأمكنة، وموضع تجاري على هذه الشاكلة لا بد أن يذهب أهله إلى الأسواق الأخرى للبيع والشراء.وقد عرف أهل الحيرة بحذقهم في الصيرفة وفي بيع الفلوس. قيل لأحد اهل الحيرة ممن يتعاطى الطب: "ما لأهل الحيرة وللطب. عليك ببيع الفلوس في الطريق".

وكان تجار الحيرة يزورون مكة للاتجار بها، ولهم مع تجارها عقود وجوار وتجارة، فإذا ذهب أحدهم إلى مكة نزل على حليفه وجاره، ثم باع ما عنده من تجارة، واشترى ما يجده بمكة من سلع مطلوبة مرغوبة ثم يعود الى الحيرة. وكان منهم من كوّن مع حلفائه من أهل مكة تجارة مشتركة تتعامل بالحيرة وبمكة وبمواضع أخرى، وتسوي أشغالها بالمراسلة، يدير الحيريون منهم أعمال الشركة بالحيرة، ويدير المكيون منهم أعمالها بمكة، ثم يتراجعون في الحساب، ويقتسمون الأرباح والخسائر على وفق ما اتفقوا عليه.

وقد كانت تجارة قريش تجارة واسعة، وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة، لتتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبشة كذلك، كأن يتولى هؤلاء التفاوض مع الحكومة هناك في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كان اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقاً ودائماً، ويظهر انهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم واشتغالهم في تلك البلاد.

وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها بقيادة قوافلها، إلى بلاد الشام أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" استاؤوا من خبر هجرته استياءً كبيراً،.لعلمهم بأهمية موقع "يثرب"، وبما سيقوم به المسلمون من التعرض بقوافلهم ومن تحرشهم بتجارهم وفي هذا العمل نكبة عظيمة تصيب تجارتهم وأرباحهم ومنافعهم المادية. فتشاوروا في أمرهم وتناقشوا، وقالوا: "قد عوّر علينا محمد متجرنا وهو طريقنا " وقال "أبو سفيان" و " صفوان بن أمية": "إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا"، وقال أيضاً: "كناّ قوماً تجاراً، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا"، وقال غيره مثل ذلك من كلام، يشعر بمقدار الأضرار والخسائر التي منيت بها تجارة قريش بسبب هجرة الرسول إلى يثرب واعتراضه طرق القوافل. لا سيما بعد أن تبين لها إن جميع السبل التي فكرت في سلوكها لتسيير قوافلها عليها، هي غير أمينة ولا سالمة، وأن المسلمين قد أخذوا يباغتون قوافلهم حتى في الطرق الجنوبية المؤدية إلى اليمن والطرق البعيدة الى تؤدي إلى العراق.

وقد وقف المسلمون لقريش بالمرصاد، وأخذوا باعتراض قوافلهم، فما كادت تمضي سبعة أشهر من مقدم الرسول المدينة، حتى أمر "حمزة" بالتوجه إلى ساحل البحر من ناحية العيص، للتحرش بعير لقريش كانت قد جاءت من الشام تريد مكة، فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب، فكان خبر هذه السرية أول خبر سيء يبلغ مسامع قريش. وقد نجت القافلة، إلا أن الخبر جعل قريشاً تشعر أنه سيكون مقدمة لأخبار سيئة ستصيب مصالحها التجارية وحياتها الاقتصادية، ولن يكون لها من نجاة، إلا بالتهيؤ للقضاء على الرسول والإسلام، كما فكرت في وضع خطط لتغيير طرقها التي تسلكها في ذهابها إلى الشام باتباع طرق بعيدة سالمة، تكون بعيدة عن المسلمين، وقد سلكتها فيما بعد، حين ضيق المسلمون على قوافلها التي كانت تسير على الطرق المألوفة، فتبين أنها لم تكن سالمة أيضاٌ وأن المسلمين أخذوا يهاجمونها على كل طريق، مهما كان.

وكان من غيظهم على الرسول، ومن تأثرهم بما أصاب تجارتهم من خسارة وضرر، إن لقبوا الرسول ب "القاطع". ولما ذهب "الحجاج بن علاط"، إلى مكة، وكان تاجراً له مال بمكة أودعه زوجته، ومالاً متفرقاً في تجار أهل مكة، وكان مسلماً يكتم إسلامه، قالوا له: أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا إن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلدة يهود وريف الحجاز. فنعتوا الرسول ب "القاطع" لأنه قطع عليهم تجارتهم وهدد طرقهم التي يسلكونها للوصول إلى أسواق الشام وبلاد العراق.

ولما كان الشهر الثامن من مقدم الرسول المدينة، أرسل سرية إلى بطن "رابغ" بلغت "ثنية المرة"، وهي بناحية الجحفة، لتقابل عيراً لقريش، اختلف في أمرها، فقيل: كان "أبو سفيان"، وقيل بل "مكرز بن حفص"، وقيل "-عكرمة بن أبي جهل". فكان بين المسلمين والمشركين رمى، و نجت القافلة.

وكانت كبيرة على ما يظهر، إذ كان عدد رجالها، أي حراسها مائتين. ورجع المسلمون دون ان يغنموا شيئاً، وقد كانت السرية انذاراً آخر لقريش بالخطر الذي سيلحق بتجارتها وبمصالحها المادية وبأن ما كانت تربحه من أرباح لن يدوم لها فيما بعد.

وقد تمكن "أبو بصير" من إنزال ضربات موجعة بتجارة قريش، اختار "العيص"، وهو ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام موضعاً ينقض منه على قوافل قريش، فيسلب ما فيها من مال ويقتل من يقتل من المارة، حتى ضيق عليها، وهرب اليه من كان بمكة محبوساً من المسلمين، حتى تجمع عنده قريب من سبعين مسلماً، أغار بهم مرة على ركب كان يريد الشام، معهم ثمانون بعيراً، فأخذوا ذلك وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين ديناراً. فغاظ قريش تضييق "أبو بصير" عليهم، حتى كتبوا إلى رسول الله يسأله بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير اليه ومن معه. فكتب اليه إن يعود ومن معه.

ولما عقد صلح "الحديبية" و كانت الهدنة بين قريش والرسول، استراحت  

"قريش"، وإن بقيت خائفة من أن لا تجد أمناً لها، فأرسلت قافلة في نفر من قريش فيها "أبو سفيان"، إلى "غزة" متجرها فيَ بلاد الشام، فوصلت سالمة الى هناك، وتاجرت ثم عادت وذكرت كتب التأريخ والأخبار أسماء عدد من رجال مكة كانوا يخرجون إلى التجارة بأموالهم وأموال غيرهم من أمثال أبي العاص زوج زينب بنت رسول الله، وكان يخرج تاجراً إلى الشام. وكان رجلاّ مأموناً، يخرج بماله وأموال رجال من قريش أبضعوها معه. وقد عرف "بالأمين"، وكان من رجال مكة المعدودين مالاً وأمانة وتجارة، يخرج بماله وبمال غيره تاجراً، يأتمنون به، ثم يعود فيؤدي الى كل ذي مال من قريش ماله الذيَ كان أبضع معه. وكان آخر خروجه تاجراً بأمواله وبأموال قريش قبل الفتح، خرج الى الشام فلما انصرف قافلا" لقيته سرية لرسول الله، أميرهم "زيد بن حارثة"، وكان أبو العاص في جماعة عير، وكان زيد في نحو سبعين ومائة راكب، فأخذوا ما في تلك العيرّ من الأثقال وأسروا منهم ناساً، فاستجار "أبو العاص" بزينب، فأجارته، ورد الرسول الأموال والأسرى إليه، وعاد مع القافلة إلى مكة، فأدى الى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه، ثم أعلن أمام قريش شهادة الإسلام، وتركهم فقدم يثرب مسلماً، ورد رسول الله ابنته عليه.

ومن تجار قريش "صفوان بن أمية بن خلف"، ذكر انه كان أحد العشرة الذين اليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام من عشرة بطون. وكان أحد المطعمبن في الجاهلية والفصحاء، وأحد أشراف قريش، واليه كانت الأيسار، وهي الأزلام، فكان لا يسبق بأمر حتى يكون هو الذي يجري يسره على يديه.وكان يقال له: "سداد البطحاء". وهو أحد المؤلفة قلوبهم. وكان غنياً، وكذلك كان أولاده. ورد في الحديث: إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية، وقنطر أبوه، أي صار لهما مال كبير، كأنه يوزن بالقنطار، فهما من أسرة ثرية ثقيلة الثراء.

وتعدّ أيام مغادرة القوافل وأيام عودتها سالمة، من الأيام المشهودة في مكة، يخرج فيها أهل البلدة لتوديع القافلة متمنين لها النجاح والفلاح والعودة سالمة بربح وافر كثير، داعين آلهتهم ان تبارك في رجالها وتمنحهم العون والفلاح في البيع وفي وقايتها من شر السفر ومن أذى الأشرار قطّاع الطريق. ويخرج فيها أهل مكة فرحين مستبشرين، لاستقبال القافلة قادمةً من سفرتها البعيدة وهي محملة بسلع جديدة وبثمن ما باعته من سلع وما ربحته من فروق الأسعار: سعر الشراء وسعر البيع، حتى إذا ما بلغت القافلة مكة، كان أول واجبها زيارة رئيسها وأصحابها "البيت الحرام" لرفع الحمد والشكر إلى رب البيت على ما أنعمه عليها من الأمن والسلامة وما رزقها من ربح. ثم يعود مع أصحابه إلى بيوتهم ليستريحوا وليقوموا بتصفية حسابهم، واعطاء كل واحد من المساهمين في رأس مال القافلة نصيبه من الربح.

وقد ذكر أن قريشاً كانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً، وأن قافلة "ابي سفيان" التي كانت سبب وقعة بدر،كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار،فسلّم أبو سفيان إلى أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً.

وقد اشتهرت بعض الأسر من قريش بالتجارة مع الأقطار البعيده عن مكة. وقد ذكر أهل الأخبار أن بني "عبد مناف" المعروفين ب "أصحاب الإيلاف" كانوا أسرة ثرية غنيّة اختصت بالاتجار مع الخارج. وكانوا أربعة أخوة، هم: هاشم، وكان يؤالف الروم، فأمن في تجارته الى الشام. أما الأخ الثاني، فعبد شمس، وكانت تجارته مع الحبشة. وأما الثالث فكان المطلب، وكان يرحل إلى اليمن. وأما الرابع، فهو نوفل، وكان يرحل إلى فارس. وقد عرف هؤلاء ب "المتجرين " وب "المجبرين" وب "المجيرين".

ولم يكن الإيلاف إيلافاً مع الروم أو الفرس أو الحبشة، وإنما كان إيلافاً مع سادات القبائل. فبفضل العقود والعهود التي عقدها "هاشم" واخوته مع سادات العرب أمكن مرور قوافل مكة بأمن وسلام نحو العراق وبلاد الشام واليمن والحبشة. ولولا هذه العقود التي جبرت قلوب سادات القبائل بتقديم حقوق مرورٍ لهم، أو بإشراكهم في مال القافلة، بحمل تجار مكة ما عندهم من سلع لبيعها على حسابهم، وتقديم ثمنها مع الربح الذي جاؤوا به على سعر البيع المقدر، لما كان في إمعَان قريش ضبط أولئك الأعراب ومنعهم من التحرش بقوافلهم ومرورها إلى الأسواق بأمن وسلام.

ويرجع أهل الأخبار مبدأ "الإيلاف" وخروج قريش من مكة بالقوافل إلى بلاد الله الأخرى إلى "هاشم بن عبد مناف"، فهم يذكرون إن قريشاً كانوا تجاراً " وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، انما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون،وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر فقيل له: ها هنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وانما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث اليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت إن تكتب لي كتاباً تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك مما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم ! فكتب له كتابَ أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مرّ بحيّ من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافاً - والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف انما هو أمان الطريق - وعلى ان قريشاً تحمل اليهم بضائع فيكفونهم حملاتها ويؤدون اليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهمُ يجوّزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة. وخرج المطلب ابن عبد مناف إلى اليمن فأخذ من ملوكهم عهداً لمن تجر اليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاضم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف،وكان يسمى "الفيض" وهلك بردمان من اليمن. وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافاً كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون. وخرج نوفل ابن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه فأخذ عهداً من كسرى لتجار قريش وإيلافاً ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والاسلام". وبهذا القصص، أوجد أهل الأخبار مبدأ الإيلاف، و مبدأ خروج قريش بالتجارة إلى الأقطار المذكورة. ويكون عمل "آل عبد مناف" وفق هذه القصة، عملين: أخذهم أماناً من الملوك المذكورين بمعاملة قريش معاملة حسنة وحمايتهم لهم في أرضهم من كل تعدّ قد يقع عليهم، ومراعاتهم مراعاة خاصة حين مجيئهم اليهم للاتجار، معاملة الأحسن حظوة بين التجار الذين يتاجرون في أسواقهم، والعمل الثاني، هو عقدهم الإيلاف مع سادات القبائل الذين يمرون بهم في ذهابهم وإيابهم إلى الشام والعراق واليمن والحبشة، بأن يأمنوا عندهم في أرضهم، ولا يعتدى على أحد منهم.

وموضوع ذهاب هاشم واخوته إلى الشام أو العراق أو اليمن أو الحبشة،موضوع طبيعي لا داعي إلى اثارة الشك حوله، فقد وجدنا أن غيرهم من تجار مكة كانوا يتاجرون مع الأماكن المذكورة، تاجروا معها قبلهم وتاجروا معها بعدهم، أما أنهم التقوا بقيصر وبكسرى وبالنجاشي وبتبابعة اليمن، وتعاقدوا وتعاهدوا معهم، فقضية أخرى فيها نظر، وقد عوّدنا أهل الأخبار على سماع مثل هذا القصص. وكل ما نستطيع أن نصوره فيما لو صدقنا بالخبر، هو أن أولئك الأخوة قد قابلوا بعض موظفي الحدود وتصادقوا معهم وقدّموا لهم بعض الهدايا، فصاروا يتساهلون معهم في جباية الأعشار وفي أخذ حقوق المرور، فشاع بين قومهم أنهم تعاقدوا مع أولئك الملوك.

والإيلاف، العهد والذمام وشبه الإجازة بالخفارة، من ألف بينهما تأليفاً، أوقع الألفة وجمع بينهما بعد تفرق ووصلهما، ومن ذلك المؤلفة قلوبهم، أمر النبي بتألفهم، أي بمقاربتهم وإعطائهم من الصدقات ليرغبوا من وراءهم في الإسلام، ولئلا تحملهم الحميةّ مع ضعف نياتهم على أن يكونوا مع الكفار على المسلمين. وصار أهل مكة، بفضل الإيلاف، آمنين امتيارهم وتنقلاتهم شتاءً وصيفاً والناس يتخطفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم أحد. فالإيلاف العهود التي أخذتها قريش من سادات القبائل إذا خرجت في التجارات فتأمن بها.

وقد عرف أصحاب الايلاف،وهم الاخوة الأربعة أبناء عبد مناف ب "المجيرين"إذ كانوا يؤلفون الجوار يتبعون بعضه بعضاً، يجيرون قريشاً بميرهم ويجبرون فقيرهم، ولذلك قيل لهم "المجبرين".

وذكر أن كل واحد من الأخوة المذكورين أخذ حبلاّ من ملك. فأما هاشم فإته أخذ حبلاً من ملك الروم، وأما عبد شمس، فإنه أخذ حبلا" من النجاشي. وأما المطلب، فإنه أخذ حبلاّ من أقيال حمير. وأما نوفل، فإنه أخذ حبلاً من كسرى، فكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء.

و "الحبل" العهد والذمة والايمان، يقال كانت بينهم حبال فقطعوها، أي عهود وذمم. وذلك أن العرب كانت تخيف بعضها بعضاً فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من سيد قبيلة فيأمن بذلك ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى أخرى فيأمن بذلك. والحبل الحلف أيضاً والعصم. فالحلف بمعنى العهد بين القوم والمعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. وقد كانت الأحلاف كما سبق أن تحدثت عنها من أهم سمات الجاهلية، وقد نهي عنها في الإسلام، لما كانت توقعه من أضرار في المجتمع بسبب التكتلات والتحزبات والعصبية التي تؤدي إلى القتال. فورد: لا حلف في الإسلام وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كَحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه الرسول: وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة. يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام.

وكانت للعرب تعابير ومصطلحات في اعطاء العهد والأمان، ومنها مصطلح: "لا بأس". والبأس العذاب والشدة والخوف، وإن قال الرجل لعدوه لا بأس عليك، فقد أمنه، لأنه نفى البأس عنه. وهو في لغة "حمير" "لبات".

وبفضل اتباع سياسة تأليف قلوب القبائل، باشراك ساداتها في تجارة قريش، أو اعطاء سادتها جعالة مرور، أو هدايا، أو بالتصاهر معها، أو باكراء إبلها لنقل تجارة قريش، تمكنت قريش من تأليف قلوب سادات القبائل، فأمنت على نفسها، وصارت قوافلها تخرج في أي وقت شاءت من أوقات السنة في الشهور الحل أو في الشهور الحرم. لا تخشى بأساً، حتى انها صارت تعطي أمانها لغيرها، وبذلك ألفت القبائل الأخرى التي لم تكن لها عقود وإيلاف وحبال مع القبائل المحالفة لقريش، فصارت تحمل كتاب أمان قريش وشعارها، وهو ما عضد من شجر الحرم، يوضع حول العنق، على ما يزعمه أهل الأخبار، فيكون جواز سفر وكتاب مرور.

والإيلاف، أي عقد "الحبال" مع سادات القبائل، عمل مهم جداً بالنسبة لكل صاحب عمل وتاجر. إذ يتمكن التاجر به من حماية نفسه وماله ومن المرور بأمن وسلام، دون أن يتعرض لخطر النهب والسلب، وهو حتى إذا تعرض للخطر، فإن سيد القبيلة بنفوذه وبسيادته على قبيلته كفيل بأن يعيد اليه ما انتهب منه. ولهذه الأهمية، عقدت قريش الحبال مع سادات القبائل الذين تمر تجارة تجارها بأرضهم. عقدتها قريش، أو أمضاها تجار من تجارها،بما لهم من صداقة وصلات زواج وروابط بسادات القبائل، ولا سيما بسادات قبائل المناطق التي تمر الطرق التجارية بأرضها، فلهذه القبائل بالذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى كل تاجر، وللحكومات بصورة خاصة بالطبع، ولهذا تنافست على الاستحواذ عليها حكومات اليمن وحكومة الحيرة، والساسانيون. وقد رأينا "امرأ القيس" المتوفى سنة "328" للميلاد يصل بجيشه إلى "نجران" مدينة "شمر"، ورأينا في خبر سجل بالمسند وصول جيوش اليمن إلى أرض الخليج. فلهذه الأرضين، كاليمامة ونجد والبحرين أهمية كبيرة بالنسبة للتجارة في جزيرة العرب لمرور الطرق البرية التي تربط العربية الجنوبية بالعربية الشمالية وبالعراق وسواحل الخليج بها، ولمرور الطرق التي تربط العربية الغربية بالعربية الشرقية وبالعراق بأرضها. وقد رأينا كيف تعرضت قافلة "كسرى" التي قدمت من اليمن، قاصدة المدائن إلى السلب والنهب، وكيف تعرضت "لطيمة" النعمان إلى النهب في هذه الطرق.

ويذكر أهل الأخبار، إن تجار اليمن والحجاز، كانوا يتحفزون بقريش، إذا كانوا بأرض مضر. وان قريشاً استفادوا من عقدهم الإيلاف مع تميم وأسد، و "بني عمرو بن مرثد" من "بني قيس بن ثعلبة"، ومع قبائل "ربيعة" عامة. و "مضر" و "ربيعة"، هي من قبائل نزار، و "قريش" نفسها من ولد "مضر بن نزار" في عرف النسابين، فإذا أخذنا بذلك علماً، استطعنا القول إن هذا النسب، انما هو مصالح تجارية وروابط سياسية مصلحية، جمعت هذه القبائل في "بوتقة" مصالح مشتركة، فأوجدت منها هذا النسب الذي أفاد أهل مكة كما أفاد القبائل الأخرى المشتركة فيه، والتي كانت تتاجر في أسواق مشتركة فتبيع وتشتري وتنتفع بفضل هذا النسب السياسي.

وللنسب أهمية كبيرة في تأليف القبائل وفي المحافظة على الأمن في البوادي. واتصاهر هو من أهم الروابط التي كانت تربط بين القبائل وبين الأفراد، ومن هذه الأهمية ظهر ااتصاهر السياسي والتصاهر الاقتصادي، عند الملوك وعند سادات القبائل والأشراف، فصاهر رجال من قريش قوماً من "تميم" ومن "بني عامرابن صعصعة" ومن يثرب واليمن، وصاهر ملوك الحيرة سادات القبائل المعروفة، للاستفادة من المصاهرة لمآرب سياسية واقتصادية، بالحصول على تأييد قبائل أولئك السادة: ولمرور تجارتهم من أرضهم بأمن وسلام. وقد كانوا يعرفون كيف يختارون من يصاهرونه بالطبع، يختارونه لكثرة عدد أبناء قبيلته ولمنزلتها ولمكانتها بين القبائل، ليتخذوا منه قوة في تأديب القبائل الأخرى. وهو عمل لم يكن سادات القبائل، في جهل من أسبابه، وفي غفلة عن ادراك كنهه، لذا كانوا يتاجرون به، كما تاجر به الملوك، أو سادات القبائل، فيشترطون فيه شروطاً فيها مكاسب ومنافع لهم. كأن يطعمهم الملوك "الطعم" ويعطونهم الآكال، ويجعلون لهم جباية الطرق، وبعض الامتيازات على القبائل الأخرى، ويجعلونهم على مقربة منهم في مجالسهم، ويقربونهم بذلك على غيرهم من السادات.

وقد كان لهذا التقديم الحضري أهمية كبيرة في نفوس القبائل، فهو عندهم أمارة من أمارات التشريف والتقدير. والأعرابي وإن ازدرى الحضر والحضارة، يقر مع ذلك في نفسه بتفوق الحضري عليه، إن لم يكن بالسلاح وبالقتال، فبالحيل والغش والخداع كما يرى الأعرابي ذلك، أي باستعمال الحضري ذكاءه المبني على التجارب والتقدم في مستوى الحياة في التغلب على الأعراب البسطاء الذين وإن كانوا أذكياء بالبديهة، لكن ذكاءهم لايكافيء ذكاء الحضر في التخاص من المتاعب والورط المعقدة التي تحتاج إلى خداع.

وقد افتخر سادات القبائل اللذبن كان مستواهم العقلي فوق مستوى قبائلهم بكثير- بفضلى اتصالهم بالحضر، وزياراتهم "الأرياف" وبيوت الملوك، بل البلاد الأعجمية المتقدمة أيضاً - بهذا التقديم، واعتبروه شرفاً وتعظيماً، فأكثروا من زيارة الملوك، وانتهزوا المناسبات للاتصال بهم، وأفتخروا بما كانوا ينالونه. منهم من عطايا وصلات وخلع، وهو تكريم كان يؤدي أحياناً الى نتائج محزنة، بسبب مبالغة بعض الملوك في تكريم سيد قبيلة، وتقديمه على غيره من السادات، مما كان يثير حقد بقية السادات، الذين قد تتهيج عواطفهم عندئذ لهذا التقديم، وقد يعتبرونه إهانة خاصة قصد توجيهها اليهم، فينتقمون ممن قدم عليهم، أو ينتقمون من الملك، بالإغارة على أرضه وأمواله. ونجد تأريخ الحيرة مليئاً بحوادث سببها إسراف بعض الملوك في الانصياع لعاطفتهم بتقديم سيد قبيلة: وتأخير آخر بإجلاسه في مكان هو دون المكان الذيَ كان من اللازم اجلاسه فيه من مجلس الملك. ولقرب المكان وبعده من الملك ومن صدر المجلس أهميةَ كبيرة عند سادات القبائل وفي عرف المجتمع آنذاك، حتى صار ذلك سنة لهم، اتبعوها في مجالسهم أيضاً، فإذا دخل الناس مجلس سيد القبيلة جلسوا حسب منازلهم وأقدارهم في مجتمعهم، على الرغم من مظاهر "الدمقراطية" والمساواة التي تظهر عليهم، والتي تبدو عندهم في مخاطبة بعضهم بعضاً.


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق