1657
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثاني بعد المئة
القوافل
وتنقل التجارة البرية بطرق القوافل، وذلك لضمان حماية الأموال والتجارة والأرواح. و "القافلة"، الرفقة القفال والمبتدأة في السفر. وذكر علماء اللغة أن "القافلة" العير كذلك. وذكر بعض منهم أن "العير" الإبل التي تحمل الميرة، أو كل ما امتير عليه إبلاً كانت أو حميراً أو بغالاً. وقد أطلق أهل السير والتأريخ ومن تحدث عن وقعة بدر: لفظة "العير" على قافلة قريش التي كان يرأسها "أبو سفيان"، كما أطلق بعضهم "ركبان قريش" على من كان مع "أبي سفيان" من تجار قريش، معهم أموالهم وتجارتهم من بلاد الشام. ونجد كتب السير والتواريخ تطلق لفظة العير على قوافل قريش بغير حصر، مهما كان حملها. فلما تحدثوا عن سرية "حمزة" إلى العيص استعملوا لفظة "عير" لقريش، واستعملوا هذه اللفظة في مناسبات أخرى، مما يدل على أنهم أرادوا بها قافلة، أي جماعة من جماعات السفر، مهما كان حملها.
والركبان والركب: ركاب الإبل. وقال بعض علماء اللغة: الركب: ركبان الإبل في السفر دون الدواب، وهم العشرة فصاعداً، وذكر ان من الجائز استعمال "الركب" للخيل وللجيش.
و "القيروان" الجماعة من الخيل. والقفل، جمع قافلة. وهو معرب "كاروان". وقد تكلمت به العرب. قال امرؤ القيس: وغارة ذات قيروان كأن أسرابها الرعال
وورد في الحديث انهم كانوا يترصدون عيرات قريش، أي إبلهم ودوابهم التي كانوا يتاجرون عليها.
ويقال للعير التي تحمل الطيب: "اللطيمة". وذكر إن اللطيمة العير التي تحمل الطيب وبز التجارة. فاللطيمة، قافلة تحمل تجارة نفيسة الى الأسواق. وقد كان ملوك الحيرة يرسلون لطائمهم الى الأسواق، لتتاجر بالطيب، ومنهم "النعمان بن المنذر"، وكان يبعث إلى "سوق عكاظ" في وقتها بلطيمة يجيزها له سيد مضر، فتبتاع وتشتري له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والمغراء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني
ويقال لقافلة الإبل التي ليجاء عليها بالطعام، "ركاباً" حين تخرج، وبعد ما تجيء. وتسمى عيراً على هاتين المنزلتين. والتي يسافر عليها إلى مكة أيضاً ركاب تحمل عليها المحامل، والتي يكترون ويحملون عليها متاع التجار وطعامهم كلها ركاب، ولا تسمى عيراً، وإن كان عليها طعام، إذا كانت مؤاجرة بكرى. وليس العير التي تأتي أهلها بالطعام، ولكنها ركاب. يقال: هذه ركاب بني فلان. ويقال زيت ركابي،لأنه يحمل من الشام على ظهور الإبل. وذكر ان العسجدية: ركاب الملوك التي تحمل الدق من المتاع. فهي عير اذن تحمل متاعاً ثميناً،كالذهب والجوهر، وذكر إن العسجدية الإبل تحمل الذهب، وهي ركاب الملوك التي تحمل الدق الكثير الثمن، والسوق يكون فيها العسجد، وهو الذهب، وركاب الملوك، وهي إِبل، كانت تزين للنعمان بن المنذر.
و "السابلة" "الواطئة"، وهم المارة. سموا بذلك لوطئهم الطريق. وهم الذين يسلكون الطرق. والسابلة من الطرق المسبولة، المسلوكة، وابن السبيل، هو ابن الطريق، والذي قطع عليه الطريق، والمنقطع.
ويسمى كل طريق يكثر الاختلاف عليه محجة ويسمى الطريق المدروس "الأيتار المليكي"، ويسمى الطريق الضيق الحبل شركاً، وحبال الطريق ايتاره. وطريق جادة، أي مجدودة بالوطء، وقارعة الطريق، في معنى مقروعة، والريع الطريق.
وكلما كانت الأموال ثمينة وكثيرة، كانت القافلة كبيرة. يحرسها عدد كبير من الحراس لحمايتها من لصوص الطرق وقطاع السبل الذين كانوا يعيشون على السلب والنهب. ونقل التجارة بالقوافل طريقة عالمية قديمة،أشير إليها في الكتابات، وفي الكتب المقدسة.
ولم يكن من السهل على التجار في ذلك الزمن التوسع في تجارتهم والمجازفة بالمتاجرة مع أماكن أخرى بعيدة. فالتاجر محتاج إلى حماية حياته وأمواله، ولم تكن الحماية ممكنة إلاّ في ظل حكومة مدنية قوية، تحمي أبناءها وكل من يفد على أرضها وعلى الأرض الخاضعة لها من اعتداء المعتدين.
لهذا صار لزاماً على التجار الالتجاء إلى نظام القوافل، ولا سيما القوافل القوية الكبيرة معتمدة على حماية نفسها بنفسها أولا"، ثم على حماية الحكومة ثانياً. وقد عمدت في الدرجة الأولى إلى استرضاء سادات القبائل، وذلك لتأمين حمايتهم في المناطق التي تمرّ بها القافلة ولبذل العون والمساعدة لها بتقديم حق مرور للرؤساء وهدايا وعطايا مناسبة وعقد عقود ومواثيق، وإلا تعرضت أموال القافلة للأخطار.
ولطول الطرق وبُعد المسافات، كان على القوافل استرضاء كبار سادات القبائل للحصول على حمايتهم،ومعنى هذا دفع اتاوات لهم، وتحميل المشترين تلك الاتاوات. وهذا مما زاد في الأسعار وجعل الأثمان عالية، وقد أضر ذلك بالتجارة العربية ولا شك، كما أضر.بالمنتجين الذين كانوا يبيعون انتاجهم اليسير وأكثره مواد خام يتعيشون عليها بأسعار بخسة لسد رمقهم في هذه الحياة.
وقد عمد تجار مكة - كما ذكرت ذلك في مواضع من هذا الكتاب - الى أساليب مختلفة في استرضاء سادة القبائل الذين تمر بأرضهم قوافلهم، منها استرضاؤهم بالمال، وإشراكهم معهم في رأس المال، بتقديم ما عندهم من سلع يتوسطون لهم ببيعها في الأسواق، أو بشراء ما يريدون شراءه من تلك الأسواق وتقديمه لهم، ومنها التصاهر معهم، ودعوتهم لزيارة مكة وتقديم الهدايا لهم، ثم ضبط كل ذلك بعقود "الإيلاف"، التي وضعت قواعد وأصول وحقوق مرور قوافل مكة وقوافل تجارها الخاصة في كل الأيام والمواسم بأمن وسلام، في مقابل تعهدات وعقود عينت بعقود الإيلاف.
وكان كل تاجر يخرج من اليمن والحجاز يتخفر بقريش ما داموا في بلاد مضر. "لأن مضر لم تكن تعرض لتجار مضر، ولا يهيجهم حليف لمضري. كان ذلك بينهم. فكانت كلب لا تهيجهم لحلفهم بني تميم،وطيء أيضاً لاتهيجهم لحلفهم بني أسد. وكانت مضر تقول: قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا اسماعيل من الدين. فإذا أخذوا طريق العراق، تخفروا ببني عمرو بن مرثد، من بني قيس بن ثعلبة، فتجيز ذلك لهم ربيعة كلها".وهكذا تمكنت قريش من تأمين مصالحها التجارية بعقد الأحلاف مع سادات القبائل،وصار تجارها يتنقلون في مختلف أنحاء جزيرة العرب بحرية وأمان:
والجمال هي واسطة النقل في جزيرة "لعرب، هي قطار القوم وسياراتهم في ذلك العهد. وليس في استطاعة حيوان آخر القيام بمثل تلك المشاق من قطع المسافات البعيدة في أماكن لاماء فيها إلا في مواضع متباعدة وفي أماكن يتغلب عليها الجدب والشظف. كان على ذلك الحيوان إن يتحمل ثقل ما يوضع على ظهره،وان يسير به مسافات طويلة، ثم عليه إن يتحمل العطش والجوع. ولولا الخواص الجسمية التي امتاز بها عما عداه من الحيوانات، لما كان في امكانه احتمال هذه المشقات ولعجز عنها حتماً. وقد أشير في التوراة إلى قوافل الإبل الضخمة التي كانت تأتي من جزيرة العرب إلى بلاد الشام، وهي محملة بالبضائع الثمينة النفيسة لتبيعها هناك.
ولا تحتاج الإبل إلى شرب الماء كل يوم، لذلك غدت الحيوان المثالي الملائم لحياة الأعرابي وللبادية. والجمل صبور على الجوع وفي استطاعته مكافحة جوعه بأكل العوسج والنباتات التي تنبتها البادية. وللعرب أسماء في اظماء الإبل. ومنها "الخمس" أن ترد الإبل الماء يوماً فتشربه، ثم ترعى ثلاثة أيام، ثم ترد الماء اليوم الخامس، فيحسبون اليوم الأول والآخر اليومين اللذين شربت فيهما. وقيل أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع. ومن الأظماء "للغبّ"، وذلك أن ترد الإبل يوماً وتصدر، فتكون في المرعى يوماً، وترد اليوم الثالث. وما بين شربتيهما ظمأ طال أو قصر. وعرف "الغب" أنه ورد يوم وظمىء آخر. وقيل.: هو يوم وليلتين، وقيل هو أن ترعى يوماً وترد من الغد. ومن أمثال العرب المتعلقة بهذا الموضوع: يضرب اخماساً لأسداس، أي يسعى في المكر والخديعة. وأصله من اظماء الإبل، فقد كان الرجل إِذا أراد سفراً بعيداً عوّد إبله أن تشرب خمساً سدساً، حتى إذا دفعت في السير صبرت، ثم ضرب مثلًا للذي يراوغ صاحبه ويريه اًنه يطيعه، وقيل يضرب لمن يظهر شيئاً ويريد غيره، أو للذي يقدم الأمر يريد به غيره، فيأتيه من أوله، فيعمل رويداً رويداًْ.
وإذ كانت هذه القوافل في حياة القوم على جانب من الخطورة، كما كانت المصدر المهم من مصادر الثروة، وضعها أصحابها في حماية آلهتهم، واتخذ بعضهم إلهاً خاصأَ واجبه حماية القافلة وايصالها سالمة إلى المحل المقصود. وقد عرف الإلهَ "شيع ه - قوم" "شيع القوم"، بأنه إله القوافل، الساهر على حمايتها وحماية أصحابها التجار. وعرف اللإله "أبو إيلاف" "ايلف" "ايلاف"، بأنه إلَه القوافل والتجار وأرباب القوافل كذلك. وكان أصحاب " القوافل يقدمون الى آلهتهم النذور والقرابين بعد انتهاء رحلة القافلة، براً بنذرهم لها، وتقرباً إليها، كي تستمر في بذل حمايتها لهذه القوافل ورعايتها لها، كما كانوا يأتون إلى المعابد والمحجات فيطوفون بها، ويقصدون أصنامهم فينحرون عندها شكراً وتقرباً إليها لما أنعمت عليهم من نعم الحماية والربح الوافر الذي كسبوه في رحلاتهم هذه. وفي الذي يذكره أهل الأخبار عن طواف رؤساء قوافل مكة بالكعبة قيل بدئهم الرحلة وبعد انتهائهم منها، الكفاية للدلالة على أهمية هذه الرحلات التجارية في نفوس القوم.
والغالب إن تعهد حراسة القوافل منذ يوم مغادرتها مكانها إلى حراس أشداء أقوياء يحملون سلاحهم معهم، لمقاومة المعتدين. أما رئاسة القافلة، فلا تعطى إلا للمعروفين بشجاعتهم وبقوتهم وببأسهم وبالحيل وبمعرفتهم للطرق، ولأهل البيوتات والجاه العريض والسمعة بين القبائل، فرئيس القافلة وكبيرها، هو دماغها المفكر وقلبها النابض، وعلى حركاته وأعماله يتوقف مصير القافلة ومصير الأموال الثمينة التي توضع تحت يديه، فإذا أظهر الرئيس جنباً أو عدم مقدرة في قيادة القافلة وفي الدفاع عنها، حين تعرّضها للخطر، فقد تقع فريسة سهلة بأيدي لصوص الطرق، وتنتهب أموالها، فتكون هذه النتيجة طامة كبرى للمساهمين في أموال القافلة.
ولأهمية قادة القوافل المذكورة، عملت لهم تماثيل لتخليد ذكراهم، وكرّمواِ في الكتاباًت. وقد عثر على عدد من هذه التماثيل والكتابات في مدينة "تدمر". وحمل الكثير منهم ألقاب الشرف التي كانت لا تمنح إلا لمن يؤدي خدمات ممتازة للمدينة فيَ ذلك العهد، ووصل بعضهم إلى درجة عضو فيَ مجلس المدينة الحاكم. وقد نال بقية قادة القوافل مثل هذا الاحترام من أصحابهم. ولقب قائد القافلة في الكتابات الجاهلية ب "زعيم القافلة" وب "زعيم السوق".
حتى رؤساء الحكومات مثل كسرى وملوك الحيرة، كانوا لا يسلمون زمام قوافلهم إلا للاشداء المعروفين من الرجال. كانوا يتاجرون في الأسواق يشترون ويبيعون، فإذا أقبل الموسم أرسلوا قافلتهم إلى السوق برئاسة رجل مشهور معروف بالشجاعة لا يهاب الموت ليوصلها إلى السوق المقصود أو المكان المراد وصول البضاعة اليه، ذلك لأن مجال حكمهم أو نفوذهم، لا يصل إلى الأنحاء البعيدة، فاضطروا إلى استئجار الشجعان المعروفين بقيادتهم للقوافل، لحماية تجارتهم وأموالهم من اعتداءات المعتدين.
وتعتمد القوافل على الأدلاء الخبراء بطرق البوادي لإيصالها إلى أهدافها بأمن. وسلام وبأقصر الطرق،ولتجنيها أخطار الأعداء وشر قطاع الطرق، عند شعورها بوجود خطر عليها إذا ما سلكت الطريق العام، أو طريقها الذي قررت السير به نحو المكان الذي تريده. فلما أبلغ جواسيس "أبو سفيان" أن النبي قد خرج يترصده نحو "بدر"، أسرع فاستعان بالأدلاء فانحاز عن بدر، وساحل، وتخلص بعلم أدلائه وعلمه بالطرق من وقوعه ووقوع قافلته بأيدي المسلمين. والى الدليل والأدلاء أشير في قول الشاعر: شدوا المطيّ على دلـيل دائب من أهل كاظمة بسيف الأبجر
وقد استعان قادة الجيش وأمراء السرايا والغارات بالأدلاء أيضاً، لإرشادهم إلى المواضع التي كانوا يقصدونها، وكان الرسول يستعين بالأدلاء، ويسأل الخبراء أصحاب العلم بطرق البادية حين يغزو، أو حين يرسل سراياه على قوم. وفي غزوة "بئر معونة" كان "المطلب السلمي" دليلها على الطريق.
ويذكر أهل الأخبار، إن "قريش بن بسر بن يخلد بن النضر"، كان دليل "بني كنانة" في تجارتهم، فكان يقال: "قدمت عير قريش"، فسميت قريش بذلك. وأبوه "بدر" صاحب "بدر" الموضع الذي لقي فيه رسول الله قريشاً. فقريش بن بدر، اذن هو على هذه الرواية، هو أول دليل يصل الينا خبره من أدلاء قوافل قريش، وهو مؤسس تجارتها.
ولا بد للقوافل من منازل تنزل بها لتستريح ولتريح دوابها من للتعب ولتتمون بالماء وبالزاد إن احتاجت اليه. ونظرأَ إلى بطء الحيوان في سيره وعدم تمكنه من سيره مسافات طويلة دون توقف وراحة، كانت "منازل" ذلك الوقت غير متباعدة. ويقال للمكان الذي تنزل به القوافل: "المنزل". والمنزل: المنهل والدار، وهو في معنى "الخان"، و "الخان" لفظة معربة معناها المنزل والحانوت. وقد اشتهرت اللفظة في الإسلام، وأطلقت على منازل المسافربن في الطرق وفي القرى والمدن، وتعني المنزل، المخصص لنزول المسافر، وهو منزل يكون كبيراً في الغالب، يستريح فيه المسافر، تاجر كان، أو في غير تاجر، ويضع فيه مطاياه.
وأما "الفندق"، فبمعنى المنزل الذي ينزل به التجار والمسافرون، وهي من الألفاظ المعربة عن اليونانية من أصل Pandhokiyon. وقد استعملها عرب بلاد الشام. ويظهر انها من الألفاظ التي شاع استعمالها في الإسلام. وقد ذكر بعض علماء العربية، إن الفندق بلغة أهل الشام الخان والسبيل من هذه الخانات التي ينزلها الناس مما يكون في الطرق والمدائن، وهو فارسي.
ولم تكن منازل أهل الجاهلية منازل مبنية بالضرورة، فقد كان المسافرون يضربون لهم خياماً يأوون إليها، أو يلجأون إلى ظل مثل شجرة، يحتمون به من أشعة الشمس، وقد يفترشون الأرض وينامون جنب إبلهم، وكل ما يلزم في المنزل أن يوجد به ماء. فالماء هو اكسير الحياة بالنسبة للمسافر، وهو أهم لهم من الطعام، فطعامهم في ذلك الوقت طعام قليل بسيط، تمرات مع لبن، أو سوبق،و ما شاكل ذلك، ثم هم لا يأكلون كثيراً ولا يقيمون لوجبات الطعام وزناً، وقد يكتفي أحدهم بأكلة واحدة من هذه الأكلات الجافة التي يحملها، وقد يقتاتون بما يجدونه من نابت في طريقهم من ثمر شجر بري أو بقل أو أعشاب، ولهذا، صارت المنازل على مواضع الماء.
ولم تكن الأبعاد بين هذه المنازل متساوية، بل كانت مختلفة، تتوقف أبعادها على الماء. فإذا وجد الماء في مواضع متقاربة، قامت عليها مستوطنات متقاربة، وصارت المسافات فيما بينها غير بعيدة، وإذا كان الماء بعيداً، صارت المنازل متباعدة، وقد لا يهم الماء القوافل إذا كانت مزودة به، وكل ما تلاحظه في سفرها هو تعب الإنسان ومقدار تحمل دابته مشقة السفر والبعد، ولهذا كانوا يقطعون طرقهم بمراحل، و "المرحلة" المنزل بين المنزلين، يقال بيني وبين كذا مرحلة أو مرحلتان. فهم يقطعون طرقهم على قدر طاقتهم ومقدار تحمل إبلهم على السير. وقد علمتهم تجاربهم مقدار ما يقطعون، فإذا شعروا بالتعب وبتعب دوابهم، نزلوا منزلاٌ، قد يكون مأهولاً به ماء، وقد يكون خالياً في عراء، للاستراحة به، فإذا ارتاحوا استمروا في سيرهم نحو جهتهم ا لمقصودة.
و "الفرسخ" في تفسير علماء العربية الراحة، و "فرسخ" الطريق هو ثلاثة أميال هاشمية، أو ستة، أو اثنا عشر ألف ذراع، أو عشرة آلاف ذراع، سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك، كأنه سكن. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. وقيل: الفرسخ الساعة من النهار.
و "الميل" مقياس تقاس به الأبعاد، يقال قطع كذا ميلاً. وهو منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض، ومنه الأميال التي في طريق مكة، وهي الأعلام المبنية لهداية المسافرين.
ونظراً إلى وجود إمارات وعشائر وقبائل عديدة تمرّ بآرضها القوافل، فقد كان على أصحاب القوافل وأرباب المال إرضاء هؤلاء المتنفذين بإعطاء إتاوات مرور لهم، وهدايا لحمايتهم وللسماح لهم بالمرور، على نحو ما تفعله حكومات هذا اليوم من استيفاء حق المرور "ترانزيت" "ترانست" عن التجارة والسيارات. فإذا تحرش بهم متحرش، وحاول قطاع الطرق الاعتداء عليهم، كان من واجب سيد القبيلة والرئيس المتنفذ في تلك الأرض تعقب المعتدين وتاديبهم وإعادة ما استولوا عليه إلى أصحابه. وبهذه الطريقة أمنت القوافل على أموالها،وأخذت تقطع البوادي والطرق البعيدة الطويلة، وهي في حمى هؤلاء المتنفذين.
وقد كان الملوك وسادات القبائل والمتنفذون الذين تمر قوافل التجارة بمناطق نفوذهم، أو الذين تقع الأسواق في أرضهم أو في مناطق نفوذهم، يشتطون في الإتاوة، ويشتدون في جباية المكس، و يبالغون في رفع حق المرور والحقوق الأخرى المكتسبة بالعرف والعادة اًو بقانون القوة والكيف، فيؤذون بذلك التجار والتجارة ويضطرون التجار إلى رفع أسعار البيع، للحصول على أرباح لهم، فتضررت التّجارة بذلك ضرراً كبيراً، وقل الاقبال على شراء السلع المستوردة من جزيرة العرب إلا ما كان ضرورياً، ولا مناص من شرائها، وارتفع على المشتري سعر المواد المستوردة، واضطر التجار إلى التحكم في أسعار الشراء من الأسواق المحلية في جزيرة العرب، بشرائها بأسعار متهاودة لضمان تصريفها في الأسواق الخارجية وفي كل هذه الأحوال ضرر عام للبائع وللمشترى وللمستهلك وللاقتصاد العربي بوجه عام.
وقد كانت القوافل تقصد الأماكن التي تريد البيع والشرإء فيها في مواسم معينة في الغالب، وذلك لاجتماع التجار فيها، وهذا مما يهيىء للتاجر أكبر عدد ممكن من التجار، كما كان التجار يقصدون الأسواق المؤقتة التي تقام في الأعياد وفي المناسبات الدينية لبيع ما عندهم من بضاعة ولشراء ما يأتي به الناس من أموال، ولم يكن ذلك خاصاً بجزيرة العرب، فقد كان العبرانيون وغيرهم من بقية الشعوب السامية يفعلونه أيضاً. ونرى إن الأسواق التي كانت تقام في جزيرة العرب، كانت تقام في مواسم معينة تقع في الأشهر الحرم، وذلك لضمان مروّر التجار بأمان، فلا يتحرش بهم إلا مستهتر طريد،والغالب إن سادات القبائل التي تحرش المستهترون بالقافلة التي مرّت بأرضهم ينتقمون بأنفسهم منهم.
وقد كان الجاهليون يضعون أعلاماً على الطريق ليهتدي بها، يقال لها "الصوُّى" و "الثوة". ويقول علماء اللغة إن الصُّوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطرق. والثوة كالصُّوة، وربما نبت فوقها الحجارة ليهتدى بها، وإن العوة كالصوة التي هي العلم. وفي الحديث: "إن للاسلام صُوى ومناراً كمنار الطريق" وذكر أن "الصُوة"، حجر يكون علامة في الطريق.
وذكر أن "الثوة" حجارة ترفع فتكون علما" بالليل للراعي إذا رجع، وأخفض علم يكون بقدر قعدتك، وارتفاع وغلظ وربما نصبت فوقها الحجارة ليهتدى بها.
والمنار. العلم يجعل للطريق أو الحدّ للارضين والعلامة التي توضع على الحدود لتوضح معالمها. وقد كان أهل العربية الجنوبيهّ يضعون علامات على ااطرق لتشير إلى معالمها، فلا يضل عنها من يسلكها من الرجال والقوافل. وقيل في الإسلام للأعلام المبنية في طريق مكهّ أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل الى الميل، وكل ثلاثة أميال منها فرسخ. والمنار محجة الطريق، قال الشاعر: لعك في مناسمها مـنـار الى عدنان واضحة السبيل
و العلامة، شيء منصوب في الطريق يهتدى به. ويقال لما يبنى في جوادِّ الطريق من المنازل يستدل بها على الأرض أعلام، والأعلام الحدود. والمعلم، ما يستدل به على الطريق من الأثر. فقد كان من الصعب حتى على خبراء البادية الاهتداء إلى الطرق بدون وضع علامات تشير إليها.
والنعامة المفازة، وقيل علم من أعلام المفاوز يهتدى به. و. "المنقل"، الثنية في الجبل وكل طريق في الجبل نقيل، في لغة أهل اليمن.
والآجام علامات وأبنية يهتدى بها في الصحاري. و "الوجم"، حجارة مركومة بعضها فوق بعض على رؤوس القور والآكام، وهي أغلظ وأطول في السماء من الأروم. وحجارتها عظام، لا يحركها الإنسان ولو اجتمع جمع منهم بصعوبة، ينسبها الناس إلى صنعة عاد. و "الآرام" الأعلام تنصب في المفاوز يهتدى بها، أو خاص بعاد، أي بأعلامهم، و "الأروم" الأعلام في المفاوز. وكان من عادة الجاهلية، انهم إذا وجدوا شيئاً في طريقهم لا يمكنهم استصحابه تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه. وقيل قبور عاد.
وقد كان الجاهليون قد مهدوا الطرق وكسوا بعضها بمادة قوية مثل "الاسمنت" ووضعوا عليها العلامات. وقد أطلق العرب لفظة "العود" على الطريق القديم العادي.
وسن الطريق سنأَ إذا ساره، ويقال ترك سنن الطريق، أي جهته. وقد كان القادة يتنكبون عن سنن الطريق، ليباغتوا العدو، أو ليتجنبوا تعقبهم لهم. وقد كان لرؤساء القوافل علم باًلأبعاد والمسافات وباًلأماكن التي يجب النزول بها والتمون منها بالماء والطعام. ونجد في كتب أهل الأخبار أخباراً بأسماء منازل القوافل وبأبعادها وقد استقيت من أفواه رجال القوافل في الجاهلية. كما نجد إن للاعراب دراية مدهشة بمواضع الماء وبالطرق مع مرورها في بوادي يصعب السير فيها، وقد ورثوا علمهم هذا عن أسلافهم ومن تجاربهم الخاصة التي تعلموها من كثرة أسفارهم وتنقلاتهم.
وقد كان التجار وأصحاب القوافل يقطعون أسفارهم بمراحل، ينزلونه في كل مرحلة بمنزل يستريحون فيه ويموّنون أنفسهم بما يحتاجون اليه من ماء وزاد. ويعبرون عن المسافات التي تقطعها القافلة بين منزل ومنزل آخر ب "مسيرة"، فيقولون "مسيرة يوم" أو "مسيرة نهار" وما شابه ذلك. كما عرفوا الأبعاد بالفرسخ والميل. و "النزل" المنزل، وما هيىء للضيف ان ينزل عليه. ومنه منازل الطريق. وتراعى القوافل في سيرها إلى أهدافها الأخذ بأقصر الطرق الآمنة المطمئنة التي تتوفر فيها المياه، وقد تعدل من سيرها فتسلك طرقاً بعيدة أو وعرة إذا أحست بعدو يتربص لها في الطريق المسلوك، أو بلصوص ظهروا فيها، أو بقوم يريدون الاستيلاء على قافلتهم، كالذي فعله "أبو سفيان" مقفله من الشام يريد مكة، حيث بدل طريقه، فحوّله عن "بدر"، وساحل، فأضاع بذلك الفرصة على المسلمين ووصل سالماً بقافلته إلى مكة.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق