127
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي عشر
أنساب العرب
ويرجع بعض الباحثين انقسام العرب إلى قحطانيين و عدنانيين إلى هذا النزاع: نزاع "يثرب" ومكة قبل الإسلام، ويرجعه آخرون إلى التنازع الطبيعي الذي هو بين البداوة والحضارة. فقد كان أهل يثب أي اليمن كما يقولون أصحاب حضارة وملك. أما أهل مكة ومن والاهم، فقد كانوا أعراباً أو شبه أعراب. ومن هنا اختلفت طبيعة أهل يثرب عن طبيعة أهل مكة، ووقع النزاع والتنافس بين الجماعتين، وتحول إلى نسبين. وزعموا إن هذا النزاع هو نزاع الحظارة مع البداوة، نزاع أهل المدر مع آهل الوبر، نزاع "بني مدراء"، أو "أهل القارية" كما يقال لهم أيضاً، لأنهم "قارون" أي سكان القرية والقرى مع أهل البادية أي البادون نزلة البادية. قالوا: ومن هنا قيل: الحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، و "أهل الحاضرة" و "أهل البادية" و "الحاضرة"، خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف، وهو تقسيم، يرونه، قديماً، يرجع إلى الجاهلية. روي أن الرسول قال، حين وفد عليه قيس بن عاصم: "هذا سيد أهل الوبر ". و نجد مثل ذلك في النصوص اليمانية الجاهلية، إذ أشارت إلى الأعراب كطبقة خاصة قائمة بنفسها، تمتاز عن الحضر المستقرين.
ون ثم كانت غالبية القبائل العدنانية التي يذكر أهل الأخبار أسماءها قبائل أعرابية، أي قبائل بدوية، أو قبائل غلبت البداوة عليها، وغالبية القحطانية قبائل مستقرة أو قبائل شبه حاضرة تنخت في أماكن ثابتة ومالت إلى حياة الحضارة. ولما كان الحضر أرقى فكرياً من أهل الوبر، صارت إليهم السيادة في الغالب، فتحكموا في القبائل العدنانية، وملكوا القبائل المعدية. فحكم المناذرة والغساسنة وآل كندة وغيرهم ممن يرجع نسبه النسابون إلى قحطان، قبائل عدنانية، ولم يحكم العدنانيون القحطانيين قبل الإسلام.
هذا هو رأي من يرى أن القحطانية والعدنانية كفاية عن الحضارة والبداوة، وتعبر عن أهل المدر وأهل الحضر. يستدلون على رأيهم هذا بما قلته من غلبة الحياة الحضرية والاستقرار على القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى قحطان، وغلبة البداوة أو شبه البداوة على القبائل العدنانية.
وللحكم على هذه النظرية، يجب تكوين جدول. بأسماء القبائل الجاهلية العدنانية منها والقحطانية، ودراسة أحولها الاجتماعية والمواضع التي عاشت فيها في مختلف الأزمنة، وعند ذلك نستطيع الحكم على ما فيها من قوة أو ضعف، فإن في القحطانيين قبائل متبدية، وفي العدنانيين قبائل مستوطنة وأصحاب قرى. ولهذا لن تصدق تلك النظرية إلا بمثل هذه الدراسة.
ولفهم النزاع القحطاني العدناني، أو نزاع يثرب ومكة، لا بد من البحث عن موارد جاهلية و إسلامية نستعين بها على فهم طبيعة هذا النزاع. أما الموارد الجاهلية، أي الكتابات، فليس فيها حتى الساعة شيء ما محدثنا عن هذا النزاع، وأما الموارد الإسلامية، فإن شعر حسان بن ثابت، أو الشعر المنسوب إلى هذا الشاعر بتعبير أصدق واصح، هو المرجع الأول الذي يحدثنا عن طبيعة هذا النزاع أو التحاسد الذي كان بين مكة ويثب قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، إذ كان حسان نفسه من المناضلين فيه الحاملين للواء يثرب في نزاعها مع مكة. ونرى القحطانيين يروون شعره ويذكرونه في افتخارهم على العدنانيين. وقد حمل شعره جلّ مواضع فخر قحطان على عدنان، ومفاخر أهل يثرب على أهل مكة، حتى نستطيع أن نقول إنه أحد نجاة النزاع القحطاني العدناني، باعتبار إنه أقدم مشارك فيه يصل خيره إلينا، وأن أكثر ما تذكره القحطانية من دعاوى مركزة في شعر هذا الشاعر مذكورة فيه.
وقد وصل جلّ شعر حسان إلينا، وطبع في ديوان. راجعناه وراجعنا ما يحمل من شعر، فلم نجد فيه ذكراً لعدنان، و إنما نجد فيه اسمي "قحطان" و"معد". ولم "رد فيه اسم الأول إلا مرة واحدة في قوله: فلو سُئِلَتْ عنه معد بأسرهـا وقحطان أو باقي بقية جرهما
وأما اسم الثاني، أي "معد"، فقد ورد في مواضع بلغت سبعاً في الديوان.
غير إننا نرى في الجزء الأول من "الإكليل"، أبيات شعر نسبها "الهمداني" لحسان، ورد فيها ذكر لقحطان، وفخر به، وانتسب إليه: لقد كان قحطان العلا القرم جدّنا له منصب في يافع الملك يشهر
ينال نجوم السعدِ إن مـدّ كـفـه تفلّ أكف عند ذاك وتـقـصـر
ورثنا سناءً منه برزاً ومحـتـداً منيف الذرى فخر الأرومة يذكر
ونرى أبياتاً أخرى من هذا النوع من الفخر، في مكان آخر من هذا الكتاب، نسبها أيضاً هذا الشاعر، هي هذه: فنحن بنو قحطان والملك والـعـل ومنا نبـيِّ الـلـه هـود الأخـاير
وإدريس ما إن كان فـي الـنـاس مثله ولا مثل ذي القرنين أبناء عابر
وصالح والمرحوم يونس بعـد مـا ألات به حوت بأخـلـب زاخـر
شعيب و الياس وذو الكفل كلـهـم يمانون قد فازوا بطيب الـسـرائر
ونرى أبياتاً أخرى نسبها "الهمداني" إلى "حسان" أيضاً، فيها نشر بقحطان وبقوم الشاعر، رواها على هذا النحو: فمن يك عنّا معشـر الأزد سـائلاً فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالـك
ابن زيد بن كهـلان نـمـا سـبـأ له إلى يشجب فوق النجوم الشوابك
ويعرب ينميه لقحطان ينـتـمـي لهود نبيً الله فـوق الـحـبـائك
يمانون عاديون، لم يلتـبـس بـنـا مناسب شابت من إلـى وأولـئك
والأبيات المذكورة، لا يمكن أن تكون من نضم حسان، فأسلوبها غير أسلوبه في شعره، وفي بعضها ركة وضعف، ولفظة "المرحوم" عن الاصطلاحات الحادثة المتأخرة، كما إن التفاخر بالأنبياء المذكورين لم يكن معروفاً على عهده.
وأما الشعر المبتدئ بهذا البيت: فمن يك عنا معشر الأزد سـائلاً فإنا بنو الغوث بن نجت بن مالك
ففيه إضافات لا تجدها في الديوان.
وفي المضاف إليه تباين ظاهر مع أسلوب حسان في شعره، وركة بينة، وطابع الصنعة ظاهر عليه. وقد ورد في ديوانه على هذا النحو: فإن تك عنا معشر الأسد سـائلاً فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك
لزيد بن كهلان الذي نـال عـزّه قديماً دراري النبوم الشـوابـك
إذا القوم عدّوا مجدهم وفعالـهـم وأيامهم عند التقاء المـنـاسـك
وجدت لنا فضلاً يقر لنا بـه إذا ما فخرنا كل باق وهالك
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق