117
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل العاشر
أثر التوراة
لهذا المدون في التوراة عن الإسماعيليين و القحطانيين، وعن نوح و أولاده، وعن الأنساب الأخرى، أثر ظاهر على عمل أهل الأخبار والأنساب الذين اشتغلوا بموضوع النسب في الإسلام، بل يظهر إن أثره كان فعالاً ومؤثراً حتى في الجاهليين، وذلك لاتصالهم واختلاطهم بأهل الكتاب.
وكان لِما جاء في القرآن الكريم مجملا من أمر آدم ونوح والطوفان وإبراهيم و إسحاق ويعقوب وإسماعيل وغيرهم، وما جاء فيه من أمر عاد وثمود وقوم صالح وأصحاب الأيكة وقوم تبُعّ، أثر كبير أيضاً في أهل الأخبار والتفسير حملهم على البحث عنهم. والتفتيش عن أخبارهم من الأحياء المسنين الذين كانوا يقصون على جيلهم قص الماضين وأخبار العرب المتقدمين، ومن أهل الكتاب الذين كان لهم إلمام بما جاء في التوراة من الرسل والأنبياء والأمم القديمة و الأنساب.
ويمكن حصر الروايات الواردة في الأنساب، والمأخوذة من أهل الكتاب ورجعها إلى الطرق الأصلية التي وردت منها وإلى الأماكن التي ظهرت فيها، وسنجد بعد البحث أن اكثر رواة هذا النوع من الأخبار كانوا قد استقوا من معين واحد. هم مسلمة أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، ومحمد بن كعب القرظي، ورجل من أهل تدمر عرف ب "أبي يعقوب" كان يهودياً فاسلم. وقد زود "ابن الكلبي" وغير ابن الكلبي بقسط من هذه الأسماء التي يستعملها النسابون في الأنساب. وكان "محمد ابن إسحاق صاحب السيرة يعتمد على أهل الكتاب، ويكثر الرواية عنهم و يسميهم أهل العلم الأول.
وقد استغل نفر من أهل الكتاب حاجة المسلمين هذه إلى الوقوف على "البدء" أي مبدأ الخلق والتكوين، وقصص الرسل والأنبياء، وكيفية توزع البشر، فأخذوا يفتعلون ويضعون ويصنعون على التوراة والكتب اليهودية المقدسة، يبيعونه لهم أو يتقربون به إليهم، إدعاءً للعلم والفهم. قال الطبري "كان ناس من لليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب، ويحدثونهم إنه من عند الله ليأخذوا به ثمناً قليلاً".
أما ما ذكروه من أن "أبا يعقوب" التدمري وجد في كتاب "بورثغ بن ناريا" "كاتب أرمبا"، نسب "معد بن عدنان" فإنه كذب وتلفيق، فليس في كتاب "بورخ" شيء من هذا النسب. وكتابه من جملة أسفار "الأبوكريفا، في نظر "البروتستانت"، وهو مترجم إلى العربية ومطبوع مع أسفار التوراة الأخرى، في الترجمة "الكاثوليكية"، وقد قرأناه فلم نجد فيه شيئاً من هذا شيء يذكره اليهودي الذي دخل في الإسلام. وليس ل "بورخ" كتاب آخر فنقول إنه وجده فيه، ولا يعقل أن يكون كتاب "بورخ" الذي قرأه نسخة خاصة لم توجد عند غيره من الناس، حتى نحسن الظن به. وكل ما نجده في سفر "بورخ" مما قد يكون له علاقة بالعرب هو هذه الكلمات: "لم يسمع به في كنعان ولا تروى في تيمان، وبنو هاجر أيضاً المبتغون للتعقل على الأرض وتجار مرّان وتيمان وقائلو الأمثال ومبتغو التعقل، لم يعرفوا طريق الحكمة ولم يذكروا سبلها".وليس في هذه الكلمات كما نرى شيء ما له صلة بنسب "معد بن عدنان".
فكنعان، كناية عن الكنعانيين، وليست لهم صلة بمعد أو بعدنان. وأما "تيمان" فكناية عن أرض كانت في الجنوب الشرقي من "أدوم"، وهي أرض "أبناء الشرق"، وقد نسبت التوراة التيمانيين إلى "اليفاز بن عيسو"، ونسبت إليهم الحكمة. وليست لهم علاقة أيضا بأبناء معد ولا بعدنان.
وأما "بنو هاجر" "الهاجريون" "Hagrites" فانهم شعب سكن شرق أرض "جلعاد"، وقد اختلف علماء التوراة في أصله، فمنهم من عدّه قبيلة عربية، ومنهم من عدّه من الآراميين، ومنهم من رأى انهم "الإسماعيليون". وقد ذكر الهاجريون مع أقوام من الآراميين في كتابة أخبار انتصارات "تغلا تبليسر الثالث" "Tiglath-Pileser III". وهكذا وجدنا أنفسنا عاجزين حتى في هذا الموضع من سفر "باروخ" من العثور عن أية صلة للكلمات المذكورة بنسب "معد بن عدنان".
ويروي رواة الشعر وأهل الأخبار شعرا لعدي بن زيد العبادي ولأمية بن أبي الصلت ولنفر آخر من للشعراء في أحداث وأمور توراتية. وهذه الأشعار إن صح إنها لهم حقاً، دلت على وقوف أولئك الشعراء على التوراة، أو على بعض أسفارها، أو على قصص منها. أما عدي بن زيد، فلا أستبعد وقوفه على التوراة، فقد كان نصرانياً قارئاً كاتباً بالفارسية والعربية، وربما كان كاتباً بلغة بني إرم كذلك، لغة المثقفين في العراق يومئذ. وقد كان هو نفسه من المثقفين ثقافة عالية بالقياس إلى زمانه، وفي شعره زهد وتصوف وتدين وتأمل وتفكر، فلا يستبعد إذن أخذه من التوراة ومن الأناجيل. وقد أورد "الهمداني" له أبياتاً في قصة آدم وحواء والجنة والحية. وهي أبيات فيها ركة وضعف، ولكنها منتزعة من "سفر التكوين" من التوراة أخذت منه. وهي إن كانت من شعره ومن نظمه حقاً، كانت أقدم شعر يصل إلينا في نظم بعض قصص التوراة بلغة عربية.
وأما "أمية بن أبي الصلت"، فقد كان واقفاً على كتب اليهود والنصارى كما يذكر أهل الأخبار، قارئاً "كتب الديانتين، مطلعاً على العبرانية أو السريانية أو على اللغتين معاً، إن كان واقفاً أي حائراً بين الديانتين، فلم تدخل في أمية ديانة منهما، و إنما كان من الأحناف على حد تعبير أهل الأخبار، لذلك لا يستبعد وقوفه على قصص توراتي وإنجيلي، وعلى الاستفادة منه في الشعر. ونجد في شعره ألفاظاً غريبة، يذكر أهل الأخبار إنه أخذها من لغات أهل الكتاب، فوضعها في شعره، وشعره كما قلت في مواضع من هذا الكتاب يستحق من هذه الناحية الدرس والنقد، لنرى إلى أية درجة من الحق والصدق تصل دعاوى أهل الأخبار في شعر أمية، وفي نسبته إليه. وهو إن ثبت إنه، كان أيضاً دليلاً على وقوف المثقفين من الجاهليين على كتب أهل الكتاب، و شيوعه في الحجاز، وكان أيضاً دليلا على نظم بعض الشعراء لحوادث التوراة و الانجيل في شعرهم في ذلك العهد.
ونجد في شعر "أمية بن أبي الصلت" وأمثاله من المتصلين بأهل الكتاب القارئين لكتهم كما يذكر أهل الأخبار، فائدة كبيرة لنا في تكوين رأي عام عن وقوف العرب على الآراء التوراتية في الجاهلية، وفي جملة ذلك أنساب التوراة. وفي الشعر المنسوب إلى "أمية" آراء مستمدة من التوراة، مثل شعره في "نوح" وفي قصة "الطوفان" والغراب والحمامة وبقية حكاية الطوفان إلى زواله، فإنه إن صح دل على وقوف "أمية" على خبر قصة "الطوفان" الواردة في السفر السادس فما بعهده من التكوين. فإن ما جاء في هذا الشعر هو اقتباس لما ورد في تلك الأسفار. ونجد له أشعاراً أخرى إن صحت نسبتها إليه، دلت على إنه كان على اتصال بأهل الكتاب، وعلى أخذ منهم. ولعله كان يغرف من قصصهم الذي كان يشرح للناس ما جاء في التوراة، أو إنه كان يراجع ترجمات التوراة كانت بعربية أهل الكتاب في ذلك العهد، أو يسمع منهم ترجمة التوراة سماعاً فوقف على بعض ما جاء فيها، وفي جملة ذلك هذا القصص، وربما الأنساب المتعلقة بالعرب كذلك.
وحكاية "أمية" عن الطوفان أقرب إلى التوراة من حكاية "الأعشى" أبي بصير ميمون بن قيس، عن الطوفان. وذلك إن صح أن ذلك الشعر من نظمه حقا. فإن العناصر التوراتية فيه ليست بارزة واضحة وضوحها في شعر أمية. ويظهر من بعض الجمل الواردة في شعر الأعشى عن الطوفان مثل: ونادى ابنه نـوح وكـان بـمـعـزل ألا اركب معي واترك مصاحبة الكبر
فقال: سآوي نـحـو أعـيط مـشـرف بطول شنان السماء ذي مسلك وعر
ومثل: ونجا لنوح فـي الـسـفـينة أهـلـه ملاحكة الألواح معطـوفة الـدسـر
فلما استوت من أربعين تـجـرمـت تناهت على الجودي أرست فما تجري
ومن مضمون القصة نفسها، إن المنبع الذي استقى منه الشاعر "الطوفان" هو القرآن الكريم، ومن يراجع الآيات المنزلة عن "نوح" وعن الطوفان وعن ابنه، وكيف امتنع عن الركوب معه بالرغم من إلحاح نوح عليه، يجزم أن الشاعر المذكور قد أخذ الطوفان من القرآن الكريم ومن موارد إسلامية، واستعمل ألفاظاً وتراكيب وردت في كتاب الله، ولم ترد في التوراة.
و اني أشك في كون هذا الشعر من شعر "الأعشى". فالأعشى رجل لم يسلم وان أدرك ألام الرسول، كان قد قصد الرسول، ونظم قصيدة في مدحه، ولكن قريشاً أثّرت عليه، وحالت بينه وبين الوصول إلى الرسول، وعاد إلى "منفوحة" بلدته، فمات بها دون أن يسلم. والرأي عندي إن تلك الأبيات، هي من صنع مسلم، وضعها على لسانه.
ولا يعني شكيّ في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الأعشى، إن الأعشى كان بعيداَ عن آراء ومعتقدات أهل الكتاب، غير واقف على أخبارهم وعقائدهم. ففد كان الأعشى جوّالاً جوّاباً زار العراق وبلاد الشام،اتصل بقبائل نصرانية، وجالس اليهود والفرس والروم، ووردت في أشعاره ألفاط من ألفاظ الحضارة الأعجمية، كما وردت فيها أفكار تدل على وقوف على آراء وأفكار دينية وخواطر فلسفية، فرجل مثل هذا لا يستبعد وقوفه على قصص يهودي ونصراني وعلى آراء دينية لأهل الكتاب. وللحكم على، مقدار فهمه لها، يمكن بالطبع دراسة ما ورد في الشعر على لسانه، ومطابقته بما نعرفه من آراء القوم لنقف على درجة صلة ما جاء في شعر الأعشى من آراء ومعتقدات بآراء أهل الكتاب و معتقداتهم.
أما الأماكن التي ظهرت فيها هذه الروايات الإسرائيلية، فهي: اليمن، والمدينة، والعراق. ومن العراق الكوفة بصورة خاصة. وقد كان في كل هذه المواضع رجال من أهل الكتاب موّنوا أهل الأخبار بما كانوا يرغبون في معرفته، ولم يكن هؤلاء على قدر واحد في المعرفة والفهم، والظاهر إن منهم من لم يكن له إلام بالتوراة ولا بالتلمود و غيرهما من الكتب و إنما أخذ ذلك من أهل النظر منهم، أو كما وصل إليه من أهله وحاشيته، ولذلك اضطرب الأخباريون في بعض، الأحيان في رواية خبر واحد، كما اختلفوا في ضبط الأسماء. وقد علل ابن خلدون اختلافهم في ضبط الأسماء.قوله: "واعلم إن الخلاف الذي في ضبط الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف، فان هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة، ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب. فإذا وتر الحرف متوسطاً بين حرفين من لغة العرب، فترده العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا. وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن ها هنا اختلف الضبط في هذه الأسماء".
والحق هو إن هذا الخطأ لم يقع في ضبط الأسماء فقط، بل وقع في أمور جوهرية أخرى ترينا جهل بعض الرواة بجدول الأنساب، وترينا الخلط أحياناً بين الروايات الإسرائيلية. والروايات الإيرانية حتى تكون من هذا المجموع المدون في الكتب الإسلامية عن الأنساب خليط من روايات إسرائيلية و روايات فارسية وقصص شعبي عربي، يجوز أن نضيف إليه عنصراً آخر هو الوضع، فقد وضع الرواة شيئاً من عندهم حين عجزوا عن الحصول عليه من الموارد الثلاثة المذكورة، وكان لا بد لهم من سد تلك الثُغر، فسدوها بما جادت به قرائحهم من شعر ونثر. ومن هذا القبيل، ما أدخلوه على التوراة أيضاً من أنسابٍ زعموا إنها وردت في التوراة، وليس لها في الواقع وجود فيها.
خذ آدم، فقد صيره الأخباريون "كيو مرث" وهو من الفرس، وخذ نوحاً ترَ إنه صار "افريدون" عند أهل الأخبار وهو من الفرس أيضاً، وجعلوا "لاوذ" ابناً من أبناء إرم من سام أخي عوص وكاثر، مع إنه "لود"، في التوراة، وهو شقيق إرم بن سام ووالد عوص وجاثر، وقالوا أشياء أخرى لا وجود لها في التوراة.
أما متى دخلت أنساب التوراة إلى العرب، ومتى ظهرت وشاعت بينهم، فنحن لا نستطيع أن نحدد ذلك على وجه مضبوط بالقياس إلى أيام الجاهلية. ولكننا نستطيع إن نقول إنها كانت قد تسربت إلى الجاهليين من اليهود، وذلك بوجودهم في الجزيرة العربية واتصالهم بالعرب، وقد يكون من النصارى أيضاً، وقد تفشت في أماكن من جزيرة العرب وبين بعض القبائل، وان هؤلاء أي أهل الكتاب هم الذين أشاعوا بين الجاهليين هذه الأنساب. وقد تكون لليهود يد" في إشاعة خبر رابطة النسب وأواصر القربى التي تربط بينهم وبين العرب، وذلك للتأثير عليهم وللتقرب منهم، وللسكن بينهم بهدوء وسلام.
ونستطيع أن نقول جازمين إن هذا القصص الإسرائيلي، وهذه الأنساب التي يرويها أهل الأخبار، لم تكن كثيرة الشيوع بين الجاهليين، و إنما هي شاعت وراجت في الإسلام، وذلك للأسباب المذكورة، ومروجوها وناشروها هم زمرة تحدثت عنهم في مواضع متعددة من هذا الكتاب.
ونحن لا يهمنا هنا من الأنساب للواردة في الوردة إلا الأنساب المتعلقة بالعرب وبالشعوب العربية، و معنى هذه الأنساب الخاصة بذرية "سام" و "كوش". ويهمنا من ذرية "سام" ذرية "إرم" و "لود" و "أرفخشذ"، حيث ألحق النسابون بهؤلاء قبائل العرب. أما أشور و "عيلام"، وهما بقية أبناء "سام"، فليس لذريتهم علاقة بالعرب، فليس لنا كلام عنهم في هذا المكان.
وأولاد سام في التوراهَ، هم خمسة: "عيلام"، و "أشور"، و"أرفكشاد"، و "لود"، و "أرام". وقد ضبط الأخباري ون الأسماء على هذه الصورة: "أشوذ"، و "أرفخشذ"، و "عليم" "عويلم" " عيم"، و "لاوذ" و "ارم". وأضافوا إليهم "عابراً"، فصيروه أخا للمذكورين وابناً من أبناء "سام". أما في التوراة فإنه عابراً هو حفيدُ حفيد "سام"، وليس بابن له، وقد شق نسبه فيها على هذه الصورة: "عابر بن شالح بن أرفكشاد ابن سام". وكان إبراهيم هو السابع من أعقابه.
ونجد الطبري يروي في مكان من تأريخه أن أولاد سام، هم: "أرفخشذ ابن سام، وأشوذ بن سام، ولاوذ بن سام، وعويلم بن سام"، فهم أربعة. وقال بعد اسم "عويلم بن سام" مباشرة: "وكَان لسام إرم بن سام" مما يدل على أن المورد الذي نقل منه الطبري روايته لم يكن على علم تام بخبر أم "إرم"، و يؤيد هذا الاستنتاج قوله: "قال: ولا أد?ي إرم لأم ارفخشذ واخوته أم لا ?". وقد قال هذا المورد إن أم أبناء سام المذكورين هي: "صليب ابنة بتاوبل بن محويل بن خنوخ بن قيس بن آدم " فيكون عدد أولاد "سام" خمسة أيضاً وهو العدد المذكور في التوراة إلا أننا نرى تبايناً بين روايتي الطبري والتوراة في للترتيب وفي الضبط: ضبط الأسماء.
ونجد الطبري بروي في مكان آخر أن أولاد سام، هم: عابر، وعليم، وأشوذ، وأرفخشذ، ولاوذ، وإرم. وذكر أن من و لد "أرفخشذ" الأنبياء والرسل وخيار الناس والعرب كلها والفراعنة بمصر. ويظهر من هذه الرواية أن ولد سام هم ستة، وقد نتج ذلك عن ضم "عابر" إلى ولد سام. وهو ضم مخالف لما جاء في التوراة. ولو رفعنا اسم "عابر" من الأسماء المذكورة، لصارت بقية الأسماء خمسة، وقد رتبت على وفق ما ورد في "سفر التكوين". ف "عليم" هو "عيلام"، و "أشوذ"، هو "أشور"، و "أرفخشذ"، هو "ارفكشاد"، و "لاوذ"، هو "لود"، و "إرم" هو "أرام".
وليس في التوراة ذكر لأبناء "لود"، أي "لاوذ" أهل الأخبار والأنساب.
كل ما فيها أن له نسلاً، وقد عرفوا بي "اللوديين". وقد ذكروا مع "كوش" و "فوط" مما يبعث على الظن أنهم إفريقبون. ولورود اسم جدهم "لود" مع "أشور" و "ارام" و "عيلام"، يرى علماء التوراة أن اللوديين الذين هم من نسل "لود بن سام" هم شعب من شعوب الشرق الأدنى لا تبعد مواطنهم عن البابليين و الآشوربين، وأنهم غير "اللوديين" الإفريقيين، اللودين المنحدرين من صلب "مصرايم"، أي "مصر" المذكورين أيضاً في التوراة.
ولهذا فإن الأولاد الذين نسبهم أهل الأخبار إلى "لود"، "لاوذ"، وهم: طسم وعمليق، وجرجان، وفارس على رواية، وجديس، وأميم، وعبد ضخم على رواية أخرى، وأمثالهم ممن لم نذكر من الأولاد، هم هبة منحها أهل الأخبار والأنساب ل "لاوذ" لا نجد له ذكراً في التوراة.
إنّ "عمليقاً"، الذي هو جد العمالقة على رأي أهل الأخبار، وليس من نسل لود" في التوراة، بل هو جد "أول الشعوب"، لذلك يبدو تجاسر أهل الأخبار في منح "لود" أولاداً عملاً غريباً، والظاهر أن "ابن الكلبي" واليه ترجع أكثر هذه الروايات، أو أحد من سألهم عنهم ، اختاروا "لوداً" من بين أبناء "سام" فمنحوه أولئك الأولاد. وكان لا بد لهم من نسبتهم إلى أحد الأجداد المتقدمين القحطانيين، لأنهم أقدم منهم في نضرهم، فاختاروا لهم ذلك الأب.
أما "أرام"، وهو "إرم" عند أهل الأخبار، فقد أولد أولاداً على ما جاء في التوراة، وهم: "عوص" "UZ"، و "جاثر" "كاثر" "غاثر" "Gether" و "حويل"، "حول" "Hul"، و "ماش" "Mash". وقد ذكروا في موضع من التوراة أنهم أبناء "سام"، وذلك جريا على طريقة العبرانيين في حذف اسم الأب أحياناً، وإلحاق الحفدة بالجد مباشرة.
وقد عرف أهل الأخبار هذه الأسماء، إلا أنهم قدّموا وأخروا فيها كما حرفوا فيها بعض التحريف، وقد اختار أهل الأخبار "عوصاً"، فجعلوا له أولاداً هم: عاد، وعبيل، وغاثر بن عوص، واختاروا "جاثر" فجعلوا له "ثموداً" و "جديساً". وقالوا عنهم: "وكانوا قوماً عرباً يتكلمون بهذا اللسان المضري". و لا نجد في التوراة و لا في اليهوديات ذكرا لهؤلاء الأولاد الذين منحهم أهل، الأخبار "عوص" او "غاثر" "جاثر" 0 إذن فالنسب المذكور هو من صنع الأخباريين.
و "أرام" هو جد "بني إرم" أي "الآراميين". وهم قوم معروفون فلا حاجة الى التحدث عنهم. وأما "عوص" فهو جد "العوصيين" سكان أرض "عوص" موطن "أيوب" "Jop"، إلا أن العلماء لم يتفقوا في تعين مكانه. فذهب بعضهم إلى إنه "دمشق" و "اللجاء" "اللجاة" مستندين في ذلك إلى رواية "يوسيفوس"، و ذهب آخرون إلى إنه "أورفا" على الفرات ورأى بعض إنه في "نجد"، وذهب بعض آخر إلى إنه "أدوم" أو العربية الشمالية، ورأى "كلاسر" إنه في شمال غرب "المدينة"، ورأى غيره إنه في مكان ما من جزيرة العرب أو من بادية الشام.
وقد استدل، بعض الباحثين من سفر "أيوب" ومما ورد فيه: ومن اسمه على إنه كان عربياً، عاش بين العبرانيين، أو إن بعضهم اختلط به، فدوّن أخباره وقصصه. وقد أمدت كتب "الهكادة" "Haggadah" و "التلمود" و "المدارش" اليهود وأهل الأخبار بقصص عنه وعن أصدقائه الخلص الذين لازموه.
نرى مما تقدم إن الأخباريين قد ربطوا نسب العرب البائدة أي العرب الأولى يالإراميين "الآراميين" و باللوديين "اللاوذيين" و بالعوصيين و بالجائرين "الغاثرين". ولا نجد في كتبهم الأسباب التي حملتهم رجع أنساب هؤلاء العرب إلى هؤلاء الآباء. ويظهر أن فكرة وجود عرب أولى عاشت قبل القحطانيين والعدنانيين، جعلت أهل الأخبار في يبحثون عن آباء لهم، يكونون أقدم عهداً من "قحطان" ومن "عدنان"، فنسجوا أولئك العرب إلى "لود" و "أرام" ابني سام، وإلى "عوص" و "جاثر" ابني "أرام"، وهم أقدم عهداً من جدي القحطانيين و العدنانيين.
أما أثر التوراة على النسابين وأهل الأخبار بالنسبة إلى الطبقة الثانية من العرب، الطبقة التي دعاهها العرب العاربة، والعرب القحطانيين، فقد ذكرت في الفصل الخاص بهؤء العرب إن "قحطان" جد القحطانيين، هو "يقطان" في التوراة. وقد نسبه أكثر أهل الأخبار إلى "عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح". وصيره بعضهم ابناً من أبناء سام. ولقد وقد ذكرت إن النسب الثاني نسب مغلوط، وان نسبه المذكور في التوراة يجعله الابن الثاني الأصغر ل "عابر". أما الولد البكر فهو "فالج"، فيكون العبرانيون واليقطانيون أبناء عم وفق هذا النسب.
وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى إن "يقطان" لا وجود له، و إنما ابتدع ابتداعاً لإيجاد صلة بين العرب والعبرانيين.
وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى إن عابراً، جدّ قبيلة كبيرة، انقسمت على نفسها إلى قسمين: قسم بقي فيما بين النهرين، وهو القسم الذي عرف بذرية "فالج"، ومن هذه الذرية انحدر "العبرانيون"، و قسم ترك ما بين النهرين" و ارتحل إلى جزيرة العرب، و هو القسم الذي عرف ب "يقطان"، و دليلهم على ذلك إن معنى "فالج" هو الانشقاق" و "الانقسام"، و إن في أيامه "قسمت الأرض" على رواية أهل التوراة. ومعنى ذلك انقسام ذرية "عابر"، وانشطارهم إلى شطرين.
وقد ذكر "الطبري" إن "بني يقطن" لحقت باليمن، فسميت اليمن حيث تيامنوا، ومصدر خبره هذا "ابن هشام"، وقد اخذ "ابن هشام" خبره هذا من أهل الكتاب و لا شك.
ويشك بعض دارسي التوراة في كون "يقطان" المذكور هو "قحطان" الذي يذكره علماء الأنساب، ويرون إن نظرية من يجعل قحطاناً هو "يقطان"، نظرية لا تستند إلى أساس، و إنما وضعت على التشابه الموجود بين اللفظين، وهذا التشابه هو الذي دفع علماء الأنساب إلى اعتبار "قحطان" "يقطاناً"، فمن ثم صار "يقطان" جدّاً للعرب القحطانيين. ولكنهم لا ينكرون ذلك أن "يقطان" التوراة، هو جدّ قبائل ذكرت التوراة أسماءها، وبعضها قبائل، عربية معروفة، فلا يستبعد أن يكون "يقطان" على رأيهم كناية عن قبائل عربية لم يكن العبرانيون على علم بها تمام الحلم.
ولم ترد في القرآن الكريم لفظة "قحطان" أو "يقطان". ولم ترد كذلك في الكتابات الجاهلية. أما الشعر الجاهلي، فقد وردت فيه في مواضع الفخر والحماسة. و إذا وافقنا على إنها وردت في الجاهلية القريبة من الإسلام،فان موافقتنا هذه لا تعني أن قدماء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام كانوا على علم ب "قحطان"، أو إن قوما منهم كانوا ينتمون إليه وينتسبون بنسبه، فحكم مثل هذا لا بد أن يستند إلى كتابات وأدلة مقبولة. ولهذا رأى نفر من المستشرقين إن الأخباريين جاؤوا بقحطانهم هذا من التوراة، من تأثرهم بأهل الكتاب، ومن مطالعتهم للتوراة، فحولوا النزاع الذي كان بين أهل اليمن وفيهم "سبأ"، والنزاع الذي كان بين أهل مكة وبين أهل مكة ويثرب التي ينتمي أهلها إلى اليمن إلى نزاع بين جدّين، وصار "قحطان" وليد "يقطان" "يقطن" جدّاً حقيقياً ليمن ولمن نسب نفسه إليهم من الأفراد والقبائل.
وقد ورد في جغرافيا "بطلميوس" اسم قريب من "قحطان" هو "كتنيته" "كتانيته" "Katanitae"، قد يكون دليلاً على وجود أسماء عند الجاهليين قريبة من" قحطان". أما هذه التسمية، فإننا لا نستطيع أن نقول لها علاقة بقحطان. فالتشابه في التسميات، لا يكون دليلاً قاطعاً على وحدة تلك التسميات. وقد ورد في الموارد العربية اسم قبيلة عرفت ب "قطن" و ب "بني قطن"، كما ورد اسم مكان عرف ب "جو قطنن"، واسم مدينة تدعى "قحطان"، تقع بين "زبيد" و "صنعاء". لهذا أرى إن من الخير لنا ألا نتحذ موقفاً خاصاً لا سلباً ولا إيجاباً تجاه هذا الموضوع انتظاراً لاستكمال العدة والحصول على مواد جديدة تكفي لإصدار حكم فيه.
أما بلاد "اليقطانيين"، على رأي التوراة، فتمتد من "ميشا" "Mesha" إلى "سفار" "Sephar". ولم تذكر التوراة حدوداً جغرافية لها غير هذين الحدين. ولا يعرف العلماء عن موضوع "ميشا" شيئاً. فذهبوا في تعيينه مذاهب. ذهب بعضهم إن إنه "مسينة" أو "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج العربي، وذهب آخرون إلى إنه "موزح" أو "موسج" في نجد، ورأى آخرون إنه "ماشو" "Mashu" أو "ماش" "Mash"، أي بادية الشام في الكتابات الآشورية.
وذهب "ديلمن" "Dillmann" إلى إن "ميشا"، تحريف "مسا" "Massa"، وهو اسم أحد أبناء إسماعيل، فتكون حدود "اليقطانيين" على رأيه بعد حدود أرض "مسا"، من قبائل، الإسماعيليين مباشرة، غير إننا لا نستطيع مع ذلك من تعين الموضع، لأننا لا نعلم أيضاً أين كانت مواطن "مسا" من قبائل الإسماعيليين، فكيف نثبت هذه الحدود? وأما الحد الآخر، وهو "سفار"، فهو الحد الجنوبي للبلاد "اليقطانيين"، وذلك باجماع آراء علماء التوراة. ولكنهم يختلفون في تعين الوضع فقط، فمنهم من رأى إنه "ظفار" عاصمة الحمربلإت، ومنهم من يرىً إنه "ظفار" حضرموت التي اشتهرت شهرة واسعة في العالم القديم، وورد ذكرها في الكتب "الكلاسيكية". ومن المرجح أن تكون هي الموضع المقصود، وذلك لشهرتها هذه ولقدمها.
وقد جعلت التوراة ل "يقطان" أولاداً، عدتهم فيها ثلاثة عشر ولداً، هم: الموداد، و شالف، وحضرموت، ورياح، وهدورام، وأوزال، و دقلة، و عوبال، و ابيمايل، وشبا، و اوفير، و حويلة، و يوباب. و هذه الأسماء، هي أسماء قبائل، وأمكنة، اعتدَّها كتبة التوراة على عادة ذلك العهد أسماء أعيان، و صيروها أسماء أولاد "يقطان".
ولا يعني هذا العدد، في نظري إنه جميع القبائل العربية التي كانت تقيم في مواطن "اليقطانيين": و إنما هو حاصل ما بلغ إليه علم كتبة تلك الأسفار في ذلك اليوم من أمر هذه القبائل، ولم تكن معارف أولئك الكتبة يومئذ أكثر من هذا الذي ذكروه ودنوه. على نحو ما وصل إلى علمهم ومسامعهم، فهو لهذا لا يمثل أي ترتيباً جغرافياً للأماكن المذكورة ولا سرداً على نسق معين مضبوط.
ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه الأسماء نجد إنها قد كدّست في منطقة ضيقة، هي اليمن وحضرموت. أما ما فوقها إلى "ميشا" نهاية الأرض اليقطانية في الشمال، فلم يذكر الكتبة من أسماء قبائلها شيئاً ما. وهو يدل على أنهم لم يكونوا يعرفون عن باطن جزيرة العرب شيئاً، أو أن موضع "ميشا" في مكان آخر في غير هذا الموضع الذي تصوره علماء التوراة، كأن يكون في شمال اليمن مثلاً، وبذلك يستقيم التحديد كل الاستقامة مع ما هو شائع معروف من أن أرض اليمن وبقية العربية الجنوبية هي موطن القحطانيين.
ويظر أن كتبة النسب في التوراة لم يراعوا في عدهم أسماء أبناء يقطان الترتيب الجغرافي، أو قرب اليقطانيين وبعلي هم عن العبرانيين. فهذا الترتيب، لا يشير - في الحقيقة - إلى أن الأسماء وضعت على أساس جغرافي. والظاهر إنها جمعت كما وصلت إلى مسامع العبرنيين من غير فحص أو تدقيق، كما أننا لا نستطيع أن نؤكد إنها وصلت صحيحة سالمة من غير تصحيف أو تحريف.
و "الموداد" "مودد" "المودد" "Al-Modad"، هو الابن البكر ليقطان على ما يفهم من التوراة. وهو رمز عن شعب من الشعوب اليقطانية، يرى نفر من علماء التوراة أن مواطنه في العربية الجنوبية. قد يكون في جنوب غربي جزيرة العرب. وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية وفي نصوص غير عربي كلمات قريبة من هذه الكلمة، مثل "موددى" في البابلية، و"مودادو" "موددو" في البابلية أيضاً وفي "الأمودية". ووردت لفظة "مودد" في كتابات "جبانية" "كبانية" "Gebanitae"، في نصوص تدل على تقرب ملوك "حبان" "جبن" "كبن" "جبان" من ملوك معين، وإلى سيادة "معين" على "الجبأنيين" في ذلك الحين. فورد "مودد ملك معين" بمعنى "المتودد لملك معين" و "المحب لملك معين". ويرى "حَلاسر" أن هذه الجملة لا تعني "أحباء ملوك معين" وأصفياءهم، وإنما تحكي وظيفة لها علاقة بالإله "ود"، مثل كهانة الإلهَ "ود" وسدانته. ومسكن هؤلاء "الجبأنيين" في الزاوية الجنوبية الغربية لجزيرة العرب، كما ورد اسم "مودد" في الكتابات السبئية، وفي كتاب الإكليل للهَمداني. وقد ذكره قبل "السلف"، مما يدل على أنه اسم مكان مجاور للسلف.
وأورد "بطلميوس" في الجغرافيا اسم شعب عربي دعاه "Allumaeotae" يرى "فورستر" أنه شعب "الموداد" الذي نتحدث عنه. ويقع مكان هذا الشعب في جغرافيا "بطلميوس" نجوب "الجرعاء" "Gerraea" "Vicus Jerachaeorum"، ويتصور أنه على ساحل الخليج العربي عند "فطن".
وأما "شالف" "Sheleph" الذي ورد في التوراة بعد "الموداد"، فلم يتمكن العلماء من تشخيصه أيضاً. ويرى بعضهم انه شعب "Salepeni" المذكور في جغرافيا "بطلميوس". ويرى آخرون انه "السلف"، وهم بطن من ذي الكلاع من حمير، وهو "السلف بن يقطن"، أو "السلاف"، أو "بنو سلفان". و "السلف" اقرب هذه الأسماء إلى "شالف"، وخاصة إذا أخذنا بما قاله النسابون من انتساب هذه القبيلة إلى جدً أعلى هو "السلف ابن يقطن"، وذكر "نيبور" في رحلته اسم موضع في اليمن يقال له "سلفية"، قد تكون لاسمه علاقة ب "شالف". وفي منطقة "يريم" ممر يقال له "نجد الأسلاف"، وقد رأى "كَلاسر" احتمال وجود صلة بينه وبين "شالف".
وأما "حزرماوث"، "Hazarmaveth"، فهو "حضرموت". ومعلوماتنا عن هذا الشعب حسنة بفضل الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في العربية الجنوبية، والتي ترجم عدداً منها المستشرقون. وسأتحدث عنهم في الأجزاء الآتية من هذا الكتاب.
وأما "يارح" "Yerah"، فان معناه "قمر" و "شهر"، ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى انه اسم قبيلة عربية. وبين العرب قبيلة تعرف ب "بني هلال"، فلا يبعد أن يكون "يارح" اسم قبيلة. وقد عثر في كتابات تدمر على اسم "يارح"" وقد ورد اسم علم، كما إن اسم "شهر" من الأسماء المعروفة عند الجاهليين، وقدُ سمي به عدد من الملوك الذين عاشوا قبل الميلاد وبعده.
ويرى "كلاسر" إن الشعب كان يقيم في "مهرة"، أو في جنوب عمان في موضع قد يكون المكان الذي سماه "بطلميوس" "Jerakon kome". و "يارح" هو "يرخ" و "ورخ" في اللهجات العربية الجنوبية، وتعني "شهرا" "فمراً". وهناك مواضع متعددة في العربية الجنوبية تسمى بأسماء قريبة من هذه الكلمة، مثل "وراخ" و "يراخ". وقد ذكر الهمداني اسم موضع دعاه "وراخ" في مخلاف "العود"، لذلك رأى بعض العلماء وجود صلة بين هذه المواضع و "يارح". كما ورد في جغرافيا "بطلميوس" اسم مكان دعاه "Insula Jerachaeorum"، وهو جزيرة تقع في البحر الأحمر جنوب جُدَّة. وورد اسم محل آخر سمي "Vicus Jerachaeorum"، ويقع في مقابل النهر الذي دعاه نهر "الآر" "Lar" الذي يصب على زعم "بطلميوس" في الخليج العربي "الخليج الفارسي" "Sinus Persicus".
وأما "هدورام" "Hadoram"، فيرى "ملر" "Muller"، و "كلاسر" احتمال إنه "دورم"، وهو موضع على مقربة من "صنعاء". ويؤيدان رأيهما هذا بما ورد في المؤلفات العربية من أن اسم "صنعاء" القديم هو "أزال". و "أزال" هو شقيق "هدورام"، وقد ذكر بعده في ترتيب أسماء أولاد "يقطان".
وقد ذكرت الكتب العربية اسم موضعين يقال لهما "الهدار". قال الهمداني عن أحدهما: إنه "حصون ونخول وقصور عادية"، وقال عن الثاني: إنه "هدار بني الحريض"،وذكر أن فيه "القطنية"، وهذا الموضع الأخر قريب من "هدورام"، للفظة "القطنية" أهمية كبيرة لقربها من لفظة "يقطان".
وقد ذكر "الطبري" في تاريخه أن جرهماً "اسمه هذرم ين عابر بن يقطن ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح". وهذا النسب الذي ذكره "الطبري" هو النسب الوارد في التوراة بزيادة "عابر" بين "هذرم" وهو "هدورام" وبين "يقطن". وهو خطأ، يرد كثيراً في الأنساب المنقولة من التوراة إلى الكتب العربية. ومورد "الطبري" هو "ابن الكلبي"، ومورد "ابن الكلبي" هو من أهل الكتاب، شانه في ذلك شأن كل الأنساب حيث أخذها من أهل الكتاب.
أما "أزال"، فهو مثل سائر الأسماء المتقدمة، غير معروف. ولم يتفق علماء التوراة على تعيينه حتى الآن. وقد ذكر أهل الأخبار أن "صنعاء" عاصمة لليمن، كانت تعرف في الجاهلية ب "أزال". وترجع هذه الرواية إلى "وهب بن منبه"، الذي زعم "إنه وجد في الكتب القديمة المنزلة التي قرأها: أزال كل عليك، وأنا أتحنن عليك" وزعم أن "أزال" هي "صنعاء" ولم يرد في النصوص الجاهلية ما يفيد أن صنعاء كانت تعرف ب "أزال"، بل لدينا نص من أيام الملك "يشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان" ويعود إلى نهاية القرن الثاني وبداية القرن الأول لما قبل الميلاد، أي القرن المتصل بالقرن الأول للميلاد ورد فيه "صنعو" وهو "صنعاء".
ويرى "كلاسر" إن اسم "أزال" إنما وضع ل "صنعاء" بعد دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك، وضعه اليهود. وذكر "البكري" إن صنعاء كلمة حبشية، ومعناها وثيق وحصين.
وهناك مواضع أخرى عرفت ب "أزال"، منها موضع يعرف ب "يأزل"، عند جبل "حضور"، وموضع آخر في الحجاز، غير أن من غير الممكن في الزمان الحاضر البت في أي مكان من هذه الأمكنة بأنه هو "أزال" التوراة.
ولم يتمكن علماء التوراة من البت في موضع "دقلة" "Diklah" أيضاً. ويرى بعض المستشرقين إن هذا الاسم يشير إلى مكان يجب أن يكون كثير التمر. وقد رأى "هومل" إنه موضع "حدّ دقل". وذكر "ياقوت الحموي" موضعاً في اليمامة سماه "دقاة"، واى ن الباحثين في هذا الموضوع لم يقطعوا برأي فيه.
ورأى بعض الباحثين إن "عوبال" "Obal" "Ebal"، شعب "عبيل". ورأى آخرون انهم "عيبال" في تهامة الحجاز، أو "عبال" أو "عبيل"، وهما موضعان في اليمن.
ورأى "فورستر" احتال وجود صلة بين "عوبال" و "Avalitae"، وهو اسم شعب عربي ذكر "بلينيوس" أو "Abalitae"، وقد ذكره بعض الكتبة "الكلاسيكيين.
وذهب "كلاسر" إلى احتمال كون وادي "اتمة"، هو موضع شعب "أبيمائيل" "Abimael"، غير إن ذلك مجرد ظن، ليس غير.
والولد العاشر من ولد "يقطان"، هو "شبا". وقد وردت بعض أخبار "شبا" في أسفار التوراة، وذكرت قصة "ملك شبا" وزيارتهما لسليمان. فسبأ هنا، شعب من شعوب اليقطانيين. ولكننا نرى التوراة تجعل "شبا" في موضع آخر ابناً ل "يقشان"، و "يقشان" هو ابن "إبراهيم من زوجته "قطورة" "Keterah"، و هو شقيق "إسماعيل" من أبيه. فسبأ هنا من نسل شعب آخر يختلف "سبأ" اليقطانيين. ونراها تذكر "سبأ" بالسين المهملة في جملة أبناء "كوش". والمعروف إن المراد من "كوش" عند العبرانيين، الحاميون، أي الشعوب الإفريقية، فيكون "سبأ" هنا اسم شعب من الشعوب الإفريقية.
ومعنى هذا التعدد في النسب انتشار السبئيين وسُكناهم في مواضع متعددة، وهذا ما حمل كتبة التوراة على إدخال نهب السبئيين الساكنين في إفريقية في نسب "الكوشيين"، وإدخال السبئيين الساكنين عند "ددان" في نسل "رعمة".
ويرد اسم "أوفر" "Ophir" بين "شبا" و "حويلة"، وهو كناية عن أرض اشتهرت عند العبرانيين بكثرة ذهبهها وبوجود الفضة وخشب الصندل وبعض الأحجار الكريمة فيها. وقد اختلف في تعيين مكانها، فذهب كثير من علماء التوراة إلى إنها في جزيرة العرب، ولكنهم اختلفوا في تعيين المكان، فذهب بعضهم إلى إنها في اليمن، وذهب آخرون إلى إنها في عسير، وآخرون إلى إنها في اليمامة أو موضع "العويفرة" الذي لا يبعد كثيراً عن حافات جبل طويق، ومنهم من رأى إنه "مهد الذهب" في الحجاز، وهو موضع عرف باستخراج الذهب منه قبل الإسلام بزمن طويل، وقد نقبت فيه شركة تعدين حديثة، أغلقت أبوابها من عهد ليس ببعيد، كما ذكرت ذلك في كلامي على معادن جزيرة العرب.
غير أن هنالك جماعة من الباحثين في التوراة ترى أن الوصف الوارد في التوراة لأرض "أوفير" يجعلها أرضاً في الهند، وذلك لأن الحاصلات المذكورة فيها هي حاصلات هندية، ومن الصعب تصور وجودها في بلاد العرب في ذلك الزمان. وذهب فريق آخر إلى إنها في إفريقية.
والابن الثاني عشر من أبناء "يقطان"، هو "حويلة". وقد ذكرته التوراة في موضع آخر في جملة أبناء "كوش" مع "سبأ"، مما يدل على توطن قبيلة أخرى تسمى بهذا الاسم في "إفريقية" لعلّها فرع من فروع "حويلة" بلاد العرب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "حويلة" بلاد العرب، هي في بادية الشام، أو على مقربة من خليج العقبة، وذهب آخرون إلى إنها في أواسط جزيرة العرب، أو في منطقة "جبل شمر"، ورأى كلاسر أنها في المامة. وقد ذكر "الهمداني" جماعة دعاهم "الحوليين"، يظهر أنهم سكان موضع "حوالة" وهناك بطن من بطون اليمن يقال له "بنو حوالة"، كما ورد في اسم "حويل".
وفي التوراة: "وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة، ومن ثم يتشعب فيصير أربعة رؤوس. اسم أحدهما فيشون، وهو المحيط بجميع أرض حويلة حيث الذهب. وذهب تلك الأرض جيد. هنالك المقل وحجر الجزع". فيفهم منه أن نهر "فيشون" "Pishon" يحيط بأرض "حويلة" وهو من أنهر الجنة الأربعة. وأحد الأنهار الأربعة على رأي علماء التوراة هو نهر النيل، وأما الثاني فهو الفرات، وأما الثالث فهو نهر دجلة، وأما النهر الآخر الذي نتحدث عنه، فذهبوا إلى إنه نهر "كارون" أو شط العرب، أو أحد الأنهر الأخرى فتكون أرض حويلة عندئذ في منطقة تقع على راس الخليج.
وآخر أبناء "يقطان" هو "يوباب" "Jobab"، ويرى "كلاسر" إنه اسم قبيلة "يهيبب"، الذي ورد في النصوص السبئية. وذهب بعض آخر إلى إنه اسم شعب "وبار"، وانه تصحيف لاسم "Jobarital" الوارد في جغرافيا "بطلميوس".
وقد أضاف "ابن الكلبي" إلى سلسلة أبناء "يقطن" "يقطان" ولداً آخر لم يرد له ذكر في التوراة، دعاه "توقير"، زعم إنه والد الهند والسند، فربط بذلك بين نسب "اليقطانيين" والهنود. ولا ندري: أعبّر عن ذلك جهلاَ واعتباطاً، أم كنّى بذلك عن الروابط القديمة التي ربطت بين العربية الجنوبية والهند، حيث سكن عدد كبير من قدماء الهنود "الدراويديين "Dravidians" في سواحل عمان وحضرموت? وقد عثرت البعثات العلمية التي نقبت في هذه الأماكن على بقايا هياكل عظمية ترجع إلى هؤلاء، كما يتحدث السياح والباحثون في أثر دماء الهند على سكان هذه المناطق.
ولم ينل هؤلاء الأولاد الثلاثة عشر عناية الأخباري "ابن الكلبي"، ولا عناية "محمد بن اسحاق"، أو غيرهما من أهل الأخبار المعروفين بأخذهم عن أهل الكتاب، إذ لم يشيروا إليهم في أثناء كلامهم على أولاد "يقطن" "يقطان"، و لم يتحدثوا عنهم. بل نسبوا إليه أولاداً آخرين تراوح عددهم من عشرة ذكور إلى واحد وثلاثين، أسماؤهم أسماء عربية، لا وجود لها في التوراة، ما عدا اسماً أو اسمين. وهذا الإهمال يثير في نفوسنا الدهشة والاستغراب: لمَ أهمل يا ترى هؤلاء الأخباريون أبناء "قحطان" المذكورين في التوراة، مَع انهم أخذوا "يقطان" من التوراة، وجعلوا نسبه نسباً لقحطان! وِ لمَ تكرموا عليه فأعطوه عدداً من الأولاد لم يأت لهم ذكر في التوراة? و لمَ لم يضم أهل الأخبار أولاد "يقطان" المذكورين إلى أولاد قحطان ? ألا يدلَ ذلك على جهل أصل الأخبار بهم وعدم وقوفهم عليهم ? إن كان جهلهم بهم هو السبب، فان ذلك يدل على إن أهل الأخبار لم يكونوا يرجعون إلى التوراة رأساً، يقرأون أسفارها ويأخذون منها، بل كانوا - وهذا هو ما اذهب إليه - يراجعون آهل الكتاب ويأخذون منهم ما يريدون. ولهذا لم يقفوا على أولاد "يقطان"، لأنهم لم يسألوا أهل الكتاب عنهم، أو لأن أهل الكتاب لم يتحدثوا إليهم عنهم. على إننا لا نستطيع أن نقبل هذا العذر، ذلك لأن أهل الأخبار كانوا قد ذكروا أسماء أبناء "إسماعيل، نقلوها من التوراة وعلى حسب الترتيب الوارد في "التكوين". وهذا ما يجعلنا نتساءل: لِمَ ذكر أهل الأخبار أبناء "إسماعيل"، وأهملوا أبناء "يقطان"? هل هناك تعمد وغرض ? إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة،ليست سهلة في الواقع، لأن أهل الأخبار لم يكونوا يسيرون على قواعد ثابتة وأنظمة معينة في أخذ الأنساب، ولهذا نراهم يقعون في الغلط، وذلك يدل على إن علمهم بالأمور الواردة في التوراة لم يكن علماً راسخاً، وان علم محدثيهم من أهل الكتاب لم يكن راسخاً أيضاً ولم يكن مستمداً من التوراة رأساً، بل من السماع والرواية في بعض الأحايين، و إلا لما وقعوا في أغلاط شنيعة،وما احتاجوا إلى الوضع والكذب، كالذي نراه من كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما من مسلمة يهود.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق