إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 6 نوفمبر 2015

96 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل السابع طبيعة العقلية العربية


96

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي

الفصل السابع

طبيعة العقلية العربية

ومرجع هذه الفروق هو في التباين في الطبيعة. فطبيعة أرض اليمن مثلاً طبيعة لطيفة خفيفة، الحرارة فيها معتدلة بوجه عام، والفروق في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء،أو بين الليل والنهار ليست كبيرة متناقضة متعاكسة. والضغوط الجوية فيها معتدلة غير قلقة متغيرة بكثرة في اليوم أو في الشهر أوفي السنة، والأمطار متوفرة بوجه عام، تزور اليمن في مواسم معينة، وجبال اليمن العالية جبال تقف شامخة عنيدة وفي وضع مناسب أمام الأبخرة المتصاعدة من البحار، حتى تضطرها على الهبوط غيثاً على اليمن يغيث الناس. ثم أن اليمن هضاب وأودية وتهائم، ومسايل طبيعية تقود السيول إلى أحواض حفرتها الطبيعة، وعلمت هذه الطبيعة الإنسان على رفع حافاتها لتحبس الماء في الأحواض، وعلى عمل فتحات فيها لخروج الماء منها وقت الحاجة. وهي غنية بالمعادن وبالحجر الصالح للبناء وبالأشجار التي غرزتها الطبيعة بيدها، وأرض على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة لا بد وأن تؤثر على أجسام وعلى عقول أصحابها، فجعلتهم من ثمّ من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان العمل والحيلة في كسب العيش وفي إقامة المجتمعات وإنشاء حضارة، وفوّقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب جزيرة العرب، وصيرتهم قوماً لا يرون الأشغال بالحرَف عيباً، ولا امتهان المهن العملية نقصاً. ولو كانت أرضهم على شاكلة أرضَ الحجاز أو نجد، ولو كانت طبيعتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، لما صار أهل اليمن بالشكل الذي ذكرته. ولهذا السبب، اختلفت طبائع من يسميهم أهل الأخبار بالقحطانيين الساكنين خارج اليمن في نجد أو في بادية الشام عن طبائع أهل اليمن، فصاروا أعراباً أقحاحاً يأنفون من الاشتغال بالحرَف، ولا يعيشون إلا على تربية الإبل، إلى غير ذلك من سمات وسم بها البدو مع انهم يمانيون كما يذكر أهل الأخبار. ولو كانت طبيعة أرض البادية على نحو آخر، على نحو يؤمن العيش والراحة لمن يقيم بها، لما وجدنا ما وصففاه من أوصاف عند الأعراب، فإن الطبيعة تصقلهم إذ ذاك صقلاً آخر، قد تجعلهم مستقرين مقيمين على الأقل، ودليل ذلك أثر الأمطار والربيع فيهم، عندما تغيثهم السماء، سنين متوالية، إذ يبقون في أماكنهم، ويقيمون فيها،ولا يخطر ببالهم عندئذ خاطر الارتحال والتنقل من هذه ا لأرض.

ولأثر الطبيعة المذكور في طباع الناس، اختلفت طبائع أهل "الطائف" عن طبائع أهل مكة مع أنها أقرب إلى مكة من اليمن، وسبب ذلك أن الطائف أرض مرتفعة ذات جو معتدل، بها مياه وفيرة، وبها أشجار وهبتها الطبيعة لأرضها منذ القدم، أرضها نصبة فرحة، لا تسودها كآبة البادية ولا يخيم عليها عبوس البيداء، فصارت أخلاق أهلها من ثم أقرب إلى أخلاق أهل اليمن، وصاروا أذكياء، عقولهم متفتحة نيرة، استغلوا أيديهم، فزاولوا الحرف مثل الدباغة، واستغلوا الأرض، إذ زرعوها حباً وأشجاراً مثمرة، وربوّا الماشية، وصارت مدينتهم حتى اليوم مصيف أهل مكة. مع أنهم عرب ما في أصلهم العربي أدنى شك، وهم وعرب مكة أو يثرب أو نجد من طينة واحدة، لا شك في ذلك ولا شبهة.

فالطبيعة إذن من حر وبرد ومن اختلاف في الضغوط الجوية ومن أشعة شمس محرقة منهكة ومن إشعاع أرضي ومن أمطار و أهوية ورياح ومن طبيعة أرض وموقع، ومن هبة الطبيعة إلى السكان من طعام غني أو فقير، من حبوب وأثمار وخضر وحيوان، أثر بالع في تكوّن الطباع وفي خلق التمايز بين الأجناس البشرية، تضاف إلى ذلك الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تحيط بالناس ثم التكوّن الجسماني ومظهره. ومن هنا نجد العربي الأصيل الذي لا شك ولا شبهة في أصله العربي، إذا أقام وحده مدة في مجتمع غربي مثل انكلترة أو اسكاندينافية أو أميركا الشمالية، حيث الطبيعة مختلفة عن طبيعة بلاده وحيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متباينة عن الظروف المذكورة في بلاده، تغير وتبدل واضطر مختاراً أو كرهاً عن غريزة تطور كامنة فيه إلى التأقلم والانسجام مع القوم الذين صار يعيش بينهم. ويتوقف هذا التحول بالطبع على عمر الشخص وعلى قابليته وعلى مدة إقامته في المكان. ولو أقام ذلك العربي طيلة حياته كلها في ذلك الوطن الجديد، وصار له نسل من زوجته العربية التي قدمت معه أيضا، فإن النسل الجديد سيكتسب صفات الموطن الذي نشاً فيه ويتخلق بأخلاقه، أما نسل نسله، فإنه سيتحول إلى شخص آخر غريب عن جده، غريب عنه حتى في لغته. ومن هنا نجد الجيل الثالث من أجيال المهاجرين العرب الذين هاجروا إلى أميركا، وتجنسوا بها، جيلاً أمريكيا في كل شيء، حتى في لغته وثقافته وشعوره وهواه، يشعر أن حنجرته لا تطاوعه على تعلم العربية وأن أوتارها لا تساعد على النطق بها. مع أنه من أصل عربي أباً وأماً. وقد برز من هذا الجيل الجديد اليوم قوم في ميادين العلم والتجارة والمال والصناعة والسياسة والعمل، ودخل نفر منهم مجلس النواب في واشنطن، وسيزيد هذا العدد ولا شك، لم يعقهم عن ذلك عائق الرس والعنصر والجنس وخصائص الدم ولو كان الدم عائقاً إلى الأبد، لما حدث في المذكورين ما نراه عملياً في هذا ا ليوم.

والعربي بعد، إن وصف في الجاهلية أو في الإسلام بالخمول والكسل، وب "الرومانطيقية"، أي بالخيال، وبعسم الصبر وبالأنانية والفردية وبما شاكل ذلك من صفات، فصفاته هذه ليست حاصل خصائص دم ونتيجة سمات عرق، وإنما هي ظروف وأحوال وأوضاع أجبرته على ذلك، ولو أطعم ذلك العربي طعاماً صحياً فيه المواد الغذائية الضرورية لنمو الجسم والعقل،ولو تغيرت ظروفه، فهو كما ذكرت سيتغير حتماً. وما كان الأوروبي ليتفوق على الشرقي لو أن طبيعة إقليمه وأرضه كانت كطبيعة جزيرة العرب، ولو سكن الألماني أو السويسري أو الإنكليزي بلاد العرب، وصار له نسل، فإن نسله لا ينشاً كما لو نشاً في وطن والده أو جدّه، لاختلاف الظروف والأجواء. وما كانت أوروبا خضراء هذه الخضرة ونشطة هذا النشاط بسبب دم أهلها وحده،بل لأن طبيعتها ساعدت الناس وعاونتهم،فأنبتت الرطوبة والأمطار الأشجار بنفسها وكونت لأهلها الغابات، ودفع البرد الناس إلى العمل دفعاً، ولهذا تجد الناس عندنا في الشتاء يندفعون إلى العمل اندفاعاً بعامل البرد الذي يدفع الجسم إلى الحركة.

أضف إلى كل ذلك عوامل أخرى تؤثر في جسم الإنسان وفي تصرفاته واتجاهاته من تركيب جسم ومن ملامح، مثل لون شعر وتركيبه ولون بشرة أو لون عين وشكل جمجمة وأمور أخرى يدرسها ويبحث فيها علماء الأجناس البشرية، تؤثر أيضا في خصائص الإنسان وفي أجناسه وفصائله، مما لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق