إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 8 نوفمبر 2015

137 ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي الفصل الثالث عشر تأريخ الجزيرة القديم %541


137

( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
  
الفصل الثالث عشر

تأريخ الجزيرة القديم

%541  

و يظن إن المقابر التي عثر عليها في جزيرة "أم النار" في "أبي ظبي" هي مقابر أقوام عاشوا في الألف الثالث قبل الميلاد، وقد عثر فيها على هياكل عظمية و على خرز و فخار عليه رسوم. و قد كسيت هذه المقابر و غطيت بحجارة منحوتة، حفرت عليها صور ثيران و جمال و أفاعي و حيوانات أخرى. و قد نحتت واجهة الحجر المحيطة بالصور لتظهر الصور بارزة عالية. وبظهر من دراستها إنها من عمل أيد أتقنت مهنتها، وأجادت في فنها بالقياس إلى تلك الأزمنة. وهي تحتاج إلى دراسة لمعرفة مدى تأثرها بفنون الشب الأخرى التي كان لها اتصال بهذه البلاد.

إن هذه المقابر تستحق الدراسة حقاً، لأنها تتحدث عن وجود روابط فكرية مشتركة بن أصحابها، وعن احمتال ارتباطهم بعقيدة دينية واحدة. ولا يستبعد أن تكشف بعض القبور السالمة التي لم تعبث بها أيدي البشر العاتية، عن كتابات مطمورة في غرفها، أو عن صور و نقوش ورموز تتحدث إلينا عن هوية أصحابها وعن مكانتهم في التاريخ وفي الحضارة البشرية بالنسبة إلى الأيام التي عاشوا قيها. وعندئذ نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مراحل تاريخ العرب القديم، لا نعرف اليوم من أمرها إلا هذا النزر اليسير الذي نتحدث عنه.

ولست أستبعد أيضاً احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار أصحاب هذه المقابر في مواضع لا يمكن أن تكون بعيدة عنها، إذ لا يعقل أن يكون ذوو أرحام الموتى قد سكنوا في مواضع قصية نائية عنها. وأن قوماً لهم هذه المهمة في عمل هذه القبور، لا بد أن يكونوا على درجة من الحضارة. والمخلفات للتي عثر عليها في بعض هذه القبور هي خير شاهد على ذلك. فقد عثر فيها على حلي وكل أوان من الفخار وعلى آثار أضرى مصنوعة تظهر براعة في الصنعة والإتقان. ولا يستبعد العثور على أمثالها في مستوطناتهم متى عليها.

هذا، وقد عثر بعض السياح على قبور جاهلية في حضرموت وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، إلا أن هذه المقابر هي أحدث عهداً من تلك، ثم إنها قبور نحتت في الصخور نحتا، ولم تعمل على هيأة تلال على النحو الذي وصفناه. ول "كارل راتجن" "Carl Rathjens" وصف مفصل لمقابر منحوتة زارها تقع على مقربة من مدينة "كوكبان" في اليمن. وهي كثيرة منحوتة في جانب الجبل، منها المنفردة المنعزلة ومنها ما نحتت بعضها فوق بعض. وقد وجد أن أكثرها قد لعبت بها الأيدي، فأخذت ما كان فيها، فخلت من كل شيء. وقد عثر على كتابة سبئية عند أحد أبواب هذه المقابر، مما يدل على إنها كانت لقوم من سبأ. ولا يستبعد بالطبع أن يكون أولءك الناس قد توارثوا هذا النوع من القبور من أسلاف لهم كانوا قد نحتوها.

وعلمنا بأحوال جزيرة العرب في العصور "البرنزية"،لا يزيد على علمنا بالعصور الحجرية فيها. فهي ضحلة يسيرة، لأن ما عثر عليه من مخلفات تلك العصور ليس بشيء يذكر ولا يكفي لاستنباط آراء منه. ولا يستبعد بالطبع احتمال عثور المنقين في المستقبل على آثار قد ترجع إلى هذه العصور ستهتك الحجب التي تحول الآن بيننا وبين التعرف على تلك الحقب القديمة من تأريخ الجزيرة وقد وجدت "البعثة الدانماركية" التي نقبت في جزيرة "فليكا" من جزر الكويت على آثار من هذه العصور، إلا إن ما عثر عليه لا يكفي لإعطاء رأي علميا كاف عن العصور البرنزية في هذه الأرضين.

وقد عثر في جزيرة "فيلكا" على آثار سكنى وبقايا أبنية وهياكل يرجع عهدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تبين أن هذه الجزيرة والجزر الأخرى الواقعة في الخليج كانت ملاجىء يلجا إليها أصحاب السفن والتجار في تلك الأزمنة للاستراحة ولشراء ما يجدونه عند أهل السواحل المقابلة، وللتمون بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ولأهميتها هذه اهتمت بها وبالسواحل المقابلة لها حكومات العراق، فاستولى عليها الأكاديون والأشوريون واليونان.

وقد عثر على مواد مصنوعة من حديد من العصر الحديدي، غير إنها قليلة لا يمكن أن تكوّن لنا رأياً واضحاً من العصور الحديدية في جزيرة العرب.

وعثر على بقايا جماجم بشرية في "الظهران" تبين من دراستها وفحصها على إنها من العصور "البرنزية".

وتدل الأدوات المكتشفة على قلتها على أن شعوب جزيرة العرب حتى في الأزمان البعيدة عن الميلاد كانت على اتصال بالعالم الخارجي ولا سيما العراق وبلاد الشام وحوض البحر المتوسط والقارة الإفريقية،وإنها كانت تستورد منها ما تحتاج إليه من مواد وتبيع لها ما عندها من سلع خام أو من سلع تستوردها من السواحل الإفريقية أو الهند، وأنها لم تكن في يوم من الأيام بمعزل عن بقية العالم.

والعراق وبلاد الشام، أي الأرضون التي يقال لها "الهلال الخصيب" في الزمان الحاضر، هي مهن الناحية الطبيعية وحدة لا يستطاع فصلها عن جزيرة العرب، وامتداد طبيعي لها. وليست البادية الواسعة التي يملا باطن الهلال إلا جزءاً من جزيرة العرب، وامتداداً لها، لا يفصلها عنها فاصل، ولا يحد بينها حدّ، و إذا ما تنقلت من بادية الشام إلى بوادي المملكة العربية السعودية، فلا تجد أمامك شيئاً يشعرك بوجود فروق بين طبيعة هذه الأرضين الواسعة، أو وجود حواجز يمنع سكانها من الهجرة نحو الشمال أو إلى الجنوب. وهذا كان من الطبيعي تنقل الناس في هذين الأرضين منذ وجدوا فيها وظهروا عليها بكل حرية، وبحسب الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية.

وتأريخ ظهور العرب في بادية الشام وفي أطراف الهلال الخصيب، تاريخ قديم جداً، ولكننا لا نستطيع تحديد مبدئه، ولا تثبيته، لأننا لا نملك أدلة علمية تعينه وتحدده. ثم إن كلمة "العرب" لم تكن تعنى عند الشعوب التي عاشت قيل الميلاد، غير معنى "أعراب"، وكانت إذا ما ذكرت لفظة "عرب" تقصد البدو على نحو ما ذكرت في الفصل الأول في تحديد معنى هذه اللفظة. أما العرب المستقرون، أو شبه الحضر، فقد عرفوا عندهم بأسمائهم، ولهذا اشتبه أمرهم علينا، وعثر على العلماء تعيين هوياتهم، لعدم نص الكتابات أو الكتب القديمة علا انهم عرب بمعنى جنس للسبب المذكور، فصرنا في حيرة من أمرهم، وفي التوراة أسماء قبائل كثيرة، نسبت إلى آباء وأجداد، يجبّ أن تعد من العرب، ولكن التوراة لم تطلق عليها لفظة "عرب"، لأنها لم تكن قبائل بدوية وليست اللفظة فيها إلا بهذا المعنى، فحار العلماء في تعيين أصل كثير منها، وما زالت حيرتهم هذه حتى اليوم. وليس من المستبعد أن يكون بين الشعوب القديمة شعوب عربية، إلا إنها لم تعد من العرب لأن اللفظة لم تكن علماً على جنس قبل الميلاد.

و إذا ما أخذنا بنظرية القائلين إن جزيرة العرب هي مهد الساميين، جاز لنا أن نقول عندئذ إن معظم أهل الخصيب والبادية هم من معمل تفريخ الجنس السامي الكائن في تلك الجزيرة، وان ذلك المعمل هو الذي أمدّ هذه الأرضين الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط بسلالات الساميين. فصلة جزيرة العرب بالهلال الخصيب صلة قديمة ترجع إلى الأيام الأولى من أيام الساميين، على هذه النظرية، وربما ترجع إلى أقدم س تلك الأيام.

وسنرى فيما بعد أن حكام العراق كانوا قد استولوا على العروض في الألف الثالثة أو قبلها قبل الميلاد، وانهم نزلوا في البحرين وفي جزر أخرى من جزر الخليج، وان أصل الفينيقين هو من البحرين في رأي كثير من العلماء، منها هاجروا إلى أرض "فينيقية" وسواحلها، وما كان ذلك ليتم لو كانت جزيرة العرب بمعزل عن الهلال الخصيب أو عن بادية الشام، أو إن الهلال والبادية كانا بمعزل عن جزيرة العرب.

وقد ذكر إن جماعة من تجار "أور" كانوا يتاجرون في حوالي السنة 2000ق.م مع البحرين. وكانوا قد انشأوا أسطولاً لنقل التجارة. ويقال إن "سرجون" الأكادي استولى في حوالي السنة "2300 ق. م." على البحرين وقطر، وان البحرين كانت في حوالي السنة "1750 ق. م." في يد قبيلة اسمها "كاروم" "أجارم" "Agarum"، وهو اسم قريب من "أجرم"، و إنها كانت تدفع الجزية إلى الملك "اسرحدون". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "Agarum" هم أهل مدينة "هجر" التي هي الأحساء.

وقد كانت العلاقات التجارية مستمرة دوماً بين البحرين وبين العراق. إذ كانت "دلمون" محطة مهمة جداً للتجارة بين المهند وإفريقية وسواحل الخليج والعراق. تستورد الأخشاب من الهند ومن إفريقية كما تستورد الحاصلات الأخرى وتنقل النحاس من عمان، فتبيع ذلك إلى جنوب العراق، وربما حملت تلك التجارات بسفن يملكها أهل "أور" أو غيرهم خلال نهر الفرات، لنقلها من  

هناك إلى بلاد الشام ومنها إلى البحر المتوسط لبيعها إلى أهل اليونان وبقية أرجاء "أوروبة". وقد تبين من الأخبار التي تعود إلى أيام الأسرة الثانية من أسر "أور" إن سفن ذلك الوقت "2200 - 2100 ق. م" كانت تقوم برحلات منتظمة فيما بين البحرين و "أور"، وذلك نقل ما يرد إلى هذه الجزيرة من نحاس ومن أحجار ثمينة من عمان، و من ذهب وأخشاب وأفاويه ومواد أخرى ثمينة من الهند.

وقد نزلت جاليات عراقية في البحرين، كما هاجرت جاليات من البحرين إلى العراق فسكنت به. وما الإلَه "انزاك" "Inzak" الذي عبد في جنوب العراق وشيدت المعابد بأسمه، إلا علامة على هجرة أهل البحرين إلى العراق، وتأثر أهل العراق به. فهذا الإلهَ هو إله أصله من آلهة أهل إلبحرين. و إنتقال عبادته إلى العراق دليل على تأثر العراقيين بثقافة أهل البحرين، ونقل أهل البحرين له معهم إلى وطنهم الجديد.

وقد كانت البحرين ترتاح كثيراً عند انشغال أهل العراق بالتحارب فيما بينهم، أو بانشغال الحكومات المهيمنة عليه بمحاربة جيران العراق من الدول القوية الكبرة، إذ تلهيهم تلك الحروب عن التفكير في السيطرة على البحرين وابتزاز الأموال من أهل الجزيرة، وتكون مل هذه الظروف فرصة ثمينة للدلمونيين، إذ يجدون أسواقاً رائجة تشتري منهم ما يأتون به إلى جنوب العراق، كما يجدون الحكومات مشغولة في معالجة مشكلاتها فلا تشتط كثيراً في أخذ الضرائب من أولئك التجار.

والكتابات الآشورية،هي أقدم سجل، لا شك في ذلك، يشير إلى وجود "العرب" في الأرضين الواسعة الممتدة من الفرات إلى مشارف بلاد الشام. ولكن العرب فيه هم أعراب، لا أقل من ذلك ولا أكثر: أعراب متنقلون في الغالب، هائمون في البادية حيث الماء والكلأ والارتزاق من الغارات على الآشوريين وعلى غيرهم. وإلى هذه الغارات يعود، ولا شك، فضل اضطرار الآشوريين إلى الإشارة إليهم في تلك الكتابات، ولولاها لما ذكروا فيها ولا أشير إليهم. وقد وجد هؤلاء الأعراب قبل زمان هذا التسجيل بأمد طويل من دون ريب، و من يدري? فقد يعثر على كتابات جديدة من زمن سحيق، يسبق زمن الكتابات الآشورية، يرد فيها شيء من الأعراب فترتفع بذلك معارفنا عنهم إلى زمن أبعد من هذا الزمن المنصوص عليه في كتابات الآشوريين.

أما الموارد الإسلامية، فقد اضطربت في تعيين الزمن الذي ظهر فيه العرب في بادية الشام ومشارقها وفي العراق، ولكنها كلها لا تعرف تأريخاً يسبق التاريخ المذكور في النصوص الآشورية. وما ذكروه عن ظهور العرب في هذه البلاد، فهو مأخوذ من قصص إسرائيلي. ويظهر من رواية "لهشام بن محمد الكلبي" أن العرب كانوا في أرض العراق في أيام "بختنصر"، وانهم كانوا تجاراً يقدمون العراق للتجارات، وذلك في أيام "معد بن عدنان"، وان "بختنصر" جمع ذمن كان في بلاده من العرب حين هم " بغزو العرب في جزيرتهم، إذ نزل وحي من الله على "برخيا"، فبنى لهم "حيراً" على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرساً وحفظةً، ثم نادى في الناس بالغزو. وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا عسكرهم بعد، فسموه "الأنبار". وخلّى عن أهل الحرة، فاتخذوها لهم منزلا. فهذا كان مبدأ نزول العرب في العراق.

ويظهر من رواية أخرى "لابن الكلبي" كذلك إن الذي أنزل العرب في العراق هو "تبع"، فالعرب الذين نزلوا الحرة و الأنبار هم قوم يمانون.

و "تبع" هذا حكم - على زعمه - بعد "ياسر أنعم"، الذي حكم بعد بلقيس، وهو "تبان أسعد"، وهو "أبو كرب بن ملكي كرب بن تبع ابن زيد بن عمرو بن تبع"، وهو "ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ"، وكان يقال له "الرائد". وقد خرج من اليمن حتى نزل على جبليْ "طيء" "جل شمّر"، ثم سار يريد "الأنبار". فلما انتهى إلى "الحيرة" ليلاً، تحير فأقام مكانه، فسمي ذلك الموضع "الحيرة". ثم سار، وخلف به قوماً من "إلأزد" و "لخم" و "جذام" و "عاملة" و، "قضاعة"، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل اليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون و "بلحارث بن كعب" و "إياد"، ثم توجه إلى "الأنبار" ثم إلى "الموصل"، ثم إلى "أذربيجان"، فلقي الترك، ثم انكفأ راجعاً إلى اليمن. وأقام العرب في العراق. " ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان وهذيل وتميم وجُعْفي وطيء وكلب". فهذا كان مبدأ نزول العرب السواد من أرض العراق.

وحكى "الطبري" رواية أخرى عن "ابن الكلبي" متممة للرواية الأولى عن نزول العرب أرض العراق، خلاصتها: أن العرب الذين أسكنهم "بختنصر" الحيرة، انضموا بعد وفاة هذا الملك إلى أهل "الأنبار"، و بقيت الجزيرة خرابا. فلما كثر أولاد "معد بن عدنان" ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يلهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثه فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من "الأزد" كانوا نزلوها في دهر "عمران بن عمرو" من بقايا "بني عامر"، فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على "التنوخ"، وهو المقام، وتعاقدوا على التآزر و التناصر، فصاروا يداً على الناس، وضمهم اسم "تنوخ". وتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على المسير إلى العراق، ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم "الحيقار بن الحقيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس ثم أعقبتهم موجات أخرى استقرت في الحيرة و الأنبار وغيرها من الأماكن بعد أن تغلبوا على "الأرمانيين".

وروي عن "ابن الكلبي" أن "أردشير" لما استولى على الملك بالعراق، كره كثير من "تنوخ" أن يقيموا في مملكته، وان يدينوا له، فخرج من كان منهم من قائل "قضاعة" الذين كانوا أقبلوا مع "مالك وعمرو ابني فهم" و "مالك بن زهر" وغيرهم، فلحقوا بالشام إلى هنا ا من قضاعة. ثم وصلت إليهم جموع أخرى من قبائل العرب، فكونوا ممالك وأمارات، سوف أتحدث عنها.

هذا ما وصل إليه علم الأخباريين عن العرب في الهلال الخصيب وهو علم لا يستند بالطبع إلى نصوص عربية جاهلية، و إنما أخذ من روايات شفوية، وأخبار وردت على ألسنة الإخباريين ومن روايات أهل الكتاب.

ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين، أو قبل ذلك بقليل. فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. و إذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد، فلان الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب،وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه، لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حرّ ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول متى سكن العرب بادية الشام.

وقد لاقت القبائل العربية مقاومة شديدة وعنتاً شديداً من الحكومات التي حكمت العراق والحكومات التي حكمت بلاد الشام، فقد وقفت تلك الحكومات منذ الدهر الأول لها بالمرصاد، وأبت أن تسمح لهه بالتوغل في داخل أرضها التي نحكمها حكماً فعلياً، ذلك لأنها كانت كًاب الأعراب و تخشى من البداوة، إذ لم يكن من السهل على البدو تغيير سنهم و اقتباس سنن الحضر، ثم إنهم كانوا يغيرون على الحضر وعلى الحدود لأخذ ما يجدونه أمامهم. وقد ترك غزو الأعراب للحدود أثراً سيئاً راعباً في نفوس الحكام جعلهم لا يتسامحون في دخول البدو إلى أرض الحضارة، ما دامت للحكام قوة، ولم يتماهلوا معهم إلا بالوصول إلى حدود الحضارة ومشارفها، وذلك لأنهم نصبوهم حرساً لهم، يمنع القادمين الجدد من البادية من الدنو من أرض الحضارة، ويدافع عن الحدود ساعة الخطر، ويهاجم مع القوات النظامية للحكومة الحاكمة أرض العدو في الحروب، وفي أيام السلم لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدو وإكراهه على تنفيذ مطلب يراد منه.

وقد اضطرت الحكومات إلى دفع أ دَ وطعم وهبات وعطايا سخية لسادات القبائل الحرّاس في مقابل قيامهم بحراسة الحدود. إذ لم يكن في استطاعة تلك الحكومات القيام بها بنفسها، ولا سيما في تعقب الأعراب وملاحقتهم في البوادي وغزو أعراب العدوّ، فصارت لسادات القبائل جعالات سنوية وهدايا وألطاف وبعض امتيازات لاسترضائهم وإسكاتهم ما داموا أقوياء أعزاء، وجعلت معهم في بعض الأحيان حاميات من قوى تلك الحكومات عليها سياسيون وقادة لمراقبة اعمال سادات القبائل والحدّ من غلوائهم، ولمساعدتهم عند ظهور سيد آخر قوي منافس في الميدان يريد مهاجمة الحدود أو انتزاع الرئاسة من سيد القبيلة صاحب الامتيازات.

والحكومات هم عادة إلى جانب سادات القبائل ما دام السادات أقوياء أعزاء. فإذا بدا الوهن عليهم، وتبين أن الأمر قد أفلت من أيديهم، وان سادات جدداً أصحاب كفايات وقُدَر ورؤساء أقوى من رؤساء القبائل القديمة قد برزوا في الميدان، وقد أخذوا على أيدي السادات القدامى، وأن المصلحة تقتضي الآن التحول من القديم إلى الجديد، تحولت تلك الحكومات إلى السادات الجدد، واتفقت معهم على شروط مرضية، للقيام بأداء المصالح والواجبات المذكورة حتى يظهر منافس جديد، يتطاول على القديم فيأخذ مكانه. وهذا هو سر تعدد حكم سادات القبائل، وانتزاع قبيلة الحكم من قبيلة أخرى، و تغير حكم "آل فلان" و "آل فلان"، وحلول حكم قبلي محل حكم قبلي سابق.

وسادات القبائل هم على هذه السنة أيضا، فكانوا إذا وجدوا ضعفاً في الحكومة المهيمنة على العراق أو على بلاد الشام وأدركوا إنها في وضع حرج، تقدموا إليها بمطالب جديدة وبشروط جديدة، تكون متناسبة مع حراجة الموقف. فإذا لم تجب قام سيد القبيلة بتهديد مصالح الحكومة وبغزو أرضها أحياناً، وقد يفاوض العدو للاتفاق معه عليها، وقد يثور ويخرج عن طاعتها، ويظل هذا شأنه حتى تجاب مطالبه، أو يتفق معها على شروط يرضى عنها. وبنطبق هذا الوضع على الأعراب الذين يجاورون الحضر، فعلى الحضر دفع جعالة إلى سيد الأعراب في مقابل حمايتهم لهم ومنع القبائل الأخرى المجاورة من الإغارة على أولئك الحضر. ويتقيد هؤلاء السادة بعهودهم مع الحضر ما دامت في مصالحهم.

أما إذا رأوا أن الحضر في وضع حرج وأن الحكومة التي ترعاهم، أو حكومة المدينة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فإن الأعراب يفرضون على الحضر مطالب جديدة، ويأخذون منهم امتيازات إضافية مثل حق الارتواء من الآبار ومن مجاري الماء، وحق رعي ماشيتهم في زرع الحضر، إلى غير ذلك من شروط، يضطر الحضر إلى الموافقة عليها للمحافظة على حياتهم وأموالهم، وإلا تعرضوا للغزو ولكوارث أخرى قد تنزل بهم أضراراً تزيد على ما يطلبه الأعراب منهم بكثير.

وللسيطرة على حركات الأعراب ولضبطهم، أقامت حكومات العراق وبلاد  

الشأم لما "مسالح"، أي مواضع حصينة تعسكر فيها قوات نظامية في البادية، يترأسها ضباط، وضعت فيها كل ما يحتاج إليه من سلاح ومؤن وذخائر وقوات كافية للقيام بمثل هذه المهمات الخطيرة في البوادي. وقد حفرت لها آباراً للارتواء منها ونصب ضباط هذه الحصون أنفسهم حكاماً يتحكمون في البوادي التي يشرفون عليها، يفضون مشكلات القبائل، ويحافظون على الأمن، ويراقبون تحركات الأعراب وتنقلاتهم، ليكونوا على حذر منهم و من غزواتهما المفاجئة للحدود. وقد بقيت هذه "المسالح" إلى أيام فتوح المسلمين للعراق و لبلاد الشام. وكان من واجبات هذه الحصون توزيع الأرزاق على الأعراب أيام الشدة والضيق، والتقرب إلى سادات القبائل، وعقد صداقات معهم ليستفاد منهم في كبح جماح أتباعهم، و يحولوا دون تحرشهم بهم، ولئلا يقوموا بمهاجمة الحدود.

وكان أقصى مكان سمح للعرب بالوصول إليه هو الشاطىء الغربي لنهر الفرات، وحدود الحضارة لبلاد الشام وأعالي البادية، أي قصر البادية الأعلى. أما ما وراء. ذلك، فكان من الصعب على العرب الوصول إليه، لتشدد الحكومة في منعهم من الدنو منه، وتصلب الحضر تجاههم. ولم يدخله من العرب إلا أفراد أو جماعات تنكرت للبادية ولسننها، وكفرت بسنة الغزو، ورأت في الزراعة وفي احتراف الحرف شرفاً لا يقل عن شرف رعي الإبل والتنقل بها من مكان إلى مكان. أما الذين وتفوا عند هذه الحدود، وهم السواد الغالب، فقد يقوا على سنن البادية، مخلصين لها مؤمنين بحق الغزو والقوة، إلا من اشتم رائحة الحضارة وتنفس قليلاً من ريح الحضارة، وجاور الفرات ومشارف الشام، حيث تلوح معالم الحضر، فقد طوّر نفسه بعض التطور، واستقر في الأرض بعض الشيء وصار وسطاً بين الحضارة و البداوة، لا هو حضري كل الحضري، ولا هو أعرابي تام الأعرابية، و إنما وسط بين بين، ومنزلة بين المنزلتين.

ولم يكن من الممكن للأعرابي أن يدرك قيمة الزرع والغرس وحياة الاستقرار لأن الماء وهو جوهر الزرع غير متوافر لديه، ولأن الأمن غير موجود عنده، فهو متى زرع واستقر وكون مجتمعاً حضرياً صغيراً، هاجمه من هم على شاكلته من أهل البادية وسلبوه كل ما لديه. و مجتمعه مجتمع صغير لا يستطيع الاعتماد على نفسه والركون إلى قوته في صد عادية الغزاة، لذلك حالت هذه الظروف دون السكنى والزرع والاستقرار. إلا في الأماكن التي وجدت فيها مياه، وتوافرت لديها القوة، كما لم يكن من السهل على سادات القبائل. إكراه أتباعهم على الاستيطان والسكنى في بيوت من مدر، ذلك لأفهم هم أنفسهم أبناء بادية، وآراؤهم آراء أعرابية ولا يفكر في هذه الشؤون إلا من كان حضرياً مستقراً ومن ولد ونشأ وتثقف في أرض الحضارة. ثم إن تنفيذها يستدعي وجود مال وأمن وقوة رادعة تمنع الأعراب من إفساد ما تقوم به الحضري من عمل مجهد، ولم تكن هذه متوافرة عند سادات القبائل، ولم يكن في وسع سيد القبيلة الذي يجب أن يكون محترساً يقظاً حتى لا يفاجئه منافس طامع من آهل البادية فيأخذ مكانه، أن يأمر قومه بالاستيطان، ووضعه على هذه الحالة من القلق وعدم الاستقرار. لذلك قضت طبيعة هذه البيئة على غالبية الأعراب التي جاءت إلى هذه الأماكن بان تعيش عيشة أعرابية أو عيشة رعي، تعيش على ماشيتها بدلا من الاستقرار استقراراً دائماً والاشتغال بالزراعة والاتجار بالزرع.

لقد كانت القبائل العربية قد توغلت في "طور سيناء." منذ القدم. ولا بد أن تكون هذه القبائل قد نزلت مصر أيضاً، فمن يصل إلى "طور سيناء" يكون قد طرق أبواب مصر. ذهبت تلك القبائل إلى مصر تحمل إليها ما عندها من سلع، وفي جملتها البخور والمر والحاصلات الأخرى التي عرف العرب بالاتجار بها، غير أننا لا نملك و يا للأسف نصوصاً تأريخية نستطيع أن نعتمد عليها في إثبات ذلك الاتصال. نعم، عثر على صور ومدوّنات مصرية للسلالات الملكية الأولى، تشير إلى البدو، والبدوي هو "عمو" في اللغة المصرية. غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن أولئك البدو، هم أعراب من أعراب طور سيناء، أو . من بدو مصر أو من أعراب جزيرة العرب.

والذين يتحدثون اليوم عن صلات السلالات الملكية المصرية القديمة بالعرب وببلاد العرب، إنما يتحدثون عن حدس وتخمين، لا عن وثائق ونصوص أشير فيها صراحة إلى العرب وإلى بلاد العرب، وإن كنا لا نشك كما قلنا بوجوب وجود صلات قديمة جداً ربطت بين مصر وبلاد العرب، لا سيما أن مصر متصلة فعلاً بجزيرة العرب من ناحية البر عن طريق "طور سيناء"، ثم إنها على الساحل المقابل للجزيرة، فلا بد أن يكون هناك اتصال بري وبحري قديم بين العرب والمصريين. ولا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد تتحدث عن هذا الاتصال.

يظهر من أقوال "هيرودوتس" و "بلينيوس"، وغيرهما من "الكلاسيكيين"، إن الأقسام الشرقية من "مصر"، ولا سيما المناطق المتصلة ب "طور سيناء" كانت مأهولة بقبائل عربية. وقد ذكرت أسماء عدد منها في كتب هؤلاء. ولم تستقر هذه القبائل في أيام هؤلاء "الكلاسيكيين"، بل سكنت قبلهم بأمد طويل كما يظهر ذلك من كتبهم. وقد أطلق "الكلاسيكيون" على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي" "Arabici Sinus" "Sinus Arabicus"، وفي هذه التسمية معنى يشير إلى نفوذ العرب وهيمنتهم على هذا البحر.

ومعارفنا بصلات العرب بالحكومات العراقية القديمة، مثل حكومة السومريين والأكديين "الأكادبين"، لا تزيد على معارفنا المذكورة بصلات المصريين بالعرب، فهي حتى الآن قليلة ضئيلة، ولكن ضآلة ما لدينا من معلومات لا يمكن أن تكون سببا في الحكم بعدم وجود صلات وثيقة بين سكان الخليج و سكان العراق ولا سيما القسيم الجنوبي منه في أيام السومريين، بل وقبل أيامهم أيضاً، فالعراق هو امتداد طبيعي لتربة ساحل الخليج، وهو جزء طبيعي من جزيرة العرب. وهو من ثم لا يمكن أن يكون بمعزل عن أرض الساحل وعن بقية أرض جزيرة العرب.

وقد يكون لاسم أرض "دلمون"، وهي ارض السلامة والنظافة، والأرض التي لا تعرف الموت ولا الأمراض والأحزان، والتي لا ينعب فيها غراب، ولا ترفع الطيور أصواتها بعض مما فوق بعض، والتي لا تفترس أسودها، ولا يأكل ذئب فيها حملاً، الجنة في الأسطورة السومرية، علاقة ب "دلمون" التي هي جزيرة البحرين في لغة قدماء أهل العراق. وقد حوّل الخيال السومري، أو خيال من عاش قبلهم على تلك الأرض إلى أرض مسالمة مثالية لا قتال فيها ولا موت ولا حزن، استمده من تلك الجزيرة المسالمة الواقعة في الخليج.

ويحدثنا نص كتب عن فتوحات "لوكال - زبهه - سي" "Lugal-Zagge -Si" "2400 -2371 ق. م."، وهو من رجال السلالة الثالثة من ملوك "الوركاء" "Uruk"، أن فتوحاته كانت قد امتدت من "البحر الأسفل" "الخليج العربي" إلى "البحر الأعلى" "Upper Se"، أي البحر المتوسط. ومعنى هذا إن حكمه كان قد شمل الخليج العربي.

و في أخبار "سرجون" الاكدي، المعروف ب "شروكين" "Sharru-kin" "3371 - 2316 ق.م "، أي العادل، أن فتوحاته بلغت "البحر الجنوبي" "البحر التحتاني" "البحر الأسفل"، أي الخليج العربي، وأنه استولى على مواضع منه. و "سرجون"، هو أقدم ملك أكدي، يقص علينا خبر وصول الأكديين إلى تلك الجهات.

ويلاحظ أن قدماء العراقيين كانوا يطلقون على البحر المتوسط "البحر الأعلى"، و على الخليج العربي "البحر الجنوبي" "The lower sea". وذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "البحر الأعلى بحيرة "وان".

وقد أرسل الملك الأكدي "منشتوسو" "Manishtusu" "2306 - 2292 ق. م" حملة عسكرية بحرية، يظهر أنها ر كبت السفن من الجزء الجنوبي الغربي من إيران من "شريكم" "Shirikum"، فعبرت الخليج "البحر الأسفل" إلى الساحل المقابل، أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب. ولما وصلت سفنه الساحل، تجمع ملوك "المدن"، وبلغ عددهم "32" ملكاً، وقرروا محاربة جنوده، غير أن جنوده انتصروا -كما يقول ملك أكد- على جنود ملوك المدن، واندحر اهل الساحل، واضطروا إلى الاستسلام والخضوع، وسلمت تلك المدن له. وبذلك فرض، سلطان "أكد" عليها إلى موضع "مناجم الفضة". وقد استولى على الجبال جنوب "البحر الأسفل" و أخذ ما وجد فيها من أحجار، فصنع منها تماثيل قدمها نذراً للإله "انلبل" "Enlil".

وأغلب الظن أن مراد الملك من الجبال أسفل "البحر الأسفل" هي ارض عمان، وهي أرض متصلة من البحر بالبحرين وبالعراق من البر والبحر، كما أن تحرك السفن من جنوب غربي إيران، أي من الأرض العربية المسماة بي "عربستان" في الزمن الحاضر إلى الساحل المقابل، أي ساحل جزيرة العرب الشرقي، يحمل الذهن إلى إن الجبال التي ذكرها الملك هي جبال عمان، و إذا صح هذا الرأي، يكون هذا الملك الاكدي قد و صل في فتوحاته إلى أرض عمان.

و جاء في كتابة مدّونة على تمثال الملك "نرام سن" "نارام سن" "نارام سين" "2291-2255 ق.م". أنه أخضع موضع "مكان" مجان "مفان" "Magan"، و تغلب على ملكه "مانو" "مانيوم" "Manium" "ماندانو" "Mannu-Dannu" و أسره.

يظهر أن أهل "مجان" "مكان"، وهم قوم لم يشر إلى اسمهم "منشتوسو" والد "نارام سن" "Naram-Sin"، و هم أهل عمان في رأي أكثر العلماء -كما سأتحدث عن ذلك بعد قليل- كانوا قد ثاروا على العرقيين الأكديين الذين أخضعهم لحكمه والد "نارام سن"، وذلك في أيامه أو في أواخر أيام والده، فاًرسل لذلك "نارام سن" حملة تأديبية قضت على ثورتهم وأعادتهم إلى حكم الأكديين، وعاد بذلك ساحل الخليج العربي من عمان إلى أعلاه، إلى مملكة أكد.

وقد ورد اسم "مكان" "مجان" في خصوص سومرية وأكادية، نشر بعضها العلماء، منها نص للملك "شلجي" أو "دلجي" أو "ونجي" الملقب ب "ملك سومر وأكاد" أفاد وجود صناعة بناء السفن في هذا المكان. والواقع إن أهل الساحل الشرقي لجزيرة العرب عرفوا بناء السفن منذ القدم، وقد ركبوا البحار، وتاجروا، وتوسطوا في نقل التجارة من مختلف السواحل، ولا تزال صناعة بناء السفن الشراعية معروفة حتى اليوم مع قلة ربحها، وعدم تمكنها من منافسة البواخر، إلا إنها على كل حال مورد رزق لأصحابها لاقتناعهم بالقوت القليل.

ويدل، عثور المنقبين على أختام ومواد أخرى من عمل الهند، في "اور" وفي "كيش" و "البحرين" ومواضع أخرى من الساحل العربي الشرقي على أن الاتصال التجاري بالبحر. كان معروفاً في الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن حركة الاتصال هذه كانت مستمرة عامرة، وان بعض مواضع الخليج مثل "البحرين" كانت من مراسي السفن الشهيرة في تلك الأيام، تقصدها السفن القادمة من العراق في طريقها إلى الهند، والسفن القادمة من الهند في طريقها إلى العراق.

وقد دعيت "مكان" "مجان" في نصوص أخرى "Matu-Ma-Gan-Na" أي "أرض مجان". ويظهر إن الملك "مانيوم" "مانئوم" "مانوم" هو الملك "منودنو" "Mannu-Dannu" نفسه الذي ورد في نص آخر. وقد كتبت على التمثال لفظة "بلو" "Belu" بمعنى "سيد"، أي سيد "مجان"، وهو "مانيوم". وقد جيء بحجر التمثال من "مجان". وتعني كلمة "دنو" "المقتدر"، ولذلك يرى بعض الباحثين إنها صفة ألحقت بالاسم، فهي لقبه، وليست جزءاً من الاسم.

وفي أنباء "جوديا" "غوديا" "Godea"، و هو "باتيسي" مدينة "لكش"، إنه جلب الحجر من "مجان"، وذلك لصنع التمائيل، كما جلب الخشب منه ومن "سلون". وذكر مع موضع "مجان" اسم موضع آخر هو "ملوخا". وقد ذكر "جوديا" "غوديا" إنه جلب كميات كبيرة من "حجر أحمر" من "ملوخا". وقد اخذ العلماء في تقصي هذين المكانين اللذين أخذ منهما هذا ال "باتيسي" أحجاره وأخشابه، وكذلك أسماء مواضع أخرى ذكرت مع المكانين.

وقد بحث "ونكلر" عن موضع "مجان"، ويقع على رأيه في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب. وقد نبه على اقتران اسم "ملوخا" باسم "مجان" في الغالب " ويرى انهما اصطلاحان يقصد بهما في البابلية القديمة بلاد العرب، فيراد من "مجان" القسم الشرقي من الجزيرة من أرض "بابل" إلى الجنوب. وآما "ملوخا"، فيراد بها القسم الشرقي من جزيرة العرب. ويرى أيضاً إن ما وقع في جنوب المنطقتين عرف باسم "كوش" أي الحبشة، وان البابليين لم يكونوا يتصورون بلاد العرب شبه جزيرة تحيط بها البحار من الشرق والجنوب والغرب، بل تصوروها منطقة واسعة تمتد من الحبشة إلى الهند، وان "كوش" تقابل مصر التي هي القسم الشمالي من جزيرة العرب. فما ذكر عن "كوش" ومصر في التوراة، لا يقصد به الحبشة ومصر، بل يقصد به جزيرة العرب وشمالها. وقد جاء على ذلك بأمثلة من العهد العتيق، ذكر أن من الصعب إن يكون المراد بها مصر والحبشة.

وقد ألف "ونكلر" رسالة سماها "مصري وملوخا ومعين" بَيَّنَ فيها رأيه في أن "مصري" هي أرض عربية شمالية، وأن مصر المذكورة في التوراة هي في بلاد العرب، لا في إفريقية. وقد أثارت نظرية "ونكلر" هذه جدلاً بين العلماء وقوبلت بنقد شديد، لأنها تعارض ظاهرة نصوص التوراة.

وذهب آخرون إلى أن "مجان" هي في المنطقة المسماة "Gerrha" عند "الكلاسيكيين"، وهي الأحساء، وأما "ملوخا" فتمتد من المنطقة الواقعة إلى الجنوب من البحرين إلى عمان. وقد اشتهرت "ملوخا" بوجود الذهب فيها. ومنها حصل "جوديا" "Gudea" "غوديا" على الذهب، كما اشتهرت بالخشب الثمين المسمى "Uschhu". وأما "هومل"، فيرى أن "مجان" في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب، وأن "ملوخا" تقع في وسط جزيرة العرب، أو في القسم الشمالي الغربي منها.

وذهب "جيسمن" إلى احتمال وقوع "مجان" على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب "يبرين"، فيه بئر جاهلية، قال إن اسمها قريب من "مجان" "Magan"، ويعرف هذا المكان باسم "مجيمنة".

وقد عارض "فلبي" رأي "جيسمن" هذا، لأن الموضع المذكور يقع في منطقة صحراوية بعيدة عن ساحل البحر، ولا توجد فيه آثار عاديات تشعر إنه كان من المواضع الجاهلية العتيقة، ولا صخور من نوع "الديوريت" الذي صنع منه تمثال "نرام - سين"، ولا أي نوع آخر من الصخوِر، يبعث على الظن إنه المكان الذي نقلت منه الحجارة إلى العراق. وقد رأى "فلبي" أن موضع "مجن"، الواقع على مقربة من الساحل عند مصب في وادي "شهبة"، هو أقرب إلى "مجان" من الموضع الذي اختاره "جيسمن"، ولهذا ظن إنه هو المكان المقصود.

ويرى "موسل" أن من الصعب جداً الاتفاق على تعيين موضعي "مجان" و "ملوخا"، لأن مدلولي الاسمين قد تغيرا تغيرا مراراً. فالذي يفهم من نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد، أنهما يقعان في جزيرة العرب على سواحل الخليج و على سواحل المحيط الهندي. ف "مجان" في نص "نرام-سين" أرض تحد إقليم "بابل"، أو هي لا تبعد عنه كثيراً. وهي كذلك في كتابة "جودية" "جوديا" "غوديا". و في بعض النصوص التي عثر عليها في "أور" حيث أشير إلى طريق قوافل يوصل من "السوس" إلى "مجان".

و هذا مما يبعث على الظن أن أرض "مجان" و "ملوخا" المذكورتين في نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد تقع على الخليج، في الارضين التي سكن فيها ال "Gerrhaens". وقد كان سكان هذه السواحل يتاجرون منذ القديم مع الهند و ايران و السواحل العربية الجنوبية، و مع إفريقية أيضاً. و يرى احتمال شمول اسم "ملوخا" منطقة واسعة تشمل ما يسمى "كوش" في التوراة، و السواحل العربية الجنوبية التي كانت تعرف ب "كوش" كذلك.

و يرى "موسل" أن مدلول "مجان" قد توسع في الألف الأول قبل الميلاد فشمل منطقة كبيرة شملت مصر أيضاً، في النصوص الآشورية التي ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد ب "مجان" طور سيناء و الأقسام المتخامة لها من مصر، و إلى هذا الرأي ذهب "مايسنر" كذلك. أما "ملوخا"، فقد قصد بها الحبشة و السودان. و قد توسع مدلول "حويلة" المذكور في التوراة أيضاً، فشمل المنطقة التي تقع غرب "بابل" إلى طور سيناء و السواحل الشرقية الواقعة على خليج العقبة. و لهذا ظن بعض العلماء أنها صارت تعني "ملوخا".

وقد ذهب "كيتاني" إلى إن "مجان" هي "مدين"، لأن أرض "مدين" كانت في حوالي خمسة الألف سنة قبل الميلاد كثيفة الأشجار، و كانت تصدر الأخشاب التي تصلح لبناء السفن. و من مدين أخذ البابليون الذهب و النحاس والأخشاب. أما "موسل"، فيعارض هذا الرأي، ويرى أن من الصعب تصور نقل الأكديين والسومرين والبابليين الأخشاب والصخور الثقيلة من مدين على ظهور الجمال إلى بلادهم مع اتساع الشقة وبعد الطريق، ويرى أن من الصعب تصور نقلها في البحر الأحمر فالبحر العربي فالخليج، فإن ذلك يستدعي زمناً طويلاً ومتاعب كثيرة، ثم إن النصوص لم تشر إلى ذلك. فمن المعقول إن تكون "مجان" في العربية الشرقية على ساحل الخليج.

ويرى "كلاسر" أن "Magon Kolpos" الذي ذكره "بطلميوس" لا يعني "خليج المجوس" "Magorum Sinus" حتماً، إذ يجوز أن يكون المراد منه "مجان" "Magan"، أي موضع "مجان" الذي نتحدث عنه. ويقع -في رأيه- على ساحل الخليج، وربما كان عند "القطن" "قطن". ويحتمل -في رأيه أيضاً- أن يكون "Maka" المذكور في نص "دارا".

ويرى "أوليري" أن "مجان" هي "Gerrha"، وتمثلها الأحساء في الزمن الحاضر. أما "ملوخا" "Meluhha"، فتقع - في رأيه - جنوب الأحساء، في عمان. وقد استدل على ذلك بنص دوَّن في عهد "سرجون" "722 -705 ق. م"، جاء فيه أن مملكته بلغت مسيرة 120 "بيرو" من سقي نهر الفرات إلى "ملوخا" على ساحل البحر، وآن موضع "دلمون" "Dilmum" يقع على مسافة 30 "بيرو" من رأس الخليج. فيجب أن يكون موضع "ملوخا" إذن بعد موضع "دلمون". ولما كان موضع "دلمون" هو "تيلوس" "Tylus" في رأي أكثر العلماء، أي البحرين، فإذن تكون أرض "مجان" وأرض "ملوخا" في العرض، وفي المواضع المذكورة. وذهب بعض آخرون إلى احتمال أن يكون "مجان" "مكان" في العربية الشرقية في موضع عمان.

وقد ذكر الملك "شروكين" "Sharrukin" ملك آشور أن في جملة الأرضين التي خضعت لحكمه أرض "تلمون" "Tilmum" و "مجانا" "مجان" "مجنا" "Maganna"، وتقع في البحر الجنوبي، ويريد به الخليج. ويشر إلى إنه فتح هذه الأرضين بيده، وذلك قبل الميلاد بمئات السنين "1985 ? - 948 1 ? ق. م.". وقد رأى "ينسن" "P. Jensen" أن المراد ب "تلمون" جزيرة "قشم"، على الرغم من ذهاب كثر الباحثين إلى إنها البحرين. وأما "مجان" فإنها في نظره أرض "عمان".

وجاء اسم "ملوخا" "ملوخه" "Melluhha" واسم "تلمون" "Tilmun" في جملة أسماء الأرضين التي كان يحكمها ملك آشور "توكولتي نينورتا" "Tukulti-Ninurta"، وقد نعت نفسه ب "ملك كردونيش" "Karduniash" وملك سومر وأكاد، وملك سيبار "Sippar" وبابل، وملك تلمون وملوخا، وملك "البحار العالية" و "البحار التحتية"، وقصد بجملة "البحار التحتية" "بحيرة وان" على ما يظهر، وتقع أعلى آشور، وبجملة "البحار التحتية" البحر الذي يقع أسفل مملكة آشور، أي في جنوبها، ويظهر انه أراد به إن الخليج العربي. و معنى ذلك إنه حكم منطقة واسعة امتدت رقعتها من "بحيرة وان" حتى الخليج، وفي ضمنها "البحرين" والسواحل الواقعة إلى غربها، وهي سواحل، "ملوخا" "ملوحا".


 يتبع

( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق