40
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثالث
إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه
وجاءوا بدليل آخر في إثبات أن الإسلام كان له دخل في طمس معالم تأريخ الجاهلية، إذ ذكروا أن الخليفة، "عمر" ساًل بعض الناس "أن يرووا بعض التجارب الجاهلية، أو ينشدوا بعض الأشعار الجاهلية، فكان جوابهم: لقد جب الله ذلك بالإسلام، فلم الرجوع". فوجدوا في امتناعهم عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الجاهلية، دلالة على كره الإسلام لرواية تأريخ الجاهلية وانتهاء ذلك إلى طمس معالم ذلك التأريخ.
أما حديث "الإسلام يهدم ما قبله"، فهو حديث لا علاقة له البتة بتأريخ الجاهلية ولا بهدم الجاهلية، وقد استل من حديث طويل ورد في صحيح مسلم في "باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج"، وبعد "باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية"، وقد ورد جواباً عن أسئلة الصحابة عن أعمال منافية للإسلام ارتكبوها في الجاهلية، هل يغفرها الله لهم، أو تكتب عليهم سيئات يحاسبون عليها ? فقالوا: "يا رسول الله، انؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ?". وقد ورد في صحيح مسلم بعد هذا الباب باب آخر بهذا المعنى، هو "باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده".
ولإعطاء رأي صحيح عن هذا الحديث، أنقل إلى القارئ نصه كما جاء في صحيح مسه لم قال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلاّ، وحول وجهه إلى الجدار، فجل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكذا ? قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمين. قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو ? قال: قلت أردت أن اشرط. قال: تشترط بماذا ? قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله? وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملا عِني منه إجلالاّ له. ولو مت على تلك الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري من حالي فيها، فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنوا عليّ التراب شناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي.
وبعل، فأية علاقة إذن بين هذا الحديث وبين الحث على تهديم الجاهلية وإهمال التأريخ الجاهلي يا ترى? وأما اتخاذهم نهي بعض الصحابة ع! رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الأيام دليلاً على كره الإسلام لأحياء ذكرى الجاهلية،ومحاولته طمس معالمها وتأريخها، وحكمهم من ثم عليه بمساهمته في طمس تأريخ الجاهلية واطفائه له، فإنه دليل بارد ليس في محله، فإن الذين نهوا عن رواية الشعر الجاهلي أو رواية الأيام، أو امتنعوا هم أنفسهم عن روايتهما، لم ينهوا ولم يمتنعوا عن روايتهما مطلقاً، أي عن رواية جميع أنواع الشعر الجاهلي أو أخبار كل الأيام التي وقعت في الجاهلية، بل نهوا أو امتنعوا عن رواية بعض أبواب الشعر، وبعض أخبار تلك الأيام، لما كان يحدثه هذا النوع من الشعر أو يوقعه هذا الباب من رواية الأخبار من شرّ في النفوس ومن فق قد تجدد تلك العصبيات الخبيثة التي حاربها الإسلام، لتمزيقها الشمل، وتفريقها الصفوف. "ومن ثم نهى الفاروق، رضي الله عنه، الناس بديأ أن ينشدوا شيئاً من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام. ومرّ عمر بحسان يوماً، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، فأخذ بأذنه، و قال: أرغاء كرغاء البعير? فقال حسان: دعنا عنك يا عمر، فو الله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد مَنْ خير منك، فقال عمر: صدقت، وانطلق". ولم يأخذ عمر على حسان رواية ذلك الشعر في مسجد رسول الله إلا لأنه كان من ذلك الشعر المثير للنفوس المهيج للعواطف، وإنشاده في نظره يعيد الناس إلى ما كانوا عليه من قتال قبل الإسلام. فلمصلحة العامة نهى بعض الصحابة عنه. ومع ذلك، تساهل عمر مع حسان، وتركه ينشد شعره، بعد أن حاجَّهُ حسان بما رأيت.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق