إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

162,215

الاثنين، 1 فبراير 2016

1661 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الرابع بعد المئة الاسواق اسواق العرب الموسمية


1661

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
    
الفصل الرابع بعد المئة

الاسواق

اسواق العرب الموسمية

وللعرب أسواق يقيمونها شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها سائر العرب بما عندهم من حاجة إلى بيع أو شراء. وتقع هذه الأسواق في مواضع مختلفة متناثرة من جزيرة العرب. فهي إذن أسواق عربية. وهناك أسواق أخرى قصدها العرب للاتجار في مواسم وفي أوقات مختلفة، كانت خارج جزيرة العرب، في العراق أو في بلاد الشام أو في الحبشة، وقد كان العرب يقصدونها أيظاً للاتجار والامتيار.

وقد ذكر "اليعقوبي"، إن أسواق العرب كانت عشرة أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم. ويظهر من قول "اليعقوبي" هذا من انهم كانوا يأمنون فيها على دمائهم وأموالهم أثناء التقائهم بها. إن من دين أهل الجاهلية، اعتبار هذه الأسواق أماكن حرماً، يأمن الإنسان فيها دمه وماله ما داموا في ضيافة السوق وحرمته. ولهذا كان لكل سوق "قومة" يقومون بأمر السوق وبالمحافظة على الأرواح والأموال فيه. فقد "كان في العرب قوم يستحلون المظالم، إذ حضروا هذه الأسواق، فسموّا "المحلون". وهؤلاء "المحلون"، هم مثل "المحلون" الذين كانوا لا يقيمون وزناً لحرمة "الحرم" و "إلحرمات"، مثل حرم مكة، ولا يقيمون للاشهر الحرم قدراً، فكانوا يعتدون فيها وفي كل شهر، ولذلك قيل لهم "المحلون".

ومن المحلّين قبائل من اسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقوم من بني عامر بن صعصعة.

ولحماية الأسواق والمجتمع من "المحليّن"، الذين أباحوا لأنفسهم استحلال المظالم، ظهر قوم من أهل المروءة والمعروف، تواصوا فيما بينهم على ردّ السفيه عن سفهه والغاوي عن غيهّ،ونصبوا أنفسهم حماة على الأسواق، يحملون سلاحهم فيها في الأشهر الحلّ وفي الأشهر الحرم للذود عن الحرمات. وقد عرف مثل، هؤلاء ب "الذادة المحرمون". وقد تحدث عنهم "اليعقوبي"، فقال: "وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلوّن، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك السماء وارتكاب المنكر، فيسمون: الذادة المحرمون. وأما المحلون، فكانوا قبائل من أسد وطيء وبني يكر بن عبد مناة بن كنانة وقوم من بني عامر ابن صعصعة. وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم، وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان وقوم من بي كلب بن وبرة. فكانوا هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعاً بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم".

والذود في اللغة السوق والطرد والدفع. فالذادة هم المدافعون الذابون عن المظلومين، والواقفين أمام الظالمين. وقد ورد "ذادة" بمعى يذودون عن الحرم. ولم تكن هذه الأسواق محصورة في موضع معين، انما كانت تعقد في مواضع مختلفة متعددة من جزيرة العرب. وقد خصصت في للغالب بامتيار الأعراب وبشراء ما عندهم من سلع فائضة عليهم: ولا يستبعد بالطبع ورود التجار الأجانب إليها من غير العرب،فقد كان الروم مثلا يتوغلون إلى مسافات بعيدة في هذه الأرضين الشاسعة للبيع والشراء.

وبحكم ورود أناس إلى هذه الأسواق لا يسهل الاجتماع والاتصال بهم في الأوقات الآخرى، فقد قصدها أناس من أماكن بعيدة بحثاً عن طلب أو ترويجاً لرأي، فقصدها المبشرون للاتصال بالقبائل وللتأثر في بعض أفرادها لادخالهم في دينهم. وفي كتب السير: إن الرسول نفسه كان يخرج في المواسم، لعرض نفسه على للقبائل، ولهدايتهم إلى الإسلام.

ومن أشهر أسواق العرب عند ظهور الإسلام: "سوق دومة الجندل"، و "سوق هجر"، و "سوق عمان"، و "سوق المشقر"، و "سوق عون أبن"، و "سوق صنعاء"، و "سوق حضرموت"، و "سوق ذي المجاز"، و "سوق مجنة"، و "سوق عكاظ"، و "سوق حبلشة"، و "سوق صحار"، و "سوق بدر"، و "سوق بني قينقاع"، و "سوق الشحر"، و "سوق عثر، وأسواق محلية أخرى تاتيها القبائل والعشاثر للامتيار وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن أسواق العرب للكبيرة كانت في الجاهلية ثلاث عشرة سوقاً، وأولها قياماً دومة الجندل.

وذكر "الهمداني"، أن من أسواق العرب القديمة: عدن، ومكة،والجند، وتجران، وذو المجاز، وعكاظ، وبدر، ومجنة، ومنى، وحجر اليمامة، وهجر البحرين. وسوق "همل" من الحارف ببلد حاشد. وهناك أسواق أخرى عديدة وردت أسماؤها عرضاً في روايات أهل الأخبار.

اما "دومة الجندل"، فكانوا ينزلونها أولَ يوم من شهر ربيع الأول، يجتمعون في أسواقها للبيع والشراء والتبادل. وكان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس وبقوم بأمرهم أول يوم، وتدوم سوقهم نصف الشهر. وكان "أكيدر" يعشر الناس،. وربما يتولاها بنو كلب الذين ياتونهم متأخرين، فيتولونها، وتسوم عندئذ إلى آخر الشهر، ويتولون هم حينئذ تعشير للناس. ويعرف البيع فيها ب "بيع الحصاة"، وهو نوع من انواع المقامرة ابطله الإسلام. وكانت تقصدها قبائل الشام والحجاز والأقسام الشمالية والغربية من اعالي نجد، وتقيم بالقرب منها كلب وجديلة طيء.

وكان الذي يشرف على هذه السوق سادات العرب من كلب أو من غسان، يتنافسون عليها ويتزايدون، فأي الحيين فاز، خضع ودان له الآخر. وكان مكس هذه السوق لمن يتولى الاشراف عليها. وهم جميعاَ يأخذون الاذن بالإشراف على السوق من الملك الذي يحكم الموضع في ذلك الوقت. وكان الإشراف على هذه السوق عند ظهور الإسلام بين "الأكيدر" وبين "قنافة الكلبي" الذي كان ينافسه على الملك.

وذكر "ابن حبيب" انه "كان لكلب فيها قنّ كثير في بيوت شعر، فكانوا يكرهون فتياتهم على البغاء ويأخذون كسب أولئك البغايا، ولما كان الإسلام حرم هذه العادة بالآية: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ًلتبتغوا عرض الحياة الدنيا".

ودومة الجندل في غائط من الأرض خمسة فراسخ، ومن مغربه عين تثج فتسقي ما به من النخل والزرع، ودومة ضاحية بين غائطها وا!ميم حصنها ماردْ. وهو حصن قديم، ورد ذكره في الشعر الجاهلي وفي كتب الأدب. وقد اكتسب شهرة كبيرة بين الجاهليين حين ضربوا به وب "الأبلق" حصن السموأل المثل في العزّ والمنعة، فقالوا: "تمرد مارد وعز الأبلق"، قالوا: قصدتهما الزباء فعجزت عن قتالهما، فقالت: "تمرد مارد وعزّ الأبلق"، وذهب مثلاً لكل عزيز ممتنع. ويظهر أن حصن "مارد" كان من الحصون الحصينة القديمة التيبنيت ب "الجندل"، أي الحجر.

ولم تكن دومة الجندل سوقاً يقصدها التجار في موسم واحد معين، بل كانت مفرقاً مهماً من مفارق الطرق، وموضعاً يقصده أصحاب القوافل الذاهبون من جزيرة العرب إلى العراق والى بلاد الشام، وبالعكس، لوجود الماء العذب بها، وما يحتاج المسافر اليه من زاد وماء. وهي اليوم "الجوف" في المملكة العربية السعودية.

ويقصد سوق المشقر الأعراب الساكنون في العربية الشرقية والأعراب القريبون إلى هذا الموضع، ويرد إلى هذه السوق تجار فارس ببياعاتهم يقطعون البحر، فيتاجرون مع من يقصد هذه السوق من القبائل والحضر. وكانت بنو تميم وعبد القيس جيرانها. أما المشرف عليها فرؤساء تميم من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوى، وكانوا يتلقبون بألقاب الملك. ويسيرون في معاملتهم في هذه السوق سيرة الملوك بدومة الجندل،ويأخذون العشر. وكان من يؤمها من التجار يتخفرون بقريش، لأنها لا تؤتي إلا في بلاد مضر. وكان بيعهم فيها الملامسة والهمهمة. وتقوم سوقها أول يوم من جمادى الآخرة إلى آخر الشهر.

وقد قصد هذه السوق أحياء من العرب من مختلف أنحاء جزيرة العرب، كما وفدت إليها اللطائم. وطالما اعجبت أرض هجر، وموضع المشقر منها، بعض هؤلاء الأعراب فيبقون فيها ولا يرتحلون عنها، فمن هناك صارت بهجر طوائف من كل حي من العرب وغيرهم.

ويحمي المشقر حصن قديم قويم، يقال ورثه "امرؤ القيس"،وقد أشير اليه في الشعر. قال عنه "المخبل": فلئن بنيت لي المشقر في  صعب تقصر دونه الهمم

لتنقبن عني الـمـنـيّة  إن الله ليس كعلمه علم

وكان من الحصون التي تحمي قرى ساحل الخليج من الأعراب، به حامية كبيرة، تغلق عليها الأبواب عند دنو الخطر. ويظهر من قصة فتك المكعبر بتميم، انه كان ذا بابين، وكان قد بني لحماية المنطقة من الأعراب وللمحافظة على الأمن. وقد كان حصناً كبيراً ادخر فيه الفرس الميرة والأرزاق لتوزيعها على الأعراب أيام المجاعة. وبه جنود من الفرس، يحكمهم قواد منهم، يقومون بضبط الأمن ومراقبة حركات الأعراب.

وتعقد سوق هجر في شهر ربيع الآخر، وكان الذي يتولى تعشير التجار بها "المنذر بن ساوى"، أحد بني عبد الله بن دارم. وهو ملك البحرين. وهجر اسم لجمع أرض البحرين، وقصبة بلاد البحرين. وقد عرفت بكثرة تمرها، ومنه المثل كمبضع تمر إلى هجر. وذكر أن "عمر" تذكرها فقال: عجبت لتاجر هجر وراكب البحر، كأنه أراد لكثرة وبائها، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء. ويظهر أنها كانت موبوءة.

ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين أيضاً، فتقوم سوقهم بها. ثم يرتحلون فينزلون "إرم" وقرى الشحر،فتقوم أسواقهم بها أياماً. ثم يرتحلون فينزلون سوق عدن.

أما "سوق عدن"، فكانت تقوم أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه. وكانت الأبناء هي التي تعشر التجار بها، والأبناء هم أبناء الفرس. الذين فتحوا اليمن مع وهرز وقتلوا الحبشة. وكان التجار لا يتخفرون فيها بأحد، لأنها أرض مملكة، وأمرها محكم. أما ما قبل حكم الأبناء، فقد كان يعشر هذه السوق ملوك حمير، ثم من ملك اليمن من بعدهم. وأشهر ما يباع فيها الطيب. ولم يكن أحد يحسن صنع الطيب من غير العرب، حتى إن تجار البحر ترجع بالطيب المعمول تفخر به في السند والهند، ويرحل به كذلك تجار البر إلى فارس و الروم.

وأما سوق صنعاء، فكانت تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره. وكانت الأبناء تعشرهم. وكان بيعهم بها الجس جس الأيدي. وقد اشتهرت ببيع الخرز والأدم والبرود. وكانت تجلب إليها من معافر. والقطن والكتاّن والزعفران والأصباغ وأشباهها مما يتفق بها،. ويشترون بها ما يريدون من البر والحديد وحاصلات اليمن وما يأتي إلى اليمن من نجارات البحار.

وسوق ذي المجاز، قريبة من عكاظ، وتقوم أول يوم من ذي الحجة إلى يوم التروية. ثم يصيرون إلى منى. وقد كانت لهذيل. وكانت مبايعة العرب بها بإلقاء الحجارة، وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول السلعة يساومون بها صاحبها، فأيهم أراد شراءها ألقى حجراً، وربما اتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بداً من أن يشتركوا وهم كارهون. وربما ألقوا الحجارة جميعاً فيوكسون صاحب السلعة إذا تظاهروا عليه. وكانت قريش تخرج قاصدة إليها من مكة، فإن اخذت على حزن لم تتخفر من القرب حتى ترجع، وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش ولا يتهجّمهم حليف لمضري مع تعظيمهم لقريش ومكانتهم في البيت.

وأما سوق حُباشة،فمن أسواق العرب المشهورة القديمة في الجاهلية في العربية الغربية. وهي سوق بتهامة، يتاجر فيها أهل الحجاز. وأهل اليمن. وكان في جملة من حضرها وتاجر فيها الرسول. وكانت تقام في شهر رجب. وحباشة سوت أخرى كانت لبني قينقاع.

وكان الجلندي بن المستكبر، هو الذي يعشر تجار سوق صُحار بعمان، وكذلك تجار سوق "دبا". وكان يقصد سوق "دبا" تجار السند والهند والصين ومواضع أخرى، فهي سوق عظيمة كبيرة، ذات تجارة مع العالم الخارجي. احدى فرضتي العرب. ويقوم سوقها آخر يوم من رجب. وكان بيعهم فيها المساومة. وتقوم سوق صُحار أول يوم من رجب. تقوم خمس ليالي. ويذكر بعض أهل الأخبار إن البيع في سوق صحار هو بالقاء الحجارة.

وقد اشتهرت "صحار" بثيابها، فعرفت بأسمها، كما كانت سوقاً للتجارات المستوردة من اليمن والصين والبحرين والهند. ولذلك كانت برقاً نشطة، وبها أصحاب حرف وصناعة.

وأما "بدر"، فكان موضعاً فيه ماء وفيه وقعت معركة بدر الكبرى. وكان موسماً منمواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، يجتمعون فيه للتجارة وللتنزه، فكانوا ينحرون ويطعمون ويشربون ويسمعون الغناء. وذكر إن موضع "بدر" بئر حفرها رجل من غفار، ثم من "بني النار" اسمه بدر. وذكر انه "بدر بن قريش بن يخلد"، وبه سمي الموضع بدراً، وقيل بدر رجل من "بني ضمرة" سكن المكان فنسب اليه ، وهو بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، وبينه وبين "الجار"، وهو ساحل البحر ومرفأ ليلة. ويظهر انه كان من المواضع المقدسة على شاكلة "سوق عكاظ" به أحجار، يتقرب إليها الناس، وبه ماء فصار سوقاً في موسمه المخصص له، يقصده الناس من مكة ومن المواضع القريبة لبيع ما عندهم من ناتجهم فيه،ولشراء ما يحتاجون اليه منه.

وأما سوق بني قينقاع،فسوق لليهود يذهب إليها الناس للاتجار وابتياع ما عند يهود من سلع، ولبيع ما عندهم ليهود.

أما "سوق الشحر" شحر مهرة، فتقوم السوق تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود. ولم تكن بها عشور،لأنها ليست بأرض مملكة. وكانت التجار تتخفر فيها ببني محارب بن هرب، من مهرة. وكان قيامها للنصف من شعبان. وكان بيعهم بها إلقاء الحجارة. وكان غالب ما يعرض فيها الأدم والبزُ وسائر المرافق. ويشرون بها الكندر، والمرّ، والصبر، ويقصدها تجار من البرّ والبحر ،وأما سوق الرابية بحضرموت، فلم يكن يصل إليها أحد إلاّ بخفارة،لأنها لم تكن أرض مملكة. وكان من عز فيها بزّ صاحبه. فكانت قريش تتخفر فيها ببني آكل المرار، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة.

وتقوم سوق نطاة بخيبر وسوق حجر باليمامة يوم عاشوراء إلى آخر المحرم. وأشهر الأسواق المتقدمة وأعرفها "سوق عكاظ"، وهي سوق تجارة وسوق سياسة وسوق أدب، فيها كان يخطب كل خطيب مصقع،وفيها علقت القصائد السبع الشهيرة افتخاراً بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل على ما يذكره بعض أهل الأخبار. وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب. وكانت تقوم للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر. ولم تكن فيها عشور ولا خفارة. وكان بيعهم السرار: إذا وجب البيع  

وعند التاجر فيها إلف ممن يريد الشراء ولا يريده أشركه في الربح.

وذكر إن عكاظ نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تّقام سوق العرب. وقيل: عكاظ ماء ما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له الفنق، كانت موسماً من مواسم الجاهلية. تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يوماً. وكانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون،أي يتفاخرون ويتناشدون ما احدثوا من الشعر، يقيمون على ذلك شهراً، يتبايعون ثم يتفرقون. فلما جاء الإسلام هدم ذلك.

وذهب فريق من أهل الأخبار إلى أن انعقاد سوق عكاظ إنما كان يقوم بهلال شهر ذي القعدة ويستمر لمدة عشرين يوماً. وهم يخطئون رأي من يذهب إلى أن انعقاد السوق كان في شهر شوّال،وحجتهم أن انعقاد السوق كان في الأشهر الحرم، ليراعي الناس حرمة تلك الأيام فلا يعتدون على من يقصد أسوق،وشهر شوال لا يدخل في جملة الأشهر الحرم، لذلك فلا يمكن أن يكون انعقاد السوق فيه. ويستدلون بدليل آخر، هو تقاتل بعض العرب في أيام عكاظ، ونظراً لوقوع ذلك القتال في شهر حرام، أطلقوا على تلك الأيام، أيام الفجار، وهي أربعة أيام: يوم شمطه،ويوم العبلاء،ويوم الحريرة،ويوم شرب، وهذه الأسماء هي أسماء أماكن في عكاظ. وما كان العرب ليطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار لو لم تكن قد وقعت في أيام حرم.

وجاء في بعض الأخبار إن أشراف العرب كانوا يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل إن الملوك كانوا يرضخون للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح. فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ، فإنهم كانوا يتوافون بها من كل أوب. فسوق عكاظ، اذن سوق حرة، لا عشور فيها ولا خفارة. وهي تختلف بذلك عن بقية الأسواق التي كان يعشرها الملوك، إذا كانت في حكم "ملك"، أو في حكم الأمراء وسادات القبائل، على أن يؤدوا سهماً من الأرباح المتجمعة من العشور والخفارات إلى أشراف العرب، أي سادات القبائل الذين تقام تلك الأسواق في أرضهم. فأشراف "تميم" وإن اشرفوا على هذه السوق، وحكموا بها، ونظموا أمورها، إلا انهم لم يكونوا يجبون شيئاً من التجار. ولعل ذلك كان بتأثير قريش عليهم ط، فقد كان رجال مكة هم المستأثرون الأثيرون في عكاظ. وكانوا يشجعون العرب على حضورها، لما لهم فيها من منافع اقتصادية،وقد كان لهم أنفسهم إشراف على نواح من أمور السوق. ويظهر انه لأجل تشجيع القبائل على حضور "عكاظ" وجمع أكثر مَن ممكن جمعه منِ التجار، اتفقوا مع سادات تميم، ولا سيما مع "بني دارم" على آن يتركوا السوق حرة، ليقصدها أي تاجر، فلا يكلف احد منهم بكلفة العشور والخفارة،ولا يهان أو يعتدى عليه، وهو بالطبع في شهر حرام، ليضمنوا بذلك حضور أكبر عدد ممكن من الناس، وليضمنوا مجيئهم بعد ذلك إلى مكة، وقد كانوا يسعون جهد طاقتهم لجلب العرب إليها من الأماكن البعيدة، ليستفيدوا منهم في موسم الحج، وليكوّنوا معهم صلات طيبة، وعلاقات وثيقة تؤمن لهم ولقوافلهم ولتجارتهم حق المرور بأمن وسلام، وتقديم كل ما يحتاج اليه رجال القوافل من ماء وطعام ومأوى وحماية.

ويعرض للبيع وللشراء في سوق عكاظ وفي الأسواق الآخرى كل أنواع البضاعات، من أدم ومن حبوب وأقمشة إلى بضاعة حية ناطقة هي الحيوان، أو الإنسان، حيث يعرض الرقيق في السوق. وقد كان شراء "خديجة" زوجة الرسول ل "زيد بن حارثة" من سوق عكاظ. وقد اشتهرت سوق عكاظ بأديمها حتى عرف بين تجار الأديم ب "الأديم العكاظي" مع أنه لم يكن من حاصل عكاظ، بل كان يورد إلى السوق من مختلف الأنحاء.

وذكر بعض أهل الأخبار أن "سوق عكاظ" موسم عظيم من المواسم،وقّد اتخذت سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. وهي من أعظم أسواق العرب على الاطلاق في الجاهلية وفي الإسلام. ثم تضاءل شأنها وخربت بعد سنة "129" للهجرة، عندما ظهر الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف في مكة، فنهبت هذه السوق، وخاف الناس على أنفسهم من الذهاب إليها، فتركت.

ولو أخذنا بهذه الرواية، نكون قد جعلنا مبدأ هذا السوق سنة "585" أو "586" للميلاد تقريباً. أي إن تأريخ سوق عكاظ لم يكن بعيد عهد كل عن الإسلام. فهو قبله بنحو قرن. وقد أقيمت وعمر الرسول آنذاك "5ا" عاماً.

ويذهب الناس بعد سوق عكاظ إلى سوق أخرى، هي سوق مجنة، فيقيمون بها عشرة أيام. فإذا رأوا هلال ذي الحجة في نهاية هذه الأيام العشرة قصدوا ذا المجاز، وهي سوق جاهلية، فيقيمون فيها ثمانية أيام يبيعون ويشترون، ثم يخرجون يوم الرّوية من ذي المجاز إلى عرفة، فيأخذون ذلك اليوم من الماء ما يرويهم من ذي المجاز. وقد سمي هذا اليوم باسم يوم التروية لترويهم من الماء بذي المجاز، حيث كان ينادي بعضهم على البعض الآخر أن يترووا من الماء لأنه لا يوجد ماء بعرفة. كذلك لا يوجد ماء بالمزدلفة يومئذ. ويعتبر يوم التروية نهاية أسواقهم. وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في أيام منى. فلما جاء الإسلام أحل لهم ذلك.

وذكر إن "ذا المجاز" موضع بمنى، وذكر انه سوق كانت في الجاهلية على فرسخ من عرفة، بناحية كبكب ، سمي به لأن إجازة الحج كانت به. و "كبكب"، جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف، وقيل هو ثنية.

ويذكر علماء التفسير إن متجر الناس في الجاهلية كان سوق عكاظ وذو المجاز،فلما جاء الإسلام تركوا ذلك.. وكانوا لا يتجرون في أيام الحج، فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفه، ويبتاعون ويبيعون قبل وبعد أيام الحج، اذ كانوا يتأثمون من الاتجار في أيام الحج.

وقد كان الحج من أكبر مواسم الربح لقريش،تبيع قريش ما عندها للأعراب القادمين إليها من البادية ولأهل القرى البعيدة عن مكة، وتشتري منهم ما يحملونه منهم من مواد وسلع، ثم تقوم قوافلهم بنقل الفائض مما اشترته إلى الأسواق الخارجية في بلاد الشام أو العراق، وتشتري في مقابل ذلك ما يحتاج اليه الحجاز وأعراب البادية من سلع ومواد.

ومكة في مواسم الحج وفي المناسبات الآخرى سوق تجارية مهمة، لا تقل شأناً في الواقع عن الأسواق الآخرى. وقد تمكن أهلها النشطون في جمع المال من اكتناز الأموال ومن استثمار ما يحصلون عليه من أرباح حتى صاروا من أغنى الناس في الحجاز.

ويظهر من روايات أهل الأخبار إن حظ المفاخرة والمباهاة والتمدح والذم، لم يكن بأقل من حظ البيع والشراء في سوق عكاظ. فقد كان الشعراء يعرضون أجود وأحدث ما عندهم من شعر على الحاضرين. وكان كثر من هؤلاء الحاضرين إنما يفدون إليها للوقوف على أحدث ما يقال من صنوف الشعر، وهو صنف رائج أكثر من رواج النثر بالطبع، لما فيه من ايقاع وموسيقى ووزن وسهولة في الحفظ وأثر في النفس، لذلك كان للشاعر في هذه السوق مكانة تزيد كثيرا على مكانة التاجر فيها، لما لشعره من أثر في الحياة العامة لمجتمع ذلك اليوم.

ويقال إن الشاعر الشهير "النابغة الذبياني"،كان يحضر سوق عكاظ، فتضرب له قبة من أدم، يجلس تحتها، فيفد اليه من الشعراء من يريد أن يفتخر بشعره على غيره، لينشد أمامه شعره، فيحكم على شعره برأيه، لما لرأيه من أثر في الناس. وكان الشاعران الأعشى وحسان بن ثابت ممن احتكما اليه وكذلك الشاعرة الخنساء.

ومن حضر عكاظ الخطيب الجاهلي الشهير "قس بن ساعدة الايادي" "شيشرون" العرب، وعمرو بن كلثوم التغلبي،الشاعر المعروف. ويذكر أهل الأخبار إن الرسول رأى "قس بن ساعدة الأيادي" يخطب في هذه السوق، وقد قصد الرسول سوق عكاظ وسوق مجنة وذي المجاز، يدعو من كان يحضر المواسم إلى دين الله. وقيل انه مكث سبع سنين يتبع الناس في مواسمهم في سوق عكاظ، وكان في من كلمهم ودعاهم إلى الإسلام "بنو عامر بن صعصعة".

وحال الأسواق الآخرى مثل حال سوق عكاظ من حيث ورود الشعراء إليها لعرض ما عندهم من شعر جديد. والظاهر إن قرب سوق عكاظ من مكة، وورود الحجاج إليها قبل البدء بالحج، ثم ورود اسمها في أخبار الرسول،ولكونها سوق مكة وتجار قريش، ووقوعها في أرض يتكلم أهلها باللغة التي نزل بها الوحي، هذه الأسباب وغيرها هي التي خلّدت اسم هذه السوق، وربطت بينها وبين الشعر والنثر، أكثر من الأسواق الآخرى التي كانت بعيدة عن مكة، وبعيدة لذلك عن ذاكرة أهل الأخبار،هذا وان للباحثين في موضع سوق عكاظ آراء متباينة فيه. ولا زالت هذه الآراء متباينة فيه حتى اليوم.

هذا، وقد كان موضع عكاظ في الأصل مكاناً مقدساً على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار. فقد ذكروا أن العرب كانت تطوف بصخور كانت هناك ويحجون إليها، وكانوا يذبحون وينحرون إلى تلك الأصنام والأنصاب. حتى تلطخت تلك الأنصاب والأرض التي تحيط بها بدماء البدن. ويظهر أن أهمية ذلك المكان الدينية كانت قد قلت بالتدريج، إذ غطت قدسية مكة عليه. ولما جاء الإسلام، وأزال الأنصاب والأصنام ذهبت كل أهمية لمحجة عكاظ واختفت أهمية السوق معه حتى ماتت على نحو ما ذكرت.

ويتقدم سادات الناس في مثل هذه المناسبات إلى آلهتم بإطعام الفقراء واضافة الناس. وكان "خويلد بن فضيل بن عمرو بن كلاب" المعروف ب "الصعق"، لأن صاعقة نزلت عليه فأحرقته، ممن يطعم بعكاظ. وكان من سادات قومه. ويترك هذا الكرم أثراً في نفوس من يحضر السوق، ويكون سبباً للحصول على ثناء ومديح الشعراء على أولئك الكرماء.

والظاهر من روايات أهل الأخبار عن هذه الأسواق، انها كانت كلها في الأصل، مواضع مقدسة، لها أصنام تعبدها القبائل وتأتي للتقرب إليها في مواسم معينة، هي مواسم حجها، فتتحول تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء. فقد ذكروا إن "بني وبرة"، كانوا يفدون إلى "دومة الجندل" للتقرب إلى "ودّ"، وكان سدنته من "بني الفرافصة بن كلب"، وأن "بني عبد القيس " كانوا يتقربون إلى صنم لهم اسمه "ذو اللّب"، وكان بالمشقر، وسدنته "بنو عامر" ويجب ألا ننظر إلى هذه الأسواق نظرتنا إلى السوق بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر. فقد كانت أسواق الجاهلية أوسع مجالاً من ذلك بكثير. كانت مجامع لأهل اللسان من شعراء ومن خطباء، من مرموقين معروفين ومن مغمورين طلاب شهرة، قصدوا هذه الأسواق للحصول على اسم وسمعة، كما هو شأن سوق عكاظ. كما كانت مجتمعات تعقد فيها العقود والمعاهدات والاتفاقات القبلية والعائلية، ومواضع يعلن فيها عن التبني وعن الخلع، أي خلع الأفراد، لجرائم يرتكبونها، وهي ساحات محاكم، يجلس فيها المتخاصمون للاستماع إلى قرار حاكم مهاب محترم، اتفقوا على تحكيمه في نزاعهم. وقد كانت الحكومة في هذه السوق إلى "بني تميم"، وكان آخر من حكم منهم فيها: الأقرع بن حابس التميمي.

ويروي اهل الأخبار أن فرسان العرب كانوا إذا حضروا موسم عكاظ تقنعوا إِلا "أبا سليط" "طرفة بن تميم"، فارس عمرو بن تميم في الجاهلية، فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن تقع عيون الفرسان عليه، وذلك اعتماداً على نفسه وازدراءً لشأن أعدائه ومن يريد إلحاق الأذى به. وقد كانت سوق عكاظ وبقية الأسواق، من أهم المواضع التي تجلب أنظار الفرسان إليها، إذ كان الكثير منهم يتصيدون فرص الأخذ بالثأر، بعد انفضاض موسم السوق، أو الحصول على غنائم بمهاجمة التجار ومن يحمل تجارة دسمة أو حمولة ثمينة، ولهذا كان لا بد للفرسان ومن يريد الحصول على مغنم أو تنفيذ مأرب ما من التحفظ والاحتراز حذر انكشاف أمره، فيكون عرضة للغدر.

وإذا وقعت في هذه الأسواق خصومات في مثل اختلاف في سعر أو اختلاف في تجارة، فهناك حكام يلجأ المتخاصمون اليهم للنظر في خصوماتهم وللنظر في كل خصومات أخرى قد تقع على الحاضرين. فيقوم هؤلاء الحكام بفض ذلك النزاع. وقد اشتهر سادات بني تميم بالنظر في الخصومات التي تقع في الأسواق القريبة منهم أو التي تقع قي ديارهم، وكان من أواخر حكامهم "الأقرع بن حابس".

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق