94
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع
طبيعة العقلية العربية
و قد تأصلت الفردية في انفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي اكثر الحضر، حتى صارت أنانية مفرطة، عاقت المجتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم و عن التوثق و الاتحاد، وفي الأدبين الجاهلي و الإسلامي أمثلة عديدة سارت بين الناس تمثل هذه النظرية الضيقة إلى الحياة. ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه قال:"قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة، و قمنا معه، فقال أعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني و محمدا، و لا ترحم معنا أحدا". فقدم نفسه على الرسول، مع انه مسلم يحمله دينه و أدبه: أدب الإسلام على تقديم الرسول عليه، ثم انه لم يخصص أحداً بالرحمة غير الرسول و غير نفسه مدفوعا بهذه الأنانية القبيحة. وكثيرا ما تسمع الناس يتمثلون بقول أبي فراس: "إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".
يتمثل به الحضر تعبيرا عن فلسفة و وجهة نظر قديمة إلى هذه الحياة، مبعثها الوضع السيئ العام القلق الذي عمّ المجتمع وما زال يعمه، والذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود من يحميه و يساعده ، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية مضرة و يل للأسف.
و البدواة عالم خاص قائم بذاته، تكونت طباعها و خصائصها من الظروف التي نشأت فيها، لها مقاييسها و موازينها الخاصة، وهي مقاييس و موازين تختلف عن مقاييس الحضر و موازينهم، الحضر البعيدين عن البادية و عن أحوال البدواة و لذلك اختلفت افهام الجماعتين و تباعدت عقليتهما، ومن هنا يظهر خطأ من يحكم على البداوة بمقاييس أهل الحضارة و يفسر ما يقع من الأعراب تفسيره لما يقع من أهل المدر من أعمال، ومن هنا أيضا نجد أن البدواة لا تستطيع فهم منطق الحضر ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشر. ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن اليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف و إحسان. وقد كابدت البداوة كثيراً كما كابدت الحضارة كثيراً أيضا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين.
ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي حارب معه وفي صفوفه عربياً أو أعجمياً. شريفاً من أسرة عريقة أم قائداً محترفا. وهو كريم جواد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الاكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. وهو رجل متدين لا يحلف كاذباً مها رأى النتيجة، ولكن تدينه تدين بدوي سطحي إلى غير ذلك من متناقضات.
أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمع عقل إنسان سليم لإنسان مثلاً أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمد هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج أليه ويريد? ألا يدل هذا العمل على السخف والضعف وفساد الرأي ? أن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة أليها، فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عنوة ويولي بها ليحرم عدوه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتماً، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوه: ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.
وحكم الأعراب على الأمور،حكم صادر عن عقلية خاصة بهم، كونتها عندهم الأحوال التي يعيشون فيها والمحيط الذي يتحكم فيهم من جفاف وحرارة وضوء ساطع واختلاف في درجات الضغط الجوي وانحباس الأمطار وفقر محالف لأغلب الأرضين ومن فقر وتقتير وبساطة في المأكل وأمثال ذلك من مؤثرات كونت عندهم عقلية خاصة وثقافة خاصة، فهمت الأمور بمنطقها لا بمنطق الآخرين. ومن هنا اختلفت أيضا عقليات الأعراب وتباينت بعض التباين باختلاف الأحوال التي تحيط بالأمكنة التي ينزلون بها ويقرب تلك الأمكنة وبعدها من الحضر ومن،الحضارة. وبمقدار تأثرها بالمؤثرات الخارجية وبالثقافات الواردة من الخارج، كالذي نلحظه من وجود شيء من التباين بين عقليات القبائل المتنصرة وأعمالها وعقليات القبائل الوثنية وأعمالها، بالرغم من أن نصرانية تلك القبائل لم تكن نصرانية عميقة صميمة، ولم تكن صافية خالصة، وذلك لأن هذه القبائل المتنصرة على سطحية تنصرها، كانت مواطنها ملاصقة للحضر وللحضارة وذات اتصال بالحضر وبالأعاجم وبالثقافات الأجنبية وبالبيئات الثقافية الغربية، وعاش بينها رجال دين غرفوا من ثقافات غريبة وبشروا بين العرب المتنصرة بآراء غريبة عنهم، كما تأثر رؤساء تلك القبائل بمؤثرات الحضر الذين احتكوا بهم وبرجال السياسة والدين الذين كانوا على اتصال بهم، وقد تزوج بعضها من نساء نصرانيات، أثرن في بيئة ذلك الزوج.
وقد نص الأقدمون على اختلاف طباع القبائل،فعرف بعضها باللين والسهولة، وعرف بعضها بالشدة والخشونة والغلظة، وعرف آخرون بالشجاعة والصبر على المكاره والميل إلى الغزو والحروب، وعرف غيرهم بالميل إلى الاستقرار وبقابليتها على الاستيطان واستغلال الأرض والالتئام مع الجيران. ولوجود هذه الصفات في القبائل كان الحكام في الجاهلية وفي الإسلام إذا أرادوا أمراً وكلوه إلى القبيلة التي تتناسب صفتها التي اشتهرت بها مع العمل الذي يراد القيام يه، وصار اعتماد الحكام على هذه الفراسة في الغالب. وما زال هذا التباين في كنايات القبائل معروفاً حتى اليوم، فقد اشتهرت بعض قبائل نجد بأمور لم تشتهر بها القبائل الأخرى، أو أنها فاقت بها سائر قبائل نجد، فاشتهرت بعضها بالقتال، واشتهرت بعضها بالصرامة والصبر، وما إلى ذلك، ويراعي حكام جزيرة العرب اليوم هذه الصفات في ضبط الأمور في حكوماتهم وفي حفظ التوازن في حكم البوادي والأعراب وفى السياسة العامة للحكومة. وفي تقارير السياسيين الوطنين والأجانب وفي كتب السْياح والبعثات الأجنبية على اختلاف أنواعها كلام على تباين طباع الأعراب في جزيرة العرب وطباع الحضر في هذا اليوم.
فترى أذن أن للأعراب رأياً في الحضر يشبه رأي الحضر فيهم، أي رأي فيه ازدراء و حط من شأن الحضر ومن مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن قيمهم في هذه الحياة، وهو رأي تكون عندهم من بيئاتهم التي يعيشون فيها ومن ثقافتهم الخاصة بهم، التي تفسر الأمور بمقاييسها وأوزانها، وهي مقاييس وأوزان بعيدة عن مقاييس الحضر والحضارة ولا أقصد بالحضر هنا حضر الأعاجم وحدهم، بل ادخل فيهم حتى الحضر العرب، كالذي يتبين من استهجان الأعراب بشأن أهل المدر في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب ومن ازدرائهم لأحلامهم ومثلهم في الحياة. فالبداوة ثقافة خاصة بهذا العالم، عالم البداوة، والحضارة ثقافة أخرى خاصة بالحضر، وبين الثقافتين بَوْن وخلاف.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق