95
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع
طبيعة العقلية العربية
وليست هذه الطباع وراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء ابدأَ في الدم، فلا تتبدل ولا تتغير، بل هي حاصل أحوال وبيئة، إذا تغيرت ا الأحوال والبيئة وقع تغير يتوقفّ على مقدار فعل البيئة الجديدة في الإنسان وعلى الزمان الذي يقضيه فيه وعلى مقدار استعداد ذلك الإنسان لتقبل البيئة الجديدة والثقافة الجديدة التي دخل فيها، ولحذا بركون فعل التغير في الجل القديم أقل من الجيل الجديد. وعلى ذلك يخطئ من يصف العرب بصفات يلصقها بهم يجعلها عامة عليهم أبدية. ودليلنا على ذلك أن من عاش من الأعاجم بين العرب وفي بيئة عربية، تطبع بطباع العرب وصار مثلهم، حتى إذا انقرض الجيل القديم ونبع الجيل الجديد تحول إلى جبل عربي في كل شيء، لا نستثتي من ذلك حتى الانتساب إلى العرب إلى عدنان وقحطان وحتى التعصب والعصبيات. والإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته، وجعلهم جنوداً يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته، لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحوّلهم بذلك إلى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به.
والأعرابي واقعي، تتأثر أحكامه بالواقع الذي يراه، وبمقياس المادية التي تتمثل عنده، يؤمن بالروح، ولكنه يحولها إلى ما يشبه المادة الملموسة. يؤمن بإلّه أو بآلهة، كما كان في الجاهلية ولكنه حوّل تلك الآلهة إلى أوثان وأصنام، يلمسها ويحسها بيديه، فيتقرب أليها ويتوسل بها، وخاف من الأرواح مثل الجن والأرواح الخبيثة التي صورها عقله، أكثر من خوفه من آلهته، فإذا نزل مكاناً قفراً، أو محلاً موحشاً، أو دخل مكاناً مظلماً أو كهفاً، تعوذ من الأرواح، واحتال عليها بمختلف الحيل التي ابتكرها عقله، ليتغلب عليها وليتخلص منها. فهو يخافها اكثر من خوفه من الآلهة، لأنه جعلها تعيش معه في كل مكان، فهي تحيط به. أما الالهة، فإنها بعيدة عنه، ثم إنها لا تؤذي، ومن طبع الإنسان التخوف من المؤذين.
وهو لا سفل بما بعد الموت، لأن هذا العالم الثاني عالم غير محسوس بالقياس إليه. ولهذا لم يتصوره كتصور غيره من الأمم الأخرى، بل هو لم يتعب نفسه بالتفكر فيه، ولهذا كانت مراسيم دفن الميت بسيطة جداً، لا تكلف فيها ولا تعقيد، على نحو ما نجده عند الحضري أو العجم، متى دفن في قبره وهيل التراب عليه، انتهى كل شيء. ولهذا كاد عجبهم شديداً إذ سمعوا بالبعث وبالقيامة والحشر والنشر. )أ إذا امتنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون(. وكان قائلهم يقول: حياة، ثم موت، ثم نـشـر: حديثُ خُرافة، يا أم عمرو!
وقال شدّاد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك، يرثي قتلى قريش يوم بدر: يحدثنا الرسول بأن سنحيا=وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ وقد ورد البيت المذكور في صورة أخرى في كتاب "الصبح المنير في شعر أبي بصير"، في باب شعر "أعشى نهشل"، ورد في هذا الشكل: وكائن بالقليب قلـيب بـدر من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة إلى سنحياً وكيف حياة أصداءٍ وهامِ ?
أيعجز أن يرد الموت عنـي وينشرني إذا بليت عظامي
ألا مَنْ مبلغ الرحمن عنـي بأني تارك شهر الـصـيام
فقل لله يمنعنـي شـرابـي وقل لله يمنعني طعـامـي
والحضر الذين نظروا إلى الأعراب، نظرة استصغار وازدراء، لما بينهم وبين الأعراب من تفاوت في الثقافة وفي العقلية، هم أنفسهم وفي الواقع أشباه حضر، وأخص من هؤلاء الحضر حضر الحجاز، فخصائص التعرب غالبة عليهم، غلية تزيد على خصائص الحياة الحضرية. فقد قامت قراهم مثلاً وأعظمها مكة ويثرب على الفكرة الأعرابية القائمة على أساس النسب، فكل من مكة ويثرب شعاب، كل شعب لفخذ أو عائلة أو ما أشبه ذلك من أسماء تدخل في أسماء أجزاء القبيلة، تتعصب وتتحزب وتتقاتل فيما بينها وتتحالف، كما يتقاتل أو يتحالف الأعراب. ثم إنهم كانوا يأنفون من الاشتغال بالحرف، تماما كما يفعل البدو، ويعافون الزراعة في الغالب، لا استثني منها زراعة النخيل، لأن الزراعة في نظرهم من أعمال النبط والرقيق،والروح الفردية سائدة بينهم، موجودة عندهم، إلا في أوقات الشدة والضيق، والفردية الجامحة من طبائع البادية ومن خصائصها، إلى أمور أخرى عديدة تعدّ من صميم الحياة الأعرابية. وسبب ذلك أن هذه المستوطنات التي سموها قرى كانت وسطاً بين البداوة والحضارة، وكانت كالجزر الصغيرة وسط المحيطات الواسعة، محيطات من الأعراب،، تستمد غذاءها الروحي والمادي من البداوة أكثر مما تستمده من الحضارة. أضف إلى ذلك عامل الطبيعة الذي يلعب دوراً خطراً في تكون المجتمعات وفي تكييفها بالشكل الملائم. ولذلك لم تتكون في يثرب أو في مكة أو في غبرها حياة مشابهة لحياة الحضر العجم في الأماكن الأخرى مثل مدن وقرى العراق وبلاد الشام ومصر، بل وحتى حضر مدن اليمن وهم من العرب بالطبع.
ومن هنا نجد حضر اليمن، بل وأعرب اليمن أيضا يختلفون عن حضر وأعراب الحجاز ونجد والعربية الشرقية، في كثير من الخصائص والصفات. مع أنهم كلهم عرب ومن أصل واحد. فحضر اليمن، حضر لا يأنفون من العمل ولا يستصغرون شاًن الحرف. ولا يأنفون من الزراعة. بينهم الحائك والنساج والمشتغل بالأرض، والصانع والحداد والنجار وعامل البناء، وقالع الحجر ومربي الماعز والغنم والبقر، وزارع الخضر والبقول، ودابغ الجلود، مع أنها حرف يراها العربي في بقية مواضع جزيرة العرب من حرف اليد والطبقات الدنيا من الناس.
و أعراب اليمن، الذين ميزهم حضر اليمن عن أنفسهم في الجاهلية بإطلاق لفظة "اعرب" عليهم، لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة. هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورعوا ماشية وأنعاماً، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقوّمات البداوة. ثم انهم لم يكونوا رحلاً على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشمام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب عليها البقاء في منازلها، فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. انهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق