547
( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) د. جواد علي
الفصل الخامس والثلاثون
مملكة تدمر
أدرك القيصر إن النصر الحقيقي لن يتم له الا بالقبض على "الزباء" وفتح "تدمر"، وانه لن يدرك هذا الا اذا سار هو بنفسه على رأس جيشه لفتح تلك المدينة. لذلك قرر الزحف اليها بكل سرعة قبل أن تتمكن الملكة من تحصين مدينتها ومن الاتصال بالفرس وبالقبائل العربية الضاربة في البادية، فيصعب عندئذ الاستيلاء عليها. فسار مسرعاً حتى بلغ المدينة. برغم الصعوبات والمشقات التي جابهت الكتائب "اللجيونات" 0 الرومانية في أثناء قطعها الصحراء، وألقى الحصار على "تدمر" القلعة الصحراوية الحصينة، غير إن المدافعين عنها قابلوه بشدة وصرامة برمي الحجارة والسهام والنيران على جيشه وبالشتائم والسخرية والهزء ترسل إليه من أعالي السور. ويظهر أن "رومة" سمعت بذلك فسخرت من عجز القيصر عن احتلال مدينة صحراوية، ومن التغلب على امرأة، فساء "أورليانوس" ذلك كثيراً، فكتب إلى مجلس الشيوخ يقول: ". ... قد يستضحك مني بعض الناس لمحاربتي امرأة.... فاعلموا إن الزباء " Zenobia" اذا قاتلت كانت أرجل من الرجال 0000". وبعثت سخرية أهل تدمر وهزؤ أهل "رومة" منه في القيصر عزماً جديداً على فتح المدينة ودكَها دكاً مهما كلفه الأمر، ليمحو عنه هذه الوصمة المخجلة التي لحقت به. فكاتب الملكة طالبا منها التسليم والخضوع للرومان لتنال السلامة وتستحق العفو، فيسمح لها بالاقامة مع أسرتها في مدينة يعينها مجلس الشيوخ لها. أما جواب الملكة، فكان: " إن ما التمسته مني في كتابك لم يتجاسر أحد من قبلك أن يطلبه مني برسالة. أنسيت إن الغلبة بالشجاعة، لا بتسويد الصفحات. إنك تريد أن أستسلم لك. أتجهل أن كليوبترة "كليوبطرة" قد آثرت الموت على حياة سبقها عار الدّبرة. فها أنا في منتظرة عضد الفرس والأرمن والعرب " Saracens" لفل شباتك وكسر شوكتك. واذا كان لصوص الشام قد تغلبوا عليك وهم منفردون، فما يكون حالك إذا اجتمعتُ بحلفائي على مقاتلتك. لا شك أنك ستذل وتخنع لي فتجرد نفسك من كبريائها التي حملتك على طلب المحال كأنك مظفر منصور في كل أين وآن".
لم ينجد الفرسُ ملكة الشرق، ولم يرسلوا اليها مدداً ما. فقد كانوا هم أنفسهم في شغل شاغل عنها. توفي "سابور" الأول في عام " 271" للميلاد، فتولى "هرمز" " Ormidus" الملك من بعده، وكان رجلاَ ضعيفاً خائر القوى، فعزل بعد سنة قضاها ملكاً. وظهرت فتن داخلية بسبب ذلك لم تسمح للفرس وهم في هذه الحال أن يرسلوا قوة لمساعدة ملكة البادية عدوّة "أورليانوس" قيصر الروم. وأما القبائل، فأمرها معروف، إنها مع القوي ما دام قوياً، فإذا ظهرت عليه علائم الضعف، صارت مع غيره. تحرش قسمٌ منها بجيوش الرومان المحاصرة للمدينة وهاجمتها، غير أنها منيت بخسائر فادحة، فتركت التحرش بالمحاصرين. ورأى قسم منها الاتفاق مع القيصر، ففي الاتفاق الربح والسلامة. وما الذي يجنيه سادات القبائل من ملكة محاصرة، لم يبق من ملكها غير مدينة في بادية وثروة سيستولي عليها الرومان. وإن بقيت لها فلن يصيبها منها ما يصيبهم من القيصر من مال كثير. ومن لقب وجاه يأتيهم من حاكم مدني قوي. وقد عرف القيصر فيهم هذه الخصلة فاشترى أنفس الرؤساء بالمال. فأمن بذلك شر القبائل، وسلم من عدو يحسب لعداوته ألف حساب.
يتبع
( ان دراسة التاريخ تضيف الى الاعمار اعمارا ... و امة بلا تاريخ فهي بلا ماضي و لا حاضر و لا مستقبل )
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق