39
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الثالث
إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه
من الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنا ًفاكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخا، بعيد في طبعه وفي مادته عن طبع التواريخ ومادتها.
لقد وفق المؤرخون العرب في كتابة تأريخ الإسلام توفيقاً كبيراً، من حيث العناية بجمع الروايات والأخبار واستقصائها، وفي رغبتهم في التمحيص. أما التأريخ الجاهلي، فلم يظهروا مقدرة في تدوبنه، بل قصروا فيه تقصيراَ ظاهراً. فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى في هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافيه، ولم يظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية. فتركوا لنا فجوات و ثُغراً لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن، ولا سيما في تأريخ جزيرة العرب، حيث تجد فراغاً واسعا، وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التي دعت إلى حدوثه: هل كان الإسلام قد تعمد طمس أخبار الجاهلية? أو أن العرب عند ظهور الإسلام لم تكن لديهم كتب مدونة في تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وكانت الأسباب قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذي وعوه فتحدثوا به إلى الإسلاميين، فوجد سبيله إلى الكتب? أو أن العرب لم يكونوا يميلون إلى تدوين تواريخهم، فلم يكونوا مثل الروم أو الفرس يجمعون أخبارهم وأخبار من تقدم منهم وسلف، فلما كان الإسلام، وجاء زمن التدوين، لم يجد أهل الأخبار أمامهم في شيئاً غير هذا الذي رووه وذكروه، وكان من بقايا ما ترسب في ذاكرة المعمرين من أخبار.
لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى الإسلام، فزعم إن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية في الجزيرة العربية بصلة، مستدلا بحديث: "الإسلام يهدم ما قبله"، فدعا ذلك إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، والى محو أثار كل شيء تفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه بالوثنية والأنصاب والأصنام،وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ. فعلوا ذلك كما فعل النصارى في أوروبة في أوائل القرن السادس للميلاد، فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى المسلمين بعام الفيل. ولهذا "كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يترتب عليهم تدوين أخبار الماضي وحفظ مفاخره، من الذين ينظر اليهم شزراً في المجتمع الإسلامي، وخاصة في العهد الإسلامي الأول. أما مؤرخو العرب العظام، فلم ينبغوا إلا بعد تلك الفترة، وحتى هؤلاء فإنهم صرفوا عنايتهم إلى التأريخ الإسلامي، ولم يدققوا فيما يخص الجاهلية. وبالإضافة إلى ما سبق، أصبح لكلمة مؤرخ "اخباري" معنى سيئ بل أصبحت صفة تفيد نوعاً من الازدراء. وقد ألصقت هذه الصفة بابن الكلبي، كما ألصقت بكل عالم تجرا على البحث في تاًريخ العرب قبل عام الفيل. لكن لم يهاجم أحد من المؤرخين بعنف كما هوجم ابن الكلبي. والراجح أن السبب في نجللك هو انصرافه لدراسة الأشياء التي قرر الإسلام طمسها، أعني بذلك الديانات والطقوس الوثنية في بلاد العرب".
ثم سبب آخر، هو أن الإسلام ثورة على مجتمع قائم ثابت، وعلى مثل تمسك بها أهل الجاهلية، وعلى قوم كانوا قد تسلطوا وتحكموا وتجروا بحكم العرف والعادات، وككل ثورة تقع وكما يقع حتى الآن، وسم الإسلام الجاهلية، بكل منقصة ومثلبة، وحاول طمس كل أثر لها وكل ما كان فيها، حتى ظهرت تلك الأيام على الصورة التي انتهت إلينا عن "الجاهلية" وكان الناس فيها جهلة لم يكن عندهم شيء من علم في هذه الحياة يومئذ، وكأن عهدهم في هذا العالم لم يبدأ إلا ببدء الإسلام.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق