80
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس
طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها
ومن أنواع السمك الكبر الذي يوجد في البحر الأحمر و في البحر العربي و الخليج، نوع يقال له "القرش"، يحتاج صيده إلى مهارة و براعة ، و يحمل لبيع لحمه مقطعا في الأسواق.
و قد اشتهرت اليمن و الطائف في الحجاز و مواضع أهل الخضر الأخرى بدباغة الجلود و معالجتها لتحويلها إلى مادة نافعة لصنع الأحذية أو الدلاء أو القُرَب و ما شابه ذلك. و قد تصدَّر الجلود مدبوغة، إلى العراق أو إلى بلاد الشام لبيعها هناك.
و ليست لدينا في الزمن الحاضر دراسات علمية دقيقة عن أنواع الحيوانات التي عاشت في جزيرة العرب في العصور السحيقة لما قبل الإسلام. فما عثر عليه من بقايا عظام قديم، أو أصداف و محار، هو قليل لا يكفي لإعطاء أحكام علمية عن حيوانات جزيرة العرب في العصور البرنزية و الحديدية و الحجرية، أو ما قبل هذه العصور التأريخية. فليس لنا إلا الانتظار، حتى تأتي الفرص الملائمة التي يقوم فيها العلماء المتخصصون بالتجوال في مختلف المناطق بحثا عن آثار عظام وهياكل، تكشف القناع عن ذلك العالم الحي، الذي عاش في هذه البقاع قبل آلاف السنين.
وإذا كان الجمل، هو رمز جزيرة العرب، لالتصاقه بها، فإن النخيل هي رمز آخر لها، وكناية عن أهم حاصل و منتوج زراعي تصدره تلك البلاد، ولهذا صارت رمزاً لها. وصار "التمر"، عند كثير من المسلمين من أهم ما يتناولونه في شهر رمضان، للإفطار به، لأنه رمز الإسلام ورمز المدينة التي عاش وتوفي فيها الرسول.
وكما أفاد الجمل أهله الفوائد المذكورة المعلومة، من ناحية حمله ولحمه وجلده ووبره، كذلك أفادت النخلة سكان جزيرة العرب فوائد عديدة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إداماً للعرب، وطبّاً يستطبون بها لمعالجة عدد من الأمراض. ومادة استخرجوا منها دبساً وخمراً وشراباً، وأفادهم كل جزء من أجزائها، حتى أنهم لم يتركوا شيئاً من النخلة يذهب عبثاً. فهي إذن رمز الخير والبركة بكل جدارة وحق لأهل جزيرة العرب، لا يدانيها في ذلك أي نوع من أنواع النباتات النامية في هذه البلاد.
وكائن له هذه الفوائد والمنفعة، ينمو ويثمر بسهولة ويسر، لا بد إن يثمن ويقدر، ويميز على غيره. وهذا صارت النخلة سيدة الشجر، لا عند العرب وحدهم بل عند قدماء الساميين أيضاً، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم. وزخرفت معابدهم بصورها واستعمل سعفها الأخضر في استقبال الأعياد والأبطال والملوك وكبار الضيوف، لأنه علامة اليُمن والبركة والسعادة والفرح. ولا يزال السعف زينة تزين بها الشوارع في المناسبات العامة المهمة حتى اليوم. وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة وفي جملتها نقود العبرانيين الدين يحترمون النخلة احتراما لا يقل عن احترام العرب لها، وهذا ورد ذكرها في مواضع عديدة من، التوراة والتلمود.
والنخيل، هي مثل الجمال ثروة ورأس مال يسر على صاحبه ربحاً وافراً. ومن كان له نخل وافر كان غنياً ثرياً. وقد ربح يهود الحجاز أرباحاً طائلة من اشتغالهم بزراعة النخيل هناك. فالتمر هو مادة ضرورية للأعرابي يعيش عليها ويأتدم بها، و إذ هو لم يكن يفلح ولا يزرع، كان يشتريه مقايضة في الغالب من تجار التمور، فيكسب أصحاب النخيل أرباحا طائلة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر تلك الأمكنة. لا يزاحمها نبات آخر من النبات.
والنخلة هي من أقدم الأشجار التي احتضنها الساميون، وللفوائد التي حصل الساميون عليها من هذه الشجرة.، هي التي حملتهم على تقديسها وعدّها من إلاشجار المقدسة، فنجد النخلة مقدسة. عند قدماء السامين وعدّوا ثمرها وهو التمر من الثمار المقدسة التي تنفع الناس.
أما الكروم، فقد غرست في مناطق من الجزيرة اشتهرت وعرفت بها مثل الطائف واليمن. و أما الأشجار المثمرة الأخرى مثل الرمان والتفاح والمشمش وأمثالها، فقد غرست في مناطق عرفت بالخصب، وبتوافر الماء فيها، ويميل أهلها إلى الزراعة والاستقرار، مثل مدينة "الطائف" مصيف أهل مكة منذ الجاهلية، واليمن. وقد ذكر إن الكروم دخلت إلى بعض المناطق حديثاً، فورد أنها دخلت إلى "مسقط" مثلاً في القرن السادس عشر للميلاد، على أيدي البرتغاليين، ودخلت إلى الحجاز في القرن الرابع بعد الميلاد غريبة من بلاد الشام. ويرى بعض الباحثين إن النبط واليهود كانوا الوسطاء في نقل الأشجار المثمرة إلى الحجاز.
?ما أشجار ضخمة تمد الناس بالخشب على نحو ما تجده في. الهند أو في إفريقية، فلجفاف الجزيرة لا نجد فيها مثل تلك الأشجار. لذلك استورد العرب خشب سفنهم ومعابدهم وبيوتهم من الخارج في الغالب، من إفريقية ومن الهند، خلا الأمكنة القريبة من الجبال والمرتفعات التي يصيبها المطر، وتصطدم بها الرطوبة، فقد نبتت فيها أشجار كونت غابات وأيكات، أفادت من في جوارها، إذ أمدتهم بما احتاجوا إليه من خشب لاستعماله في مختلف الأغراض. وقد كانت منطقة "حسمى" و أعالي الحجاز ذات غابات، وقد تعبّد أهلها لإله اسمه "ذو غابة"، إلهَ الغابات، كما كست الأحراج الطبيعية والغابات جبال اليمن وجبال حضرموت وعُمان.
وما زال أهل العروض ولا سيما سكان الخط، يستوردون أخشاب سفنهم من الهند، لعدم وجود الخشب الصالح لبناء السفن عندهم أو في أماكن قريبة منهم. وهم في ذلك على سنة أجدادهم الذين عاشوا قبل الإسلام بل قبل الميلاد، يذهبون بسفنهم الشراعية إلى سواحل الهند وسيلان تحمل إليها التمور وحاصلات جزيرة العرب والعراق وتعود بهم محملة بحاصلات الهند ومنها الخشب الثمين للاستفادة منه في بناء السفن ولاستعماله في المعابد الضخمة المهمة وفي قصور الملوك.
والسدر من الأشجار المعروفة في جزيرة العرب، وترتفع شجرته أمتاراً عن سطح الأرض، وتكوّن ظلا يقي من يجلس تحته لهيب الشمس ووهجها المحرق. وتكون له ساق قوية متينة. وهو لا يحتاج إلى سقي دائم، لأن جذوره تمتد عميقة في باطن الأرض، فتمتص الرطوبة، ويعطي ثمراً هو "النبق"، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم.
وأشجار مثل السدر ذات ارتفاع وظل، وهي أشجار ذات نفع كبير لأهل البلاد التي تغلب عليها طبيعة الجفاف، لا يمكن إن يقدر أهميتها وفائدتها إلا من ركب الصحراء في يوم حار، ثم جاء فجأة فجلس تحت ظل شجرة تقيه وتقي حيوانه من لهب الشمس، سيرى نفسه في جنة وسط جهنم. فلا عجب إذا ما عبد بعض العرب وبعض الساميين مثل هذه الأشجار، وتقربوا إليها بالنذور والقرابين، وتوسلوا إليها، أو عدّوها من الأشجار المقدسة، من الأشجار المباركة، من أشجار طوبى، الأشجار التي وعد بها المتقون في الجنة.
وقد عبد قدماء العبرانيين بعض الأشجار المثمرة، وعدّوها إلاهة أنثى، لا إلهاً ذكراً، وذلك لخاصية الحمل التي فيها. وقد تصوروا إن للقمر أثراً في حمل تلك الأشجار، أي في إعطاء الثمرة.
وُقد ذكرت أسماء بعض الفواكه والأثمار والأشجار في القرآن الكريم، ويدل ذلك على وجودها في الحجاز، واستعمال الناس لها، ووقوفهم عليها، مثل التين والزيتون والأعناب والطلح والسدر والرمان وعلى وجودها وزرعها في الحجاز، قبل الإسلام بأمد. ولم يكن الحجاز مثل اليمن وحضرموت في كثرة الأشجار والفواكه، وذلك لجفافه بالقياس إلى جو العربية الجنوبية الذي ساعد على نموّ الأشجار.
والأثل والأدراك والغضى الذي يستخرج منه الفحم، والمعروف بجمره، و "السنط"، والسمح، و "الصعتر"، وأمثالها، هي من الأشجار التي لا تزال تنمو وتعيش في مواضع متعددة من الجزيرة، وبعضها في الأقسام الغربية والجنوبية حيث تنمو وتنبت على المرتفعات، يستخرج منها الناس وقوداً، أو ثمراً بريا يأكلونه، وقد يستفيدون من ورقه فيجففونه ويسحقونه فيبيعونه.
و أما الحبوب والخضر والبقول، فتحتاج كلها إلى سقي، لهذا انحصرت زراعتها في الأماكن التي تتوافر فيها المياه أو تتساقط عليها الأمطار في المواسم المناسبة. لذلك نجدها في الحجاز وفي اليمن وفي العربية الجنوبية وفي مواضع المياه من نجد والعروض. والحبوب هي الحنطة والشعر والذرة والأرز،وسأتحدث عنها وعن بقيتها في باب الزراعة عند الجاهليين. وبعض الخضر، مستورد من الخارج، أدخل من العراق أو من بلاد الشام أو من إفريقية والهند، فالبطيخ مثلا المعروف بع "الخربز" عند أهل المدينة مستورد كما يدل عليه اسمه الفارسي من العراق: استورد قبل الإسلام بأمد. ويمكن الاستدلال من أسماء الأثمار والخضر، ومن دراسة توزيعها وأماكن وجودها،على الأماكن التي جاءت منها، فدخلت جزيرة العرب قبل الإسلام.
أما "البخور" واللبان - بترول العالم في ذلك الزمان - والصموغ والمرّ والمنتوجات الزراعية الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وكانت مصدر رخائها، ومصدر تنافس الدول الكبرى عليها في ذلك الزمان، فقد زالت أهميتها بالتدريج، وذهب أثر سحرها بتبدل الأيام. و "ظفار" والمناطق الأخرى" وان كانت لا تزال ترى أشجار البخور تنبت على الفطرة حتى اليوم، قد زالت دولتها الآن، فلا تأتي للسكان بالذهب والفضة، فقد تغير ذوق العالم، وتبدلت تجارته، وصار يفتش عن الذهب الأسود، منتوج الطبيعة في باطن الأرض.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق