128
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الحادي عشر
أنساب العرب
فأنت ترى أن الأبيات في الديوان خالية من نسب "سبأ" و "يشجب" و "يعرب" و "قحطان" و "هود" وغير ذلك، وان أسلوب صياغة هذا النظم لا يمكن أن يكون من أسلوب شاعر جاهلي أو شاعر مخضرم، بل لا بد أن يكون من نظم المتأخرين، إضافته بعض المتعصبين لليمن إلى شعر حسان، ونظمه على وزن البيت الأول وطريقته، يكون أوقع في النفس، ودليلاّ على قدم ذلك النزاع.
ولا أعتقد إن هنالك حاجة تدعوني إلى إلفات نظر القارئ إلى أن الأبيات المتقدمة الواردة في ديوانه، "هي الأبيات المتقدمة عليها نفسها، أي الأبيات التي أخذتها من كتاب الإكليل للهمداني رويت بشكل آخر، بشكل يرينا إن لم الرواة مهما حاولوا اظهار انهم على حرص تام في المحافظة على أصالة الشعر والمحافظة على الأصل، فإنهم لا يتمكنون من ذلك.
ونسب بعض الرواة إليه هذه الأبيات: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديماً ما بكم غير عجمة كلام، وكنتم كالبهائم في القفر
وهي أبيات لم ترد في ديوانه، شْعر إن "يعرب"، وهو جد القحطانيين، هو أول من أعرب في لسانه، وأول من نطق بالعربية، فهو أول متكلم بها، وأول من أوجدها وكوّنها، وان العدنانيين تعلموها من أبنائه، بعد إن كان لسانهم لساناً أعجمياً. وأما من ناحية صحة نسبتها إلى شاعر الإسلام وشاعرا وفي الأنصار، فإن في أسلوب نظمها وفي صياغة البيت الأول وجملة "منطق الشيخ يعرب"، ما فيه الكفاية لإظهار إنها مصنوعة، حملت عليه حملاً، ولا يمكن أن يكون هذا النظم من نظم أول الإسلام، حتى وان كان من شاعر من شعراء أهل المدر في ذلك العهد.
وزعم إن حسانا ذكر القيل "ذو ثات"، وهو من أقيال حمير، فقال هذا البيت: وفي هكر قد كان عز ومنعة و ذو ثبات قَيْلٌ ما يكلم قائله
ولم يرد هذا البيت في ديوانه. أما أسلوب نظمه، فينبئك إن قائله يجب أن يكون شخصاً آخر من المتأخرين عن حسان، ممن كانوا يضعون الشعر على ألسنة غيرهم على نحو ما وضعوا على ألسنة التبابعة وآدم والجن.
هذا ولحسان شعر لم يرد في ديوانه، بل ورد في موارد أخرى. منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، لأنه متحول وقد حمل على حسان وألصق به، ولم يغفل العلماء عنه، بل أشاروا إليه ونبهوا إن بعض الناس قد تعمدوا وضعه وحمله عليه لمآرب. قال الأصمعي في ذلك: " تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيراً ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتاً لحسان من هذا القبيل يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان". وقد نسب الجمحي الوضع على حسان إلى بعض قريش للغض منه، فقال: "وقد حمل عليه ما لم بحمل على أحد. لمتا تعاضهت قريش، واستبّت، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة، لا تليق به". وقد كان ذلك لتعرضه بهم، ولتعصبه المفرط ليثرب، وافتخاره بهم على قريش.
هذا و مع إفراط "حسان" في التعصب ليثرب، لا نراه يذكر قحطان إلا مرة واحدة، أما عدنان فلم يذكره في شعره قط. ولهذه الملاحظة أهمية كبيرة، لتكوي ن رأي في فكرة "قحطان" وعدنان في ذلك العهد، إذ إنها تدل على إن القحطانية والعدنانية لم تكن عنده على النحو الذي صارت فيه فيما بعد، بعد اشتداد النزاع بين الأنصار وأهل مكة ومن حولها في خلافة بني أمية خصوصاً، وهم عصب العدنانيين، وانه في كل فخره بالنسب لم يتجاوز الأزد، ابناء "الغوث بن زيد بن مالك بن زيد بن كهلان"، وغسان و آل نصر.
وأما بعد إسلامه، فقد حوّل فخره وتباهيه إلى فخر بالأنصار على قريش ومضر ومعد، أي أهل مكة، بنصرة قوم للإسلام، وبنصر النبي حين خذلوه وقاوموه. فكانوا ملوك الناس قبل محمد، فلما أتى الإسلام، كان لهم النصر في نصرته. ونجد هذا الفخر واضحاً قوياً في شعره، فهو فخر أهل يثرب على أهل مكة. فخر الأنصار على مضر ومعد وقريش، فلم يصل الفخر بقومه عنده إذن إلى حد الفخر بقحطان، أو باليمن كلها على عدنان. وأما ما ورد منه أكثر من ذلك، كما نرى في الأبيات المنسوبة إليه في الجزء الأول من الإكليل، إنه عندي من ذلك النوع المنحول الذي اضيف إليه. فالتكلف ظاهر عليه، والأسلوب مختلف عن أسلوبه، وهو من النظم المتأخر عن أيام حسان، من نظم وضّاح يتكلف قول الشعر ولا يحسن صناعته.
خذ قصيدته التي تمثل منتهى فخره بقومه، نره يقول: ألم ترنا أولاد عمرو بـن عـامـر لنا شرف يعلو على كل مرتقـي?
رسا في قرار الأرض، ثم سمت له فروع تسامى كل نجم مـحـلـق
ملوك وأبناء المـلـوك، كـأنـنـا سوارى نجومٍ طالعات بمشـرق
إلى أن يقول: كجفنة والقمقام عمرو بن عامرٍ وأولاد ماء المزن وابني مُحرّق
وحارثة الغطريف أو كابن منذرٍ ومثل أبي قابوس ربّ الخورنق
فلا تجد فخره بها يتعدى حدود الفخر بالأزد وبالغساسنة وآل نصر، أي ملوك الحيرة. وهو ما وجدناه في أشعاره الأخرى. وقد عاب في هذه القصيدة "قيساً" و "خندفاً" لأنهما قاومتا الرسول وآذتاه. مما يدل على أن هذين الاسمين كانا معروفين قبل الإسلام.
هذا، وقد أضاف أهل الأخبار إلى قصيدة حسان التي مدح فيها الملك "جبلة بن الأيهم"، ومطلعها: لمن الدار أقفرت بمـغـان بين أعلى اليرموك والصمان
هذا البيت: أشهرنها فإن ملكك بالـشـا م إلى الروم فخر كل يماني
ولم يرد ذكر هذا البيت في الديوان. وهو بيت يتحدث كما ترى عن فخر باليمن: أصل الغساسنة، وأهل يثرب، وكل قحطان. وأغلب ظني إنه من الأبيات المدسوسة، وضعه أحد المتعصبين لليمن ودسّه في القصيدة.
هذا وقد نسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري شعر قيل إنه قاله في هذا الباب. ونسب إلى الطرماح بن حكيم مثل ذلك، وهو أيضاً شاعر من شعراء الأنصار. وعلينا أن ندرس شعرهما، وشعر أمثالهما، وشعر شعراء قريش أيضاً دراسة نقد وتمحيص نميز بها بين صحيحه وفاسده، لنتمكن بذلك من تكوين رأي علمي صحيح في القحطانية والعدنانية وتأريخ ظهورهما. ولو تيسر لنا ديوان الأنصار أو دواوين الأنصار، لزادت معارفنا، ولا شك، في هذا الباب وتمكنا من تكوين رأي في تلك العصبية القبلية بصورة أصح وأدق ولا شك.
لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش وأهل يثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، وروي عنه إنه قال: "لا حلف في الإسلام"، لما ينتج عنه من فتن ومن قتال بين القبائل وغارات، ولأن الإسلام قد عوّض عن الحلف، وزاده شدة بنزوله. "وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". وعدّ "التعرب" بعد الهجرة، أي أن يعود المرء إلى البادية ويقيم مع الأعراب، كبيره من الكبائر، حتى عدّ من يعود إلى موضعه من البادية بعد الهجرة كالمرتد. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تنامي العصبيات، وغسل آثار الجاهلية، وطمس معالمها تماماً، فتحزبت القبائل وتكتلت، وكانت تحارب على إنها همدان، أو ربيعة، أو طيء، أو مضر، أو قريش، أو قيس، او الأزد، أو ربيعة.، أو تميم، أو غير ذلك من أسماء قبائل.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق