359
عمر بن عبد العزيز ( معالم التجديد والاصلاح الراشدى ) على منهاج النبوة
الفصل الثالث : السياسة الداخلية لمعاوية رضي الله عنه
المبحث الثامن: الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه:
أولاً : البصرة: ومن أشهر ولاتها في عهد معاوية فهم:
س ـ خطبة زياد المعروفة بالبتراء بالبصرة:
لما تولى زياد ولاية البصرة، عام 45هـ، خطب خطبة بتراء ، لم يحمد الله فيها وقيل: بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعماً، فألهمنا شكراً على نعمتك علينا. أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفَجر الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا ينحاش منها الكبير، كأن لم تسمعوا بأي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكروا أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به، من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصر، والعدد غير قليل: ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغاره النهار اقربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس كل امرى منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو معاداً، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب ، حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد ، أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من بُيِّت منكم، فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي، وإياي ودعوى الجاهلية ، فإني لا أجد أحد دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غُرَّق قوماً غرقته، ومن حرَّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته ، حياً، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضرب عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن ، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس . ايها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة ، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت ولو أتاني طارقاً بليل، وحابساً رزقاً ولا عطاءً عن إبانة ، ولا مُجمَّراً لكم بعثاً، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنها ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم، أسأل الله أن يعين كلاً على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي: فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد ايها الأمير أنك قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال كذبت، ذاك نبي الله داود عليه السلام . قال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء وإنا لن نُثني حتى نُبتلي، فقال زياد: صدقت . وهذه الخطبة تعتبر من الخطب المشهورة في التاريخ ومع الرغم من كثرتها وكثرة المصادر التي أوردتها إلا أنها لم تأت بإسناد صحيح يجعل القاريء يطمئن إلى صحة ما ورد فيها، لاسيما أنها تحتوي على مآخذ عديدة، وتناقضات واضحة تقلل من صحة نسبة جميع ما جاء فيها إلى زياد وقد نبه إلى هذه المآخذ والتناقضات الدكتور خالد الغيث حفظه الله منها .
ـ تحدثت الخطبة عن انتشار الفجور في البصرة وكثرة بيوت الدعارة فيها ، ويستفاد ذلك من قول زياد: .. من ترككم هذه المواخير المنصوبة، قوله: ... حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً . وهذا الكلام المنكر عن حال البصرة عند قدوم زياد، يرده حقيقة ما كانت عليه البصرة منذ تأسيسها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث بنيت لتكون قاعدة تنطلق منها الجيوش الإسلامية لمواصلة الفتح ونشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة، ومن أجل هذه الغاية استوطن البصرة أكثر من خمسين ومائة صحابي، حملوا على عواتقهم مهمة الدعوة إلى الله وتعليم الناس أمور دينهم، فأنَّى لهذه المنكرات أن تنبت وتنتشر في مجتمع عماده الصحابة والتابعون دون أن ينكروه ويلزموه، كذلك فإن وجود الخوارج في البصرة وما عرف عنهم من الاستعجال والاندفاع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل آخر على انتفاء وجود هذه المنكرات في مجتمع البصرة وبالحجم الذي ورد في خطبة زياد .
ـ ومن التناقضات الواردة في الخطبة: ورد قول زياد: وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه مع أنه ذكر في موضع آخر من الخطبة نقيض ذلك وهو قوله: وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم . وورد في الخطبة قول زياد: إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه . لكنه عاد في موضع آخر من الخطبة لينقض ما ذكره آنفاً فقال: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل . وهذه التناقضات الواردة في الخطبة يستغرب صدورها من زياد مع ما عرف عنه من البلاغة والفصاحة، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى وهي احتمال كون النص الذي بين أيدينا عن خطبة زياد عند مجيئة إلى البصرة عبارة عن أكثر من خطبة تم دمجها في سياق واحد ويؤيد ذلك ثناء عبد الله بن الأهتم والأحنف بن قيس على زياد بعد انتهاء الخطبة من أن الخطبة تستوجب النقد وليس الثناء، لما فيها من تقديم حكم الجاهلية على حكم الله . وعن الشعبي، قال: ما سمعت متكلماً قد تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفاً أن يسيء إلا زياداً، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاماً . وهذا الثناء من الشعبي على زياد يقوي الشك حول خطبة زياد البتراء التي سبق الحديث عنها في الرواية السابقة .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق