93
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع
طبيعة العقلية العربية
ووصف الأعراب في القرآن الكريم بالغلظة والجفاوة وبعدم الإدراك وبالنفاق وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما فيَ الجنان: )قالت الأعراب: آمنا، قل، لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الأيمانُ في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله، لا يلتكم من أعمالكم شيئاً، إن الله غفور رحيم(. )وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدُوا على النفاق، لا تعلمهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردّون إلى عذاب عظيم( . فالأعرابي "البدوي" إنسان لا يعتمد عليه، مسلم ومع ذلك يتربص بالمسلمين الدوائر، فإذا خذل المسلمون في معركة، أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم، أو اشترط شروطاً ثقيلة عليهم، بحيث يجد فيها مخرجاً له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين. فلا يكلف نفسه، ولا يخشى من مصير سيئ ينتظره إن غلب المسلمون. )الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، و الله عليم حكيم. ومن الأعراب من يتخذه ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر علهم دائرة السوء والله سميع عليم(، والأعرابي لم يُسِلمْ في الغالب عن عقيدة وعن فهم، إنما أسلم لأن رئيسه قد أسلم فسيّد القبيلة إذا آمن وأسلم، أسلمت قبيلته معه. وقد دخلت قبائل برمتها في الِنصرانية لدخول سيّدها فيها. وقد وردت في سورة الحجرات هذه الآيات في وصف بعض الأعراب: )قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم في شيئاً. إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون، الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. قل أتعلّمون الله بدينكم ؛ والله يعلم ما في السموات وما في الأرض. والله بكل شيء عليم. يمنّون عليك أن أسلموا. قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم، بل الله يمن عليكم، أنْ هداكم للإيمان إن كنتم صادقين(.
وقد استثنى القرآن الكريم بعض الأعراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم(.
وقد وصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل، أعرابي قُحّ ، وأعرابي جلف، وما شاكل ذلك. وفي الحديث "من بدا جفا"، أي من نزك البادية صار فيه جفاء الأعراب.
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله: "وان كان أعرابيا بوّالاً عد عقبيه". وأنه نعت "عُيَيْنَة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب ب "الأحمق المطاع". "وكان دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، بغير اذن، فلما قال له أين الإذن? قال ما استأذنت على مضربي قبلك. وقال: ما هذه الحميراء معك يا محمد? فقال: هي عائشة بنت أبي يكر. فقال: طلقها وانزل لك عن أم البنين. في أمور كثيرة تذكر من جفائه. أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيراً فأتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرا فمن عليه ولم يزل مظهراً للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة اعرابيته حتى مات".
و ذُكر إن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب". وذلك لازدراء العربُ الأعرابَ، و لارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية.
وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنن التقدم في هذه الحياة، هي التي حملت الإسلام على اعتبار "التبدي" أي "التعرب" بعد الهجرة ردّة على بعض الأقوال وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية. فلما خرج "أبو ذر" إلى الربذة قال له عثمان بن عفان: "تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابياً". فكان "في يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية". ولما وصل "عبد الله بن مسعود" الربذة، ورأى ابنة أبي ذر وهي حائرة وكان والدها قد فارق الحياة لتوّه، سألها: "ما دعاه إلى الاعراب". وفي الحديث: "ثلاث عن الكبائر منها التعرب بعد الهجرة". وهو أن يعود إلى البادية ويقم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتد. وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، ومن هنا كرهت شهادة البدوي على الحضري فورد في الحديث "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وِلمَا في البدوي من جفاء وجهالة بأحكام الشرع.
وقد عُرفَ العربي الحضري ب "القراري"، أي الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار، وفيها، أن كل صانع عند العرب قراري. وهذه النظرية هي نظرة أهل البداوة بالنسبة لأهل الحاضرة، فالصانع عندهم إنسان مزدرى لاشتغاله بصنعة من هذه الصنائع التي يأنف منها العربي الحرّ.
والحق أن النعوت المذكورة لا تلازم جميع الأعراب ولا تنطبق عليهم كلهم. فهم يختلفون مثل أهل الحضر، باختلاف مواضعهم، من قرب عن حضارة ومن بعد عنها، ومن وجود ماء ونصب، أو جدب أو فقر،وما شاكل ذلك. كما أن بعض النعوت المذكورة تنطبق على بعض أهل المدر أيضا. ولهذا نجد القرآن الكريم. يطلقها عليهم، ولكن لا على سبيل التعميم بل على سبيل التخصيص، فهي نتائج ظروف خاصة وأحوال معينة، لا بد وأن تؤثر فئ أصحابها فتكّسبهم تلك الصفات والمؤثرات. كما أن العرب، أي الحضر، لم يكونوا كلهم في التحضر على درجة واحدة سواء، فبينهم اختلاف وتباين، وبهذا التباين تباينت خصائصهم النفسية بعضهم عن بعض.
والبدوي الذي تمكن "ابن سعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على البدو ألآخرين، هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلاد وفي عهد إسماعيل، والذي قالت في حقه التوراة: "يده على الكل و يد الكل عليه". و هو سيبقى كذلك ما دام بدويا ترتبط حياته بالصحراء، ينتهز الفرص كلما وجد وهنا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الآخرين، وهو إن هدأ و سكن، فلأنه يجد نفسه ضعيفا تجاه سلطة الحكومة، ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلاحه، فإذا شعر بقوته لم يخش عندئذ أحد.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق