92
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل السابع
طبيعة العقلية العربية
"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الأثر، وكثيراً ما كانت هذه المعرفة سببا في اكتشاف كثير من الجرائم ولا تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافط على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص، فلا تصاهر إلا من يساويها في النسسب، والقبائل المشكوك في نسبها لا يصاهرها أحد من القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب، فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم،لا يزوجون بناتهم إلا لقرباهم. ما هم فيتزوجون من يشاءون، وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض: الأشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم، وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الأشراف، وأرفع من سواهم من حكام العرب الآخرين".
"وهنا ترى الروح الصحيحة البدوية التي لا تملك شروى نقير ترفض الزواج من غني، لأنه ابن صانع، أو انه من سلالة العبيد، أو لأن نسبه القبلي يحيط به شيء من الشك، فسلطان المال لا قيمة له عند العرب. ومع وجود هذه الروح الأرستقراطية التي تتجلى فقط في الزواج ورياسة القبيلة والحكم،فإنه لا يكاد يوجد فارق في طرق المعيشة الأخرى".
ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لا يعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.
ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحِرَف والمهَن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظره احتقار وعدم تقدير.
والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أسيء اليه، ولم يتمكن من رد الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم مه. فذاكرة البدوي، ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء.
فترى من هذه الملاحظات إن كثيراً من الطباع التيّ تطبع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرمها، لأنها من خلال الجاهلية، و مع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ مما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حد لها، وفوضى لا يردعها رادع، وان الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. انهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعاً صارماً لشديداً، وكل من يحرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومه منه، ويضطر أن يعيش "طريداً" أو "صعلوكا" مع بقية "صعاليك".
العرب والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دعابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل و دعابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفاً. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقل في تجمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، روعي فيه الإحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال.
وإذا وجدوا في رجل دعابة أو ميلاً إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائناً من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة لا أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة "، هي من العبارات التي تعبر عن الانتقاص والهمز واللمز.
والبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قدر له، معتز بما كتب له وان كانت حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديداً وتطويراً، إلا إذا أكره على التجديد والتغير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة،و إلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة. فيتقبل الآمر الواق مستسلماً، ومع ذلك يبقى متعلقا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوباً جديداً. وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع و تعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية. فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديداً، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنة الإباء والأجداد. ومنطقه في ذلك: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "، "إنا وجدنا إباءنا على أمة، و إنا على آثارهم مقتدون".
ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بصفة التقدم والنشوء والأرتقاء. فالبدوي يعيش أبداً كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من اثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لايستبدلها بيتاً آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله: "إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون ". وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلماً مسلماً نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين.
وكيف يغير حاله، وليس في البادية ما يساعده على تغيير الحال، ليس فيها ماء كاف ولا شجر نام ولا أمطار وخضرة، فهو يعيش غلى كرم الطبيعة ورحمتها. أما إذا تكاثًر عدده، وزاد عدد خيام القبيلة، اضطرت إلى التنقل إلى مكان آخر، أحسن وأنسب من المكان القديم. وهكذا صار دائما في تنقل من مكان إلى مكان.
وتحمس الأعراب وأشباه الحضر في دفاعهم عن العرف، ليس عن بلادة وغباء وشعور بضعف في الكفايات، كلا فللبدوي ذكاء وقّاد وفطنة وكفاية وموهبة، وهو إذ يقاوم التغير والتبدل والتجدد، لا يقاومه عن غباء وبلادة وعن شعور بضعف تجاه تقبل الحياة الجديدة، وإنما يقاومه لأنه يشعر عن غريزة فيه أن حياته أفضل وأن البداوة حرية وانطلاق وعدم تقيد، وأن التطور إن لم يأت منه، فهو شر و بلاء، وان كيانه مرتبط بتقاليده، وان وجوده من وجودَ آبائه وأجداده، فهو إن انحرف عن عرفه عرض نفسه وأهله وقبيلته وكل وجود قومه للهلاك، فهو لذلك يرفض كل تجديد وتغير وإن بدا لنا أو له أنه لمصلحته، لغريزة طبيعية فيه وفي كل إنسان، هي غريزة المحافظة على البقاء، فخوفه من تعرض تقاليده وكيانه للخطر، هو الذي جعله محافظاً شديد التمسك بالعرف والعادة. أما إذا شعر هو أو أشعر من طريق غير مباشر بفائدة التطور والتغير وبما سيأتيه من نفع وربح، و لا سيما إذا لم يكن في التغيير ما يعارض عرفه ولا يناقض تقاليده، فإنه يتقبله ويأخذه، ويظهر مقدرة ومهارة فيه، حتى في الأمور الحديثة الغريبة عنه. ويروي خبراء شركات البترول كثيراً من القصص عن مقدار براعة البدو وحذقهم في إدارة الآلات والأعمال التي وكلت إليهم. وهناك شهادات أخرى مماثلة وردت من جهات فنية أخرى. ولو تهيا لهؤلاء البدو مرشدون وخبراء عقلاء كيسون لهم علم بنفسياتهم، ولو عرفت الحكومات العربية عقلياتهم و مشكلاتهم، لكان في الإمكان تحويلهم إلى ثروة نافعة لا تقدر بثمن، ولتجنبت بذلك المشكلات التي تواجهها منهم.
حتى الطب، هو في البادية طب بدوي متوارث لا يتغير ولا يتبدل، يقوم على المداواة بتجارب "العارفة" في الطب. ولا يطمئن الأعرابي إلى طب أهل الحضر، مهما فتكت به الأمراض وأنزلت نجه من آلام، ذلك لأن طب أهل الحضر هو طب غريب عليه بعيد عنه، فهو لذلك لا يطمئن إليه. اللهم إلا إذا أقبل عليه رؤساؤه و ساداته، أو أقنع بمنطقه و بطريقة إدراكه هو للأمور أن في الدواء الذي يداوىَ به شفاءً لمرضه، وعندئذ يقبل عليه ثم يزيد إقباله عليه، حتى يكون مألوفاً عنده، بل يقوم في مثل هذه الحالات باختزان ما يمكن اختزانه من الدواء للمستقبل من غير أن يفكر في كيفية خزنه، أو في المدة المقدرة لعمل ذلك الدواء، وتلفه بعد انقضائها.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق